بعد اكتشاف النفط في بعض الدول العربية مرت بطفرة تحديث نقلتها نقلة نوعية في مستويات المعيشة حتى أنها أصبحت ذات تصنيف اقتصادي مستقل لا ينتمي لدول العالم الصناعي ولكنه أيضاً لا ينتمي إلى دول العالم الثالث،
وأصبحت الحياة في هذه الدول حلماً جميلاً يراود الملايين، منهم من أصبح ذلك عندهم أملاً متحققاً ومنهم من ظل لديه خيالاً وردياً يداعب أذهانهم، أما أهل هذه البلاد فقد عدوا أنفسهم مخصوصين بنعمة إلهية دعوا الله ألا يغيرها، وأما دول الغرب فقد عدت هذه النعمة خطأ جيولوجياً ارتكبه الرب بوضع هذه الثروة الهائلة في حوزة متخلفين لا يستحقونها لأنهم لا يعرفون كيف يستفيدون منها على غرار حضارة الغرب التي يسير النفط في شرايينها كالدم في الكائن الحي.
اهتمام هذا المقال هو توضيح أن الاقتصاد الذي سبق النفط لم يكن اقتصاداً متخلفاً رغم أن منتجاته لم تكن تضاهي منتجات الثورة الصناعية في الغرب، فاحتواؤه على عنصر الاعتماد على النفس في تدبير شئون المعاش كان كفيلاً لو ترك ينمو وفقاً لسنن النمو الطبيعية أن يحقق لأصحابه مكاناً بين الأمم المنتجة التي تتبادل الحاجات والموارد مع غيرها دون أن تتكل اتكالاً حصرياً على إنفاق ثروة ناضبة سينتهي عهدها في يوم ما سواء كان قريباً أم بعيداً، بنضوبه أو بإيجاد بديل عنه، وليس عمره المقدر أصلاً مما يحسب في تاريخ البشر زمناً ممتداً، ولو استمر الحال القائم ستحل النهاية دون أن يتمكن ملاك هذه الثروة من انتهاز الفرصة التاريخية التي وفرتها لهم إذ لم يؤسسوا بها قاعدة إنتاجية تستمر بعد أن تجف حنفية النفط، ومازال بريق الاستهلاك المفرط والنعيم المصاحب له والاستقرار الذي يوفره الرضا الدولي عن كياناته كل ذلك مما يعمي الأبصار عن هول المصير الذي ستؤول إليه الأوضاع القائمة التي تكتفي حالياً بترديد أدعية صد الحسد والغيرة.
* "الاقتصاد الكويتي القديم"
يطالعنا كتاب "الاقتصاد الكويتي القديم" (1987) للأستاذ المؤرخ عادل محمد العبد المغني وهو مرجع موثق بعدة مصادر ومراجع هامة، بالمميزات التالية لاقتصاد الكويت قبل النفط عندما كانت مجرد بلدة وصفت أحياناً بكونها قرية على ساحل الخليج:
1- الاعتماد على الذات في توفير الغذاء من صيد البر والبحر: أدى فقر البيئة الصحراوية في الكويت إلى اتجاه أهلها نحو البحر، فكان السمك هو غذاءهم الرئيس، وللحصول عليه قاموا ببناء سفن خاصة بالصيد بالإضافة إلى أدواته الأخرى (ص 65) وألحق بصيد البحر صيد البر ورعيه من لحوم وألبان ومشتقاتها ما كان يؤدي دوراً هاماً في الاقتصاد القديم (ص 207)، والملاحظ على عملية الاستيراد التي كانت تضم من الأغذية بشكل رئيس الأرز والبلح والرطب والقمح والبن والشعير والسكر أن أكثرها كانت تفوق حاجة الكويت ولهذا يعاد تصديرها مرة أخرى (ص 157).
2- الاعتماد على العمل الشاق في تأمين موارد الحياة من البيئة المحلية: نتيجة لفقر البيئة البرية اعتمد أهل الكويت قديماً على البيئة البحرية، كان البحر كل شيء بالنسبة لهم، وكان صيد اللؤلؤ هو حرفتهم الرئيسة، وكان معظمهم يعملون في هذه الحرفة التي لم تكن هزيلة ودرت "عائدات ضخمة" بالنسبة لزمنها، ولكنها كانت تقتضي عملاً شاقاً يحبس البحارة لثلاثة أو أربعة أشهر في عرض البحر مواجهين كل أخطاره من رياح وأمواج وأسماك مفترسة وسامة، ولا يكون الخروج محصوراً بفترة زمنية واحدة متواصلة بل يسبقها ويلحقها فترات أخرى أصغر زمنياً (ص 41- 44).
3- الاكتفاء الذاتي حتى في زراعة الغذاء: ومما يثير العجب والإعجاب معاً هو كثرة المساحات الواسعة المروية بالأمطار ومياه الآبار والمزروعة بشتى أنواع الخضروات والنخيل والحبوب بما يفيض عن حاجة السكان المحليين (ص 185)، وقد اشتهرت عدة مناطق بالزراعة في الكويت أهمها جزيرة فيلكا وقرية الجهراء والفنطاس بالإضافة إلى قرى الشعيبة والفحيحيل والمنقف وحولي (ص 183)، وأن المحاصيل شملت التمور والطماطم والشمام والبطيخ، وكان البطيخ الكويتي من أحسن أنواع البطيخ حلاوة وطيب رائحة (ص 194)، والفول والبامية والباذنجان والقرع الأخضر والبصل والثوم والفلفل والخيار والفجل والجزر، وكانت زراعة الخضراوات واسعة الانتشار ومنتظمة (ص 189) بالإضافة إلى القمح والشعير، وأحياناً كان القمح يفيض عن الحاجة فيقدم علفاً للماشية (ص 191)، وعموماً فإن المحاصيل الكويتية كانت تتميز بجودتها وتلقى إقبالاً شديداً إلى درجة أن أسعارها كانت تفوق أسعار المزروعات المستوردة (ص 185).
ويجب أن نتذكر دائماً أن هذا تم رغم الطبيعة الصحراوية لأرض الكويت ومناخها القاسي، وإذا كان الاكتفاء حدث في السابق بسبب كفاية الأرض لعدد السكان القليل فإن التطور الطبيعي هو أن يستمر الاكتفاء مع تطور وسائل الاستصلاح وزيادة رأس المال رغم تزايد السكان ولم يكن هناك عائق في ظل وفرة الاستيراد المنفلت الذي لا يترك شاردة ولا واردة مما لا فائدة منه إلا واستحضرها فمن باب أولى أن يتم المحافظة على الاكتفاء باستجلاب ما يفيد، فيمكن تحويل البيئة الصحراوية إلى بيئة زراعية بحيث تكفي السوق المحلي، فالماء يمكن الحصول عليه والتربة ممكنة الاستصلاح والخبرة الزراعية متوفرة والأيدي العاملة سهلة التوفر ورأس المال موجود، فلا ينقص سوى النية والتنفيذ (ص 183).
"وهكذا كانت الزراعة قديماً عندنا وحقاً قد كانت ذات أثر كبير على الاقتصاد الوطني- إذ كانت الكويت تنتج وتستهلك وتسوق محلياً، ولقد كان الإنتاج كافياً عكس الوقت الحاضر إذ تستورد الكويت من جميع أنحاء العالم من حبوب وخضار وفاكهة" (ص 197).
4- الاعتماد على الذات في صناعة وسائل الإنتاج: دفعت البيئة الصحراوية أهل الكويت إلى التوجه نحو البحر (ص 65 و183)، ولكن قلة الموارد لم تحل دون اهتمام الكويتيين بالصناعة اهتماماً بالغا رغم بساطتها مقارنة بالصناعة الحديثة ولكن كل عصر يقاس بمتطلباته (ص 87)، صناعة السفن (ص 88) كانت تتوزع بين سفن صيد اللؤلؤ وسفن النقل البحري وسفن التجارة وسفن صيد الأسماك وهي حاجات المجتمع الرئيسة في ذلك الوقت، وكان الصناع من نجارين وحدادين مهرة جداً وتمكنوا من صناعة سفن كبيرة ومشهورة بمتانتها وقوتها وصلت إلى الهند وشرق إفريقيا ما أكسب الكويتيين مهارات بحرية ومعارف جوية عن أحوال الطقس واتجاهات الرياح وارتفاع الموج والأنواء البحرية وهو ما يجعل وصف هذا المجتمع بالتخلف والأمية ليس دقيقاً، وكانت السفن تصنع في أحواض بلغ عددها الثلاثين على ساحل مدينة الكويت وتراوحت حمولة السفينة بين 75- 750 طناً (ص 92- 95)، وكان عدد البحارة يتراوح بين 5- 70 بحاراً على السفينة الواحدة (ص 43).
وفي بداية القرن العشرين تراوح الإنتاج السنوي في صناعة السفن بين عشرين وخمس وعشرين سفينة (ص 93) ووصل عدد السفن الكويتية في سنة 1765 إلى 800 سفينة وتضاعف هذا العدد سنة 1833 فبلغ 1500 سفينة (ص 172) حتى وصل الأمر إلى اشتراك الكويت في الحملات العثمانية ضد أعداء الدولة في محيطها الجغرافي مثل البصرة والإحساء والمحمرة كما استعان والي بغداد سنة 1219 (حوالي 1804) بسفن الكويت لجلب الأخشاب من الهند مع وجوب التذكر أن الكويت كانت في تلك الفترة مجرد قرية صغيرة بتعبير الأستاذ سيف مرزوق الشملان،[1] ومع ذلك ذكر أحد تقارير شركة الهند الشرقية أن أسطول السفن الكويتية ينافس أسطول الشركة العملاقة (ص 172) فكيف يمكن مضاهاة هذا الإنجاز بمقاييس اليوم؟ وهذا الدور المذكور يكشف عن الطاقات الهائلة التي برزت في ذلك العصر وصنعت الكثير من شبه العدم وهو ما لا يتناسب مع الوصف الدارج للمجتمع التقليدي بالتخلف والأمية.
وبالإضافة إلى صناعة السفن بصفتها وسائل الإنتاج في ذلك الزمن كان هناك أيضاً صناعة الشباك وأدوات الصيد وهي صناعة ذات أهمية كبيرة بسبب اعتماد أهل الكويت على غذاء البحر وكان عدد المشتغلين بها كبيراً (ص 101).
5- الاعتماد على الذات في صناعة متطلبات الحياة اليومية: "كانت الصناعة قبل اكتشاف البترول تمثل نصيباً كبيراً من الاقتصاد الوطني وذلك لما بها من أهمية بالغة الأثر" (ص 87)، وإلى جانب وسائل الإنتاج المتعلقة بالبحر كالسفن وأدوات الصيد، وجدنا صناعات تتعلق بمتطلبات الحياة الرئيسة ولا تترك ثغرة إلا وساهمت في سدها مثل صناعة الغزل والنسيج والحياكة وهي صناعة تكفي السوق المحلي وبعضها يعتمد على استيراد الغزل من العراق وإيران وبعضها يعتمد على غزل البادية الكويتية (ص 97)، وهناك صناعة الخيام وبيوت الشعر وصناعة البسط والحصر (ص 99- 101) والصناعات المرتبطة بالحدادة كصناعة السكاكين والمطارق وأدوات الهدم والبناء والمسامير والحدوات وهناك أيضاً الصناعات النحاسية كالأباريق والقدور، وهي صناعات كانت تكفي الاستهلاك المحلي وتفيض عن حاجته فتصدر إلى الخارج (ص 105- 106).
ولدينا أيضاً صناعات الزينة كالذهب واللؤلؤ والفضة بمختلف الحلي كالخواتم والقلائد والخلاخيل والحلقان، ومن الصناعات المعدنية كذلك صناعة الأسلحة ولم يكن الأمر مقتصراً على السيوف والخناجر بل وجدنا صناعة بعض أجزاء البنادق وصيانتها (ص 106- 109) وهي حقيقة لا تتناسب مع الصورة المشوهة التي انطبعت في أذهاننا عن "تخلف" الاقتصاد التقليدي.
وهناك أيضأ الصناعات الجلدية لتوفير قرب حيث كانت هي الوسيلة الوحيدة لنقل الماء وحفظ اللبن، وصناعة النعل والأحذية وسروج الخيل والأحزمة وأقنعة الصقور (ص 109).
وكانت صناعة البناء تستمد موادها الأولية من البيئة المحلية إلا الأخشاب التي كانت تجلب من الهند (ص 110- 112).
وهناك صناعات طحن الحبوب والصابون ونسخ الكتب وهي في المجمل صناعات كانت تفي بحاجة السوق المحلي، والسؤال هو كيف كان "التخلف" المزعوم يفي بحاجة أصحابه ثم تعجز "الحداثة" و"التقدم" و"التطور" عن ذلك؟ وكيف يمكننا قبول أن يتمكن الطفل من الاعتماد على ذاته ولما يبلغ سن الرشد يصبح عالة على كل من حوله؟
6- التطور المعيشي: لقد وجدنا أن الحياة لم تكن ساكنة وهناك مظاهر تطور في إشباع حاجاتها تؤكد أن المجتمع لم يكن راكداً، فقد تطور بناء السفن وتم تصنيع أحجام أكبر بعدما قامت الحاجة إليها (ص 146) وتطورت باستمرار مع مرور الزمن (ص 173)، وكان لدينا صناعة أجزاء البنادق وصيانتها (ص 109)، وظهر مصنع الأحذية سنة 1942 لإنتاج أجود الأحذية الرجالية وأجملها وأخذ يعرضها على واجهة المعمل متحدياً بذلك الصناعة الغربية حتى لقي إقبالاً كبيراً (ص 109) وصناعة الصابون بدءاً من 1934 التي كانت تصدر للبلدان المجاورة ولم تستمر هذه الصناعة بسبب عدم توافر المواد الأولية (ص 113) ولكن تدبير هذه المواد كان ممكنا جدا بالتكامل الاقتصادي مع بلدان المنطقة وهو ما افتقدته بلادنا منذ حلول عصر التجزئة، والخطوة العملاقة كانت ستحل لو وصل قطار الشرق السريع إلى الكويت لتصبح نهاية طريق عالمي يبدأ ببرلين ويمر بعواصم أوروبا ثم بعاصمة الخلافة فالأناضول فسوريا فالعراق إلى بغداد والبصرة ثم الكويت أخيراً، ولسنا بحاجة لخيال واسع كي نتصور التطور الذي كان سيحدث لو تم هذا المشروع قبل النفط بنصف قرن وكيف كان النفط سيضخ الدم في شرايينه دون أن يكون مصدر الحياة الوحيد، ولكن التآمر الاستعماري والبريطاني على وجه الخصوص دمر أحلام بلادنا لتلبية مصالح الأغراب.
