بسم الله الرحمن الرحيم
المجاز في الكتاب والسنة
بين
الإثبات والنفي
ورقة علمية شارك بها الكاتب في ندوة علمية منعقدة في كلية الإمام مالك للدراسات الإسلامية – إبادن – نيجيريا ، يوم الثلاثاء 29-04-2014م
إعداد
الأستاذ عبد الواسع إدريس أكنني
محاضر في جامعة أبومي كالافي
قسم اللغة العربية والثقافة الإسلامية
بجمهورية بنين .
المقدمة
الحمد لله،والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.وبعد:
فإن مسألة المجاز في الكتاب والسنة مسألة قديمة وحديثة،تناولها علماء اللغة والأصول والعقيدة على حدّ سواء عبر العصور والأمصار،وقد رصدت كمية هائلة من نصوص الأئمة الأفاضل الأوائل في هذا الإطار ما بين منكر، ومقرّ.
ولما وصلتني دعوة مشرّفة من كلية الإمام مالك للإسهام في هذا الموضوع عبر المشاركة في الندوة العلمية،نويت كشف النقاب عن جوهر الخلاف في المسألة،وأنه خلاف لفظي لا جوهري؛إذ إن حرص منكري وقوع المجاز في القرآن الكريم والسنة النبوية هو الحفاظ على الكتاب والسنة من أيدي التحريف والتزييف، والتعطيل والتكييف.
وقد رسم الباحث الخطوة المتبعة في معالجة هذه المسألة على النحو التالي:
- تعريف المجاز لغة واصطلاحاً.
- تحرير الخلاف في المجاز
- موقف الأئمة الأفاضل من المسألة كلّ من:
• الإمام أحمد بن حنبل
• شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية
• الشيخ محمد الأمين الشنقيطي.
- منشأ الخلاف في المسألة
- أدلة مثبتي المجاز في القرآن .
- أدلة نفاة المجاز في القرآن
- الخاتمة.
سائلا المولى عزّ وجلّ أن ينفع به طلبة العلم،ويتقبله مني قبولاً حسنا إنه ولي التوفيق.
تحديد مفهوم المجاز لغة واصطلاحاً
تعريف المجاز لغة :
مأخوذ من الجواز،وهو العبور والانتقال من موضع إلى موضع آخر،يقال: جُزْت المكان:أي عبرته وانتقلتُ منه إلى مكان آخر( )،لذلك يقال المجاز للفظ الجائز من شيء إلى آخر تشبيهاً بالجسم المنتقل من موضع إلى آخر( ).
وأصل مصطلح"المجاز"مجوز على وزن مَفْعَل،نقلت حركة الواو إلى الجيم، فسكنت الواو،وانفتح ما قبلها وهو الجيم،فانقلبت الواو ألفاً فصار مجازاً( ).
أما مفهوم المجاز في الاصطلاح فهو"اللفظ المستعمل في غير ما وضع له، لمناسبة بينه وبين المعنى الأصلي،ويقال لها العلاقة؛بحيث ينتقل الذهن بواسطتها من محل المجاز إلى الحقيقة( ).
وعليه يفهم المعنى المجازي باعتبار ثبوت الصفة،كما في إطلاق لفظ" الأسد"على"الشجاع"للاشتراك في صفة الشجاعة؛إذ لها فيه ظهور ومزيد اختصاص،فينتقل الذهن منه إلى هذه الصفة( ).
وسمي المجاز مجازاً؛لأن أهل اللغة يجاوزون به عن أصل الوضع توسّعاً منهم، كما في تسمية البليد حماراً،والشجاع أسداً،وغير ذلك( ).
تحرير الخلاف في المجاز
اختلفت وجهات نظر العلماء قديماً وحديثاً في وقوع المجاز في اللغة أو عدم وقوعه،وفي القرآن والسنة خاصة على ثلاثة أقوال:
القول الأول:ذهب جمهور العلماء إلى أن المجاز واقع مطلقاً في اللغة،وفي الكتاب والسنة.
القول الثاني: ذهب أبو إسحاق الإسفرايني وأبو علي الفارسي وغيرهما إلى أن المجاز غير واقع مطلقاً.
القول الثالث: ذهب الحنابلة من الإمام ابن تيمية،والإمام ابن قيم الجوزية، وبعض الرافضة إلى أن المجاز واقع في اللغة،وليس واقعاً في القرآن والسنة،وقد نقل عن البيضاوي منعه وقوع المجاز في الحديث،إلا أنه لم يشتهر عنه هذا القول( ).
واستكمالاً لهذه الأقوال المحرّرة،وتقريراً لمبادئ الجواز والإنكار بين العلماء في وقوع المجاز في القرآن،سيركّز الباحث على موقف بعض الأئمة الأفاضل في الإسلام،ابتداء بالإمام أحمد بن حنبل، مروراً بشيخ الإمام ابن تيمية وتلميذه الإمام ابن القيم،وانتهاء بالشيخ محمد الأمين الشنقيطي،استجابة لخطة اللجنة المنظمة لهذه الندوة،ومخافة الخروج عن مسار الموضوع حسب التنظيم والبرمجة.
أولاً: المجاز عند الإمام أحمد بن حنبل
يعدّ الإمام أحمد بن حنبل صاحب الفضل والكرم في تأسيس رابع المذاهب الفقهية الأربعة المشهورة، ويرجع إليه التقدير في تدوين الحديث النبوي الشريف، ولا يتساهل في كثير من القضايا العقدية الهامة،وربما موقفه من معاصريه من الزنادقة والفساق أكبر دليل على ذلك.
إن الرواية الصحيحة عن الإمام أحمد وأكثر أصحابه هو القول بوقوع المجاز لغة وكتاباً وسنة،نظراً لواقعية وجود كمية هائلة من آيات القرآن،استخدم فيها المجاز،ولا يمكن بأي حال من الأحوال تفسيرها بالحقيقة،كما في قوله تعالى {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} ( )،وقوله{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ} ( )؛حيث عرف أن الله تعالى واحد قهار،فقد عبّر بلفظ التعظيم باعتباره جمعا،وهذا هو المجاز؛إذ قد خرج هذا الاستعمال اللفظي من الاستعمال الأصلي إلى الآخر.
كما ذكر الإمام قوله تعالى{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}( )،والمعروف أن الإنسان ليس له الجناح كالطير،فقد تمت الاستعارة والكناية في هذه الآية،واستخدم الجناح للإنسان مجازاً.والأمثلة في هذا النطاق بلا حدود.
لذلك يرى الإمام أحمد وقوع المجاز في القرآن والسنة،لكنه يتحفظ على فتح باب جواز ذلك،خوفاً من تحريف الآيات،وتأويلها عن مفاهيمها الصحيحة( ).
ثانياً : المجاز عند ابن تيمية
يعتبر ابن تيمية نادرة من نوادر الزمان،يحيط علماً بعلوم الإسلام من الكتاب والسنة،وفقه الصحابة وآراء الأئمة والمذاهب،له قدرة على التمحيص والتفحيص،ويوفّق بين النصوص ومقاصدها، ويجمع بين الحياة ومصالحها،أخرج الأمة من دائرة التقليد المذهبي إلى مجالات الاستدلال والاستنباط( ).
ولما لاحظ الشيخ ملابسات ظروف زمانه،وانتشار بدع ما أنزل الله بها من سلطان،ورأى أهل البدع يحتجون بنفي الأسماء والصفات عن الله عزّ وجلّ على أنها من باب المجاز،قاد حركة نفي المجاز في القرآن والسنة سدّاً للذريعة.
مما يوحي أن شيخ الإسلام مقرّ بوجود المجاز في اللغة،وبطبيعة الحال نزل القرآن بلسان عربي مبين،وتقتضي الدقة أن يكون مقرّاً بوقوع المجاز في الكتاب والسنة،وقد حدث منه ذلك وإن لم يسمه مجازاً،كما شنّ الحرب الباردة على مثبتي المجاز في القرآن في كتابه"الإيمان"،نظراً للدفاع عن سلامة العقيدة،وتبرئة ساحة كتاب الله العزيز من المطاعن( ).
