"ليست الميتافيزيقا فيزياء شديدة التميز لو كانت هذه الفكرة السهلة صحيحة لما كان لدينا الا الاختيار بين الثرثرة الدوغمائية وتهكمات الواقعية"[1]
في مقابلة قديمة مع جريدة لوموند الفرنسية بتاريخ 14 جوان 1978 كشف المفكر الملتزم فلاديمير يانكلفيتش عن قدر مسلط على الإنسان في وجوده السياسي مرتبط بأجهزة الدولة ومنظومة الحكم التي تسيرها وبالقوى المتصارعة حول المواقع والمنافع، وتبعا لذلك أوضح صعوبة إيجاد مخرج من هذه العبثية.
هذه الوضعية الهشة لم تكن ناتجة عن سوء تقدير من قبل الماسكين بزمام السلطة ولا عن التباس وسوء فهم لوظيفة الدولة في زمن التحولات بل الجميع كان مع العفوية الثورية ووقف الكل ضد عودة الطغيان.
لم يكن الشعب سيء الحظ حينما وجد نفسه في مناخ اقتصادي متدهور زمن التقلبات ولم يتأسف على ضياع الشعور بالمتعة وحصد المنافع زمن الاستبداد بل جعل من تركيز السلطة الجديدة نصرا على كل أمر محال. غير أن الشعور البرجوازي المتشائم الذي ظهر في الأثناء وعبر عن نفسه في استحالة الاستقرار في الأفق القريب كشف عن واقع نفسي مهتز تعاني منه النخب المثقفة جعلها تشكك في كل الخطوات الواثقة التي قطعها الشعب نحو الصعود والارتقاء وصبره عليهم في زمن انقلاب محبة الوطن إلى كراهية المصير المنتظر والنقمة المتزايدة على الأخلاق الثورية. والحق أنه لا يجب أن تنحرف السلطة الثورية حسب يانكلفيتش إلى استبداد بيروقراطي جديد ولا ينبغي أن تعيد إنتاج أشكال الهيمنة بل من المفروض أن تمنح الكيان السياسي المنبثق من رحم الحراك وجودا تاريخيا يليق به.
هكذا يتسلح يانكلفيتش بالنزعة الريبية ويعلق الحكم ويؤكد على أن الطريقة التقريبية اللاّمتناهية التي يتبعها لا تمنع من التحدث والتعبير والشعور بالأمل وخلق المقاصد والعمل على تحقيقها وبناء أفعال بشرية غائية. غير أنه يصطدم ببؤس ميتافيزيقي يتسم به الوضع البشري وينبثق هذا البؤس من حاجة الأمل إلى التهيكل في جسد سياسي واجتماعي من أجل التحقق والبلورة ولكن جهاز الدولة يستولي بسرعة على هذا الجسد ويوظفه لمصالحه. بعد ذلك يتم الإدغام والاختراق والاستقطاب قبل أن يشتد عود هذا الجسد الاجتماعي الفتي وقبل أن يتطور ويتصالح مع نفسه ويحقق انتظارات أعضائه وتتم مصادرة أأحلامهم التي حلموا بها ويقع الهيمنة على منجزاته والسطو على أفكاره وافتكاك استراتيجياته وإفقاده البوصلة.
يكشف يانكلفيتش عن وجود تعارض تام بين منطق الثورة ومنطق الدولة وبين عقلية الحقوق والحريات بوصفها مسلك مطلبي شرعي وعقلية الأمن والبيروقراطية وأجهزة الرقابة وما تسببه من عنف ورعب.
في اللحظة التي تأخذ فيها الثورة السلطة فإنها تصبح صورة كاريكاتورية وهذا ليس سببا كافيا لكي نحرم فرسان الثورة من بناء سلطة حاكمة متلائمة مع منطقهم وكفيلة بتحقيق مطالبهم العاجلة، والآية على ذلك أن الإنسان يفعل دائما الأصلح على الرغم من البؤس الميتافيزيقي الذي يتسم به وضعه السياسي، كما أن وجود أجهزة متماسكة للدولة في ظل زمن التقلبات هو شر ضروري للتغلب على التحديات.[2] على ما يبدو "إن الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يذهله وجوده وليس الذهول أمام حادث غريب في مجرى التواصل ميتافيزيقيا في شيء... ومع ذلك، فرهان الميتافيزيقا هو أن تمشكل الواقع الأقل إشكالا"،[3] فهل يتسبب هذا البؤس الميتافيزيقي للوضع الإنساني في تعثر الثورات أم هو عامل مساعد على قيامها؟
***
الإحالات:
[1] يانكلفيتش فلاديمير، فلسفة أولى، مدخل إلى فلسفة اﻟ"يكاد"، ترجمة سعاد حرب، منشورات مجد، بيروت، طبعة أولى 2004، ص 05.
[2] V. Jankélévitch, Entretien , le Monde, 14 juin 1978, Propos recueillis par Robert Maggiori
[3] يانكلفيتش فلاديمير، فلسفة أولى، مدخل إلى فلسفة اﻟ"يكاد"، مصدر مذكور، ص269
****
المصادر:
يانكلفيتش فلاديمير، فلسفة أولى، مدخل إلى فلسفة اﻟ"يكاد"، ترجمة سعاد حرب، منشورات مجد، بيروت، طبعة أولى 2004،
V. Jankélévitch, Entretien , le Monde, 14 juin 1978, Propos recueillis par Robert Maggiori