اغفال المآل في تناصح العلماء وتداعياته على الأمة
د.بن يحي أم كلثوم
جامعة بشار/ الجزائر
[email protected]
الاستشهاد المرجعي للمقال: مجلة دراسات، مخبر الدراسات الصحراوية، العدد:04، جوان2014م، ص،ص: 195، 203.
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وصفوته من خلقه، وأمينه على وحيه، نبينا وإمامنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن سلك سبيله واهتدى بهديه إلى يوم الدين... أما بعد :
فإن النصح خلق تحلى به الأنبياء كما قال أوَّل الرُّسل نوح عليه السلام : ﴿ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ ربّي وَأنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ماَ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ (الأعراف:62)، واعتبره العلماء أحد أرباع الدين، في شرحهم لحديث المصطفى صلى اله عليه وسلم:(الدين النصيحة) ([1])، ولأجله عقد الصحابة البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح مسلم عن جرير أنه قال:"بايعت النبي على النصح لكل مسلم"([2])، ذلك أن الإسلام دين قائم على التناصح، أما التدابر والتنافر فهو عرض من أعراض المجتمعات المريضة المفككة؛ لأن الحكم على المجتمعات إنما يكون بالنظر إلى سلوكها العام.
أولا: مفهوم النصيحة
النصيحة في اللغة مصدر نصح بمعنى خلص، والناصح أي: الخالص من العسل وغيره، العسل إذا كان صافياً يسمى ناصحاً أي: خالصاً، وتقول: نصحت فلاناً ونصحت له، تقول: نصحته ونصحت له، ونصحت له أفصح؛ لأن القرآن ورد بهذا، فقال عز وجل عن نبيه نوح عليه السلام: ﴿وَأَنْصَحُ لَكُم﴾(الأعراف:62)،([3])أما في الاصطلاح فيعرفها الإمام الخطابي بأنها: " إرادة الخير بإخلاص للمنصوح له".([4])
والنصيحةُ من حيث ذاتُها فرضُ كفاية تسقط عن جمع المسلمين بقيام فرد منهم بها، بشرط أن يفقه آدابها، ويلتزم بضوابطها مراعيا فيها الزمان والمكان، حيث يتوجب على من أراد النصح للمسلمين في سبيل الله توخي القيام بذلك بألين الطرق وأسترها.
ذلك أن النصح يعتريه بعض المرارة عند المنصوح، ما يوجب على الناصح تصيد العبارات العذبة التي تخفف من مرارة النصيحة مع الستر وعدم التشهير، والأهم من ذلك النظر في مآل النصيحة وعاقبتها، فإن كان خيرا ومصلحة مضى فيها، وإن كان شرا ومفسدة توقف حتى لا يزيل الضرر بما هو أضر منه، وإلا فقدت النصيحة قيمتها فلم يبقى منها غير الاسم والرسم، وقد قيل قديما: "واجبٌ على كل حكيمٍ أن يحسن الارتياد لموضع البغية، وأن يبين أسباب الأمور ويمهد لعواقبها، فإنما حمدت العلماء بحسن التثبت في أوائل الأمور، واستشفافهم بعقولهم ما تجيء به العواقب، فيعلمون عند استقبالها ما تؤول به الحالات في استدبارها، وبقدر تفاوتهم في ذلك تستبين فضائلهم، فأما معرفة الأمور عند تكشفها وما يظهر من خفياتها فذاك أمرٌ يعتدل فيه الفاضل والمفضول، والعالمون والجاهلون".([5])
ثانيا: مفهوم اعتبار المآل
فقه المآل مصطلح مركب من كلمتين: فقه، ومآل، والفقه لغة: العلم والفهم والإدراك،([6]) واصطلاحا: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية([7])، أما المآل فهو لغة: الرجوع.([8])
وقد اعتبره فقهائنا الأوائل في العديد من المسائل دون إعطاءه تعريفا محددا، وإنما اعتبروه كنوع معاكس للاستصحاب، وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية إلى هذا الفقه في تعريفه للمصلحة حين قال: ( أن يرى المجتهد أن هذا الفعل يجلب منفعة راجحة).([9])