* لماذا توقفت المسيرة الصناعية؟
نظرة في الأسباب المذكورة (ص 97 و109 و115):
تطالعنا أسباب اضمحلال الصناعة على عدة مشاكل ترجع إلى ثلاثة أسباب رئيسة هي اكتشاف النفط وسهولة المعيشة التي جلبها ما أزال الحاجة للعمل الشاق في سبيل المعيشة من جهة ومنافسة الصناعات الأجنبية التي سهل الحصول عليها فرفعت مستوى التوقعات من جهة أخرى، وغياب أي خطة رسمية أو قرار سياسي للمحافظة على الصناعة أو تجديدها أو إحيائها وهذا السبب مرتبط بضعف بنية دولة التجزئة عموماً وقلة إمكاناتها المتعلقة بتوفير المتطلبات اللازمة لإنشاء أية صناعة بعيداً عن تكاملها مع محيطها كالسوق الواسع والأيدي العاملة والموارد الأولية ورأس المال، بل سنجد أن بعض هذه العوامل يتم توفيرها أو توفير ما يزيد عليها دون القدرة على حسن استخدامها نتيجة خضوع حكومات التجزئة لقرارات أجنبية تحظر عليها السير في طريق التطور الصناعي الذاتي لتبقى أسواقاً للصناعات الغربية، وأية أسباب أخرى لم تكن قادرة على زعزعة الصناعة دون تلك الأسباب، فقلة الموارد الأولية كان يمكن تعويضها من الخارج كما كان يحدث دائماً، ولم تقف قلة الموارد حائلاً دون سير كثير من الأمم في عملية التصنيع كأوروبا التي تفتقد أهم رافد لها وهو النفط فضلاً عن بقية الخامات، ولا يمكننا زعم إمكان توفير الصناعات الجاهزة التي لا تتوفر لدينا والادعاء في نفس الوقت بعدم إمكان توفير المواد الأولية التي هي أرخص ثمناً قبل تصنيعها، وبشيء من التكامل فإن بلادنا تملك من الموارد ما تعجز أعتى الأمم الصناعية عن توفيره، ونفس الكلام ينطبق على زعم قلة الأيدي العاملة التي تم توفير مئات الآلاف منها للخدمات غير المنتجة فلماذا لا تتوفر الأيدي المنتجة لاسيما مع شيوع البطالة والبطالة المقنعة، أما كون الحرف غير متقنة نتيجة توارثها فهذا لم يكن سبباً للتخلي عنها قبل ظهور النفط وكل ما في الأمر أن الصناعة الأجنبية التي سبق الغرب إليها منذ الثورة الصناعية رفعت مستوى المطالب الذوقية، وبهذا يتبين أن العوامل الحاسمة في اضمحلال الصناعة المحلية هي الأسباب الثلاثة آنفة الذكر.
ونلاحظ أن أثر ظهور النفط لم يكن سلبياً على الصناعة فقط، إذ كان سلبياً على استخراج اللؤلؤ مصدر الحياة الرئيس (ص 41)، ولكن إذا كانت المشكلة في ظهور اللؤلؤ الياباني الصناعي، فكيف نفسر تراجع نسبة الزراعة التي كانت تكفي الاستهلاك المحلي؟ أليس هذا دليلاً على أن قيمة العمل هي التي ضربت بسهولة الكسب السريع بدلاً من كون النفط حافزاً على مزيد من العمل لاستخراج طاقاته المعيشية الهائلة من غير جرد البيع؟
وتجدر الإشارة إلى أن هذا البحث ليس في التقدم الذي أحرزته الحواضر الكبرى في بلادنا سواء إلى ما قبل وصول نتائج الثورة الصناعية إلى المشرق (إذ كانت صناعاتنا وبضائعنا تضاهي الصناعات الغربية وتنافسها حتى بداية القرن 19 أو منتصفه[2]) أو حتى بعد محاولة محاكاة نتائج هذه الثورة (محاولات النهوض العثماني وما بعدها كما في دراسة: سياسات آخر أيام الخلافة، ودراسة: لماذا يحطم الغرب نهضاتنا 1 و2)، بل إن هذا البحث عن اقتصاد الأطراف البعيدة التي طالما وصفت بالتخلف والركود والأمية.
ويتبين أن المشكلة لم تكن في تخلفنا بل في قطع الطرق التي سلكناها، وإذا كانت بعض البقاع قد عانت من التدخلات المسلحة لتحطيم المنجزات (دراسة: لماذا يحطم الغرب نهضاتنا 1 و2)، فإننا لا يمكننا أن نعد النهب الدولي لثروات البقاع الأخرى تكريماً أو تأميناً لمستقبلها والحاصل هو عدم أو هدم الفرص الطبيعية لتطورها وتكاملها.
وأرى أن المقارنة بين ما كان قائماً زمن الاقتصاد التقليدي وما جلبته "الحداثة" كالفرق بين خطّاب الفتاة: هناك من يعرف علماً أو صنعة ويكافح من أول الطريق ليبني مستقبله على أساس جهده واكتفائه ومعرفته التي تصلح لازدهاره أينما حل، وهو في بداية حياته العملية ليس ثرياً ولكنه جاد ومجتهد، وهناك من ورث مالاً كثيراً ولكنه لا يحسن صنعة ولا علماً فلا بد أن ينفد ماله يوماً رغم مظاهر الوفرة التي تحيط بحياته وتبهر الناس حوله وربما فضلوه على المتعلم العصامي المجتهد، في حين أنه لا يقوم بأي جهد لتأمين مستقبله ويكتفي بالإنفاق من المال الوفير وبقراءة المعوذتين لصد العيون الحسودة عن نعمته حتى لا يتغير حاله.
وهذه ليست دعوة للعودة إلى الغوص على اللؤلؤ ولا هي حنين إلى ماض مثالي بل هو دق لناقوس التنبيه أننا لم نعرف كيف نتصرف بمواردنا الهائلة رغم أن أسلافنا برعوا في استغلال مواردهم القليلة وصنعوا منها ما لو أردنا مقاربة نسبته لظل اقتصادنا في هذا الزمن معتمداً على جهدنا وفقاً لوفرة الموارد حالياً لا لشحها فيما سبق، أي أن المطلوب منا هو إعادة الحياة للطاقات الهائلة التي صنعت من القليل جداً كثيراً جداً، وإحياء القيم السابقة التي سيرت حياتنا في الماضي وجعلتنا نعتمد على أنفسنا ونطور أدواتنا ونكتفي بإنتاجنا ونمارس العمل الشاق في حياتنا هذا هو المطلوب بالتحديد وليس العودة إلى فرش الحصير، ومحل استنكار هذا البحث أن يكون النفط سبباً في انقراض الأسطول التجاري واضمحلاله وانصراف الناس عن المهن البحرية والحرف اليدوية القديمة التي قام عليها الاقتصاد القديم (ص 174) دون أن يتبع ذلك ببناء مستقل جديد محله يتناسب مع الإمكانات الضخمة التي استجدت، وكأن منطق هذا التحول هو أن يكون الفرد مستقلاً ومعتمداً على ذاته ومنفقاً على أسرته وهو لم يزل في سن الطفولة، فلما كبر وبلغ سن الرشد وكبرت إمكاناته أصبح كسولاً وعالة على غيره في كل شئون حياته بدلاً من تطوير قدراته الفذة التي ظهرت مطالعها منذ الصغر، وكأن السلاح الذي أصبح بيده بعدما نضج طعن به نفسه أو خدر به حركته بدلاً من عدوه.
المجتمع الذي وصف بالأمية والركود والتخلف كانت أطرافه القصية تعتمد على أنفسها وتصنع حاجياتها وتزرع طعامها رغم شح الموارد وقسوة الظروف، ولم تكن الأمية تعني التراخي والكسل فقد كانت الصناعة لا تعتمد على الشهادات الدراسية أو المعاهد الصناعية بل كانت خبرة يتوارثها الأبناء عن الآباء (ص 87) ونتج عنها سد متطلبات الحياة (ص 113)، أما المجتمع الذي وصف بالعلم والنهوض فإنه يعجز رغم كثرة الشهادات عن صناعة أقل حاجياته شأناً وعن زراعة ما كان متوفراً في أرضه أصلاً، ووجدنا أن ظواهر الكسل والاتكالية والتراخي والبدانة والأمراض الناتجة عنها تظهر في المجتمع الحديث المتطور المتعلم، وفي المحصلة لا نرى المجتمع التقليدي حتى في الأطراف أبعد تقنياً عن عصره من المجتمع "الحديث" عن عصره هو إلا إذا عددنا شراء المعدات واستعمالها حداثة ولو دون أي سبر لأغوارها أو فهم لأسرارها أو قدرة على التعامل بكفاءة معها مع الحاجة المستمرة للاستعانة بالمرجعية التقنية الأجنبية.
ولعل أوضح الأمثلة مثال الاكتفاء الذاتي المزعوم في تأمين رغيف العيش والأغذية الرئيسة في المجتمع النفطي الحديث حيث يزعم أن شركات المخابز الكبرى توفر الأمن الغذائي، ولكن كيف يستقيم هذا الزعم مع الاعتراف أن القمح مستورد وآلات صناعة الدقيق ومشتقاته مستوردة وفق نظام تسليم المفتاح حيث لا مكان لأي جهد محلي في تصنيعها وإدارتها وصيانتها، فمن أين أتى الأمن إذن؟
* المعجزة الاقتصادية الأسطورية في زمن الحداثة
جاء في كتاب "معضلة التنمية الاستعمارية: نظرات في دعاوى إيجابيات الاستعمار"[3]: لا يملك الكتاب الغربيون إلا التعبير عن الانبهار عند الحديث عن الكويت وثروتها وتطورها،[4] فقد قال الكاتب الفرنسي جان جاك بيربي تحت عنوان "الكويت الأسطورية" في كتابه "جزيرة العرب" الذي ألفه في نهاية العقد السادس من القرن العشرين أي بعد العدوان الثلاثي وقبل استقلال الإمارة عن بريطانيا: "الكويت هي أشهر إمارات الخليج العربي على الإطلاق، وثروتها البترولية الهائلة وتطورها بالغ السرعة يجعلان من العسير، إن لم يكن من المستحيل، التحدث عنها دون استعمال ألفاظ التفضيل والمبالغة (أي أغنى وأكبر وأكثر وأعلى... إلخ): لقد غمرت الثروة الكويت كالوباء، ولم ينج شخص تقريباً من غنغرينا الذهب، والأساطير العربية المذهلة تبدو هزيلة باهتة، ومغامرات علاء الدين عقيمة صغيرة أمام "المعجزة" الكويتية، وقد جمع أميرها، المهراجا الحديث، عام 1956 بالدولار والسترليني ما يوازي أربعمائة مليون فرنك يومياً (هكذا في الأصل)، وإنتاج البترول ينتظر أن يزيد ثلاثة أضعاف في السنوات الخمس القادمة، إن مساحة الكويت أصغر بمئة مرة، من مساحة العربية السعودية ومع ذلك تنافسها على المركز الأول في احتياطي بترول العالم" ثم يروي طرفة فريدة شاعت في زمنه عن العثور على النفط فيها كلما حُفر بئر للعثور على الماء، ومهما كانت حقيقة هذه القصة "فهي توجز حكاية الكويت وطن الذهب الأسود الأسطوري، الذي لم يعد يعيش إلا بالبترول ومن أجل البترول، وحول مرفأ طبيعي صغير على الخليج الهادئ الأزرق، تحول البحارة اليائسون، وصيادو السمك في ظرف عشر سنوات، إلى تجار، ومقاولي بناء، ورجال أعمال، وأصحاب الكفايات المحدودة منهم يعملون لحساب الشركات البترولية أو الشركات الخاصة بأجور خيالية، ومدينة الكويت العاصمة القديمة هُدمت كلها تقريباً وأُقيم مكانها مدينة حديثة بأبنية بيضاء فخمة، وشوارع عريضة مستقيمة، وعلى الشوارع العريضة الجميلة المزفتة التي حلت محل طرقات القوافل القديمة، تسير متهادية سيارات البويك والكاديلاك التي أرغمت الكويتي على أن ينسى الجمل، والماء العذب هذا السائل النادر الثمين، الذي كان يستورد من العراق، يسيل الآن من الحنفيات المنكلة في بيوت مكيفة بالهواء، واللافتات الضوئية التي تفترس الليل بأنيابها مختلفة الألوان تذكر بمحطة سان لازار أو بيكاديللي أكثر مما تذكر بسوق شرقي، لقد جعلت الظروف الاستثنائية، الكويت أكثر بلدان الشرق الأوسط تقدماً، وفيه تحدث تجربة اجتماعية خيالية يعيش فيها الإنسان خلال بضع سنوات عصوراً طويلة من التطور".
وتحت عنوان "التقدم الخيالي" يقول بيربي إن الكويت أنتجت في سنة 1956، 55 مليون طن رغم هبوط الإنتاج بسبب أزمة السويس وقد جلبت هذه الكمية مبلغ 300 مليون دولار للأمير بالإضافة إلى إيجار وعائدات المنطقة المحايدة" وتطلعت شركة نفط الكويت إلى زيادة الإنتاج بحلول سنة 1962 إلى 180 مليون طن "أي ما يوازي إنتاج الشرق الأوسط لعام 1956 بأسره"، وتستبدل الكويت الغنية بذهبها الأسود منتجات مختلفة زاد حجمها بمرور الزمن "وتقتسم الولايات المتحدة الأمريكية مع بريطانيا القسم الأكبر من هذه المبيعات المختلفة".
وتحت عنوان "الدولة المثال" تحدث عن "التطورات المذهلة التي تحصل في الكويت" وعن قرار الأمير عبد الله السالم بجعل إمارته مثالاً للدولة الحديثة، فقد أنفق القسم الأكبر من العائدات في مشروعات ضخمة أحدثت انقلابات في مستوى معيشة الكويتيين، ووُفّق ولكن بتكاليف باهظة إلى أن يجعل عاصمته أحدث عاصمة في العالم "بعد أن أمر ببنائها من جديد وزودها بشوارع وطرقات وميناء ومطار ومستشفيات ومدارس وشبكات لتوزيع المياه العذبة والغاز والكهرباء ومجارير وتكييف هواء، وبهذه الوسائل حول المدينة الصغيرة القديمة الفقيرة القائمة على الرمال إلى جنة في منطقة الخليج" وأصبحت مضرب المثل في التقدم الصحي وانتشر التعليم فيها مجاناً كالخدمات الصحية.