مثال ذلك ما ذكره الشيخ في قوله تعالى{وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} ( ).هذا إثبات صفة المجيء لله عزّ وجلّ،والفرقة المؤولة الذين ينفون باب الأسماء والصفات يقولون:إن هذا مجاز.والمعنى:"وجاء أمر ربّك".
وكذلك قوله تعالى{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}( ).هذا إثبات اليد على وجه يليق بجلاله وعظمته،والمؤولة يقولون:المراد بيد الله مجاز،وهو إحاطته تعالى وقدرته ونعمته عزّ وجلّ.
ومذهب أهل السنة والجماعة أن نؤمن بهذه الأسماء والصفات إيماناً كاملاً كما جاءت في الكتاب والسنة من غير تكييف ولا تعطيل،ولا تمثيل ولا تشبيه، ولا تأويل ولا تحريف( ).
ولم يختلف موقف الإمام ابن القيم عن موقف شيخه؛إذ إنه حريص على حماية العقيدة وحفظها،وقد أنكر المجاز بشدّة في كتابه"الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة"وحشد أكثر من خمسين وجهاً لإنكار المجاز( ).
ثالثاً: المجاز عند الشيخ الشنقيطي
يعدّ الشيخ الشنقيطي من العلماء المعاصرين الذين أحيوا فكرة"لا مجاز في القرآن والسنة"من جديد،بعد مضي أكثر من ثمانية قرون،وذلك لتنبيه الغافلين عن خطورة القول بوقوع المجاز في القرآن،وسعياً لكسب الثقة على الكتاب،والحفاظ على قداسته،انطلاقاً من مصدره الصافي.
لقد اتجه الإمام الشنقيطي نحو شيخ الإسلام ابن تيمية،وكان أشدّ الشيوخ المحدثين نفياً للمجاز في القرآن،وذلك لما لاحظ من كثير من أهل الزمان قولهم بجواز المجاز في القرآن مع المبالغة في القول،دون الانتباه إلى أن القرآن منزّل للتعبّد والإعجاز،وأن كلّه حقائق،وليس فيه مجاز حسب قوله( ).
بالإضافة إلى أن القول بالمجاز ذريعة لنفي كثير من صفات الكمال والجلال لله عزّ وجلّ،وأن نفي ما ثبت في كتاب أو سنة محال( ).
منشأ الخلاف في المسألة .
يمكن التوصّل من خلال ما سبق رصده إلى أن منشأ الخلاف في مسألة المجاز في القرآن والسنة إنكاراً أو إقراراً لا يخلو من أن يكون خلافاً عقدياً أو يكون أدبياً .
ويكون عقدياً إذا ادعي أن آيات الصفات فيها مجاز،وأن الآيات التي فيها العقائد– آيات الغيب– فيها مجاز؛لأن هذا مسلك المبتدعة.أما إذا ادعي أن القرآن فيه مجاز في غير آيات الصفات صار خلافاً أدبياً( ).
والحقيقة أن الخلاف في هذه المسألة خلاف لفظي لا جوهري،يرجع سببه إلى حرص كلّ فريق على الحفاظ على قداسة الكتاب العزيز،وعدم السماح بطعنه بدعوى المجاز،والنيل من مكانته ومنزلته الربانية،خاصة في مجال العقيدة الإسلامية .( )
أدلة الفريقين في الميزان
أدلة مثبتي المجاز في القرآن والسنة
استدلّ القائلون بوقوع المجاز في الكتاب والسنة بمجموعة من الأدلة منها ما يأتي:
1. قوله تعالى {...فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} ( ).
وجه الدلالة:أنه أسندت الإرادة إلى الجدار،مع أنها لا تكون إلا ممن له شعور،فكان هذا الإسناد مجازياً.
2. قوله تعالى{رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ( ).
وجه الدلالة:أنه أسند الإضلال إلى الأصنام،مع أن الله تعالى هو الذي يضلّ من يشاء، ويهدي من يشاء،كما صرّحت العديد من الآيات بذلك، فهذا إسناد مجازي،وعلاقته السببية.
3. قوله تعالى{وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا}( ).
فإن المراد باليتامى البالغون الذين كانوا صغاراً باعتبار ما كان، فهو مجاز لغوي مرسل( ).
4. قوله تعالى{وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا}( ).وجه الدلالة:أنه ثبت أنه لا يجوز أن يكون المراد من هذه الآية ظاهرها،فوجب صرفها إلى غير ظاهرها،وهو المجاز( ).
5. قوله تعالى{اللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} ( ).
6. قوله تعالى{قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} ( ).
7. قوله تعالى{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} ( ).
8. قوله تعالى{وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا}( ).
وجه الدلالة من هذه الآيات الأربع أن تفسيرها على ظاهرها غير جائز، فدلّ على أنها مجاز،وإذا جاز ذلك في القرآن يجوز في الحديث من باب أولى،ولا قائل بفرق بينهما( ).
9. قوله تعالى{وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً}( ).
وجه الدلالة:أنه ليس المراد بالعمى في هذه الآية الحقيقة وإنما المجاز،وهو عمى البصيرة،فقد أستعير الأعمى لأعمى القلب أو البصيرة عن حجة الله وبيناته ( ).
10. أنه يلزم من إثبات المجاز في اللغة إثباته في القرآن ونحوه،فمن أنكر المجاز في القرآن فقد قال:إن القرآن نزل بلسان غير عربي؛لأن في اللسان العربي مجازاً وحقيقة،والقرآن نزل بلغتهم.ومن ينازع في إعطاء التسمية لأنه مجاز واستعارة فقد نازع في اللفظ مع تسليم المعنى المطلوب( ).
بعد إمعان النظر،وتدقيق الفكر،وقوة التأمل في هذه الأدلة المسرودة يلاحظ أن القائلين بوقوع المجاز في القرآن قد اقتنعوا بمصداقية الوقوع،استناداً إلى تلك الأدلة الداعمة لموقفهم، ومن الصعوبة تفسيرها على ظاهرها.
إلا أن نفاة المجاز في القرآن قد اعترضوا على بعض هذه الأدلة،كما فنّد الشيخ الشنقيطي تلك الدعاوى في الآية الأولى؛حيث أشار إلى أنها من أكبر أدلة مثبتي المجاز في القرآن،زاعمين أن إرادة الجدار الانقضاض لا يمكن أن تكون حقيقة،وإنما هي مجاز.
علماً أن آيات من كتاب الله دلّت على أنه لا مانع من كون إرادة الجدار حقيقة؛لأن الله تعالى يعلم للجمادات أراداتٍ وأفعالاً وأقوالاً،لا يدركها الخلق،كما صرّح تعالى بأنه يعلم من ذلك ما لا يعلمه خلقه في قوله جلّ وعلا {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} ( )،فقال:إننا لا نفقه تسبيحهم، وتسبيحهم واقع عن إرادة لهم يعلمها الله.وأمثال ذلك كثيرة في الكتاب والسنة.
أدلة نفاة المجاز في القرآن والسنة
يقود هذه المعركة ابن خويز منداد من المالكية،وابن القاص من الشافعية، والظاهرية،وأبو العباس ابن تيمية وتلميذه ابن القيم( ).
وقد اعتمد أصحاب هذا القول (لا مجاز في القرآن والسنة) على مجموعة من الأدلة ومن أبرزها:
1. إن القرآن يجب الإيمان به،والمجاز يجوز نفيه،والقرآن لا يصحّ نفي شيء منه، فدلّ على أن القرآن ليس فيه مجاز.علاوة على أن القرآن كلّه حقّ، وحينئذ لا يمكن أن يقال فيه ما ليس بحقيقة( ).