وأول من خص هذا النوع من الفقه بالبحث وبين أهميته، هو الإمام الشاطبي:( النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا؛ كانت الأفعال موافقة أو مخالفة)، وبين أنه علم دقيق لا يحسن النظر فيه إلا من كان على قدر راسخ من الفقه والعلم بأحوال الأمة وأحوال المكلفين، فقال: (وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق، محمود الغب، جار على مقاصد الشريعة)،([10])
ومن تعريفات اعتبار المآل عند المعاصرين أنه: (اعتبار ما يصير إليه الفعل أثناء تنزيل الأحكام الشرعية على محالها، سواء أكان ذلك خيرا أم شرا، وسواء أكان بمقصد الفاعل أم بغير قصده).[11])
ثالثا: إغفال المآل في تناصح العلماء
إن في إغفال اعتبار المآل في التناصح بين المسلمين خطر عظيم على الأمة الإسلامية، خصوصا فيما يتعلق بالنصيحة الدينية؛ لما قد تسببه من فتنة للمسلم في دينه خصوصا إذا كانت بين العلماء، وجبرا لهذا الخلل حاول الفقهاء ضبط أساليب التناصح بين المسلمين وبخاصة العلماء، كما نبهوا على مخاطر مخالفة الضوابط والشروط، ولعل أهمها:
- حصول الفرقة بين العلماء وجعل بعضهم محلا للتهمة أمام العامة:
قد لا يسلم العالم من خطأ أو زلة يلاحظها غيره من العلماء، فيبادر بعضهم إلى النصح بحسن نية مستعملا من الأسلوب ما يجعل النصح تجريحا وتشهيرا يكون سببا في حصول الفرقة بين العلماء، بل وقد يتحول النصح إلى تتبع للزلات وتصيد للثغرات، فتشهد الساحة موجة من الردود والردود المضادة بين العلماء، وتتعمق الفجوة بين الدعاة والعامة بعد أن تعمقت الخلافات بين الدعاة أنفسهم، وصار شغلهم الشاغل إقناع بعضهم البعض بدل إقناع الناس([12]).
- صرف العلماء عن قضايا الأمة الجوهرية:
خلقت هذه الظاهرة جوا مشحونا بالمهاترات بين العلماء، صَرفهم عن المعضلات الخطيرة التي تمر بها الأمة، وإذا كان هذا حالهم وهم العلماء فإن أحدا لا يلوم عامة المسلمين حين يراهم يعظمون سفاسف الأمور، ويتجاهلون عظائِمها، منشغلين بالسعي وراء غذاء الجسم ومتجاهلين غذاء الروح.
- وقوع العلماء في فتنة التجريح والهجر والتبديع:
إن أخطر المزالق التي يمكن للعلماء الوقوع فيها، فتنة التجريح والهجر والتبديع والتفسيق؛ ذلك أن خطرها لا يقتصر على العلماء بل يمس العامة فيلبس عليهم دينهم الذي قلدوا فيه علمائهم، يقول الإمام الذهبيُّ:" ولو أنَّا كلَّما أخطأ إمام في اجتهاده −في آحاد المسائل− خطأ مغفورا له− قمنا عليه وبدَّعناه وهجرناه لما سلم معنا لا ابن نصر ولا ابن منده، ولا من هو أكبر منهما". ([13])
-الوقوع في ذنب الغيبة بدعوى الجرح والتعديل:
يعد علم الجرح والتعديل من أدق العلوم الشرعية، وقد تاه فيه جهابذة علماء السلف الذين عرف عنهم الاحتياط والتثبت، ذلك أن الفرق بينه وبين الغيبة خفي دقيق مرتبط بالنية ارتباطا وثيقا، يقول ابن الجوزي في كتابه صيد الخاطر: "ولقد لقيت جماعة من علماء الحديث يحفظون ويعرفون، ولكنَّهم كانوا يتسامحون بغيبة! و يخرجونها مخرج جرح وتعديل، ولقد لقيت عبد الوهَّاب الأنماطي، فكان على قانون السلف، ولم يسمع في مجلسه غيبة".([14])
لقد صار التجريح في زماننا مقصودا لذاته إلا من رحم ربي، وزين الشيطان للبعض التعرض للمسلمين بالغيبة والنميمة، وأشاعها لهم في قالب النصح، ففرق بينهم وجعلهم يتناوبون على مطحنة النقد والتقريع، يقول ابن الجوزي في كتابه تلبيس إبليس:" ومن تلبيس إبليس على أصحاب الحديث قدح بعضهم في بعض طلباً للتشفي، ويُخرجون ذلك مخرج الجرح والتعديل الذي استعمله قدماء هذه الأمة للذب عن الشرع، والله أعلم بالمقاصد"([15]).