ويرد على توقعات الثورة سنة 1957 بالقول إن الكويتيين "مشغولون دائماً بالأعمال وجمع المال، لذلك لم يعيروا كبير اهتمام مغريات القومية العربية"، وإذا كانت ستقوم ثورة فضد من؟ وتؤكد المؤرخة الأمريكية مريم جويس أن كثيراً من مؤيدي الرئيس جمال عبد الناصر في الكويت صاروا في تلك الفترة "محررين من السحر والوهم، لقد أدركوا أن مشاركتهم في وحدة عربية واسعة سيترتب عليها تضحيات اقتصادية كبيرة" وقد "كان الكويتيون يرفلون بنعمة وراحة لا تجعلهم يتحمسون للوحدة العربية"، مما جعل السفارة البريطانية في الكويت تقوّم الوضع فيها سنة 1960 بالقول إن بعض القوميين المتحمسين قد فتر حماسهم كثيراً في السنة الأخيرة،[5] وفي تقويم أمريكي لسنة 1962 أن دعوة القوميين العرب الكويتيين لم تهيمن على مجموع الكويتيين "كان الكثير من سكان الكويت يؤيدون مصر، لكن لم يكن لدى ناصر أي شيء يقدمه للكويت وليس متوافراً لدى الكويتيين، كان الكويتيون فوق جميع القوميين العرب الكويتيين، فهم لم يكونوا يريدون من ناصر أو من أي أحد آخر أن يهيمن على بلدهم، كانت الانتخابات تقترب، وحتى أكثر المتطرفين من القوميين العرب كانوا راضين أن يكونوا رعايا الأمير عبد الله السالم"،[6] وهذا هو نفس السبب الذي سيجعل الحماس يفتر تجاه العلاقة مع العراق كما سيأتي.
وعن الحماية البريطانية يقول بيربي إنها هي التي حمت استقلال الإمارة رغم "الغارات والهجمات والضغط الشديد من قبل العراق والسعودية سنة 1919 و1922 و1928" وإن بريطانيا هي التي رسمت الحدود السياسية في مؤتمر العقير سنة 1922 حين كانت البلاد العربية الأخرى كالسعودية والعراق والأردن إما تحت النفوذ البريطاني الشديد أو تحت الانتداب البريطاني، وإن حاكم الكويت يفضل "أن يبقى مستقلاً عن العراق والعربية السعودية وسائر البلدان العربية الأخرى، واليوم (1960) كما كان بالأمس، هو في أمس الحاجة إلى الحماية البريطانية ولكن هذه الحماية تحمل بذور ضعفها معها"، وقد بقي استقلاله الداخلي محافظاً عليه وعهد بالشئون الخارجية والدفاعية إلى بريطانيا الحامية.
ثم يتحدث عن الانقسام الذي قسم المجتمع الكويتي قبل النفط بين مؤيدي الحكم والحفاظ على الاستقلال من جهة والمعارضين المؤيدين للانضمام إلى العراق من جهة أخرى، لأن مطالب هذه المعارضة الاجتماعية والاقتصادية كانت تجعل "من مصلحة الكويت الفقيرة آنذاك أن تتحد مع العراق" ويجب أن نلاحظ أن الحماية البريطانية آنذاك لم تنجز شيئاً يذكر للكويت الفقيرة بعدما منعت وصول سكة بغداد إليها زمن العثمانيين، وجعلتها تفضل الهروب من هذا الواقع للانضمام إلى بلد عربي مجاور، ولكن حلول عصر النفط غيّر حسابات بريطانيا والأهالي أيضاً و"حوّل الكويت إلى بلد الأساطير والثروات والسحر، ونتيجة لهذا التطوير أصبح الطلاب (المعارضون سابقاً) رجال أعمال في وطن منظم يعطي أصدق مثال للازدهار منقطع النظير" مما جعل المشكلات السياسية ليست أساسية ومستعجلة ولكنها قد تصبح كذلك مع موجة العداء الذي يتزايد ضد بريطانيا في العالم العربي (آنذاك).
وهنا نصل إلى الثمن الذي دفعته الإمارة قبل الاستقلال للحصول على الحياة الأسطورية، وتحت عنوان "الكويت واقتصاد المملكة المتحدة" يقول بيربي إن بريطانيا تعد الإبقاء على نفوذها في الكويت "أكثر الأمور أهمية... إن الإمارة الصغيرة تزود المملكة المتحدة بنصف حاجتها من البترول، وهذا السائل الحيوي، يدفع ثمنه بالجنيهات السترلينية في الكويت، الأمر الذي يوفر على الخزينة البريطانية مبالغ طائلة من النقد النادر، وعلاوة على هذا الوفر، تزود الكويت خزينة بريطانيا بمبالغ طائلة من النقد النادر، وأرباح الأمير المحولة إلى نقد نادر تودع في مصارف لندن، وما من أحد في سوق لندن يجهل أن مجلس التوظيف الكويتي هو أفضل مشتر فردي، والأعمال الكبرى التي تنفذ في الإمارة تشترك فيها عدة شركات أجنبية أكثرها بريطانية، وشركة البترول البريطانية تملك نصف شركة بترول الكويت، لها صوت راجح فيها، تشرف عليها حكومة لندن من خلال الأسهم العائدة للأميرالية البريطانية، وأهم مصالح هذه الشركة التي توزع نشاطها في شتى أنحاء العالم متجمعة في الكويت... وفي عام 1956 بلغ إنتاج الشركة البريطانية للبترول في العالم تسعة وأربعين مليون طن، أكثر من نصفها - سبعة وعشرين مليون طن- جاءت من الكويت وحدها".
ثم يبين "أن الخروج من هذه المنطقة غير وارد بالنسبة لبريطانيا" و"قد تحارب بضراوة الوحش المفترس الجريح للإبقاء على نفوذها ووجودها في الخليج الذي لا تستغني عن بتروله"، ولمواجهة الوضع السياسي الذي قد يحمل الكثير من المفاجآت يميل الساسة البريطانيون إلى إجراء تعديل جذري على سياستهم تجاوباً مع تطورات الأحداث والزمن، ويبدي قناعة باستحالة الاستمرار في تطبيق السياسة الاستعمارية القديمة لأن هذا الاستمرار سيعرض النفوذ البريطاني للتلاشي من المنطقة إزاء القوى الجديدة التي لم تعد بريطانيا تملك السيطرة عليها.[7]
وسنجد أن بريطانيا ستنهي انسحابها العسكري من منطقة الخليج بعد عقد من الزمان من كتابة السطور السابقة ولكنها ستقوم بترتيبات تضمن بها استمرار مصالحها بعد خروج جيوشها،[8] ومن ضمن ذلك "تشجيع الكويت على الاستقلال مع الحفاظ في الوقت ذاته على العلاقة الطويلة العريقة بين البلدين" كما تقول المؤرخة الأمريكية مريم جويس،[9] وسنجد أن الملامح الرئيسة في وضع المنطقة ستستمر كالماضي ومن ذلك في موضوع حديثنا: ارتباط الاقتصاد الكويتي بالاقتصاد البريطاني ثم الأمريكي، واستمرار دفاع الغرب بعصبية عن استقلال الإمارة،[10] واستمرار اتخاذ هذا الاستقلال ذريعة للدفاع عن مصالح غربية لا علاقة للكويت بها.
وقد جاء في كتاب "السلطان والمنزل: الحياة الاقتصادية في آخر أيام الخلافة" عن الملمحين الأول والثاني أي استمرار الارتباط الاقتصادي ودفاع الغرب عن هذا الواقع: "لقد كانت ثروات العرب منذ ظهورها في دول التجزئة رهينة للمصالح الغربية إذ لم تستطع دولة الاستقلال استثمار إمكاناتها الكبيرة في مجالها الصغير ولم يكن من الممكن في ظل ارتهان القرار السياسي للقُطرية والنزعة الأجنبية استثمار هذه الموارد في المجال العربي أو الإسلامي وذلك رغماً عن كل أحاديث الأخوة والتضامن، ومن أمثلة ذلك ما قاله الدكتور حسن علي الإبراهيم في دراسته السياسية عن الكويت أثناء حديثه عن الأزمة التي نشبت بينها وبين العراق سنة 1961: "كان موقف المملكة المتحدة من بين الدول العظمى موقف تأييد كامل لموقف الكويت، لقد كانت مصالح المملكة المتحدة في الكويت بالغة الأهمية" ثم ينقل عن مرجع أمريكي: "أن الكويت تساوي حوالي بليار دولار في السنة وهي اليوم (زمن الأزمة) أكثر ما تكون أهمية للبريطانيين... إن احتياطي الكويت من الجنيهات الاسترلينية في بنك إنجلترا، حسب ما أوردته مجلة الإيكونومست البريطانية، يعادل حوالي ثلث مجموع احتياطي بريطانيا من الجنيهات الاسترلينية، وتزود الكويت بريطانيا بحوالي 38 بالمائة من حاجاتها النفطية، وتقدر الأموال الكويتية الموظفة في بريطانيا بأكثر من مئة مليون دولار في السنة، وإذا كان دخل شيخ الكويت من أرباح النفط كبيراً فإن العائدات البريطانية عائدات ضخمة أيضاً".[11]
"وعند حديثه عن الانسحاب البريطاني من الخليج ونفقات القوات البريطانية في نهاية الستينيات قال إن الدافع لانسحاب بريطانيا سياسي لأن نفقات بقاء قواتها تقارب 12 مليون دولار في السنة، ويعلق: "إن هذا المبلغ أقل بكثير من المبالغ التي تجنيها بريطانيا من نفط الخليج ويبلغ تقديرها 500 مليون دولار في السنة".[12]
"واستمرت ثروة الكويت مرتبطة ببريطانيا والغرب عموماً حتى بعد الاستقلال، وقد جاء في دراسة (للمؤلفة الأمريكية آنفة الذكر مريم جويس) عن الرؤية الإنجليزية الأمريكية للكويت بين 1945- 1996: "ففي نهاية آذار/ مارس من عام 1965 قدر أحد الشيوخ احتياطي الإمارة بمبلغ 400 مليون جنيه استرليني يتم استثمار نصفه في لندن والباقي في اليابان وسويسرا والولايات المتحدة الأمريكية" وتقارن المؤلفة هذه المبالغ بما حصل عليه المجال العربي: "وما بين يناير (كانون الثاني/ جانفي) وسبتمبر (أيلول) من عام 1965 تلقت الحكومات العربية زهاء 35 مليون جنيه استرليني من الاحتياطي الكويتي" ثم أشارت إلى دور العوامل السياسية وحرمان حكومات عربية أخرى من "سخاء وهبات الكويت"[13] وقد صرح السفير البريطاني في الكويت فرانك بيكر في 2011/8/10 أن "الكويت مهمة جداً لبريطانيا، وحماية أمنها واستقرارها واجبة"[14] وكان قد قال في نوفمبر من عام 2010 إن "العلاقات الكويتية البريطانية فريدة من نوعها عالمياً" و"إن هذه العلاقة فريدة لأنها تتجاوز مجرد السياسة والدفاع، ومن المؤكد أنه ما من بلد خارج الخليج يمتلك مثل هذه العلاقة"،[15] وأشار الناطق الرسمي باسم الحكومة البريطانية في الشرق الأوسط مارتن داي إلى صور من هذه العلاقة بوجود "استثمارات كويتية ضخمة في السوق البريطاني" طامعاً في المزيد وأن "يصل حجم التجارة المتبادلة بين الكويت وبريطانيا إلى أربعة مليارات جنيه استرليني سنوياً بحلول 2015"،[16] وهو ما أكده وزير شئون الشرق الأوسط البريطاني إليستر بيرت في 2011/12/1،[17] وهذا ما تحقق بالفعل قبل الموعد المأمول فوصل حجم التبادل إلى أربعة مليارات في عام 2014[18] (وبهذا نلاحظ أن تطور العلاقة مع الأجانب يفوق التوقعات أما المشاريع العربية البينية، وما أكثرها من المواصلات إلى الدفاع، فتظل حبيسة الأدراج عشرات السنين تسير في مكانها)، كما أشار وزير المالية الكويتي مصطفى الشمالي إلى أن "الكويت من أكبر الدول استثماراً في العقار ببريطانيا"،[19] وقال عمدة الحي المالي في لندن في سنة 2006 اللورد جون ستوترد إن "دولة الكويت ممثلة بقطاعها الحكومي والخاص تعتبر من أكبر المستثمرين في بريطانيا لاسيما في القطاعين المالي والعقاري إلا أنه يصعب تقدير حجم هذه الاستثمارات"،[20] وقد قال السفير البريطاني في الكويت (2015) ماثيو لودج ان الهيئة العامة للاستثمار تعد شريكاً استثمارياً كبيراً لبريطانيا ولديها علاقات قديمة مع مدينة لندن وتعدى حجم استثماراتها 150 مليار جنيه استرليني،[21] ولهذه الأسباب كان الإنجليز يتصرفون بعصبية عندما يتعرض نفوذهم في الكويت للتهديد، وفي هذا السياق قال الرئيس جمال عبد الناصر صاحب التجارب المريرة مع بريطانيا للوفد العراقي لمحادثات الوحدة الثلاثية سنة 1963: "إنكم لا تعرفون مدى حساسية الغرب في موضوع الكويت" ثم قص على أفراد الوفد قصة عودة العلاقات المصرية البريطانية بعد أزمة السويس وطلب بريطانيا فتح خمس قنصليات لها في الجمهورية العربية المتحدة ورد المصريين بطلب فتح خمس قنصليات عربية في بريطانيا وممتلكاتها ومن ضمنها الكويت، وعندما ذكر اسم الكويت للمبعوث البريطاني كولين كرو "انتفض كأن عقرباً لدغه وقال لنا: أبداً... كله إلا الكويت، لم يكونوا على استعداد لقبول قنصلية لنا في الكويت، فهذه بالنسبة لهم مناطق ليس فيها “هزار”(!)" ونقل الرئيس كذلك عن خروشوف سكرتير الحزب الشيوعي السوفيتي: "إن الغرب يمكن أن يدخل الحرب بسبب خوفه من أي تهديد على مصالح البترول".[22]
"ولعل هذا هو سبب التشنج البريطاني عندما اندلعت أزمة الخليج سنة 1990 التي أدت فيها رئيسة الوزراء مارغريت تاتشر دور المحرض على التصدي للعراق وما قام به من ضم الكويت،[23] ثم كانت المصالح النفطية البريطانية وراء التخطيط للإطاحة بالنظام في العراق قبل 18 شهراً من الاحتلال عام 2003 [24]".[25]
أي أننا وجدنا الدفاع الغربي عن استقلال الإمارة في عهود الاستقلال ظل كما كان في عهود الحماية البريطانية زمن الدولة العثمانية لمنع تحقيق سكة حديد بغداد، ثم في زمن مشاورات "الحلف العربي" سنة 1935،[26] وزمن مطالبات الملك غازي[27] وزمن محاولات نوري السعيد المجهضة لضم الكويت إلى الاتحاد الهاشمي،[28] وستكون الولايات المتحدة في صف الموقف البريطاني المدافع عن الاستقلال منذ زمن الاتحاد الهاشمي الذي توجست من خطر دعمه بأموال الكويت[29] وفضلت أمريكا وبريطانيا تقديم الدعم المالي للاتحاد لإسقاط حجته بشأن الحاجة إلى أموال الكويت،[30] ثم تكرر التأييد الأمريكي لبريطانيا "إلى أقصى حد ممكن" في زمن عبد الكريم قاسم[31] واستمر إلى ما بعده (1990)[32] كما مر، وإذا كان هذا الدفاع في عهد الاستقلال لأسباب استراتيجية واقتصادية (نفط وأسواق واستثمارات)[33] فقد كان فيما سبق لأسباب استراتيجية تتعلق بسكة حديد بغداد ثم بعد ذلك بالنفط وعوائده واستثماراته.