2. إن القول بالمجاز ذريعة إلى تأويل الصفات أو نفيها،وبذلك تتبيّن خطورة إثبات المجاز في القرآن الكريم مطلقاً دون تفصيل( ).
3. إن المجاز أخو الكذب، والقرآن منزه عنه بلا شكّ.
4. إن المتكلم لا يعدل إلى المجاز إلا إذا ضاقت به الحقيقة فيستعير،وذلك محال على الله تعالى.
وقد أجيب عن هذا الدليل الأخير:أنه لو سقط المجاز من القرآن لسقط منه شطر الحسن.وأن البلغاء اتفقوا على أن المجاز أبلغ من الحقيقة،ولو وجب خلوّ القرآن من المجاز،وجب خلوّه من الحذف والتوكيد وتثنية القصص وغيرها( ).
5. من المعلوم أنه لا يجوز صرف الكلام عن حقيقته حتى تجمع الأمة على أنه أريد به المجاز؛إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا إلا على ذلك.
ولو ساغ ادعاء المجاز لكلّ أحد،ما ثبت شيء من العبادات،ولبطلت العقود كلّها كالأنكحة والطلاق والأقارير وغيرها،وجلّ الله تعالى أن يخاطب الأمة إلا بما تفهمه العرب من معهود مخاطباتها مما يصح معناه عند السامعين( ).
6. إن المجاز فيه التباس المقصود بغير المقصود،فلا يفهم السامع من اللفظ ما أراده المتكلم منه،وهذا ينافي المقصود من اللغة؛لأن المقصود منها إفادة الألفاظ لما تستعمل فيه من المعاني،فيكون المجاز ممنوعاً.
أجيب عن هذا بأن المجاز لا بدّ له من قرينة،ومع القرينة فلا التباس؛لأن السامع يفهم المقصود من اللفظ بواسطة تلك القرينة( ).
7. إن كلام الله تعالى كلّه حقّ،وكلّ حقّ له حقيقة،وما كان حقيقة لا يكون مجازاً.
وأجيب عن هذا بأن كلام الله كلّه حقيقة بمعنى أنه صدق لا بمعنى أن ألفاظه كلّها مستعملة في موضوعاتها الأصلية ( ).
8. إن المجاز لو وقع في القرآن،وهو كلام الله تعالى لصحّ أن يطلق عليه سبحانه أنه متجوز ضرورة؛لأن المتجوز هو من تكلّم بالمجاز،لكن الله تعالى لا يطلق عليه متجوز،فدلّ ذلك على أنه لم يتكلم بالمجاز،فلم يقع المجاز في القرآن.
أجيب عن هذا الدليل من وجهين:
الوجه الأول:أن أسماء الله توقيفية،فلا يطلق عليه اسم من الأسماء إلا إذا ورد الإذن به من الشارع،ولم يرد الإذن في هذه الحالة،لا لكون المجاز لم يقع في القرآن.
الوجه الآخر:إن إطلاق متجوز عليه سبحانه يوهم نقصاً في حقه تعالى، وهو تعاطي ما لا ينبغي؛لأنه مأخوذ من الجواز،وهو التعدي،فيكون هذا الإطلاق ممنوعاً لهذا الإيهام،لا لكونه لم يتكلم بالمجاز( ).
9. المجاز يجوز نفيه باعتبار الحقيقة، دون الحقيقة فلا يجوز نفيها،فتقول مثلاً لمن قال:رأيت أسداً على فرسه،هو ليس بأسد،وإنما هو رجل شجاع،وفي هذه الحالة نقع في إشكالية وهي أن المجاز يساوي النفي والكذب،وهذا باعتبار أن المجاز يقابل الحقيقة.
10. إن المجاز يحمل صفة العجز في المتكلم باعتبار أن المجاز هو نقل اللفظ من معناه الأصلي إلى معنى جديد( ).
الخاتمة
بعد هذه الجولة السريعة في تسليط الضوء الوهاج على هذه المسألة الخلافية(مسألة المجاز في الكتاب والسنة بين الإثبات والنفي)،فقد اقتنعت عقب دراسة علمية مستفيضة بأهم النتائج التالية:
• أن المجار في اللغة العربية الفصحى ثابت وجائز،ولا يمكن إنكاره؛لأنه من اللسان العربي المبين.
• أن هدف الفرقة المؤولة وقصد الفرقة المعطلة من الجهمية وغيرها من إثبات المجاز في الكتاب والسنة هو الطعن في القرآن،وتحريف الآيات عن مسارها الحقيقي،من خلال المعنى الأصلي إلى غيره.
• أن كلاً من الأئمة أحمد بن حنبل،وابن تيمية،وابن قيم الجوزيةلم ينكروا المجاز مطلقاً،وإنما تناول الإنكار ابن تيمية في كتابه"الإيمان"،وابن القيم في كتابه"الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة"والكتابان في المجال العقدي، بغية سدّ الذريعة إلى النيل من القرآن،ونفي الأسماء والصفات عن الله عزّ وجل .
• أن كثرة أدلة مثبتي المجاز في القرآن تفضي إلى صحة قولهم، إلا أن هذا الباب لا يمكن فتحه على مصراعيه،مخافة الوقوع في مغبة التدليس والتزييف للكتاب والسنة.
• أنه ظهر من خلال اعتراض كل الفريقين على الآخر،عدم خلوّ الأدلة كلّها من النقد والاعتراض.
• أنه تمّ إقرار الإمام ابن تيمية وتلميذه بالوضع اللغوي،وصحة نقل الكلام من الاستعمال الأصلي إلى الاستعمال المجازي.
• أنه أقرّ الشيخ الإمام ابن تيمية بتقسيم الكلام في اللغة إلى حقيقة ومجاز، وأن القرائن هي الفيصل عند احتمال الالتباس،وحدوث الشكوك.
• أن منشأ الخلاف في المسألة إما أن يكون عقدياً وهو الأغلب،وإما أن يكون أدبياً،وهو النادر.
• وأن هذا الخلاف خلاف لفظي لا جوهري؛لأن منكري المجاز في القرآن والسنة قد أثبتوه فيهما في حدود ضيّقة جداً.
• أن القول الصحيح الذي يحفظ لهذه الأمة مكانتها،ولهذا الدين تراثه هو وقوع المجاز في القرآن والسنة في إطار محدود،لوجود مجموعة من النصوص القرآنية والنبوية لا يمكن الوقوف على مفاهيمها إلا عن طريق المجاز، بصرف النظر عن نوع العلاقة بين الألفاظ.
وهذه رؤيتي الخاصة في المسألة، وهي قابلة للنقاش والتحرير،سائلاً الله أن يوفّق الجميع إلى ما يحبّ ويرضى.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه،وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، وصلى الله على سيدنا محمد،وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
حرّر يوم الأحد 20-04-2014م
كوتونو– بنين .
انظر : المصباح المنير/ الفيومي / مادة جاز .
- انظر: المهذب في علم أصول الفقه المقارن / أ.د. عبد الكريم بن علي بن محمد النملة / مكتبة الرشد / الرياض – السعودية / ط1 / 1420هـ 1999م / مج 2 / ص1161 .
- القاموس المحيط / الفيروز آبادي / مادة جاز . وتاج العروس / الزبيدي / مادة جاز .
- انظر : أصول الفقه الميسر / د. شعبان محمد إسماعيل / دار ابن حزم / بيروت – لبنان / ط1 / 1429هـ 2008م / ج2 / ص108 .
- حاشية الجرجاني على شرح العضد / الجرجاني / دار الكتب العلمية / بيروت – لبنان / ط1 / 2004م 1424هـ/ ج1 / ص142 .
-انظر : المهذب في علم أصول الفقه المقارن / أ.د. عبد الكريم بن علي بن محمد النملة / مج2 / ص1162 .