- التشويش على الطلبة العلم:
إن مما يأسف له أنه وبدلا من أن يسارع طلبة العلم إلى التعلم والتخلق بأخلاق الإسلام، يسارعون إلى تخطف الجديد من أقوال العلماء وردود العلماء عليها، ثم بيان موقفهم منها حتى صاروا يتعاملون مع باقي الطلبة بناء على مواقف هؤلاء من هذه الأقوال والردود، ثم يعقدون الولاء والبراء – والذي يكون في الأساس مع الكفار- للعالم أو منه، ومما يدعو إلى للأسف أن كثيرا من طلبة العلم هجروا شيوخهم في العلم بسبب هذه الفتنة، حيث أن الكثير من الطلبة حكموا على شيوخهم عبر نقول مقصوصة وكتابات مشبوهة، دون تثبت أو تأكد وقد قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾، (الحجرات:06).
- زعزعة الثقة بين العلماء والعامة:
عندما يتساهل بعض العلماء في مراعاة ضوابط الخلاف والنصح، أولا يقبل البعض الآخر أن يوجه إليه النصح لغرور أصابه، تفتح على الأمة ثغرات تملأها شياطين الجن والإنس، من خلال الترويج لخلافات العلماء وزخرفة مواقع الانترنت بالعديد من النصائح التي ضلت طريقها وانحرفت عن جادة الصواب والردود عليها، مما يؤدي إلى التشويش على العامة وزعزعة الثقة بينهم وبين علمائهم، وإلى الانشقاقات والانقسامات التي يستغلها أصحاب النفوس المريضة لإحداث الوقيعة في الأمة بين علمائها وعامتها.
- فتنة عامة المسلمين في دينهم:
حيث أن كثيرا من العامة يقعون في فتنة الشك في أصول الدين بسبب اطلاعهم على ما لا تدركه عقولهم من الكتب التي تحوي النصح والردود عليه، بل الأخطر من ذلك التفسيق والتبديع لعلماء يعتبرونهم أجلاء ويعملون على إتباعهم في العبادات والعادات، فيجدون أنفسهم في حيرة من أمرهم قد تدفعهم إلى الشك في أصول الدين، مع كثرة الفتن والشهوات التي تحف حياتهم.
الخاتمة:
وحري بمن نصب نفسه ناصحا لخلق الله أن يبدأ بنفسه فينقها من الشوائب والأحقاد وسوء الظن، ثم يقيمها على طريق الحق والصفاء، فما أكثر من ينصح ولا يستنصح، يعظ ولا يتعظ، يفسد ولا يصلح، ولا أروع هنا من قول القائل: "أكثر ما يفسد الدنيا: نصفُ متكلِّم، ونصفُ متفقِّهٍ، ونصفُ متطبِّب، ونصفُ نحوي، هذا يُفسدُ الأديانَ، وهذا يُفسدُ البلدانَ، وهذا يُفسدُ الأبدانَ، وهذا يُفسدُ اللسانَ"([16]).
وسأكتفي ببعض النصائح للشباب المسلم فليس مثلي من ينصح العلماء أنار الله دروبهم، وأفادنا بعلمهم وعملهم:
- على شباب الأمة أن يعتنوا أولا بإصلاح أنفسهم قبل محاولة إصلاح غيرهم، وإتباع الهدي النبوي في كيفية النصح، وذلك بفقه شروطه، وضوابطه ومراعاة مآله.
- على الناصح التحلي بأخلاق الإسلام والابتعاد عن الغيبة والتجسس بدعوى النصح والإصلاح، فقد قال صلى الله عليه وسلم:" أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم أخلاقا".
- على الناصح التفريق بين المدارة والمداهنة، فالمداراة اللين في المعاملة من غير التنازل في الدين، أما المداهنة فهي التقرب إلى المنصوح بترك بعض الأمور الدينية.