المهم فيما سبق أن هذه الوفرة الاستهلاكية التي تمتعت بها الإمارة حققت مصلحة مادية آنية للسكان المحليين، هذا إذا كانت حياة الترف والدعة والراحة مصلحة حقيقية في تواريخ نهوض الأمم، مما جعل هذا الوضع ينطبق عليه وصف الدكتور عبد الوهاب المسيري للدول الوظيفية في الزمن المعاصر عند حديثه عن أشكال جديدة من الجماعات الوظيفية في المجتمعات الحديثة: "يمكن تحويل دولة صغيرة ليست بالضرورة استيطانية، إلى دولة وظيفية، وتتم عملية التحويل هذه عن طريق عملية رشوة لشعب هذه الدولة، بحيث يرتفع مستوى معيشته ويتزايد اعتماده على قوة خارجية تضمن بقاءه واستمراره بحيث لا يمكنه أن يحقق البقاء كدولة مستقلة دون استمرار الدعم الخارجي"[34] وذلك في سبيل تحويل هذه الدولة إلى جماعة وظيفية "تعمل لصالح النظام الاستعماري الجديد"،[35] وقد ربط الموقف البريطاني من قضية استقلال الكويت سنة 1961 بشكل واضح بين مفردات الثراء المحلي والاستقلال عن الجوار وتحقيق المصالح البريطانية وفق ما جاء في تعريف المسيري لعملية رشوة النخبة في سبيل الحصول على خدمة النظام الاستعماري، ففي تلك الأزمة ألفت الحكومة البريطانية لجنة برئاسة وزير الخارجية لاقتراح السياسة المثلى التي يتوجب اتباعها تجاه الكويت، فخلصت هذه اللجنة إلى أن التهديدات التي تواجه المصالح البريطانية في الكويت هي استحواذ العراق أو السعودية على الإمارة، وأن الوسيلة الأفضل للحفاظ على المصالح البريطانية هي الاستعداد الدائم للدفاع عن الكويت "الغني، المستقل، الصديق لبريطانيا"، وإقناعه بالاتكال على المساندة البريطانية في اللحظات الحرجة لئلا يتجه إلى السعودية أو مصر للحصول على الضمانات السياسية والأمنية،[36] ولهذا لوحظ أن التدخل في أزمة 1990 كان أجنبياً وكان الحضور العربي ملحقاً وثانوياً وغير فاعل إلا في إسباغ الشرعية على التطفل الأجنبي.
أما المصالح الحقيقية التي تحققت فهي كما سبق ذكره مصالح الغرب الذي استولى على النفط ليسير في شرايين اقتصاده، وعلى عوائد هذا النفط واستثماراته والتجارة بالأموال التي حصل عليها ملاك النفط واشتروا بها السلع المصنعة الغربية، والأهم من كل ذلك الحؤول دون ظهور قوة محلية تمسك بزمام هذه الثروة وترفع من شأن الأمة التي تملكها، وقد حقق الغرب ذلك دون أن تحقق البلاد النفطية أية مصلحة عليا بعيدة المدى وبديلة عن نموذج الاستهلاك في حال نضوب السائل الأسود، وليس ذلك من قدراتها أصلاً لقلة قاعدتها السكانية وضحالة عمقها الجغرافي وخفة وزنها الدولي وتشرذمها السياسي، ولو طالعنا سلسلة المصالح الغربية التي كانت الوفرة الاستهلاكية ثمنها لوجدنا أن هذا الثمن الذي "سمح" لنا الغرب به كان ضئيلاً جداً مقابل الفوائد الجمة التي سبق ذكرها والتي جناها من الدفاع عن الاستقلال والتجزئة، وإذا قارنا ذلك بالخيارات الأخرى لمسيرة تاريخ المنطقة والتي تم إجهاضها لصالح الخيار الغربي، فإننا حينئذ سنشعر بفداحة الخسارة التي قبضنا ثمنها سيارة أو هاتفاً أو أية سلعة استهلاكية مترفة.
الكويت في ظل الدولة العثمانية قرية تواجه الإمبراطورية البريطانية: حاول الإنجليز اختراق "قرية الكويت" (كما جاء وصفها في وثيقة تعود لسنة 1848 ونشرتها صحيفة الوطن الكويتية في 2011/9/8) زمن شيخها الثالث جابر بن عبد الله بن صباح (1813- 1859) فكان ما رواه الشيخ عبد العزيز الرشيد في تاريخه[37] والأستاذ سيف مرزوق الشملان في تاريخه: "في سنة ما، جاء الكويت جماعة من الإنجليز وحاولوا إقناع الشيخ جابر برفع العلم البريطاني، فلم يقبل وقال: إن الدولة العثمانية جارتنا وكل ما نحتاجه يأتينا من البصرة، فقالوا: إن الهند من مستعمرات بريطانيا وأنتم محتاجون لها، فلم يجبهم، وأخيراً استأذنوه في البناء فلم يسمح لهم، ثم قالوا: أتمنع الدولة العثمانية كما منعتنا؟ فقال: إذا رأينا في ذلك ضرراً على البلدة منعناها. وقد حاولوا أن يعطيهم ورقة بأنه يمنع الدولة عن ذلك فلم يعطهم، ورجعوا أدراجهم. لما بلغ النبأ متسلم البصرة جاء الكويت زائراً وشكر الشيخ جابراً على موقفه الصلب من الإنجليز، ويقال إن الدولة العثمانية لم ترتب للشيخ جابر المائة والخمسين كارة من التمر والفرمان الشاهاني والعلم الأخضر (علم الخلافة الإسلامية) إلا نتيجة لموقفه من الإنجليز بجانبها"،[38] وفي هذه الحادثة رد على منطق التجزئة الذي يجيب على طلب مساعدة الإخوة اليوم بالقول: وأين كان إخوتنا المزعومون عندما كنا فقراء لا ثروة لدينا؟ فالحقيقة غير ذلك تماماً، عندما كنا في كيان واحد كان الإخوة حاضرين دوماً كما شهد الشيخ نفسه، والكويت نفسها لم تكن تتسول المساعدة في ذلك الزمن، كانت تتاجر وتتبادل مع إخوتها ووصلت بضائعها عاصمة الخلافة نفسها بالإضافة إلى الشام والعراق واليمن والحجاز ونجد[39] وجنوب الجزيرة والبحر الأحمر وشرق إفريقيا بل الهند نفسها[40] في أزمنة الحروب والحصار، وقد أثرى تجارها من التكامل مع إخوتهم ولم يكونوا بحاجة لمساعدة أو صدقة من أحد، وتصوير ذلك الزمن بصورة الفقر والفاقة والحاجة لا ينطبق على الواقع ويجب قياس غنى كل عصر بوقته.
وفي زمن الشيخ مبارك الصباح أرادت الدولة العثمانية تحويل الكويت إلى محطة نهائية لسكة حديد بغداد وبذل الإنجليز جهوداً كبيرة في التآمر بحجة الدفاع عن "استقلال" الكويت عن العثمانيين ليمنعوا وصول السكة إليها مع أنها كانت ستحول الإمارة إلى محطة نهائية لطريق تجاري عالمي يقطعه قطار الشرق السريع من برلين مروراً بعواصم أوروبا ثم اسطنبول فبغداد فالكويت مما كان سيمنح ميناء الكويت أهمية اقتصادية كبيرة قبل ظهور النفط بعشرات السنين، ولعل ذلك أفضل من أحاديث التنمية الاستعمارية الزائفة بهيئة بريد،[41] أو بخط تلغراف[42] أنشأته بريطانيا لمصالحها، أو بمحطة تحلية مياه لم تقم بعملها أصلاً،[43] وما يؤكد ذلك ما جاء في تقرير مؤسسة ماكينزي الاستشارية لسنة 2008 عن الإصلاح الاقتصادي في الكويت: "التجارة من العراق وإليه عبر الكويت تصل قيمتها إلى 40 مليار دولار (سنوياً)، وحتى يكون ذلك لا بد من السكك الحديدية"، هذا ما ستصنعه سكة محدودة، مع العلم أن مجمل التجارة الكويتية بلغت حتى ذلك العام 70 مليار دولار (سنوياً)،[44] فما هي القيمة التي كانت التجارة ستصلها لو أن الكويت أصبحت محطة نهائية لطريق عالمي كسكة تمتد عبر القارات من برلين إلى بغداد منذ مائة عام؟ أي قبل النفط بعشرات السنين فتنهض البلد بإمكاناتها ويأتي النفط ليدعم هذا النهوض كبقية البلاد التي نهضت بعملها ثم دعم اكتشاف الثروات اقتصادها ولكن لا يكون هذا الاقتصاد بعد ذلك معتمداً على تصدير منتج واحد ناضب لأن هناك بنية تحتية مستقلة وسابقة للعمل به ودونه، وهو أمر تحاول الكويت العودة إليه اليوم ولو بصورة جزئية بواسطة مشاريع السكك الحديدية الإقليمية التي مازالت في عالم التخطيط، فكان هذا الاستقلال المحتفى به من مستلزمات المصالح الغربية على حساب مصالح السكان المحليين وإن صورت السياسة عكس ذلك.
فلقد اقترن الحلم العثماني بإعادة إحياء الدولة بواسطة ربطها بشبكة واسعة من خطوط الحديد مع رغبة ألمانية بدعم هذا المشروع بعيداً عن أطماع بقية أوروبا، تم تنفيذ سكة حديد الحجاز وأجزاء من سكة بغداد، وكان السلطان عبد الحميد الثاني يحلم بربط السكتين كما كانت ألمانيا تحلم بامتدادات إفريقية، الكويت كانت محطة هامة في هذا الحلم ولكن بريطانيا أجهضته في سبيل مصالحها.
ومن الطبيعي أن يحوز إنجاز "الاستقلال" على ثناء الإنجليز على أنفسهم والذين لم يستطيعوا تقديم أي إنجاز عملي واحد لعملهم الذي لم يكن سوى تلبية لمصالحهم ضد العثمانيين والألمان بغض النظر عما أجهضه من مصلحة الكويت نفسها في اندماجها بدولة إسلامية كبرى: "كان تولي الشيخ مبارك للحكم ضربة قوية ضد التوجهات الموالية للعثمانيين في الكويت (التي مثلها أخواه الحاكمان السابقان المقتولان اللذان لا يذكرهما النص البريطاني!)، كما اتسم حكمه بالإقرار بأن بريطانيا هي مفتاح ضمان حماية الكويت ضد القوى الإقليمية الأخرى التي كان بوسعها هزيمة إمارة الكويت الصغيرة (الصحيح أن تلك "الأخطار" نشأت من قبل القوى العثمانية والمؤيدة للعثمانيين كمدينة حائل آل الرشيد نتيجة زيادة النفوذ البريطاني في الكويت، وكان من الممكن تسويتها في ظل العثمانيين أيضاً، أي أن تطفل بريطانيا على المنطقة هو منبع الخلل فيها)، وكانت تلك الحسبة الدقيقة (للشيخ مبارك) تنم عن الحكمة والبصيرة (بالطبع مادامت تحقق مصالح بريطانيا)، حيث أنه مهما كان من أمر الأهداف الإمبريالية البريطانية (حتى لو كانت تعطل ازدهار ميناء الكويت آنذاك؟) فإنها لم تشمل أبداً على حرمان الكويت من استقلالها[45] (أو على الأصح تحويلها لدولة وظيفية تُجبر على تحقيق مصالح الأجانب حتى لو كان ذلك ضد قرارها السياسي ومن ثم ضد استقلالها الذي يدعيه الإنجليز وضد مصالحها كما سيأتي).
والطريف أن بريطانيا التي بذلت جهوداً كبرى لتحقيق استقلال الكويت عن الدولة العثمانية عادت بعد ذلك لتنقض ما فعلته ولتعترف بسلطة الدولة على الكويت وبكون حاكم الإمارة موظفاً عثمانياً في اتفاقية 1913 والتي وصفتها الوثائق البريطانية بأنها "استخدام الكويت من قبل الحكومة البريطانية للحصول على شيء آخر في مكان آخر، والاعتراف بأشياء أخرى في أماكن أخرى، كتقديم التنازلات لها في خطة سكة حديد بغداد وما شابه ذلك، وعندما نتذكر بأنه لم يتم أخذ رأي حاكم الكويت أو التشاور معه خلال المفاوضات كما لم يتم إبلاغه عن سير هذه المفاوضات ونهجها، ثم تقدم له بعد ذلك كأمر واقع... ومهما كانت التفسيرات طويلة بهذا الصدد، فإنها غير قادرة على إزالة الانطباع بأننا استخدمنا الكويت كمخلب لضمان الحصول على منافع أخرى لأنفسنا"، وذلك في الوقت الذي كان الشيخ يخاطب السير بيرسي كوكس بقوله "إنني أعتمد على الحكومة (البريطانية) العظيمة لمساندتي، طالما أنني مخلص في الالتزام والوفاء باتفاقاتي" فيتلقى شكراً "لامتثالكم لوجهات نظر الحكومة البريطانية".[46]
ولما اندلعت الحرب الكبرى الأولى "أعلن الشيخ مبارك ولاءه للحكومة البريطانية نيابة عن نفسه وعن قبائله كما وضع جهوده ورجاله وسفنه تحت تصرف بريطانيا" مقابل الحصول على "استقلال" تحت الحماية البريطانية،[47] وتعرضت تعهداته بالمشاركة في مجهود الحلفاء الحربي "لتحرير" البصرة لأول اختبار عندما اندلعت الثورة ضد صديقه خزعل خان في المحمرة لمشاركته في القتال إلى جانب الإنجليز ضد الخلافة الإسلامية، فأمر الشيخ مبارك الكويتيين بالقتال إلى جانب حليف بريطانيا ضد الدولة العثمانية فعصوا أمره على قلب رجل واحد وتذكر المصادر الكويتية ميل الكويتيين في هذه الحرب إلى جانب العثمانيين وسرورهم عندما تكون "الدولة معتزة" ورفضهم القتال إلى جانب الإنجليز وحليفهم الشيخ خزعل أمير المحمرة رغم أوامر الشيخ مبارك كما جاء مثلاً في كتاب الأستاذ سيف مرزوق الشملان الذي نقل "عصيان الكويتيين وعدم امتثالهم" لأوامر الشيخ الذي "غضب غضباً شديداً" وطلب منهم السير "وعصوا، وقالوا: نموت على الإسلام ولا نموت على الكفر"، "فكيف يقاتلون إخوانهم في الدين لأجل الشيخ خزعل خان وكيف يشتركون في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل"،[48] ورغم الصداقة الوطيدة بين الشيخ مبارك باشا ابن الصباح والشيخ خزعل خان الكعبي حاكم المحمرة فقد رفض أهل الكويت رفضاً قاطعاً نصرة خزعل حليف بريطانيا ضد دولة الخلافة الإسلامية.