- انظر: أصول الفقه / أ.د. محمد أبو النور زهير / المكتبة الأزهرية للتراث / مصر / د.ت / د.ت / ج2 / ص53-54 .
- سورة يس الآية 12
- سورة ق الآية 43
- سورة الإسراء الآية 24
- انظر : شرح الكوكب المنير / أبو البقاء محمد بن أحمد الفتوحي المعروف بابن النجار / تح: محمد الزحيلي ونزيه حماد / مكتبة العبيكان / الرياض – السعودية / ط2 / 1418هـ 1997م / ص191-192.
- انظر:إضاءة لموقف ابن تيمية من المجاز/ رضوان بو زيدي/مجلة البيان/ع167/رجب 1422هـ 2001م / ص138 .
- انظر:دقائق التفسير المستخرج من أعمال الإمام ابن تيمية /د. محمد الجليند / دار الأنصار / القاهرة – مصر / ج4 / ص58-59 .
- سورة الفجر الآية 22 .
- سورة الفتح الآية 10 .
- انظر:شرح الورقات في أصول الفقه / عبد الكريم الخصير/ د.ط / د.ت / ص97 .
- انظر : المجاز عند الإمام ابن تيمية وتلاميذه بين الإنكار والإقرار / د. عبد العظيم إبراهيم محمد المطعني / مكتبة وهبة / القاهرة – مصر / ط1 / 1416هـ 1995م . ص 23 .
- انظر : منع جواز المجاز في المنزل للتعبّد والإعجاز / محمد الأمين الشنقيطي/ تح: مجمع الفقه الإسلامي / دار عالم الفوائد / د.ب / د.ط/ ص3 .
- انظر : المصدر نفسه / الصفحة ذاتها .
- انظر: شرح متن الورقات / صالح بن عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ /د.ط/ د.ت/ ص44 .
- انظر : روضة الناظر وجنة المناظر في أصول الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل / أبو محمد موفق الدين ابن قدامة / مؤسسة الريان / د.ب / ط2 / 1423هـ 2002م / ص208 .
- سورة الكهف من الآية 77.
- سورة إبراهيم الآية 36 .
- سورة النساء الآية 2
- انظر : أصول الفقه / أ.د. محمد ابو النور زهير / ج2 / ص54 .
- سبق تخريجها .
- انظر: أصول الفقه الإسلامي/ د. أمير عبد العزيز / دار السلام / القاهرة – مصر / ط1 / 1418هـ 1997م / ص649 .
- سورة البقرة الآية 15 .
- سورة مريم الآية 4
- سبق تخريجها
- سورة الإسراء الآية 29 .
- انظر: أصول الفقه الإسلامي / أ.د. وهبة الزحيلي / دار الفكر / دمشق – سوريا / ط1 / 1406هـ 1986م / ج1 / ص300 .
- سورة الإسراء الآية 72 .
- انظر : التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج / د. وهبة الزحيلي / دار الفكر المعاصر / دمشق – سوريا / ط2 / 1418هـ/ ج15 / ص129 .
- انظر : البحر المحيط في أصول الفقه / بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي / ج2 / ص375 .
سورة الإسراء الآية 44 .
- انظر:منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز/محمد الأمين الشنقيطي / تح: مجمع الفقه الإسلامي/ ص6 .
-انظر :شرح مقدمة في أصول الفقه للعلامة ابن قاسم/محمد بن ناصر الشتري/ د.ط/ د.ت / ص99 .
- انظر:معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة/محمد حسين الجيزاني/دار ابن الجوزي/ط5 / 1427هـ / ص113.
- انظر : المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل / عبد القادر بن بدران / تح: محمد أمين ضناوي / دار الكتب العلمية / بيروت – لبنان / ط1 / 1417هـ 1996م / ص87 .
- الدرر السنية في الأجوبة النجدية / علماء نجد الأعلام / تح: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم / ط6 / 1417هـ 1996 / ج3 / ص233 .
- أصول الفقه / أ.د. محمد أبو النور زهير / ج2 / ص55 .
-انظر:الإحكام في أصول الأحكام/الآمدي/ج1/ص35 .وانظر كذلك:أصول الفقه الإسلامي/د. أمير عبد العزيز / ص649 .
- انظر : أصول الفقه / أ.د. محمد أبو النور زهير / ج2 / ص55 .
- انظر : إضاءة لموقف ابن تيمية من المجاز / رضوان بو زيدي / مجلة البيان / ع167 / رجب 1422هـ 2001م / ص138 .
المراجع والمصادر
1. الإحكام في أصول الأحكام/الآمدي / د.ط / د.ت .
2. أصول الفقه/أ.د.محمد أبو النور زهير/المكتبة الأزهرية للتراث/مصر/د.ت/د.ت.
3. أصول الفقه الإسلامي/أ.د.وهبة الزحيلي/دار الفكر/دمشق– سوريا/ط1/ 1406هـ 1986م.
4. أصول الفقه الإسلامي/د.أمير عبد العزيز/دار السلام/القاهرة– مصر/ط1/ 1418هـ 1997م.
5. أصول الفقه الميسر/د.شعبان محمد إسماعيل/دار ابن حزم/بيروت– لبنان/ط1/ 1429هـ 2008م .
6. إضاءة لموقف ابن تيمية من المجاز/رضوان بو زيدي/مجلة البيان/ع167/رجب 1422هـ 2001م.
7. البحر المحيط في أصول الفقه / بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي/ د.ط .
8. تاج العروس / الزبيدي / مادة جاز .
9. التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج/د.وهبة الزحيلي/دار الفكر المعاصر/ دمشق – سوريا/ط2/1418هـ.
10. حاشية الجرجاني على شرح العضد/الجرجاني/دار الكتب العلمية/بيروت– لبنان/ ط1/2004م 1424هـ.
11. الدرر السنية في الأجوبة النجدية/علماء نجد الأعلام/تح:عبد الرحمن بن محمد بن قاسم/ط6/1417هـ 1996.
12. دقائق التفسير المستخرج من أعمال الإمام ابن تيمية/د.محمد الجليند/دار الأنصار/القاهرة – مصر.
13. روضة الناظر وجنة المناظر في أصول الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل/ أبو محمد موفق الدين ابن قدامة/مؤسسة الريان/د.ب/ط2/1423هـ2002م.
14. شرح الكوكب المنير/أبو البقاء محمد بن أحمد الفتوحي المعروف بابن النجار/ تح:محمد الزحيلي ونزيه حماد/مكتبة العبيكان/الرياض– السعودية/ط2/ 1418هـ1997م .
15. شرح الورقات في أصول الفقه / عبد الكريم الخصير/ د.ط / د.ت.
16. شرح متن الورقات/صالح بن عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ /د.ط/ د.ت.
17. شرح مقدمة في أصول الفقه للعلامة ابن قاسم/محمد بن ناصر الشتري/ د.ط/ د.ت.
18. القاموس المحيط / الفيروز آبادي / مادة جاز.
19. المجاز عند الإمام ابن تيمية وتلاميذه بين الإنكار والإقرار/د.عبد العظيم إبراهيم محمد المطعني/مكتبة وهبة/القاهرة– مصر/ط1/1416هـ1995م.
20. المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل/عبد القادر بن بدران/تح:محمد أمين ضناوي/دار الكتب العلمية/بيروت – لبنان/ ط1/1417هـ 1996م.
21. المصباح المنير/ الفيومي / مادة جاز .
22. معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة/محمد حسين الجيزاني/دار ابن الجوزي/ط5 / 1427هـ.
23. منع جواز المجاز في المنزل للتعبّد والإعجاز/محمد الأمين الشنقيطي/تح:مجمع الفقه الإسلامي/دار عالم الفوائد/د.ب/د.ط.
24. المهذب في علم أصول الفقه المقارن/أ.د. عبد الكريم بن علي بن محمد النملة/ مكتبة الرشد/الرياض– السعودية/ط1/ 1420هـ1999م.