- على طلبة العلم أن يحفظوا مقام العلماء وأن يحسنوا الظن بهم، وأن لا يتعرضوا لهم بغيبة أو تشهير أو تبديع، وأن يتركوا النصح لهم لأقرانهم من العلماء، فهم الأدرى بمصلحة المسلمين والأحرص عليها.
قائمة المصادر والمراجع:
- الأنصاري، زكريا محمد بن زكريا، الحدود الأنيقة، تحـ: د. مازن المبارك،ط(1)، 1411هـ، دار الفكر المعاصر، بيروت.
- البخاري، أبو عبد الله محمد بن اسماعيل، صحيح البخاري، تحـ: محب الدين الخطيب، ط(1)، 1400هـ، المطبعة السلفية ومكتبتها، القاهرة.
- ابن تيمية،شيخ الاسلام، مجموع فتاوى ابن تيمية ، عبد الرحمن بن قاسم، ط2، 1416ه-1995م، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف.
- الجاحظ،مجموع رسائل الجاحظ، طبع: محمد الحاج أفندي، ط(1)، مطبعة التقدم، القاهرة.
- جدية عمر ، أصل اعتبار المآلات بين النظرية والتطبيق، رسالة دكتوراه، كلية الآداب والعلوم الانساية، سايس فاس، 2004م.
- ابن الجوزي، تلبيس ابليس، تحـ: أحمد بن عثمان المزيد، ط(1)، 1423هـ- 2002م، دار الوطن للنشر، الرياض.
- ____ ، صيد الخاطر، تحـ: عبد القادر أحمد عطا، ط(1)، 1412هـ-1992م، دار الكتب العلمية، بيروت.
- الخطابي، معالم السنن، طبعه وصححه: محمد راغب الطباخ، ط(1)، 1934م، المطبعة العلمية، حلب.
- الذهبي، سير أعلام النبلاء، أشرف على تحقيقه: شعيب الأرنؤوط، ط(1)، 1403هـ -1983، مكتبة الرسالة، سوريا.
- الزبيدي، محمد مرتضى، تاج العروس من جواهر القاموس ، 1385ه-1965م، مطبعة حكومة الكويت.
- الشاطبي، أبو إسحاق، الموافقات، تحقيق مشهور حسن سلمان، ط1، 1423ه-2002م، دار الكتاب العربي، بيروت.
- فريد الأنصاري، الأخطاء الستة للحركة الإسلامية بالمغرب، ، ط(1)، 1428 –200 هـ منشورات رسالة القرآن ، المغرب.
- ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب، نسقه، وعلق عليه ووضع فهارسه: علي شيري، مج 18،ط(2)، 1992م ، مؤسسة التاريخ العربي، دار احياء التراث العربي، بيروت.
- النووي، أبو زكريا يحي بن شرف، بن مري، شرح النووي على صحيح مسلم، مج 18، ط(2)، دار إحياء الثرات العربي، 1392هـ، بيروت.
د.بن يحي أم كلثوم
جامعة بشار/ الجزائر
[email protected]
الاستشهاد المرجعي للمقال: مجلة دراسات، مخبر الدراسات الصحراوية، العدد:04، جوان2014م، ص،ص: 195، 203.
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وصفوته من خلقه، وأمينه على وحيه، نبينا وإمامنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن سلك سبيله واهتدى بهديه إلى يوم الدين... أما بعد :
فإن النصح خلق تحلى به الأنبياء كما قال أوَّل الرُّسل نوح عليه السلام : ﴿ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ ربّي وَأنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ماَ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ (الأعراف:62)، واعتبره العلماء أحد أرباع الدين، في شرحهم لحديث المصطفى صلى اله عليه وسلم:(الدين النصيحة) ([1])، ولأجله عقد الصحابة البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح مسلم عن جرير أنه قال:"بايعت النبي على النصح لكل مسلم"([2])، ذلك أن الإسلام دين قائم على التناصح، أما التدابر والتنافر فهو عرض من أعراض المجتمعات المريضة المفككة؛ لأن الحكم على المجتمعات إنما يكون بالنظر إلى سلوكها العام.
