الأمّة العربية أمّة موحّدة في معنوياتها ومجزّأة في مادياتها. ديناميات الوحدة موجودة في الأمّة وهي ديناميات معنوية.. ديناميات الانقسام في الأمّة موجودة وهي ديناميات مادية.. هذه الثنائية الضدّية تبقي الوحدة العربية هدفاً بعيد المنال.
الأحزاب القومية موحّدة في معنوياتها ومجزّأة في مادياتها ديناميات الوحدة موجودة في الأحزاب وهي ديناميات فكرية.. ديناميات الانقسام موجودة في الأحزاب القومية وهي ديناميات واقعية.. هذه الثنائية الضدّية بدورها تجعل الوحدة العربية صعبة التحقيق.
وبالرغم من ذلك الوحدة العربية ليست الهاً من تمر وحديثها لم يعد حديثاً موسمياً نتلوه تلاوة طقسية في الثالث والعشرين من شهر شباط في كلّ عام.. ذيّاك هو حديث الفاشلين والمحبطين.. وأحياناً حديث الشامتين..
أمّا نحن الوحدويين العرب فحديثنا عن الوحدة هو تجسيد رؤيتنا لمستقبل الأقطار والامّة.
عدد أبنائها تجاوز ثلاث ماية وخمسة وسبعين مليون نسمة، ومساحة وطنها أربعة عشر مليون ومئتا ألف كلم² وهي تمتلك من الثروات الطبيعية ما لم تمتلكه على الارض أمّة ولها من الحضارة والثقافات ما يعدّ بآلاف السنين.. يبقى فقط أن تكون لأبنائها إرادة الوحدة.. الوحدة في الاقتصاد والأمن والسياسة والثقافة.. وكلّها في سياق واحد.. انّه سياق العقل والمعرفة والعلم والتكنولوجيا والحقّ والقانون.
لم تتمكّن أوروبا من تحقيق وحدتها الاّ بعد أن أتمّت ثورتها العقلية وأحلّت المعطى العلمي والتكنولوجي محلّ المعطى الغيبي في التأسيس المعرفي والعلمي والتكنولوجي لوحدتها وانتقلت من سنّة الاجتماع على العصبيات والغيبيات الى سنّة الاجتماع على العقل العملي الذي له وحده أن يوجّه إرادة الوحدة.
عندما يبدأ العقل العربي بالعمل تتلاشى معوّقات الوحدة، العصبية منها والغيبية..
لم تتمكّن أوروبا كذلك من تحقيق وحدتها الاّ بعد أن أقامت دولة الحقّ وحكم القانون، الدولة الديموقراطية، دولة المشاركة والمساواة أمام القانون في الحقوق وفي الواجبات، دولة الانصاف والعدالة والقضاء المستقلّ، دولة المواطنة وتمكين الفئات المهمّشة وتقوية البنيات الفكرية والحقوقية والنفسية لجميع المواطنين بدون تمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو الأصل الاجتماعي..
كلّ حديث وحدوي يتوخّى بناء الدولة القومية يبقى خارج الحاضر والمستقبل وخارج الفقه الدستوري الحديث وخارج الفاعلية التاريخية ما لم يشكّل العلم والتكنولوجيا والحقّ والقانون "كلامه الجوهري".. وكلّ ما عداه يبقى كلاماً بدون أثر وقتلاً للذات في مآويها الخرافية.. فالوحدة ليست الهاً من تمر نأكله حين نجوع.. انّها من صنع العقل والإرادة..
فكرة الوحدة العربية ما زالت حيّة: سألني من ليس عروبياً هل في بلاد العرب من لا يزال يؤمن بالقومية العربية؟
سائلي يبدو من أهل "العولمات" الشاطبة للهويات باسم الإنسانية والماسحة للخصوصيات باسم الاندماج الحضاري والهادمة للكيانات باسم المساواة والوحدة الكونية والناهبة للثروات باسم التنمية والعدالة والقاتلة للشعوب باسم الحريات والديموقراطية وحقوق الإنسان.. فالهوية القومية عنده من عمر مضى!.. والهويّة بلا قوم هي المستقبل الآمن لإنسان العقود الآتية!..