المجاز في الكتاب والسنة
بين
الإثبات والنفي
ورقة علمية شارك بها الكاتب في ندوة علمية منعقدة في كلية الإمام مالك للدراسات الإسلامية – إبادن – نيجيريا ، يوم الثلاثاء 29-04-2014م
إعداد
الأستاذ عبد الواسع إدريس أكنني
محاضر في جامعة أبومي كالافي
قسم اللغة العربية والثقافة الإسلامية
بجمهورية بنين .
المقدمة
الحمد لله،والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.وبعد:
فإن مسألة المجاز في الكتاب والسنة مسألة قديمة وحديثة،تناولها علماء اللغة والأصول والعقيدة على حدّ سواء عبر العصور والأمصار،وقد رصدت كمية هائلة من نصوص الأئمة الأفاضل الأوائل في هذا الإطار ما بين منكر، ومقرّ.
ولما وصلتني دعوة مشرّفة من كلية الإمام مالك للإسهام في هذا الموضوع عبر المشاركة في الندوة العلمية،نويت كشف النقاب عن جوهر الخلاف في المسألة،وأنه خلاف لفظي لا جوهري؛إذ إن حرص منكري وقوع المجاز في القرآن الكريم والسنة النبوية هو الحفاظ على الكتاب والسنة من أيدي التحريف والتزييف، والتعطيل والتكييف.
وقد رسم الباحث الخطوة المتبعة في معالجة هذه المسألة على النحو التالي:
- تعريف المجاز لغة واصطلاحاً.
- تحرير الخلاف في المجاز
- موقف الأئمة الأفاضل من المسألة كلّ من:
• الإمام أحمد بن حنبل
• شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية
• الشيخ محمد الأمين الشنقيطي.
- منشأ الخلاف في المسألة
- أدلة مثبتي المجاز في القرآن .
- أدلة نفاة المجاز في القرآن
- الخاتمة.
سائلا المولى عزّ وجلّ أن ينفع به طلبة العلم،ويتقبله مني قبولاً حسنا إنه ولي التوفيق.
تحديد مفهوم المجاز لغة واصطلاحاً
تعريف المجاز لغة :
مأخوذ من الجواز،وهو العبور والانتقال من موضع إلى موضع آخر،يقال: جُزْت المكان:أي عبرته وانتقلتُ منه إلى مكان آخر( )،لذلك يقال المجاز للفظ الجائز من شيء إلى آخر تشبيهاً بالجسم المنتقل من موضع إلى آخر( ).
وأصل مصطلح"المجاز"مجوز على وزن مَفْعَل،نقلت حركة الواو إلى الجيم، فسكنت الواو،وانفتح ما قبلها وهو الجيم،فانقلبت الواو ألفاً فصار مجازاً( ).
أما مفهوم المجاز في الاصطلاح فهو"اللفظ المستعمل في غير ما وضع له، لمناسبة بينه وبين المعنى الأصلي،ويقال لها العلاقة؛بحيث ينتقل الذهن بواسطتها من محل المجاز إلى الحقيقة( ).
وعليه يفهم المعنى المجازي باعتبار ثبوت الصفة،كما في إطلاق لفظ" الأسد"على"الشجاع"للاشتراك في صفة الشجاعة؛إذ لها فيه ظهور ومزيد اختصاص،فينتقل الذهن منه إلى هذه الصفة( ).
وسمي المجاز مجازاً؛لأن أهل اللغة يجاوزون به عن أصل الوضع توسّعاً منهم، كما في تسمية البليد حماراً،والشجاع أسداً،وغير ذلك( ).
تحرير الخلاف في المجاز
اختلفت وجهات نظر العلماء قديماً وحديثاً في وقوع المجاز في اللغة أو عدم وقوعه،وفي القرآن والسنة خاصة على ثلاثة أقوال:
القول الأول:ذهب جمهور العلماء إلى أن المجاز واقع مطلقاً في اللغة،وفي الكتاب والسنة.
القول الثاني: ذهب أبو إسحاق الإسفرايني وأبو علي الفارسي وغيرهما إلى أن المجاز غير واقع مطلقاً.
القول الثالث: ذهب الحنابلة من الإمام ابن تيمية،والإمام ابن قيم الجوزية، وبعض الرافضة إلى أن المجاز واقع في اللغة،وليس واقعاً في القرآن والسنة،وقد نقل عن البيضاوي منعه وقوع المجاز في الحديث،إلا أنه لم يشتهر عنه هذا القول( ).
واستكمالاً لهذه الأقوال المحرّرة،وتقريراً لمبادئ الجواز والإنكار بين العلماء في وقوع المجاز في القرآن،سيركّز الباحث على موقف بعض الأئمة الأفاضل في الإسلام،ابتداء بالإمام أحمد بن حنبل، مروراً بشيخ الإمام ابن تيمية وتلميذه الإمام ابن القيم،وانتهاء بالشيخ محمد الأمين الشنقيطي،استجابة لخطة اللجنة المنظمة لهذه الندوة،ومخافة الخروج عن مسار الموضوع حسب التنظيم والبرمجة.
أولاً: المجاز عند الإمام أحمد بن حنبل
يعدّ الإمام أحمد بن حنبل صاحب الفضل والكرم في تأسيس رابع المذاهب الفقهية الأربعة المشهورة، ويرجع إليه التقدير في تدوين الحديث النبوي الشريف، ولا يتساهل في كثير من القضايا العقدية الهامة،وربما موقفه من معاصريه من الزنادقة والفساق أكبر دليل على ذلك.
إن الرواية الصحيحة عن الإمام أحمد وأكثر أصحابه هو القول بوقوع المجاز لغة وكتاباً وسنة،نظراً لواقعية وجود كمية هائلة من آيات القرآن،استخدم فيها المجاز،ولا يمكن بأي حال من الأحوال تفسيرها بالحقيقة،كما في قوله تعالى {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} ( )،وقوله{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ} ( )؛حيث عرف أن الله تعالى واحد قهار،فقد عبّر بلفظ التعظيم باعتباره جمعا،وهذا هو المجاز؛إذ قد خرج هذا الاستعمال اللفظي من الاستعمال الأصلي إلى الآخر.
كما ذكر الإمام قوله تعالى{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}( )،والمعروف أن الإنسان ليس له الجناح كالطير،فقد تمت الاستعارة والكناية في هذه الآية،واستخدم الجناح للإنسان مجازاً.والأمثلة في هذا النطاق بلا حدود.
لذلك يرى الإمام أحمد وقوع المجاز في القرآن والسنة،لكنه يتحفظ على فتح باب جواز ذلك،خوفاً من تحريف الآيات،وتأويلها عن مفاهيمها الصحيحة( ).
ثانياً : المجاز عند ابن تيمية
يعتبر ابن تيمية نادرة من نوادر الزمان،يحيط علماً بعلوم الإسلام من الكتاب والسنة،وفقه الصحابة وآراء الأئمة والمذاهب،له قدرة على التمحيص والتفحيص،ويوفّق بين النصوص ومقاصدها، ويجمع بين الحياة ومصالحها،أخرج الأمة من دائرة التقليد المذهبي إلى مجالات الاستدلال والاستنباط( ).
ولما لاحظ الشيخ ملابسات ظروف زمانه،وانتشار بدع ما أنزل الله بها من سلطان،ورأى أهل البدع يحتجون بنفي الأسماء والصفات عن الله عزّ وجلّ على أنها من باب المجاز،قاد حركة نفي المجاز في القرآن والسنة سدّاً للذريعة.
مما يوحي أن شيخ الإسلام مقرّ بوجود المجاز في اللغة،وبطبيعة الحال نزل القرآن بلسان عربي مبين،وتقتضي الدقة أن يكون مقرّاً بوقوع المجاز في الكتاب والسنة،وقد حدث منه ذلك وإن لم يسمه مجازاً،كما شنّ الحرب الباردة على مثبتي المجاز في القرآن في كتابه"الإيمان"،نظراً للدفاع عن سلامة العقيدة،وتبرئة ساحة كتاب الله العزيز من المطاعن( ).