أولا: مفهوم النصيحة
النصيحة في اللغة مصدر نصح بمعنى خلص، والناصح أي: الخالص من العسل وغيره، العسل إذا كان صافياً يسمى ناصحاً أي: خالصاً، وتقول: نصحت فلاناً ونصحت له، تقول: نصحته ونصحت له، ونصحت له أفصح؛ لأن القرآن ورد بهذا، فقال عز وجل عن نبيه نوح عليه السلام: ﴿وَأَنْصَحُ لَكُم﴾(الأعراف:62)،([3])أما في الاصطلاح فيعرفها الإمام الخطابي بأنها: " إرادة الخير بإخلاص للمنصوح له".([4])
والنصيحةُ من حيث ذاتُها فرضُ كفاية تسقط عن جمع المسلمين بقيام فرد منهم بها، بشرط أن يفقه آدابها، ويلتزم بضوابطها مراعيا فيها الزمان والمكان، حيث يتوجب على من أراد النصح للمسلمين في سبيل الله توخي القيام بذلك بألين الطرق وأسترها.
ذلك أن النصح يعتريه بعض المرارة عند المنصوح، ما يوجب على الناصح تصيد العبارات العذبة التي تخفف من مرارة النصيحة مع الستر وعدم التشهير، والأهم من ذلك النظر في مآل النصيحة وعاقبتها، فإن كان خيرا ومصلحة مضى فيها، وإن كان شرا ومفسدة توقف حتى لا يزيل الضرر بما هو أضر منه، وإلا فقدت النصيحة قيمتها فلم يبقى منها غير الاسم والرسم، وقد قيل قديما: "واجبٌ على كل حكيمٍ أن يحسن الارتياد لموضع البغية، وأن يبين أسباب الأمور ويمهد لعواقبها، فإنما حمدت العلماء بحسن التثبت في أوائل الأمور، واستشفافهم بعقولهم ما تجيء به العواقب، فيعلمون عند استقبالها ما تؤول به الحالات في استدبارها، وبقدر تفاوتهم في ذلك تستبين فضائلهم، فأما معرفة الأمور عند تكشفها وما يظهر من خفياتها فذاك أمرٌ يعتدل فيه الفاضل والمفضول، والعالمون والجاهلون".([5])
ثانيا: مفهوم اعتبار المآل
فقه المآل مصطلح مركب من كلمتين: فقه، ومآل، والفقه لغة: العلم والفهم والإدراك،([6]) واصطلاحا: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية([7])، أما المآل فهو لغة: الرجوع.([8])
وقد اعتبره فقهائنا الأوائل في العديد من المسائل دون إعطاءه تعريفا محددا، وإنما اعتبروه كنوع معاكس للاستصحاب، وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية إلى هذا الفقه في تعريفه للمصلحة حين قال: ( أن يرى المجتهد أن هذا الفعل يجلب منفعة راجحة).([9])
وأول من خص هذا النوع من الفقه بالبحث وبين أهميته، هو الإمام الشاطبي:( النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا؛ كانت الأفعال موافقة أو مخالفة)، وبين أنه علم دقيق لا يحسن النظر فيه إلا من كان على قدر راسخ من الفقه والعلم بأحوال الأمة وأحوال المكلفين، فقال: (وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق، محمود الغب، جار على مقاصد الشريعة)،([10])
ومن تعريفات اعتبار المآل عند المعاصرين أنه: (اعتبار ما يصير إليه الفعل أثناء تنزيل الأحكام الشرعية على محالها، سواء أكان ذلك خيرا أم شرا، وسواء أكان بمقصد الفاعل أم بغير قصده).[11])
ثالثا: إغفال المآل في تناصح العلماء
إن في إغفال اعتبار المآل في التناصح بين المسلمين خطر عظيم على الأمة الإسلامية، خصوصا فيما يتعلق بالنصيحة الدينية؛ لما قد تسببه من فتنة للمسلم في دينه خصوصا إذا كانت بين العلماء، وجبرا لهذا الخلل حاول الفقهاء ضبط أساليب التناصح بين المسلمين وبخاصة العلماء، كما نبهوا على مخاطر مخالفة الضوابط والشروط، ولعل أهمها:
- حصول الفرقة بين العلماء وجعل بعضهم محلا للتهمة أمام العامة:
قد لا يسلم العالم من خطأ أو زلة يلاحظها غيره من العلماء، فيبادر بعضهم إلى النصح بحسن نية مستعملا من الأسلوب ما يجعل النصح تجريحا وتشهيرا يكون سببا في حصول الفرقة بين العلماء، بل وقد يتحول النصح إلى تتبع للزلات وتصيد للثغرات، فتشهد الساحة موجة من الردود والردود المضادة بين العلماء، وتتعمق الفجوة بين الدعاة والعامة بعد أن تعمقت الخلافات بين الدعاة أنفسهم، وصار شغلهم الشاغل إقناع بعضهم البعض بدل إقناع الناس([12]).