بل إن الباحثة الكويتية الدكتورة سلوى الغانم تروي في كتابها الصادر باللغة الإنجليزية "عهد مبارك الصباح"؛ استنادا إلى وثائق بريطانية، أن مباركاً ذهب إلى أبعد مما سبق حين حاول قبل وفاته سنة 1915م أن "يهب الكويت لبريطانيا" وذلك بتسليم جميع الموارد الكويتية للإنجليز لإدارتها بأنفسهم وخصم نفقات الإدارة لحسابهم وتسليم الباقي له، الأمر الذي أربك المسئولين البريطانيين أنفسهم ووصفته الباحثة المذكورة بأنه "من أغرب ما قدم لمسئول بريطاني في غضون قرون من الانهماك البريطاني في الخليج"، ولم ينفذ الاقتراح نتيجة الرفض البريطاني الممزوج بالذهول،[49] وقد حاول أحد المؤلفين الأجانب التخفيف من وطأة الحدث إلا أن حكمه جاء في ضمن عدة أحكام لا تنطبق على واقع الأحداث ويمكن مراجعة الهامش للاطلاع على قيمتها،[50] وظلت الكويت في زمن الشيخ مبارك ومن بعده منطلقاً لقوات الحلفاء ضد العراق العثماني،[51] وفي ذلك تقول موسوعة تاريخ الخليج العربي: "وقد وجه المقيم السياسي البريطاني في الخليج، برسي كوكس، تبليغاً إلى مبارك حثه للعمل والتعاون مع مشايخ العرب الموالين لبريطانيا من أجل دخول القوات البريطانية البصرة واحتلالها وطرد الأتراك منها، وطلب من مبارك أيضاً مهاجمة أم قصر، وصفوان، وبوبيان، لمنع وصول الإمدادات للعثمانيين في البصرة، والحفاظ على ممتلكات الرعايا البريطانيين الموجودين في البصرة.
"لقد وعدت بريطانيا حاكم الكويت مبارك الصباح إذا أحسن التعاون مع جيش الاحتلال البريطاني حمايته من أي هجوم... ووضع الكويت تحت الحماية البريطانية.
"وبعد هذا الوعد البريطاني بدأ مبارك يعبئ قواته من البدو التي قامت بدور مهم لحماية القوات الهندية في المراحل الأولى من غزو هذه القوات ودخولها البصرة واحتلالها عسكرياً، وقد كان حاكم الكويت مبارك الصباح على رأس قوة كبيرة من البدو فحوّل بذلك أنظار العثمانيين عن قوات الجنرال آرثر باريت وجيشه... وبقي مبارك على الرغم من المعارضة الداخلية... مستمراً في مساندة البريطانيين من أجل إكمال احتلال البصرة وتقديم الدعم اللازم لهذه القوات الغازية وبذلك كان له دور مهم في توفير السبل الكفيلة في احتلال المدينة فقد زود بريطانيا بمعلومات تفصيلية عن الوجود العثماني في البصرة وأعداد الجند فيها.
"هدفت بريطانيا من حملتها العسكرية على العراق في العمل على الإبقاء على استمرارية تدفق النفط من عبادات (عبادان) والحفاظ على عمليات شركة النفط الأنكلو- فارسية.
"اتخذ الإنكليز من الكويت مخزناً لتموين قواتهم في المنطقة وكانت الاتصالات البريدية مستمرة بين الكويت والبصرة المحتلة بل إن مبارك قد ذهب إلى حد بعيد في التضامن مع الإنكليز، وقد أكد السير بسي (برسي) ككس هذه الحقيقة"،[52] والعجيب أن يكون هذا هو جزاء العثمانيين الذين أرادوا تحقيق ازدهار الإمارة بجعلها محطة رئيسة لخط تجاري عالمي، ولكن كان طعن الذات هو سمة تاريخنا المعاصر لصالح ذوات الأجانب، ولكن لم يكن الأمر دائماً بموافقة الشعوب، فقد “أثار خضوع مبارك لبريطانيا وقبوله بالحماية البريطانية وتقديمه المساعدات للجيش البريطاني في أثناء احتلاله للبصرة وتنفيذه رغبات بريطانيا ثورة الشعب العربي في الكويت ضده ورفضهم للتدخل في الشؤون الداخلية حتى أنهم أبلغوا ابنه جابر صراحة في أثناء لقائهم بهم "نموت على الإسلام ولا نموت على الكفر"”.[53]
وظل أهل الكويت في عهد خلفه الشيخ جابر المبارك إلى جانب الدولة العثمانية "فازدهرت تجارتهم حتى وصلت بضائعهم إلى سوريا والحجاز ونجد، بل أنها تعدتها إلى اسطنبول عاصمة الدولة العثمانية لأن الحصار البحري قد أحكمه الحلفاء على سواحل سوريا أثناء الحرب العظمى"، ولما عقد الإنجليز مؤتمراً في الكويت سنة 1917 لتوحيد العرب ضد الأتراك مع اندلاع الثورة العربية تكلم الملك عبد العزيز آل سعود والشيخ خزعل خان عن بغضهما للأتراك وحقدهما عليهم، أما الشيخ جابر فقال نحن مسلمون وإذا ما أجمع المسلمون على شخص فنحن له من الطائعين، وكانت العلاقة قوية بين الشيخ جابر والأمير سعود الرشيد حاكم حائل المتحالف مع العثمانيين.[54]
ولما توفي الشيخ جابر وخلفه أخوه الشيخ سالم المبارك كانت الكويت ماتزال تصدر البضائع إلى سوريا والعراق ونجد والحجاز حتى اسطنبول، مما أغضب بريطانيا لعلمها أن هذه البضائع تصل إلى أعدائها لاسيما في وجود حصارها على سوريا، فهددت الشيخ سالماً بقصف الكويت وإمطارها بوابل من القنابل، ولما رجع إلى وجوه أسرته وقومه رفضوا التهديد و"أظهروا عدم موافقتهم على هذا الطلب مهما حدث لهم"، وهنا نرى الطاقات الكامنة التي تخزنها النفوس التي تحمل قضية بعيداً عن حسابات الزعامات، ولكن المسئولين الإنجليز تمكنوا من استمالة الشيخ باللين والتملق وتراجعوا عن تهديدهم الذي لم يكن جدياً أصلاً وبعرض تعويضات عليه، وهنا فعل الترغيب ما عجز عنه الترهيب وكلف الأمير ابنه الشيخ عبد الله السالم بالإشراف على ما يخرج من الكويت من بضائع وأطعمة،[55] وأدركت بريطانيا "أن فشل الشيخ سالم في تحقيق الأهداف التي أرادها من اتباع سياسته الجديدة (المقاومة) سيعيده إلى السياسة التقليدية للحكام السابقين (أي مسايرة بريطانيا)، وأنه قد تفهم بالفعل أن القوة التي يريدها لنفسه وللكويت لن تأتي إلا عن طريق بريطانيا" كما تقول الدكتورة نجاة عبد القادر الجاسم،[56] وتم إحكام الحصار البريطاني على الكويت "وكانت الأطعمة والحاجيات لا ترد إلى الكويت إلا بمقدار"،[57] ولأن الحرب كانت في نهايتها وقد وقعت معظم الأراضي العراقية تحت الاحتلال البريطاني فإن المؤرخة الكويتية الدكتورة الجاسم ترى أن الهدف من الحصار لم يكن حربياً بقدر ما كان رغبة بريطانية في إفهام شيخ الكويت ضرورة الانصياع لأوامر بريطانيا،[58] ونلاحظ هنا أن بلادنا لم تتعرض لمحن الحصار إلا بعد دخول النفوذ الأجنبي الذي أراد كسر إرادة الأهالي وما تبعه من تجزئة وضعت الأخ في مواجهة أخيه ليكون الأجنبي هو الحكم أو النصير، وفي النهاية لا منتصر سواه.
وبعد انتهاء الحرب كافأت بريطانيا الأمير بمبلغ من المال ووسام؛[59] وهنا نرى الفرق التدريجي بين الحال الذي استند فيه الشيخ جابر الأول إلى دولة إسلامية عظمى حتى مع ضعفها عندما تمكن من صد الأطماع البريطانية فعاد الإنجليز خائبين وبين الحال الذي جعل خلفه الشيخ سالماً يتذبذب بين العصيان وطاعة الأمر البريطاني بعدما أصبح النفوذ الأجنبي واقعاً في الإمارة ولكن كان ظل الخلافة مازال قائماً، فلما زال شبحها تماماً لم يعد هناك ما يفسد استقرار النفوذ البريطاني أو يهيج الخواطر عليه إلا رذاذ من العراق ما لبث أن خبا نتيجة خضوع الجميع لهيمنة الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس ولا تشرق على غيرها.
وبعدما زار شيخ الكويت أحمد الجابر بغداد مرتين 1935- 1936 أبدى الملك غازي رغبته في رد الزيارة "فتدخلت السلطات البريطانية لإحباط ذلك المشروع"،[60] ثم تدخلت مرة أخرى ضد رغبة شعب الكويت رغم ادعاءاتها الديمقراطية التي لا تعمل إلا عند تحقيق المصالح كما تبين من موافقتها على رغبة شعب الكويت في أزمة 1990، على عكس سنة 1938، مما يعطي صورة واضحة عن طبيعة الديمقراطية الاستعمارية الانتقائية.
"وفي شهر كانون الأول/ يناير 1938، تجدد التوتر في العلاقات العراقية- الكويتية عندما بحثت قضية العلاقة بالعراق في المجلس التأسيسي الكويتي، فصوتت الأكثرية إلى جانب الانضمام إليه، مما دعا الأمير إلى حل المجلس، ورداً على القرار، نظم دعاة الوحدة مع العراق مظاهرات احتجاج، وناشدوا فيها العراقيين تأييدهم حتى تصبح الكويت جزءاً من المملكة العراقية، واتخذت المسألة بعداً آخر عندما اقترنت الدعوة إلى الانضمام إلى العراق بالمطالبة بالحياة الدستورية، ولم تنحصر الحركة في الكويت، بل انتقلت منها إلى البحرين ومسقط ومناطق خليجية أخرى انتشرت فيها المطالبة بالخروج من واقع الحماية البريطانية، انتهت تلك الحركة إلى إنزال حكم الإعدام بثلاثة من وجوه المعارضة الكويتية، وتبع ذلك إجراءات متشددة أصابت زعماء المعارضة الآخرين".[61]
أما الديمقراطية البريطانية العريقة فقد انتقلت من مطالبة الشيخ أحمد الجابر بالإصلاحات ومحاولة الاتصال بأعضاء المعارضة إلى الرغبة في تقييد صلاحيات المجلس التشريعي الكويتي ثم إلى إظهار الندم على وجود هذا المجلس كما تقول الدكتورة نجاة الجاسم، ولم ترحب بالقانون الأساسي للمجلس رغم توقيع الحاكم واطلاع الوكيل السياسي البريطاني عليه، فقد خشي الإنجليز أن يوضع دخل النفط مستقبلاً تحت تصرف المجلس، وأغضبها المطالب العمالية التي قدمها لصالح عمال شركة النفط، وخشيت تعرضه لاتفاقية 1899، ولما حُل المجلس وصودرت الأسلحة رضيت بريطانيا كل الرضا وسرها إعلان الحاكم أنه سيحكم بمفرده إلى أن يعود الهدوء،[62] ولما جرت الانتخابات الثانية وتأسس مجلس جديد (1939) طالب مرة أخرى بالنظام النيابي والانضمام إلى العراق رفض الحاكم ذلك وأيده الوكيل السياسي البريطاني وتم حل المجلس "وألقي بالزعماء المحرضين في السجن بينما انفجرت في أنحاء الإمارة اضطرابات دامية"،[63] وفر كثير من المعارضين إلى العراق،[64] ولم يتم تنفيذ الدستور الذي اقترحه الحاكم نفسه[65] ولم تنجح الإجراءات الاستشارية اللاحقة التي اتخذها، وبعد حل المجلس حصل الشيخ "على تأكيد من بريطانيا بأن الحكم والقوة ستظل بيد الأسرة الحاكمة، وبأن الشعب لن يقبل أحداً كحاكم غيره"، وأرسل بقية الحكام العرب من أصدقاء بريطانيا برقيات تأييد كذلك.[66]
جرت في أواسط الخمسينيات محاولات عراقية اتخذت صفة الحل الوسط بين مطالبات العراق بضم الكويت، والإصرار على استقلالها، وذلك بحصول العراق على ممر مائي عن طريق تأجير جزيرة وربة والشاطئ البري المقابل لها وقد "وافق شيخ الكويت على ذلك في البداية ثم رفض بتحريض من البريطانيين"،[67] وهي قضية يرى الدكتور مؤيد الونداني أنها "ستستمر في المستقبل مادام العراق محروماً من الشاطئ البحري الذي تمتع به عبر تاريخه الطويل"،[68] وأضيف على ذلك مادام التدخل الأجنبي مستمراً في توجيه الأحداث نحو مصالحه ويجد من يصغي إلى وسوسته دون الاهتمام بمصالح أهالي المنطقة.