مثال ذلك ما ذكره الشيخ في قوله تعالى{وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} ( ).هذا إثبات صفة المجيء لله عزّ وجلّ،والفرقة المؤولة الذين ينفون باب الأسماء والصفات يقولون:إن هذا مجاز.والمعنى:"وجاء أمر ربّك".
وكذلك قوله تعالى{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}( ).هذا إثبات اليد على وجه يليق بجلاله وعظمته،والمؤولة يقولون:المراد بيد الله مجاز،وهو إحاطته تعالى وقدرته ونعمته عزّ وجلّ.
ومذهب أهل السنة والجماعة أن نؤمن بهذه الأسماء والصفات إيماناً كاملاً كما جاءت في الكتاب والسنة من غير تكييف ولا تعطيل،ولا تمثيل ولا تشبيه، ولا تأويل ولا تحريف( ).
ولم يختلف موقف الإمام ابن القيم عن موقف شيخه؛إذ إنه حريص على حماية العقيدة وحفظها،وقد أنكر المجاز بشدّة في كتابه"الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة"وحشد أكثر من خمسين وجهاً لإنكار المجاز( ).
ثالثاً: المجاز عند الشيخ الشنقيطي
يعدّ الشيخ الشنقيطي من العلماء المعاصرين الذين أحيوا فكرة"لا مجاز في القرآن والسنة"من جديد،بعد مضي أكثر من ثمانية قرون،وذلك لتنبيه الغافلين عن خطورة القول بوقوع المجاز في القرآن،وسعياً لكسب الثقة على الكتاب،والحفاظ على قداسته،انطلاقاً من مصدره الصافي.
لقد اتجه الإمام الشنقيطي نحو شيخ الإسلام ابن تيمية،وكان أشدّ الشيوخ المحدثين نفياً للمجاز في القرآن،وذلك لما لاحظ من كثير من أهل الزمان قولهم بجواز المجاز في القرآن مع المبالغة في القول،دون الانتباه إلى أن القرآن منزّل للتعبّد والإعجاز،وأن كلّه حقائق،وليس فيه مجاز حسب قوله( ).
بالإضافة إلى أن القول بالمجاز ذريعة لنفي كثير من صفات الكمال والجلال لله عزّ وجلّ،وأن نفي ما ثبت في كتاب أو سنة محال( ).
منشأ الخلاف في المسألة .
يمكن التوصّل من خلال ما سبق رصده إلى أن منشأ الخلاف في مسألة المجاز في القرآن والسنة إنكاراً أو إقراراً لا يخلو من أن يكون خلافاً عقدياً أو يكون أدبياً .
ويكون عقدياً إذا ادعي أن آيات الصفات فيها مجاز،وأن الآيات التي فيها العقائد– آيات الغيب– فيها مجاز؛لأن هذا مسلك المبتدعة.أما إذا ادعي أن القرآن فيه مجاز في غير آيات الصفات صار خلافاً أدبياً( ).
والحقيقة أن الخلاف في هذه المسألة خلاف لفظي لا جوهري،يرجع سببه إلى حرص كلّ فريق على الحفاظ على قداسة الكتاب العزيز،وعدم السماح بطعنه بدعوى المجاز،والنيل من مكانته ومنزلته الربانية،خاصة في مجال العقيدة الإسلامية .( )
أدلة الفريقين في الميزان
أدلة مثبتي المجاز في القرآن والسنة
استدلّ القائلون بوقوع المجاز في الكتاب والسنة بمجموعة من الأدلة منها ما يأتي:
1. قوله تعالى {...فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} ( ).
وجه الدلالة:أنه أسندت الإرادة إلى الجدار،مع أنها لا تكون إلا ممن له شعور،فكان هذا الإسناد مجازياً.
2. قوله تعالى{رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ( ).
وجه الدلالة:أنه أسند الإضلال إلى الأصنام،مع أن الله تعالى هو الذي يضلّ من يشاء، ويهدي من يشاء،كما صرّحت العديد من الآيات بذلك، فهذا إسناد مجازي،وعلاقته السببية.
3. قوله تعالى{وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا}( ).
فإن المراد باليتامى البالغون الذين كانوا صغاراً باعتبار ما كان، فهو مجاز لغوي مرسل( ).
4. قوله تعالى{وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا}( ).وجه الدلالة:أنه ثبت أنه لا يجوز أن يكون المراد من هذه الآية ظاهرها،فوجب صرفها إلى غير ظاهرها،وهو المجاز( ).
5. قوله تعالى{اللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} ( ).
6. قوله تعالى{قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} ( ).
7. قوله تعالى{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} ( ).
8. قوله تعالى{وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا}( ).
وجه الدلالة من هذه الآيات الأربع أن تفسيرها على ظاهرها غير جائز، فدلّ على أنها مجاز،وإذا جاز ذلك في القرآن يجوز في الحديث من باب أولى،ولا قائل بفرق بينهما( ).
9. قوله تعالى{وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً}( ).
وجه الدلالة:أنه ليس المراد بالعمى في هذه الآية الحقيقة وإنما المجاز،وهو عمى البصيرة،فقد أستعير الأعمى لأعمى القلب أو البصيرة عن حجة الله وبيناته ( ).
10. أنه يلزم من إثبات المجاز في اللغة إثباته في القرآن ونحوه،فمن أنكر المجاز في القرآن فقد قال:إن القرآن نزل بلسان غير عربي؛لأن في اللسان العربي مجازاً وحقيقة،والقرآن نزل بلغتهم.ومن ينازع في إعطاء التسمية لأنه مجاز واستعارة فقد نازع في اللفظ مع تسليم المعنى المطلوب( ).
بعد إمعان النظر،وتدقيق الفكر،وقوة التأمل في هذه الأدلة المسرودة يلاحظ أن القائلين بوقوع المجاز في القرآن قد اقتنعوا بمصداقية الوقوع،استناداً إلى تلك الأدلة الداعمة لموقفهم، ومن الصعوبة تفسيرها على ظاهرها.
إلا أن نفاة المجاز في القرآن قد اعترضوا على بعض هذه الأدلة،كما فنّد الشيخ الشنقيطي تلك الدعاوى في الآية الأولى؛حيث أشار إلى أنها من أكبر أدلة مثبتي المجاز في القرآن،زاعمين أن إرادة الجدار الانقضاض لا يمكن أن تكون حقيقة،وإنما هي مجاز.
علماً أن آيات من كتاب الله دلّت على أنه لا مانع من كون إرادة الجدار حقيقة؛لأن الله تعالى يعلم للجمادات أراداتٍ وأفعالاً وأقوالاً،لا يدركها الخلق،كما صرّح تعالى بأنه يعلم من ذلك ما لا يعلمه خلقه في قوله جلّ وعلا {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} ( )،فقال:إننا لا نفقه تسبيحهم، وتسبيحهم واقع عن إرادة لهم يعلمها الله.وأمثال ذلك كثيرة في الكتاب والسنة.
أدلة نفاة المجاز في القرآن والسنة
يقود هذه المعركة ابن خويز منداد من المالكية،وابن القاص من الشافعية، والظاهرية،وأبو العباس ابن تيمية وتلميذه ابن القيم( ).
وقد اعتمد أصحاب هذا القول (لا مجاز في القرآن والسنة) على مجموعة من الأدلة ومن أبرزها:
1. إن القرآن يجب الإيمان به،والمجاز يجوز نفيه،والقرآن لا يصحّ نفي شيء منه، فدلّ على أن القرآن ليس فيه مجاز.علاوة على أن القرآن كلّه حقّ، وحينئذ لا يمكن أن يقال فيه ما ليس بحقيقة( ).