انّ انتماءنا إلى عالم تسوده القيم الإنسانية واحد بالاندماج الحضاري والمساواة والتنمية والعدالة والحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان هو مشروعنا القومي العربي للتعامل مع الأمم والشعوب..
أمّا التسليم بهذا الانتماء وأرضنا في فلسطين مسلوبة ومغتصبة وشعبنا في فلسطين يواجه حرب اقتلاع وإبادة وتهجير،
أمّا التسليم به وأرضنا في العراق محتلّة وشعبنا في العراق يواجه القتل والتعذيب والتنكيل والتشريد،
أمّا التسليم بهذا الانتماء وجزء من أرض لبنان وسوريا يرتع فيه جيش الاحتلال وشعبنا في لبنان وسوريا تشنّ عليه حروب تدميرية،
أمّا التسليم بهذا الانتماء وأرضنا في ليبيا أحرقها الأطلسي وشعبنا فيها مزق متناحرة،
أمّا التسليم بهذا الانتماء وأرضنا في اليمن أرض مواجهات إقليمية بين إيران الداعمة لفئة من أهلنا هناك وتحالف عدد من الدول العربية الداعمة لفئة أخرى ما ينذر بأن لا يبقى في اليمن لا وحدة أرض ولا وحدة شعب،
أمّا التسليم به والأمّة العربية مضروبة بوجودها ومصيرها إنساناً وقيماً وإرثاً وموقعاً وتراثاً وثروة، ومعرّضة للتقسيم والتجزئة دولة في إثر دولة،
فاستسلام مرفوض لإرادة الاحتلال الأميركي/ الصهيوني.
نحن قوم لا يرهّب باتّهامه بالإرهاب.. نحن شعب يقاوم..
يقاوم في فلسطين من أجل التحرير لا من أجل سلطة من دون سيادة أو حكم من دون إرادة أو دولة من دون دولة.. نحن شعب يقاوم في فلسطين اتفاقات وخرائط ووثائق تسقط الحقّ في الأرض والعودة وتسقط الحقّ في القدس والدولة..
ويقاوم في العراق من أجل التحرير لا من أجل استعادة سلطة أو نظام أو شخص أو حزب أو قيادة.. نحن شعب في العراق يقاوم تداعيات الاحتلال وأنصابه و"إفرازاته الديموقراطية"..
ويقاوم في لبنان لردع المعتدي والحفاظ على مكتسبات التحرير في العام 2000 وانتصار الصمود في العام 2006
ويقاوم في سوريا من أجل الوحدة والإصلاح وحماية الموقع والدور في الصراع العربي/ الصهيوني..
ويقاوم في ليبيا من أجل تحريرها وحماية ثرواتها وإخراجها من النزاعات القبلية..
ويقاوم في اليمن ليبقى موحّداً في أرضه وشعبه ومؤسساته منتصراً على العصبيات المذهبية.
المقاومة في فلسطين والعراق ولبنان وسوريا وليبيا واليمن تبلور الهوية القومية وتشكّل معيار انتمائنا القومي.
نحن القوميين العرب نفهم الهويّة بهذا الأساس والجوهر ونراها هوية أمّة تقاوم من أجل الوحدة..
أرجو أن أكون قد أجبت سائلي فيرى أنّ القومية ما زالت علامة نبّاضة وجمّاعة في خريطة الوطن وأنّها ما زالت حيّة وهّاجة في بلاد العرب..
بانتمائنا القومي نزيل من آذاننا أسئلة النشاز والدعوات إلى التفرقة والتنابذ بادّعاء الحقّ في حماية الخصوصيات القطرية وشطب من أعيننا صوراً شوهاء ركّزتها ثقافة القطريات وما دونها. بهذا تتّسع لنا مساحة الوطن العربي كلّه ونصبح فعلاً أبناء أمّة عربية واحدة.