- صرف العلماء عن قضايا الأمة الجوهرية:
خلقت هذه الظاهرة جوا مشحونا بالمهاترات بين العلماء، صَرفهم عن المعضلات الخطيرة التي تمر بها الأمة، وإذا كان هذا حالهم وهم العلماء فإن أحدا لا يلوم عامة المسلمين حين يراهم يعظمون سفاسف الأمور، ويتجاهلون عظائِمها، منشغلين بالسعي وراء غذاء الجسم ومتجاهلين غذاء الروح.
- وقوع العلماء في فتنة التجريح والهجر والتبديع:
إن أخطر المزالق التي يمكن للعلماء الوقوع فيها، فتنة التجريح والهجر والتبديع والتفسيق؛ ذلك أن خطرها لا يقتصر على العلماء بل يمس العامة فيلبس عليهم دينهم الذي قلدوا فيه علمائهم، يقول الإمام الذهبيُّ:" ولو أنَّا كلَّما أخطأ إمام في اجتهاده −في آحاد المسائل− خطأ مغفورا له− قمنا عليه وبدَّعناه وهجرناه لما سلم معنا لا ابن نصر ولا ابن منده، ولا من هو أكبر منهما". ([13])
-الوقوع في ذنب الغيبة بدعوى الجرح والتعديل:
يعد علم الجرح والتعديل من أدق العلوم الشرعية، وقد تاه فيه جهابذة علماء السلف الذين عرف عنهم الاحتياط والتثبت، ذلك أن الفرق بينه وبين الغيبة خفي دقيق مرتبط بالنية ارتباطا وثيقا، يقول ابن الجوزي في كتابه صيد الخاطر: "ولقد لقيت جماعة من علماء الحديث يحفظون ويعرفون، ولكنَّهم كانوا يتسامحون بغيبة! و يخرجونها مخرج جرح وتعديل، ولقد لقيت عبد الوهَّاب الأنماطي، فكان على قانون السلف، ولم يسمع في مجلسه غيبة".([14])
لقد صار التجريح في زماننا مقصودا لذاته إلا من رحم ربي، وزين الشيطان للبعض التعرض للمسلمين بالغيبة والنميمة، وأشاعها لهم في قالب النصح، ففرق بينهم وجعلهم يتناوبون على مطحنة النقد والتقريع، يقول ابن الجوزي في كتابه تلبيس إبليس:" ومن تلبيس إبليس على أصحاب الحديث قدح بعضهم في بعض طلباً للتشفي، ويُخرجون ذلك مخرج الجرح والتعديل الذي استعمله قدماء هذه الأمة للذب عن الشرع، والله أعلم بالمقاصد"([15]).
- التشويش على الطلبة العلم:
إن مما يأسف له أنه وبدلا من أن يسارع طلبة العلم إلى التعلم والتخلق بأخلاق الإسلام، يسارعون إلى تخطف الجديد من أقوال العلماء وردود العلماء عليها، ثم بيان موقفهم منها حتى صاروا يتعاملون مع باقي الطلبة بناء على مواقف هؤلاء من هذه الأقوال والردود، ثم يعقدون الولاء والبراء – والذي يكون في الأساس مع الكفار- للعالم أو منه، ومما يدعو إلى للأسف أن كثيرا من طلبة العلم هجروا شيوخهم في العلم بسبب هذه الفتنة، حيث أن الكثير من الطلبة حكموا على شيوخهم عبر نقول مقصوصة وكتابات مشبوهة، دون تثبت أو تأكد وقد قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾، (الحجرات:06).