وفي صراع لم تكن الكويت طرفاً فيه بين بريطانيا وحركة رشيد عالي الكيلاني في العراق (1941)، كانت الكويت هي منطلق الطائرات البريطانية سنة 1941 لقصف الثورة وتمت مكافأة شيخ الكويت أحمد الجابر الصباح على ذلك بوسام نجمة الهند لرتبة الفارس القائد سنة 1944،[69] وبعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية سنة 1988 كان هناك مشروع عراقي لتحويل مجرى شط العرب مما سيجعل صحراء شمال الكويت خضراء يانعة دون الإضرار الفعلي بإيران،[70] ولم يتم توضيح مصلحة الكويت آنذاك في الإنتاج الزائد للنفط والذي كان سبب الشكوى العراقية،[71] بل لقد كان المكسب العائد من رفع الأسعار والالتزام بحصة أوبك أكبر من المكسب العائد من بيع كميات كبيرة من النفط بسعر منخفض،[72] وهل كان من الأفضل تغليب مصلحة آنية عاجلة بتحقيق أرباح كثيرة، على فرض تحققها، والاهتمام بالوصول بالإنتاج إلى الحد الأقصى أكثر من الاهتمام بالوصول إلى أعلى سعر للبرميل عن طريق الالتزام بأسعار منظمة الأوبك، والمهم هل كان ذلك سيحدث لولا إشارات التشجيع الأمريكي[73] التي حفزت الطرفين ضد بعضهما البعض؟
وعلى كل حال لما اندلعت الأزمة سنة 1990 وجهها البريطانيون والأمريكيون نحو مصالحهم الذاتية وأغلقوا كل المبادرات السلمية العربية والدولية التي استهدفت نزع الفتيل والقضاء على سبب الخلاف، لاسيما أبرز هذه المحاولات حين صرح الأمير السعودي سلطان بن عبد العزيز تصريحاً مهماً عن عدم استخدام القوة في حل المشاكل بين العرب ومنح العراق منفذاً على البحر بكرم الأخوة العربية الذي لا يسيء إلى أي عربي حين يتنازل لأخيه، وكان من الممكن أن يجنب هذا الأمر الأمة كوارث ونكبات لاحقة لو أنه أخذ فرصته المنطقية ولكن الأمريكيين والإنجليز وعلى أعلى المستويات خرجوا يشجبون ذلك ويرفضون تطبيقه تحت شعار "ولا بوصة" مما اضطر الملك السعودي نفسه وصاحب التصريح ذاته للتراجع والاعتذار ودخلت بلادنا في دوامة لا يمكن أن يدعي الفوز فيها أحد غير الأغراب الأجانب المتطفلين.[74]
ثم حشر الأجانب الكويت في مشاريع لم تكن لمصالحها علاقة بها، فلم يكن أحد يدري ما هي مصلحة الكويت حين انطلقت منها جيوش احتلال العراق سنة 2003 بعد سنين طويلة من خروج الجيش العراقي من الكويت ووقوع العراق نفسه تحت حصار قاتل حصد الملايين من أبنائه، أما مصلحة المعتدين فكانت واضحة إذ كانوا هم القائمين بالعمل من أجل الكيان الصهيوني والنفط وإيجاد حلفاء عراقيين لمخططاتهم في منطقة الخليج الهامة لهم كما قال الرئيس العراقي زمن الاحتلال جلال طالباني بنفسه، ففي اعتراف مثير قال الرئيس العراقي في سنة 2008 "إن الأمريكيين جاءوا إلى العراق من أجل القضاء على صدام حسين لأنه كان ديكتاتوراً خطيراً يهدد حلفاء أميركا في المنطقة (وهذا هو ميزان الاستبداد عند الاستعمار) ولا يهدد الشعب العراقي فحسب" ولفت طالباني أثناء مقابلة مع صحيفة الخليج الإماراتية الانتباه إلى "الأهمية البالغة التي توليها واشنطن لمنطقة الخليج ونفطها، وقال إن صدام حسين كان يشكل خطراً على الكويت والسعودية ونفطهما، كما كان يشكل خطراً على حليف أميركا الأساسي "إسرائيل"، وأضاف أن أميركا بالقضاء على صدام أنجزت عملاً مهماً بالنسبة لمصالحها في المنطقة... وقال: إن الأميركان يعتقدون أيضاً، وهم على حق، أنهم سيكسبون بعض المزايا الاقتصادية النفطية في العراق، وأضاف أن توقيع شل وشركات أخرى على اتفاقيات مهمة مع الحكومة العراقية دليل واضح على ذلك" وعد كسب الأميركيين حلفاء عراقيين مهمين جداً بالنسبة لمخططاتهم في المنطقة من أهم نتائج التدخل في العراق،[75] كما أنه اعترف بعد ذلك في مواجهة شكاوى نساء العراق بفشل الحكم الذي نصبه الاحتلال،[76] مع كون حالة المرأة هي ذريعة التدخلات الاستعمارية دائماً.
كما لم يدر أحد ماذا كانت مصلحة الكويت في وضعها على كف عفريت بإعطاء عدة إشارات للعراق منذ بداية سنة 1990 بأن أمريكا لا تتدخل في الصراعات العربية- العربية وجعلها طعماً لاستدراج الرئيس العراقي للوقوع في الفخ؟[77] وما هي مصلحة الكويت بعد ذلك في إجهاض الغرب المبادرات السلمية بسبب إصرار الولايات المتحدة على تدمير العراق سنة 1991، ماذا كانت مصلحتها في تفويت أمريكا وبريطانيا فرص الحل السلمي (الذي لم يغلق بابه في وجه الصهاينة رغم جرائم سبعة عقود ولكنه أغلق بابه في وجه العراق في غضون شهرين وفق الفتوى الدينية التي استدعت التدخل الأجنبي) في ضوء كثير من مقترحات الحلول التي عرضت وكانت ستحقق مراد الكويتيين لولا تدخل الغرب لإجهاضها[78] لأنها لا تحقق مراد الولايات المتحدة الذي كان هو القضاء على القوة العراقية الصاعدة وهو هدف فرض نفسه على الأحداث بعيداً عن أي مصالح عربية وتم التخلص من قوة إقليمية في بلاد العرب، وهذه هي المصلحة الغربية الحقيقية التي تحققت (دراسة لماذا يحطم الغرب نهضاتنا/ 2)، كما لم يدر أحد ما هي مصلحة الكويت في انطلاق البريطانيين منها سنة 1941 عندما لم تكن طرفاً في الصراع العراقي البريطاني ومع ذلك حشرتها بريطانيا في صفها، أما مصلحة بريطانيا فكانت واضحة وهي ضرب الثوار وهذا ما تحقق، وقبل ذلك أيضاً لم يعرف أحد ما هي مصلحة الكويت سنة 1914 عندما اعتدى الحلفاء من الأراضي الكويتية على دولة الخلافة الإسلامية التي كانت بصدد تطوير الكويت تطويراً كبيراً سبق النفط بعشرات السنين، أما الحلفاء فكانت مصالحهم واضحة وهي الاحتلال والانتصار في الحرب، وهذا ما حصل على حساب الكويت والعراق معاً، ولعل التصريحات السياسية التي قدمتها المراجع السياسية العليا في سنة 2003 توضح بجلاء لا لبس فيه أن موقف الكويت لم يكن نابعاً سوى من عدم القدرة على مواجهة قرار دولة عظمى بحجم الولايات المتحدة "قررت" استخدام أراضي غيرها في العدوان على أطراف ثالثة "هذه أمريكا... من يستطيع قول لا لها"؟، ولم يستح زعماء عملاء كالرئيس المصري المخلوع حسني مبارك من تبرير ذلك العدوان الأمريكي باحتلال العراق للكويت سنة 1990 بعد مرور دهر على إغلاق ملف تلك الحوادث بتحرير الكويت.
ومن الإنصاف القول إن هذا الضعف سمة ملازمة لجميع دول الاستقلال والتجزئة العربية، وقد أدى كثير منها دور الكيان الوظيفي الذي كان يتلقى الرشوة رسمياً من الاستعمار نظير الخدمات الاستراتيجية التي كان يقدمها سواء نظير منح الامتيازات أو المواقع أو القواعد،[79] وسنعجب لو علمنا أن دول النفط قبل اكتشافه فيها كانت تتلقى الدعم من الخزانة البريطانية لمساعدتها على البقاء وتقديم الخدمات لحكومة لندن، وفي ذلك يقول الأستاذ أحمد الشقيري أول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية إن الوطن العربي كان "في أكثر أقطاره، تحت رحمة الدول الغربية حماية ووصاية في السياسة والاقتصاد، من ذلك مثلاً، أن السعودية، وهي قوة اقتصادية عالمية، كانت في عهد مؤسسها الكبير الملك عبدالعزيز آل سعود تتلقى عوناً مالياً سنوياً من بريطانيا أول الأمر، ثم من أمريكا في ما بعد، ومثلها الكويت وقطر والبحرين، والمحميات التسع (السبع) التي أصبحت دولة الإمارات العربية، كانت كلها تتلقى مساعدات مالية مقررة من الخزانة البريطانية عاماً بعد عام. ومن ذلك أن كلاً من ليبيا وإمارة شرق الأردن في أوائل عهدهما كانتا تتلقيان عوناً مالياً يصل إلى نصف ميزانيتهما"،[80] ومن هذه الدول أيضاً محميات الجنوب العربي التي ضمت بريطانيا كثيراً منها في اتحاد الجنوب العربي (1959) وكانت تموله بملايين الجنيهات،[81] ثم تخلت عنه وعن جميع حكام المشيخات والسلطنات التي أنشأتها هي من قبل وظل حكامها موالين للإنجليز حتى آخر لحظة عندما تخلت عنهم عند حصول اليمن الجنوبي على استقلاله (1967)،[82] كما تخلت عن حكم الملك الليبي إدريس السنوسي سنة 1969، وذلك كله عندما انتهت وظائفهم جميعاً، في الوقت الذي تدخلت فيه لحماية أنظمة مازالت فعالة، ومازالت بعض الدول العربية، لاسيما المفتقرة بحكامها وليست الفقيرة أصلاً، تعتمد على المساعدات الأمريكية لقاء القيام بأدوار الوكلاء وتنفيذ ما هو مطلوب استعمارياً منهم.
وخلاصة الأمر من الحديث عن الدول الوظيفية أنها تُسخر لمصالح الدول الكبرى حتى لو كان ذلك دون وجود مصالح لها في سياسات هذه الدول أو حتى لو كانت هذه السياسات ضد مصالحها الحقيقية أو ضد وجودها نفسه أحياناً وذلك في مقابل ما سماه الدكتور المسيري رشوة تقدم لهذه الشعوب الصغيرة على شكل استقلال محتفى به دون مضمون حقيقي، بالإضافة إلى الوفرة المادية التي ستصبح معيار اتخاذ المواقف مع أو ضد مصالح الأمة العريضة، ولكن حتى هذه الوفرة هي على حساب المستقبل غير المعد له، وعلى حساب الاستقلال الحقيقي عن المراكز الاستعمارية التي تعادي الأمة التي ينتمي الوظيفيون لها، وعلى حساب الشعوب المحيطة التي ينالها الكثير من أذى الوجود الاستعماري في الدول الوظيفية، وليس من العجيب بعد كل هذا أن تتحد رؤى الوظيفيين والاستعماريين فيرى الأوائل أن بقاءهم مرهون بالآخرين وأن حماية البقاء تعتمد عليهم حتى لو توفر مثلها من الأخ العربي الذي يظل محل الشك والريبة،[83] بل محل النميمة والتحريض، قبل العدوان الثلاثي وبعد نكسة حزيران، أي في الملمات، ومن ذلك التأكيد على وجوب تعامل البريطانيين معه "بسرعة وقسوة وبلا رحمة" لأنه "خطر على العالم العربي كله" ويجب أن يستعيد الإنجليز قواعدهم للقضاء عليه،[84] وبذلك تلتحم المصالح الثنائية مع المستعمِرين بمرور الزمن فلا يرى الوظيفيون أي شيء حتى أنفسهم إلا من خلال العدسات المستوردة من السادة وأن يفقدوا الإحساس بذواتهم، المفترض أنها مستقلة، وأن يكون هدفهم هو أن يحصلوا على ثناء هؤلاء المستعمرين[85] الذين يتغزلون في الحكمة الوظيفية الفائقة وبصيرتها وحساباتها الدقيقة،[86] وعلى رضاهم وحمايتهم (كالتدخل البريطاني لحماية النظام العراقي 1941 والتدخل الأمريكي والبريطاني للدفاع عن أنظمة إيران 1953 ولبنان والأردن 1958 والكويت 1990) فتصبح كل مصلحة استعمارية مبررة بالحفاظ على الاستقلال الوظيفي وسيادته وسلامته رغم كذب كثير من هذه الدعاوى كما سبق ذكره، وفي النهاية ما الذي يدفع عمالقة الغرب لعدم القبول بالمعادلة السائدة حالياً وهي التي تتيح لهم الحصول على النفط لشرايين اقتصادهم بالإضافة إلى الحصول على المال الهائل الناتج عن بيعه إما على شكل نفقات الاستهلاك المنفلت وشراء البضائع المصنعة عندهم أو على شكل ودائع بليونية لاقتصادهم وعملاتهم، في نفس الوقت الذي يعيش فيه المالك الأصلي لهذا المال في وهم راسخ بالاستقلال والاكتفاء والنعيم والأمان والاستقرار في ظل الحماية الدولية؟
وأمام هذا الكشف الحسابي على كل امرئ اختيار ما يناسب أولوياته: هل هو الغرق في المتع المادية العاجلة الممزوجة بالتبعية للأعداء والعزلة عن الإخوة أم بناء مستقبل راسخ لا يفتقد الازدهار في أحضان أمة عظيمة يمكن أن تجعل نفسها بهذه الثروات قوة عظمى كانت الحيلولة دون نشوئها هي السبب الذي خاض الغرب من أجله معارك الحفاظ على استقلال الدول النفطية الصغيرة.[87]
فالقضية ليست ما قد يتبادر إلى الذهن السطحي من أن هذا الاستعراض هو رفض لمظاهر وفرة نتجت عن الغنى والثراء، القضية أن هذه الوفرة وهذا الغنى والثراء غير قابلين للاستمرار ما داموا قائمين على معادلة الإنفاق من ثروة ناضبة، ومن الطبيعي ألا يشعر صاحب هذه الثروة بمآل المستقبل وأن يرفض التفكير في الآتي ما دام يومه سعيداً وهو غارق في لحظته الحالية ولكن هذا لا يعني أن أي تنبيه هو حسد وغيرة لاسيما بعدما دقت الأحداث ناقوس خطر متأخر كشف للجميع بعد هبوط أسعار النفط بحدة ما يمكن أن يصيب المعتمدين عليه وأن يبين لهم أن ما كانوا يحسبوه ادخاراً للأجيال القادمة ليس بأيديهم ولا بحوزتهم ولا تحت تصرفهم، ومن ثم فإن الادخار الحقيقي هو ما تصنعه الأجيال الحالية على أرضها وتقرر به مستقبلها بعيداً عن تحكم الأجانب.