2. إن القول بالمجاز ذريعة إلى تأويل الصفات أو نفيها،وبذلك تتبيّن خطورة إثبات المجاز في القرآن الكريم مطلقاً دون تفصيل( ).
3. إن المجاز أخو الكذب، والقرآن منزه عنه بلا شكّ.
4. إن المتكلم لا يعدل إلى المجاز إلا إذا ضاقت به الحقيقة فيستعير،وذلك محال على الله تعالى.
وقد أجيب عن هذا الدليل الأخير:أنه لو سقط المجاز من القرآن لسقط منه شطر الحسن.وأن البلغاء اتفقوا على أن المجاز أبلغ من الحقيقة،ولو وجب خلوّ القرآن من المجاز،وجب خلوّه من الحذف والتوكيد وتثنية القصص وغيرها( ).
5. من المعلوم أنه لا يجوز صرف الكلام عن حقيقته حتى تجمع الأمة على أنه أريد به المجاز؛إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا إلا على ذلك.
ولو ساغ ادعاء المجاز لكلّ أحد،ما ثبت شيء من العبادات،ولبطلت العقود كلّها كالأنكحة والطلاق والأقارير وغيرها،وجلّ الله تعالى أن يخاطب الأمة إلا بما تفهمه العرب من معهود مخاطباتها مما يصح معناه عند السامعين( ).
6. إن المجاز فيه التباس المقصود بغير المقصود،فلا يفهم السامع من اللفظ ما أراده المتكلم منه،وهذا ينافي المقصود من اللغة؛لأن المقصود منها إفادة الألفاظ لما تستعمل فيه من المعاني،فيكون المجاز ممنوعاً.
أجيب عن هذا بأن المجاز لا بدّ له من قرينة،ومع القرينة فلا التباس؛لأن السامع يفهم المقصود من اللفظ بواسطة تلك القرينة( ).
7. إن كلام الله تعالى كلّه حقّ،وكلّ حقّ له حقيقة،وما كان حقيقة لا يكون مجازاً.
وأجيب عن هذا بأن كلام الله كلّه حقيقة بمعنى أنه صدق لا بمعنى أن ألفاظه كلّها مستعملة في موضوعاتها الأصلية ( ).
8. إن المجاز لو وقع في القرآن،وهو كلام الله تعالى لصحّ أن يطلق عليه سبحانه أنه متجوز ضرورة؛لأن المتجوز هو من تكلّم بالمجاز،لكن الله تعالى لا يطلق عليه متجوز،فدلّ ذلك على أنه لم يتكلم بالمجاز،فلم يقع المجاز في القرآن.
أجيب عن هذا الدليل من وجهين:
الوجه الأول:أن أسماء الله توقيفية،فلا يطلق عليه اسم من الأسماء إلا إذا ورد الإذن به من الشارع،ولم يرد الإذن في هذه الحالة،لا لكون المجاز لم يقع في القرآن.
الوجه الآخر:إن إطلاق متجوز عليه سبحانه يوهم نقصاً في حقه تعالى، وهو تعاطي ما لا ينبغي؛لأنه مأخوذ من الجواز،وهو التعدي،فيكون هذا الإطلاق ممنوعاً لهذا الإيهام،لا لكونه لم يتكلم بالمجاز( ).
9. المجاز يجوز نفيه باعتبار الحقيقة، دون الحقيقة فلا يجوز نفيها،فتقول مثلاً لمن قال:رأيت أسداً على فرسه،هو ليس بأسد،وإنما هو رجل شجاع،وفي هذه الحالة نقع في إشكالية وهي أن المجاز يساوي النفي والكذب،وهذا باعتبار أن المجاز يقابل الحقيقة.
10. إن المجاز يحمل صفة العجز في المتكلم باعتبار أن المجاز هو نقل اللفظ من معناه الأصلي إلى معنى جديد( ).
الخاتمة
بعد هذه الجولة السريعة في تسليط الضوء الوهاج على هذه المسألة الخلافية(مسألة المجاز في الكتاب والسنة بين الإثبات والنفي)،فقد اقتنعت عقب دراسة علمية مستفيضة بأهم النتائج التالية:
• أن المجار في اللغة العربية الفصحى ثابت وجائز،ولا يمكن إنكاره؛لأنه من اللسان العربي المبين.
• أن هدف الفرقة المؤولة وقصد الفرقة المعطلة من الجهمية وغيرها من إثبات المجاز في الكتاب والسنة هو الطعن في القرآن،وتحريف الآيات عن مسارها الحقيقي،من خلال المعنى الأصلي إلى غيره.
• أن كلاً من الأئمة أحمد بن حنبل،وابن تيمية،وابن قيم الجوزيةلم ينكروا المجاز مطلقاً،وإنما تناول الإنكار ابن تيمية في كتابه"الإيمان"،وابن القيم في كتابه"الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة"والكتابان في المجال العقدي، بغية سدّ الذريعة إلى النيل من القرآن،ونفي الأسماء والصفات عن الله عزّ وجل .
• أن كثرة أدلة مثبتي المجاز في القرآن تفضي إلى صحة قولهم، إلا أن هذا الباب لا يمكن فتحه على مصراعيه،مخافة الوقوع في مغبة التدليس والتزييف للكتاب والسنة.
• أنه ظهر من خلال اعتراض كل الفريقين على الآخر،عدم خلوّ الأدلة كلّها من النقد والاعتراض.
• أنه تمّ إقرار الإمام ابن تيمية وتلميذه بالوضع اللغوي،وصحة نقل الكلام من الاستعمال الأصلي إلى الاستعمال المجازي.
• أنه أقرّ الشيخ الإمام ابن تيمية بتقسيم الكلام في اللغة إلى حقيقة ومجاز، وأن القرائن هي الفيصل عند احتمال الالتباس،وحدوث الشكوك.
• أن منشأ الخلاف في المسألة إما أن يكون عقدياً وهو الأغلب،وإما أن يكون أدبياً،وهو النادر.
• وأن هذا الخلاف خلاف لفظي لا جوهري؛لأن منكري المجاز في القرآن والسنة قد أثبتوه فيهما في حدود ضيّقة جداً.
• أن القول الصحيح الذي يحفظ لهذه الأمة مكانتها،ولهذا الدين تراثه هو وقوع المجاز في القرآن والسنة في إطار محدود،لوجود مجموعة من النصوص القرآنية والنبوية لا يمكن الوقوف على مفاهيمها إلا عن طريق المجاز، بصرف النظر عن نوع العلاقة بين الألفاظ.
وهذه رؤيتي الخاصة في المسألة، وهي قابلة للنقاش والتحرير،سائلاً الله أن يوفّق الجميع إلى ما يحبّ ويرضى.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه،وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، وصلى الله على سيدنا محمد،وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
حرّر يوم الأحد 20-04-2014م
كوتونو– بنين .
انظر : المصباح المنير/ الفيومي / مادة جاز .
- انظر: المهذب في علم أصول الفقه المقارن / أ.د. عبد الكريم بن علي بن محمد النملة / مكتبة الرشد / الرياض – السعودية / ط1 / 1420هـ 1999م / مج 2 / ص1161 .
- القاموس المحيط / الفيروز آبادي / مادة جاز . وتاج العروس / الزبيدي / مادة جاز .
- انظر : أصول الفقه الميسر / د. شعبان محمد إسماعيل / دار ابن حزم / بيروت – لبنان / ط1 / 1429هـ 2008م / ج2 / ص108 .
- حاشية الجرجاني على شرح العضد / الجرجاني / دار الكتب العلمية / بيروت – لبنان / ط1 / 2004م 1424هـ/ ج1 / ص142 .
-انظر : المهذب في علم أصول الفقه المقارن / أ.د. عبد الكريم بن علي بن محمد النملة / مج2 / ص1162 .
- انظر: أصول الفقه / أ.د. محمد أبو النور زهير / المكتبة الأزهرية للتراث / مصر / د.ت / د.ت / ج2 / ص53-54 .