- زعزعة الثقة بين العلماء والعامة:
عندما يتساهل بعض العلماء في مراعاة ضوابط الخلاف والنصح، أولا يقبل البعض الآخر أن يوجه إليه النصح لغرور أصابه، تفتح على الأمة ثغرات تملأها شياطين الجن والإنس، من خلال الترويج لخلافات العلماء وزخرفة مواقع الانترنت بالعديد من النصائح التي ضلت طريقها وانحرفت عن جادة الصواب والردود عليها، مما يؤدي إلى التشويش على العامة وزعزعة الثقة بينهم وبين علمائهم، وإلى الانشقاقات والانقسامات التي يستغلها أصحاب النفوس المريضة لإحداث الوقيعة في الأمة بين علمائها وعامتها.
- فتنة عامة المسلمين في دينهم:
حيث أن كثيرا من العامة يقعون في فتنة الشك في أصول الدين بسبب اطلاعهم على ما لا تدركه عقولهم من الكتب التي تحوي النصح والردود عليه، بل الأخطر من ذلك التفسيق والتبديع لعلماء يعتبرونهم أجلاء ويعملون على إتباعهم في العبادات والعادات، فيجدون أنفسهم في حيرة من أمرهم قد تدفعهم إلى الشك في أصول الدين، مع كثرة الفتن والشهوات التي تحف حياتهم.
الخاتمة:
وحري بمن نصب نفسه ناصحا لخلق الله أن يبدأ بنفسه فينقها من الشوائب والأحقاد وسوء الظن، ثم يقيمها على طريق الحق والصفاء، فما أكثر من ينصح ولا يستنصح، يعظ ولا يتعظ، يفسد ولا يصلح، ولا أروع هنا من قول القائل: "أكثر ما يفسد الدنيا: نصفُ متكلِّم، ونصفُ متفقِّهٍ، ونصفُ متطبِّب، ونصفُ نحوي، هذا يُفسدُ الأديانَ، وهذا يُفسدُ البلدانَ، وهذا يُفسدُ الأبدانَ، وهذا يُفسدُ اللسانَ"([16]).
وسأكتفي ببعض النصائح للشباب المسلم فليس مثلي من ينصح العلماء أنار الله دروبهم، وأفادنا بعلمهم وعملهم:
- على شباب الأمة أن يعتنوا أولا بإصلاح أنفسهم قبل محاولة إصلاح غيرهم، وإتباع الهدي النبوي في كيفية النصح، وذلك بفقه شروطه، وضوابطه ومراعاة مآله.
- على الناصح التحلي بأخلاق الإسلام والابتعاد عن الغيبة والتجسس بدعوى النصح والإصلاح، فقد قال صلى الله عليه وسلم:" أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم أخلاقا".
- على الناصح التفريق بين المدارة والمداهنة، فالمداراة اللين في المعاملة من غير التنازل في الدين، أما المداهنة فهي التقرب إلى المنصوح بترك بعض الأمور الدينية.
- على طلبة العلم أن يحفظوا مقام العلماء وأن يحسنوا الظن بهم، وأن لا يتعرضوا لهم بغيبة أو تشهير أو تبديع، وأن يتركوا النصح لهم لأقرانهم من العلماء، فهم الأدرى بمصلحة المسلمين والأحرص عليها.
قائمة المصادر والمراجع:
- الأنصاري، زكريا محمد بن زكريا، الحدود الأنيقة، تحـ: د. مازن المبارك،ط(1)، 1411هـ، دار الفكر المعاصر، بيروت.
- البخاري، أبو عبد الله محمد بن اسماعيل، صحيح البخاري، تحـ: محب الدين الخطيب، ط(1)، 1400هـ، المطبعة السلفية ومكتبتها، القاهرة.
- ابن تيمية،شيخ الاسلام، مجموع فتاوى ابن تيمية ، عبد الرحمن بن قاسم، ط2، 1416ه-1995م، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف.
- الجاحظ،مجموع رسائل الجاحظ، طبع: محمد الحاج أفندي، ط(1)، مطبعة التقدم، القاهرة.
- جدية عمر ، أصل اعتبار المآلات بين النظرية والتطبيق، رسالة دكتوراه، كلية الآداب والعلوم الانساية، سايس فاس، 2004م.
- ابن الجوزي، تلبيس ابليس، تحـ: أحمد بن عثمان المزيد، ط(1)، 1423هـ- 2002م، دار الوطن للنشر، الرياض.