* بلادنا بين الأمية في آخر أيام الخلافة وطوفان الشهادات في دولة التجزئة
عند المقارنة بين تعليم الدولة الحديثة وتعليم آخر أيام الخلافة يجب أن نتذكر ان الأمية في ذلك الزمن كانت عالمية بسبب أن التعليم لم يكن شرطاً لكسب الرزق في عالم يتكون معظم سكانه من الفلاحين الذين لا يحتاجون التعليم في كسب معاشهم إذ أن ضرورة التعليم والحصول على الشهادات ظاهرة حديثة لخدمة جهاز الدولة البيروقراطي ولكن هذا لم يكن يعني أن الناس قبل ذلك نائمون في بيوتهم لا يحسنون صنع شيء أو عاطلون عن العمل كما ينظر اليوم لمن لا يحمل شهادة.
وعند تفحص اقتصادنا في ذلك الزمن الذي وصف بالأمية نجد شيوع الحرف والصناعات التي كانت تتطلب مهارات حسابية وعلمية يمارسها أربابها دون تعليم ولا شهادات، نتخيل مثلاً الكويت التي كانت مجرد قرية نائية في أطراف الدولة العثمانية تصنع سفناً كبيرة تصل شرق آسيا والهند وشرق إفريقيا، ويبنيها "القلاليف" الذين لم يحملوا أي شهادات علمية وربما لا يعرفون القراءة ولا الكتابة، ولكنهم متخصصون ويقومون بتقسيم العمل بين تخصصات دقيقة لكل منها صانع ماهر خاص، وكل تجهيزات البيت الكويتي كانت من إنتاج محلي، وكان المجتمع العثماني عموماً مكتفياً ذاتياً في الغذاء والصناعات الأساسية بما فيها صناعة الأسلحة وظل كذلك إلى زمن متأخر رغم عدم شيوع القراءة والكتابة، المجتمع العثماني رغم "أميته" قام بصناعات ضخمة ومشاريع كبيرة حتى وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة: سكك الحديد والتلغراف ومصانع الأسلحة وتجارب الغواصات والطائرات، هذه حقائق وليست خيالات.[88]
نقارن مثلاً بوضعنا الآن حيث بلادنا تزخر بالشهادات وتطفح بها ولكن دون القدرة على صناعة قلم رصاص ولا إبرة حياكة رغم مظاهر الوفرة المادية التي ليس لنا أي نصيب في ابتكار شيء منها وتضطر أمتنا للتبعية لدول الغرب في احتياجاتها الأساسية حتى في الطعام رغم خصوبة أراضينا التي كانت مخازن للقمح في الماضي، وهل يصدق أحد اليوم أن بلدة صحراوية كالكويت كانت مكتفية ذاتياً في زراعة القمح؟؟ ثم أصبحت كل بلادنا أسيرة للمساعدات والصدقات الغربية التي تكبلنا وتمنعنا من الزراعة لنأكل، العبرة بالنتيجة وليست بالقياسات الرقمية الجامدة.
ويهمني توضيح نقطة هنا وهي أن كلامي ليس انتصاراً للأمية بأي حال من الأحوال بل محاولة لفهم هذه الظاهرة في سياقها التاريخي عندما لم تكن شذوذاً عن العالم ولم تكن مؤثرة في مكانة بلادنا آنذاك أما فيما بعد فقد استدرك العثمانيون على أنفسهم وقاموا بخطوات جادة وحثيثة لنشر التعليم ولو كنا قد واصلنا بنفس الهمة لاختفت الأمية التي ما تزال منتشرة انتشاراً وبائياً يجعلنا في مؤخرة الأمم اليوم ولكنا قد استفدنا من العلم بطريقة أفضل من "تطفيش" حامليه إلى بلاد الغرب التي تتلقفهم بكل اهتمام بعدما نبذتهم بلادهم التي أنفقت على تعليمهم! (دراسة: آثار التغريب الاجتماعي على المجتمع الإسلامي)
* مدى فاعلية بديل التبعية والتغريب في إدارة حياتنا
لا تستطيع مدرسة التغريب والتبعية العربية ادعاء أنها أقامت بديلاً مستقلاً قابلاً للحياة فضلاً عن نموذج نهضوي رغم الفرص الكبيرة التي حصلت عليها بعد سقوط الخلافة، فقد حكم أنصار التبعية، المتغربون والتقليديون، كثيراً من البلاد العربية بمساندة الدول الكبرى، ولم تؤد جميع "مزايا" الاختراعات الغربية والاندماج بالغرب (التعليم والصحة والمواصلات وزيادة السكان والتصنيع والزراعة) إلى بناء بديل مستقل قادر على تحقيق مستوى مقبول من إطعام مواطنيه وكفاية حاجاتهم والدفاع عنهم بإمكاناته الداخلية دون الاعتماد الكلي على الخارج:
1- فإما أن هذه المزايا سهلت حصول الغرب على ثرواتنا، كالمواصلات الحديثة لنقل مورد كالنفط أو الغاز الذي لا يفيد مالكيه إلا بتمويل ترف استهلاكي سطحي يعتمد على شراء مكثف من الأسواق الغربية، في الوقت الذي يحرك فيه النفط مصانع الغرب واقتصاداته ثم تعود الفوائض المالية العربية إلى الخزائن الغربية أيضاً، وكزيادة الرقعة الزراعية لزراعة المواد الأولية لمصانع الغرب بدل إنتاج الطعام لنا، وذلك في بلاد عربية يزيد اتصالها بالغرب عن الاتصال فيما بينها ولا تستطيع إطعام أنفسها أو كفاية حاجاتها أو الدفاع عن أنفسها
2- أو أنها مزايا تحولت إلى أعباء على دولة التجزئة كزيادة عدد السكان الذين يعيش كثير منهم في الفقر والمرض والجهل في وقت تؤلف كثرة السكان مصدر قوة للدول الكبرى،
- أو أنها مزايا عجز النظام الرسمي عن الإفادة منها كالتعليم إذ لا يجد تصريفاً إلا في الأعمال الخدمية والمكتبية فيهاجر المتعلمون جاهزين إلى الغرب، أو التصنيع الذي ما زال يحبو ولم ولن يصل درجة تنافسية في زمن دخل العالم الثورة الصناعية الثالثة ونحن لم ننجز الأولى، ومع كثرة الشهادات العلمية التي يتباهى بها البعض على "جهل" و"أمية" العهد العثماني، فإننا اليوم لم نتمكن من صناعة إبرة الحياكة أو قلم الرصاص بهذه الشهادات، في الوقت الذي كان فيه المجتمع العثماني مكتف ذاتياً حتى مراحل متأخرة في الطعام والبضائع، واليوم كلما رفعنا رأسنا قليلاً ضُربت نهضاتنا، ولا ننسى أن الاندماج بالنظام الغربي العالمي هو الذي يحمي بالقوة المسلحة الظروف السياسية للضعف والتجزئة ويمنع الخروج عليها وإيجاد بديل عنها وهو ما يجعل كل مزايا الحياة الحديثة سطحية ومستعارة وغير قائمة على أسس ذاتية قابلة للاستمرار لاسيما عندما تنضب الثروات الطبيعية في بلادها أو يوجد بديل عنها.
* الخلاصة والاستنتاج
1- كان الاقتصاد القديم في أطراف بلادنا (كالكويت نموذجاً) عاملاً، مستقلاً، مكتفياً، وليس فقيراً بل احتوى جوانب من الثراء والفاعلية أهلت أصحابه للقيام بأدوار سياسية وعسكرية بارزة في زمنها، كالتصدي للمطامع الأجنبية والمشاركة في حملات الدولة العثمانية ودعم مجهودها ضد أعدائها.
2- كان هذا الاقتصاد يتطور حسب الحاجات المستجدة ويستند إلى الدعم من المجال الموحد الذي يظل بلادنا، ولم يكن وصف هذا الحال بالتخلف والأمية منطبقاً عليه وفق شروط زمانه، وليس من العدل وصف مجتمع مكتف ذاتياً وفق ظروف زمنه بالتخلف ووصف مجتمع آخر بالعلم لمجرد وفرة الشهادات التي لا تؤهله لصناعة قلم رصاص فقط.
3- أدى التدخل الأجنبي لحماية مصالح الغرب إلى وقف احتمالات النمو كالتي جسدتها التطورات المستمرة سواء التدريجية أو الطفرات كسكة حديد بغداد، وتم احتلال بلادنا تحت عناوين متباينة من الحماية إلى الاحتلال العسكري إلى الانتداب، ووضعت أقطارنا في مواجهة بعضها البعض لخدمة المصالح الأجنبية، وكانت تعين الأجنبي على الاحتلال الذي لم تكن أزمة 1990 هي الأولى فيه بل استمرار لظاهرة استخدام الأجنبي لتجزئتنا في احتلال هذا القطر أو ذاك.
4- أدى ظهور النفط إلى تكالب المصالح الاستعمارية من جهة وتوقف النمو في الاقتصاد التقليدي من جهة أخرى والانتقال إلى اقتصاد ريعي قائم على الإنفاق من الثروة الناضبة دون تحقيق أي نمو مستقل كان من المفترض تحقيقه بهذه الإمكانات المستجدة، فتراجع الاستقلال الاقتصادي والعمل الإنتاجي والتطور التدريجي والاكتفاء الذاتي عما كان عليه الحال زمن الاقتصاد التقليدي.
5- وأصبح هناك عقد غير مكتوب بين دولة التجزئة النفطية والدول الكبرى تدفع بموجبه دولة التجزئة ثمن رفاهيتها من خيراتها مقابل ضمان الدول الكبرى لبقاء حدودها وأنظمتها، ولم يكن هناك سبب لدى الدول الاستعمارية للثورة على هذه المعادلة التي تغرق البلاد النفطية في بحبوحتها الظاهرية، فتحت تبرير قبول ورضا صاحب الثروة المتنعم بالاستهلاك المفرط، يذهب النفط لتسيير عجلة الاقتصاد الغربي المتطور، ثم ترجع عوائد الأسعار التي دفعت ثمناً له وكانت باهظة (أحياناً)، لسداد أثمان البضائع الاستهلاكية الأعلى سعراً بكثير، ثم تذهب الفوائض على شكل ودائع ضخمة في مصارف الغرب واستثماراته البليونية، فلماذا يغضب الغربيون من هذه الديمقراطية المريحة؟
6- لم يقتصر الأمر على الإفادة الاقتصادية من موارد الدول الوظيفية وأموالها، فبعد زوال ظل الخلافة الإسلامية هيمن الغربيون على بلادنا واتخذوها أدوات وظيفية استراتيجية ضد بعضها البعض لحماية المصالح الغربية في النفط والكيان الصهيوني وضرب القوى المعادية بالاحتلال والحصار والتآمر والحروب الاقتصادية، وكانت قيادات التجزئة العربية تقع في الفخاخ إما مدركة أو غافلة لتصبح حراباً في ظهور إخوتها، وكان الرابح من كل الأزمات التي نشبت بين هذه الأقطار هو المستعمر الأجنبي وحده وكنا نحن دائماً الطرف الخاسر حتى لو خدعتنا أوهام القوة والنصر.
7- لم يؤد نموذج التغريب الذي حكم بلادنا بعد زوال الخلافة برضا ودعم كاملين من المراكز الغربية أي إنجاز نهضوي حقيقي سوى الوفرة الاستهلاكية التي انتشرت في البلاد النفطية، وهي وفرة خادعة وغير قابلة للاستمرار، كما تحولت الإنجازات إلى خدمة المصالح الأجنبية وأصبحت الإمكانات كالوفرة السكانية عبئاً، والنفط نقمة على بلادنا.
8- ليس الهدف من إيراد هذه الحقائق الدعوة إلى العودة إلى الغوص على اللؤلؤ والاعتماد على فرش الحصير، بل دق ناقوس الخطر من التقصير في استغلال الطاقات النفطية الهائلة في تطوير الاقتصاد المحلي الذي تمكن فيه أجدادنا من إنجاز الكثير من القليل جداً من الموارد وكان من المفترض أن تزيد هذه الإنجازات بالإمكانات المستجدة لا أن يتراجع الاكتفاء والعمل والاستقلال والكد فيكون المرء معتمداً على ذاته وقوياً وهو طفل فلما أصبح راشداً صار عالة وكسولاً وأداة بيد الأجنبي، وإن الانخفاض الحاد في أسعار النفط وما صاحبه من عجز في الميزانيات لنذير بما ينتظر بلادنا لو استمر هذا الشكل من الاقتصاد الريعي.
9- الخروج من هذا النفق يقتضي تغيير المعادلة السائدة من أساسها، فدولة التجزئة غير قادرة على مواجهة الهيمنة الاستعمارية التي تديم هذا الاستغلال، وليست قادرة أيضاً على توظيف إمكانات بلادنا بما يحقق نهوضها، إذ ليس لديها مستلزمات هذا التوظيف الأمثل سواء نتيجة عجز قرارها السياسي المرتبط بالضمانات الأجنبية التي يحتاج إليها أو نتيجة صغر مساحاتها التي لا تؤهلها لتوفير أي أسواق عريضة لازمة لصناعات ناجحة، وتوفير المستلزمات المذكورة يقتضي اندماج بلادنا في صيغة وحدوية تثور على الهيمنة الخارجية والاستبداد الداخلي العميل دفعة واحدة.
10- من الواضح أن شن الحرب على أحد هذين القرينين غير ممكن بالاستناد إلى قرينه، فلن يثور الاستبداد على الاستعمار الذي يضمن وجوده، ولن يتخلى الاستعمار عن الاستبداد لأنه يعلم أن الجماهير لن ترضى به يوماً لأن الحقائق الموضوعية تؤكد تناقض المصالح ولن يمكن خداع كل الناس في المشرق إلى الأبد وإيهامهم أن الغرب هو منقذهم.
********
* الهوامش
[1] سيف مرزوق الشملان، من تاريخ الكويت، ذات السلاسل، الكويت، 1986، ص 137.
[2] محمد شعبان صوان، السلطان والمنزل: الحياة الاقتصادية في آخر أيام الخلافة العثمانية ومقاومتها لتمدد الرأسمالية الغربية، دار الروافد الثقافية، بيروت، ودار ابن النديم، الجزائر، 2013، ص 17.
- أندريه ريمون، المدن العربية الكبرى في العصر العثماني، دار الفكر لدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة، 1991، ترجمة: لطيف فرج، ص 200- 201.
[3] محمد شعبان صوان، معضلة التنمية الاستعمارية: نظرات في دعاوى إيجابيات الاستعمار، دار الروافد الثقافية، بيروت، ودار ابن النديم، الجزائر، 2015، ص 157- 184.
[4] بيتر مانسفيلد، تاريخ الشرق الأوسط، النايا للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، 2011، ترجمة: أدهم وهيب مطر، ص 325.