- سورة يس الآية 12
- سورة ق الآية 43
- سورة الإسراء الآية 24
- انظر : شرح الكوكب المنير / أبو البقاء محمد بن أحمد الفتوحي المعروف بابن النجار / تح: محمد الزحيلي ونزيه حماد / مكتبة العبيكان / الرياض – السعودية / ط2 / 1418هـ 1997م / ص191-192.
- انظر:إضاءة لموقف ابن تيمية من المجاز/ رضوان بو زيدي/مجلة البيان/ع167/رجب 1422هـ 2001م / ص138 .
- انظر:دقائق التفسير المستخرج من أعمال الإمام ابن تيمية /د. محمد الجليند / دار الأنصار / القاهرة – مصر / ج4 / ص58-59 .
- سورة الفجر الآية 22 .
- سورة الفتح الآية 10 .
- انظر:شرح الورقات في أصول الفقه / عبد الكريم الخصير/ د.ط / د.ت / ص97 .
- انظر : المجاز عند الإمام ابن تيمية وتلاميذه بين الإنكار والإقرار / د. عبد العظيم إبراهيم محمد المطعني / مكتبة وهبة / القاهرة – مصر / ط1 / 1416هـ 1995م . ص 23 .
- انظر : منع جواز المجاز في المنزل للتعبّد والإعجاز / محمد الأمين الشنقيطي/ تح: مجمع الفقه الإسلامي / دار عالم الفوائد / د.ب / د.ط/ ص3 .
- انظر : المصدر نفسه / الصفحة ذاتها .
- انظر: شرح متن الورقات / صالح بن عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ /د.ط/ د.ت/ ص44 .
- انظر : روضة الناظر وجنة المناظر في أصول الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل / أبو محمد موفق الدين ابن قدامة / مؤسسة الريان / د.ب / ط2 / 1423هـ 2002م / ص208 .
- سورة الكهف من الآية 77.
- سورة إبراهيم الآية 36 .
- سورة النساء الآية 2
- انظر : أصول الفقه / أ.د. محمد ابو النور زهير / ج2 / ص54 .
- سبق تخريجها .
- انظر: أصول الفقه الإسلامي/ د. أمير عبد العزيز / دار السلام / القاهرة – مصر / ط1 / 1418هـ 1997م / ص649 .
- سورة البقرة الآية 15 .
- سورة مريم الآية 4
- سبق تخريجها
- سورة الإسراء الآية 29 .
- انظر: أصول الفقه الإسلامي / أ.د. وهبة الزحيلي / دار الفكر / دمشق – سوريا / ط1 / 1406هـ 1986م / ج1 / ص300 .
- سورة الإسراء الآية 72 .
- انظر : التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج / د. وهبة الزحيلي / دار الفكر المعاصر / دمشق – سوريا / ط2 / 1418هـ/ ج15 / ص129 .
- انظر : البحر المحيط في أصول الفقه / بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي / ج2 / ص375 .
سورة الإسراء الآية 44 .
- انظر:منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز/محمد الأمين الشنقيطي / تح: مجمع الفقه الإسلامي/ ص6 .
-انظر :شرح مقدمة في أصول الفقه للعلامة ابن قاسم/محمد بن ناصر الشتري/ د.ط/ د.ت / ص99 .
- انظر:معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة/محمد حسين الجيزاني/دار ابن الجوزي/ط5 / 1427هـ / ص113.
- انظر : المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل / عبد القادر بن بدران / تح: محمد أمين ضناوي / دار الكتب العلمية / بيروت – لبنان / ط1 / 1417هـ 1996م / ص87 .
- الدرر السنية في الأجوبة النجدية / علماء نجد الأعلام / تح: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم / ط6 / 1417هـ 1996 / ج3 / ص233 .
- أصول الفقه / أ.د. محمد أبو النور زهير / ج2 / ص55 .
-انظر:الإحكام في أصول الأحكام/الآمدي/ج1/ص35 .وانظر كذلك:أصول الفقه الإسلامي/د. أمير عبد العزيز / ص649 .
- انظر : أصول الفقه / أ.د. محمد أبو النور زهير / ج2 / ص55 .
- انظر : إضاءة لموقف ابن تيمية من المجاز / رضوان بو زيدي / مجلة البيان / ع167 / رجب 1422هـ 2001م / ص138 .
المراجع والمصادر
1. الإحكام في أصول الأحكام/الآمدي / د.ط / د.ت .
2. أصول الفقه/أ.د.محمد أبو النور زهير/المكتبة الأزهرية للتراث/مصر/د.ت/د.ت.
3. أصول الفقه الإسلامي/أ.د.وهبة الزحيلي/دار الفكر/دمشق– سوريا/ط1/ 1406هـ 1986م.
4. أصول الفقه الإسلامي/د.أمير عبد العزيز/دار السلام/القاهرة– مصر/ط1/ 1418هـ 1997م.
5. أصول الفقه الميسر/د.شعبان محمد إسماعيل/دار ابن حزم/بيروت– لبنان/ط1/ 1429هـ 2008م .
6. إضاءة لموقف ابن تيمية من المجاز/رضوان بو زيدي/مجلة البيان/ع167/رجب 1422هـ 2001م.
7. البحر المحيط في أصول الفقه / بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي/ د.ط .
8. تاج العروس / الزبيدي / مادة جاز .
9. التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج/د.وهبة الزحيلي/دار الفكر المعاصر/ دمشق – سوريا/ط2/1418هـ.
10. حاشية الجرجاني على شرح العضد/الجرجاني/دار الكتب العلمية/بيروت– لبنان/ ط1/2004م 1424هـ.
11. الدرر السنية في الأجوبة النجدية/علماء نجد الأعلام/تح:عبد الرحمن بن محمد بن قاسم/ط6/1417هـ 1996.
12. دقائق التفسير المستخرج من أعمال الإمام ابن تيمية/د.محمد الجليند/دار الأنصار/القاهرة – مصر.
13. روضة الناظر وجنة المناظر في أصول الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل/ أبو محمد موفق الدين ابن قدامة/مؤسسة الريان/د.ب/ط2/1423هـ2002م.
14. شرح الكوكب المنير/أبو البقاء محمد بن أحمد الفتوحي المعروف بابن النجار/ تح:محمد الزحيلي ونزيه حماد/مكتبة العبيكان/الرياض– السعودية/ط2/ 1418هـ1997م .
15. شرح الورقات في أصول الفقه / عبد الكريم الخصير/ د.ط / د.ت.
16. شرح متن الورقات/صالح بن عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ /د.ط/ د.ت.
17. شرح مقدمة في أصول الفقه للعلامة ابن قاسم/محمد بن ناصر الشتري/ د.ط/ د.ت.
18. القاموس المحيط / الفيروز آبادي / مادة جاز.
19. المجاز عند الإمام ابن تيمية وتلاميذه بين الإنكار والإقرار/د.عبد العظيم إبراهيم محمد المطعني/مكتبة وهبة/القاهرة– مصر/ط1/1416هـ1995م.
20. المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل/عبد القادر بن بدران/تح:محمد أمين ضناوي/دار الكتب العلمية/بيروت – لبنان/ ط1/1417هـ 1996م.
21. المصباح المنير/ الفيومي / مادة جاز .
22. معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة/محمد حسين الجيزاني/دار ابن الجوزي/ط5 / 1427هـ.
23. منع جواز المجاز في المنزل للتعبّد والإعجاز/محمد الأمين الشنقيطي/تح:مجمع الفقه الإسلامي/دار عالم الفوائد/د.ب/د.ط.
24. المهذب في علم أصول الفقه المقارن/أ.د. عبد الكريم بن علي بن محمد النملة/ مكتبة الرشد/الرياض– السعودية/ط1/ 1420هـ1999م.