كثير من الإحباط يغزو نفوسنا لما آلت اليه حال الأمّة منذ احتلال العراق وتقسيم السودان مروراً بربيع عربي كاذب حتى الحرب على ليبيا وسوريا واليمن.. وكثير من الغضب في جباهنا لما هو حاصل في فلسطين.. فضلاً عمّا آلت إليه أحوال الأمّة بعد انتشار "الدولة الإسلامية في العراق والشام" في عدد من أقطارها خصوصاً في المنطقة الوسطى من ليبيا وسيناء مصر.
منفردين ومجتمعين نسأل، وحال الأمّة هي هذه، عن امكانات النهوض.
لدينا الشعب المقاوم في هذه القطار ولدينا الحركة الشعبية العربية الغاضبة والحاضنة في كلّ الساحات..
ولدينا الحركة الشعبية العالمية المنتصرة للحقّ في كلّ مكان..
ولدينا الارث المقاوم في تجارب الشعوب التي تمكّنت من انجاز وحدتها وطرد الاحتلال.
ثقافة اليأس لن تعمي بصائرنا عن حقائق موضوعية تنبئ بإمكانات النهوض ولن تجعلنا نستسلم لتهويل يأتي من إعلام أجنبي عدو أو إعلام عربي متواطئ ليغزو عقولنا بالقول انّ أمّتنا هي أمّة الهزائم، منكسر تاريخها، أو هي أصبحت خارج التاريخ لم يعد لها فيه فعل ودور أو حضور.
نواجه هذه الحروب النفسية معتصمين بالهويّة القومية وعازمين على إعادة تكوين الوطن وفق أسس علمية ومعرفية جديدة وبناء الدولة القومية الحديثة وإصلاح الحكم والدستور والمؤسسات على قاعدة المواطنة والعدالة والمساواة.
نواجه هذه الحروب النفسية بسلاح الموقف من أعداء الأمّة وبالتأصّل في الانتماء إلى العروبة. فتاريخ الأمّة مآثر وأمجاد رافضة للظلم والعدوان، والعروبة إسهام نوعي في بناء الحضارة الكونية.
أعداؤنا يريدوننا هدفاً سهلاً لاجتياحهم الثقافي واستئصال القيم.
قيمنا العربية هي عصب المقاومة.
منظومة القيم العربية مستهدفة وعدوّنا يسعى الى إخراجنا منها ليسهل عليه تطويعنا وإدخالنا في القيم البديلة أي في الهويات المصطنعة التي ليست لنا.
المقاومة الثقافية تبدأ بإعادة تكوين منظومة القيم.
فكلّ قيمة هي سلاح مواجهة.
نحن ننتمي الى أمّة متقدّمة في الأخلاق والقيم والتفاعل مع الثقافات الإنسانية.
العلم والتكنولوجيا هما من التحديات الوافدة إلينا نتعامل معها بإيجاب من دون التخلّي عن القيم والأخلاق. قيمنا جذوة متوقّدة تبعث روح الحياة فينا وتجعلنا نواجه كلّ التحديات الوافدة بإرادة من يعرف ذاته وذات الآخرين.
القيم التي تريد أن تهيمن بها الولايات المتّحدة على العالم هي قوّة تخريبية بامتياز وإرهابية بامتياز..
فلا الديموقراطية منهم بل منّا..
ولا حقوق الإنسان من إرثهم بل من إرثنا..
ولا الحريات من ثقافتهم بل من ثقافتنا.
خطأنا أنّنا لم نقرأ تاريخنا بل قرّئناه بعد أن قرأوه لنا فنشأنا على عداوة له أو قطيعة.. شبابنا العربي مدعوّ الى قراءة تاريخ قومه بوعي وصفاء وعبرة ومصالحة.
القيم تشعرنا بالتمايز لا بالتعصّب ولا بالاستعلاء أو الدونية.
نحن واحد بالهوية واحد بالانتماء واحد بالمصلحة لأنّ المصلحة في ذاتها قيمة متى كانت عامة.
الهوية القومية الواحدة تشعر كلّ عربي أنّه ليس من أبناء الهويات المقموعة.
العروبة هي هويتنا وهي لنا جميعاً.
نحن نصنع هويتنا. كما نحن نكون. وليس لنا أن نكون غير ما نحن.