[5] مريم جويس، الكويت 1945- 1996: رؤية إنجليزية- أمريكية، دار أمواج، بيروت، 2001، ترجمة: مفيد عبدوني، ص 119 و124.
[6] نفس المرجع، ص 166.
[7] جان جاك بيربي، جزيرة العرب، دار الآفاق العربية، القاهرة، 2001، ترجمة: نجدة هاجر وسعيد الغر (1960)، ص 252- 269.
[8] الدكتور علي محافظة، بريطانيا والوحدة العربية 1945- 2005، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2011، ص 15 و220- 232.
[9] مريم جويس، ص 83.
[10] نفس المرجع، ص 139 و143 و146 و151 و168.
[11] الدكتور حسن علي الإبراهيم، الكويت: دراسة سياسية، مؤسسة دار العلوم، الكويت، 1980، ص 143.
[12] نفس المرجع السابق، ص 157.
[13] مريم جويس، ص 178
[14] صحيفة الوطن الكويتية 2011/8/11، ص 22.
[15] صحيفة الوطن الكويتية 2010/11/2، ص 22.
[16] صحيفة الرأي الكويتية، 2011/3/19، ص 7.
[17] صحيفة الوطن الكويتية، 2011/12/1.
[18] http://seifnews.com/last/index.php/news/kuwait/77532
[19] صحيفة الرأي الكويتية، 2009/10/9.
[20] وكالة الأنباء الكويتية، 2006/12/19.
[21] http://seifnews.com/last/index.php/news/kuwait/77532
[22] محمد حسنين هيكل، حرب الخليج: أوهام القوة والنصر، مركز الأهرام للترجمة والنشر، القاهرة، 1992، ص 275.
[23]- حمدان حمدان، الخليج بيننا: قطرة نفط بقطرة دم، بيسان للنشر والتوزيع، بيروت، 1993، ص 193.
- الدكتور علي محافظة، ص 21 و425.
- رغيد الصلح، حربا بريطانيا والعراق 1941- 1991، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت، 1997، ص 342- 346 و352- 353 و393.
- مريم جويس، ص 212.
[24] وثائق سرية بريطانية: التآمر على بغداد يبدأ قبل 18 شهراً من الاحتلال، 2011.
- http://www.darbabl.net/akhbarshow.php?id=1905
[25] محمد شعبان صوان، 2013، ص 283- 286.
[26] رغيد الصلح، ص 94- 95.
[27] نفس المرجع، ص 149- 151.
- وليد حمدي الأعظمي، الكويت في الوثائق البريطانية 1752- 1960، رياض الريس للكتب والنشر، قبرص ولندن، 1991، ص 144- 149.
[28] الدكتور علي محافظة، ص 13 و172.
- رغيد الصلح، ص 312- 313.
- مؤيد الونداني، الاتحاد العربي في الوثائق البريطانية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2013، ص 45- 53 (مقدمة الدكتور سيار الجميل) وص 124- 128.
[29] الدكتور علي محافظة، ص 195.
[30] مؤيد الونداني، ص 65.
[31] دوجلاس ليتل، الاستشراق الأمريكي: الولايات المتحدة والشرق الأوسط منذ 1945، المركز القومي للترجمة، 2009، ترجمة: طلعت الشايب، ص 251 و350- 351.
- مريم جويس، ص 151 و172.
[32] رغيد الصلح، ص 344.
[33] الدكتور علي محافظة، ص 178 و369- 370.
- رغيد الصلح، 396- 398.
[34] عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، دار الشروق، القاهرة، 1999، ج 1 ص 373.
[35] عبد الوهاب المسيري، الجماعات الوظيفية اليهودية: نموذج تفسيري جديد، دار الشروق، القاهرة، 2002، ص 92.
[36] رغيد الصلح، ص 235.
[37] الشيخ عبد العزيز الرشيد، تاريخ الكويت، دار قرطاس، الكويت، 1999، ص 225- 226.
[38] سيف مرزوق الشملان، ص 130.
[39] نفس المرجع، ص 181 و184.
[40] عادل محمد العبد المغني، الاقتصاد الكويتي القديم، مطابع القبس التجارية، الكويت، 1987، ص 154 و173.
[41] د. يعقوب يوسف الحجي، الكويت القديمة: صور وذكريات، مركز البحوث والدراسات الكويتية، الكويت، 2001، ص 188.
[42] سيف مرزوق الشملان، ص 184.
[43] د. يعقوب يوسف الحجي، ص 101.
[44] صحيفة الوطن الكويتية 2008/2/17 ص 26.
[45] وليام فيسي وجيليان غرانت، الكويت في عيون أوائل المصورين، مركز لندن للدراسات العربية، لندن، 1998، ترجمة: أشرف إبراهيم، ص 13.
[46] وليد حمدي الأعظمي، ص 93- 96.
[47] نفس المرجع، ص 99- 102.
- زين نور الدين زين، الصراع الدولي في الشرق الأوسط وولادة دولتي سوريا ولبنان، دار النهار للنشر، 1977، ص 209.
[48] سيف مرزوق الشملان، ص 170- 175.
[49]
Salwa Al- Ghanim, The Reign of Mubarak Al- Sabah Shaikh of Kuwait 1896- 1915, I. B. Tauris, London, 1998, p. 197
[50] قام الباحث الهولندي بن سلوت بالرد على الدكتورة سلوى بالتخفيف من وطأة خطوة الشيخ مبارك في كتابه "مبارك الصباح مؤسس الكويت الحديثة 1896- 1915 م"، مدعياً أن ليس هناك شيء غير عادي فيها وليس هناك إشارات حقيقية تدل على أن حكومة الهند كانت مرتاعة، والحقيقة أن أحكام سلوت وتقويماته يجب ألا تؤخذ على محمل الجد لأن كتابه كله مسخّر لخدمة هدف مسبق هو تفخيم شخصية الشيخ وتكبير إنجازاته ومحاولة إثبات الاستقلال الكامل لحكمه عن الدولة العثمانية أكثر مما تعرضه الأدلة الموضوعية ولهذا لم يكن يتحرج من اللجوء إلى إنكار المحسوسات في سبيل إثبات رأيه المسبق مثل ادعائه الغريب بأن الأتراك نسوا عند ادعائهم تبعية الكويت للدولة العثمانية أن "الكتاب الرسمي السنوي العثماني لم يذكر أي قائم مقام للكويت "ص 472 وهذا خطأ فادح إن لم يكن كذباً صريحاً وقد رد عليه الباحث الكويتي الأستاذ طلال سعد الرميضي من واقع الكتاب الرسمي العثماني السنوي (السالنامة) الخاص بولاية البصرة لسنوات عديدة حيث ذُكر الكثير منهم (الكويت والخليج العربي في السالنامة العثمانية، 2009، ص 85)، كما ادعى سلوت بأن "الحجر الصحي أمر دولي وليس له علاقة بالدولة العثمانية" ص 121 وهو ادعاء تكذبه الوثائق البريطانية التي عاصرت الأحداث والتي تؤكد أن مكتب الحجر الصحي العثماني من أدلة السيادة العثمانية ولهذا كانت بريطانيا ترفض إقامته في البلاد التي تطمع فيها كالبحرين وقطر كما كانت الدولة العثمانية تعين مسئول الحجر الصحي حيث تريد إثبات سيادتها كالكويت (دليل الخليج القسم التاريخي، ط قطر، ج 3 ص 1256 و1406 و1526- 1527)، وشكك سلوت أيضا فيما أجمعت عليه المراجع التاريخية المختصة - ومنها البريطانية التي عاصرت الأحداث كدليل الخليج- وهو صدور إرادة سلطانية رسمية بتعيين الشيخ مبارك قائم مقام على الكويت، ص 171، ويحصر الدليل الذي يشكك فيه في مؤلف واحد نقل عن والي البصرة فقط، ويتجاهل سلوت أن الأمر أذيع في المنطقة ورد عليه أهل الكويت ببرقية للباب العالي تشكر أمير المؤمنين "بما عهد به إلى الشيخ مبارك الصباح ومن منصب القائمقامية وبذلك وله الحمد حلت الراحة العمومية في الكويت وأنحائها" ص 67 من كتاب "بيان الكويت: سيرة حياة الشيخ مبارك الصباح" للدكتور سلطان القاسمي ط الشارقة 2004، كما ينكر سلوت المحسوس الذي نقلته المصادر الكويتية من ميل الكويتيين في الحرب الكبرى الأولى (1914- 1918) إلى جانب العثمانيين ورفضهم القتال إلى جانب الإنجليز وحليفهم الشيخ خزعل أمير المحمرة رغم أوامر الشيخ مبارك وهو ما ينقله سلوت بإبهام غير علمي (ص 523) يخالف ما جاء مثلاً من وضوح في كتاب "من تاريخ الكويت" للأستاذ سيف مرزوق الشملان الذي نقل "عصيان الكويتيين وعدم امتثالهم" لأوامر الشيخ الذي "غضب غضباً شديداً" وطلب منهم السير "وعصوا، وقالوا: نموت على الإسلام ولا نموت على الكفر"، "فكيف يقاتلون إخوانهم في الدين لأجل الشيخ خزعل خان وكيف يشتركون في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل" (ص 170- 175) من ط ذات السلاسل في الكويت 1986، بل يجرؤ سلوت على الادعاء بعكس الحقيقة فيحاول إثبات موالاة الكويتيين لبريطانيا استناداً لتقارير بريطانية ربما لم يكن ليحفل بها لو قالت العكس كما فعل في مسائل أخرى، وهكذا يسير الكاتب بهذا الطريق الوعر الذي أوصله لمحاولة تربيع الدائرة أي إثبات الاستقلالية الكاملة لشخصية كتابه حتى عن بريطانيا (ص 532- 533 مثلاً) رغم اتفاقية 1899 التي جعلت الشيخ مقيداً بقيود عديدة أوضح من الشمس في رابعة النهار (لا يبيع ولا يؤجر ولا يرهن ولا يفوض ولا ينقل ولا يعطي ولا يقبل... بغير رخصة الدولة البهية القيصرية الإنكليس... ويقيد نفسه وورثته وأخلافه إلى الأبد) حتى أن الكويتيين أنفسهم يحتفلون سنوياً بذكرى خلاصهم الرسمي من هذه المعاهدة ويسمون اليوم بعيد الاستقلال، فأي استقلال يريد المؤلف إثباته في ظل تلك المعاهدة التي كان الاستقلال في الخلاص منها؟ ولا يمكن حصر تجاوزات الكتاب في مقام ضيق كهذا والخلاصة أن أحكام سلوت في كتابه غير موثقة ولا يجب الاستناد إليها لأنها تلوي أعناق الأدلة لإثبات رأي مسبق.
[51] Jonathan S. McMurray, Distant Ties: Germany, the Ottoman Empire, and the Construction of the Baghdad Railway, Praeger, London, 2001, p. 124.
[52] محمود شاكر، موسوعة تاريخ الخليج العربي، دار أسامة للنشر والتوزيع، عمّان، 2015، ج 2 ص 559- 561.
[53] نفس المرجع، ج 2 ص 561.
[54] سيف مرزوق الشملان، ص 181- 182.
[55] نفس المرجع، ص 184- 185.
[56] الدكتورة نجاة عبد القادر الجاسم، التطور السياسي والاقتصادي للكويت بين الحربين (1914- 1939)، الكويت، 1997، ص 92.
[57] سيف مرزوق الشملان، ص 185.
[58] الدكتورة نجاة عبد القادر الجاسم، ص 92.
[59] سيف مرزوق الشملان، ص 185.
[60] رغيد الصلح، ص 149.
[61] نفس المرجع، ص 150.
[62] الدكتورة نجاة عبد القادر الجاسم، ص 162 و 172 و 177 و 179.
[63] جان جاك بيربي، ص 266.
[64] الدكتورة نجاة عبد القادر الجاسم، ص 180.
[65] جان جاك بيربي، ص 266.
[66] الدكتورة نجاة عبد القادر الجاسم، ص 180- 181.
[67] مؤيد الونداني، ص 125 و 678- 682.
[68] نفس المرجع، ص 65.
[69] وليام فيسي وجيليان غرانت، ص114.
[70] فؤاد مطر (سلسلة أعماله الشاملة)، الخميني وصدام: القرار الصعب والخيار الأصعب، الدار العربية للعلوم- ناشرون، بيروت، 2007، ص 229- 230.
[71] رغيد الصلح، ص 332.
[72] الدكتور سامي عصاصة، هل انتهت حرب الخليج: دراسة جدلية في تناقضات الصراع، مكتبة بيسان، بيروت، 1994، ص 144.
[73] الدكتور علي محافظة، ص 357- 359.
[74] في ذكرى ضياع فرصة مصالحة ذهبية: إلى متى سنصغي إلى الأجنبي؟
[75] صحيفة "الدستور" الأردنية: طالباني: أميركا احتلت العراق من أجل إسرائيل والنفط (2008/12/25
- صحيفة "النهار" الكويتية: طالباني: أميركا احتلت العراق من أجل إسرائيل والنفط (2008/12/25)
http://www.annaharkw.com/annahar/Article.aspx?id=113373
[76] الرأي نيوز، طالباني يعترف: "أنا أول الفاشلين" (2011/4/30)
[77] جيف سيمونز، 1998، ص 29.
[78] الدكتور علي محافظة، ص 370.
- رغيد الصلح، ص 353- 355.
[79] الدكتور علي محافظة، ص 119 و120- 121.
- دوجلاس ليتل، ص 354- 366.
- دكتور حسن صبري الخولي، سياسة الاستعمار والصهيونية تجاه فلسطين في النصف الأول من القرن العشرين، دار المعارف بمصر، 1973، ج 1 ص 641.
[80] أحمد الشقيري، الأعمال الكاملة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2006، ج 4 (الكتب والدراسات القومية- 2) ص 3243– 3244 (الجامعة العربية كيف تكون جامعة وكيف تصبح عربية ص 231- 232).
[81] الدكتور علي محافظة، ص 218.
[82] من تاريخ اليسار العربي وسياساته اليمينية (1)
[83] مريم جويس، ص 151 و154 و184.
[84] نفس المرجع، ص 69 و197 و201.
[85] نفس المرجع، ص 163.
[86] وليام فيسي وجيليان غرانت، ص 13.
- بيتر مانسفيلد، 325.
[87] دانييل يرغن، الجائزة: ملحمة البحث عن النفط والمال والسلطة من بابل إلى بوش، دار التكوين للنشر والتوزيع، دمشق، 2004، ترجمة: حسام الدين خضور، ص 6- 7 و939- 941.
[88] محمد شعبان صوان، 2013، ص 79- 84 و127- 230.