- ____ ، صيد الخاطر، تحـ: عبد القادر أحمد عطا، ط(1)، 1412هـ-1992م، دار الكتب العلمية، بيروت.
- الخطابي، معالم السنن، طبعه وصححه: محمد راغب الطباخ، ط(1)، 1934م، المطبعة العلمية، حلب.
- الذهبي، سير أعلام النبلاء، أشرف على تحقيقه: شعيب الأرنؤوط، ط(1)، 1403هـ -1983، مكتبة الرسالة، سوريا.
- الزبيدي، محمد مرتضى، تاج العروس من جواهر القاموس ، 1385ه-1965م، مطبعة حكومة الكويت.
- الشاطبي، أبو إسحاق، الموافقات، تحقيق مشهور حسن سلمان، ط1، 1423ه-2002م، دار الكتاب العربي، بيروت.
- فريد الأنصاري، الأخطاء الستة للحركة الإسلامية بالمغرب، ، ط(1)، 1428 –200 هـ منشورات رسالة القرآن ، المغرب.
- ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب، نسقه، وعلق عليه ووضع فهارسه: علي شيري، مج 18،ط(2)، 1992م ، مؤسسة التاريخ العربي، دار احياء التراث العربي، بيروت.
- النووي، أبو زكريا يحي بن شرف، بن مري، شرح النووي على صحيح مسلم، مج 18، ط(2)، دار إحياء الثرات العربي، 1392هـ، بيروت.
([1]) أخرجه البخاري كتاب الإيمان، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: الدين النصيحة، لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، رقم:(42)، ص:(36)، ومسلم عن تميم الداري، كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة، برقم:(55)، ص:(55).
([2]) أخرجه مسلم عن تميم الداري، كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة، برقم:( 56)، ص:(55).
([3]) ابن منظور، لسان العرب، دار المعارف، مصر، ص: 4438.
([4]) الخطابي، معالم السنن، طبعه وصححه: محمد راغب الطباخ، ط(1)، 1934م، المطبعة العلمية، حلب: (4/125).
([5]) مجموع رسائل الجاحظ، طبع: محمد الحاج أفندي، ط(1)، مطبعة التقدم، القاهرة، ص: 122.
([6]) ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب، نسقه، وعلق عليه ووضع فهارسه: علي شيري،مج 18 ،ط(2)، 1992م ، مؤسسة التاريخ العربي، دار احياء الثرات العربي، بيروت: (10/305).
([7]) الأنصاري، زكريا محمد بن زكريا، الحدود الأنيقة، تحـ: د. مازن المبارك،ط(1)، 1411هـ، دار الفكر المعاصر، بيروت:1/67.
([8]) الزبيدي، محمد مرتضى، تاج العروس من جواهر القاموس ، 1385ه-1965م، مطبعة حكومة الكويت:(28/38).
([9]) عبد الرحمن بن قاسم، مجموع فتاوى ابن تيمية، شيخ الإسلام ابن تيمية، ، ط2، 1416ه-1995م، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف: 11/342.
([10]) الشاطبي، أبو إسحاق، الموافقات، تحقيق مشهور حسن سلمان، ط1، 1423ه-2002م، دار الكتاب العربي، بيروت، ص: 773.
([11]) عمر جدية، أصل اعتبار المآلات بين النظرية والتطبيق، رسالة دكتوراه، كلية الآداب والعلوم الانساية، سايس فاس، 2004م، ص:28.
([12]) ينظر: فريد الأنصاري، الأخطاء الستة للحركة الإسلامية بالمغرب، ، ط(1)، 1428 –200 هـ منشورات رسالة القرآن ، المغرب، ص:6.
([13]) الذهبي، سير أعلام النبلاء، أشرف على تحقيقه: شعيب الأرنؤوط، ط(1)، 1403هـ -1983، مكتبة الرسالة، سوريا:(14/39).
([14]) ابن الجوزي، صيد الخاطر، تحـ: عبد القادر أحمد عطا، ط(1)، 1412هـ-1992م، دار الكتب العلمية، بيروت، ص:143.
([15]) ابن الجوزي، تلبيس ابليس، تحـ: أحمد بن عثمان المزيد، ط(1)، 1423هـ- 2002م، دار الوطن للنشر، الرياض:(2/689).
([16]) ابن تيمية، مجموع الفتاوى:(729-730).