مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب
2014/08/27 18:42

بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد: فإن البيئة العربية تشهد في الآونة الأخيرة صراعات داخلية خطيرة قد ينجم عنها أحياناً ما ينجم عن الحرب الدولية من آثار ومشكلات كثيرة من أسر وقتل وتعذيب واعتقال وفقدان أشخاص كثيرين لا يعرف أَهُم أحياء أم أموات؟
ويطلب بإلحاح في حال الفقدان مطلقاً حلّ كثير من الأوضاع المتعلقة بالحياة الزوجية من إنهاء وجودها بالتفريق، وتلبُّس بالعدة، ومعرفة حقوق وتبعات متعلقة بالميراث، والإنفاق على الزوجة، والوصية، أو مباشرة المعاملات المالية كبيع مال المفقود.
ومدة انتظار المفقود هي المحور الذي يتوقف عليه كل ما يتعلق بالعلاقات الأسرية والمالية وبيان أحكامها.
وهذا يتطلب بيان ما يأتي:
- تعريف المفقود أو مفهومه وأنواعه.
- سبب الاختلاف بين الفقهاء في بعض الأحكام.
- مدة صفة الفقدان المرتقبة ، بدءاً وانتهاء.
- أثر الفقدان على الزوجة، ومطالبتها بالتفريق في المدة.
- حكم العدة بعد التفريق.
- الإنفاق من مال الزوج المفقود على زوجته وغيرها.
- أثر الفقد على الوصية والإرث وسبب الاختلاف في الإرث.
- انتهاء الفقدان.
- عودة المفقود حياً.
- الخلاصة.
- تعريف المفقود وأنواعه:
المفقود لغة من العقد: وهو الشيء الضائع والضال، يقال: فقد الشيء: ضلَّه وضاع منه، وفقَدَ المال: خسره.
واصطلاحاً: هو الغائب الذي انقطع خبره، فلم تعرف حياته أو موته. ولا عبرة بمعرفة المكان أو الجهل به، إذا كان مجهول الحياة أو الممات، فلو كان معلوم المكان ، ولكنه لا تعرف حياته أو موته فهو مفقود.
والمفقود نوع واحد عند الحنفية والشافعية(1)، وجعل المالكية المفقود أربعة أنواع هي:
1- المفقود في بلاد المسلمين.
2- المفقود في بلاد الأعداء.
3- المفقود في قتال المسلمين مع الكفار.
4- المفقود في قتال المسلمين مع بعضهم(2).
والمفقود في رأي الحنابلة نوعان:
النوع الأول: الغالب من حاله الهلاك: وهو من يفقد في مهلكة كالذي يفقد بين الصفين، أو في مركب، أو يفقد من بين أهله أو لأداء صلاة أو لحاجة قريبة، فهذا ينتظر به أربع سنين.
النوع الثاني: من ليس الغالب هلاكه كالمسافر لتجارة أو طلب علم أو سياحة ونحو ذلك، ولم يعلم خبره، وذلك مردود إلى اجتهاد الحاكم، قال ابن قدامة في المغني: وهذا قول الشافعي -  -، ومحمد بن الحسن، وهو المشهور عن مالك وأبي حنيفة وأبي يوسف، لأن الأصل حياته، والتقدير لا يصار إليه بتوقيف، ولا توقيف هنا، فوجب التوقف عنه.
وقد أخذ القانون المصري رقم 15 لسنة 1929 في النوع الأول، بمذهب الإمام أحمد، وفي النوع الثاني بقول صحيح لدى الحنفية والحنابلة، فنصت المادة (21) على كلتا الحالتين، فيحكم بموت المفقود حينئذ بعد أربع سنوات من تاريخ فقده، أي فكانت المدة قانوناً في النوعين أربع سنوات.
سبب الاختلاف بين الفقهاء في بعض الأحكام:
للفقهاء رأيان في شأن إرث المفقود والوصية له، وفراق زوجته يرجعان إلى اختلافهم في حجية الاستصحاب:
فيرى جمهور الحنفية: أن المفقود لا تثبت له حقوق إيجابية من غيره، كالإرث والوصية فلا يرث من غيره ولا تثبت له الوصية من غيره، لأن الاستصحاب في رأيهم حجة للدفع لا للإثبات، فاستصحاب حياته يفيده فقط في دفع ما يترتب على وفاته من اقتسام ماله بين الورثة؛ ومن فراق زوجته، وهذا هو الحق السلبي، ولا يفيده في انتقال ملكية الغير له، وهذا هو الحق الإيجابي(1).
وذهب الجمهور غير الحنفية: إلى أن المفقود يرث من غيره، وإن لم يورث، لأن استصحاب الحال حجة مطلقاً للدفع والإثبات ، ما لم يقم دليل مانع من الاستمرار، فحياة المفقود هي الأصل الثابت، فيرث من غيره، ولا يورث عنه ماله، أي إن الاستصحاب يثبت كلا الحقين الإيجابي والسلبي، إلا أن الحنابلة أضافوا أنه يورّث، ولا يرث بعد مضي أربع سنين على فقده(2).
وقد أخذ القانونان المصري (م 45) والسوري (م 302) بهذا الرأي، وقيل عند المالكية: يفرق القاضي بين الزوجين بمضي سنة فأكثر على الغياب. نصت المادة (109/1) من القانون السوري على ما يلي: إذا غاب الزوج بلا عذر مقبول أو حكم بعقوبة السجن أكثر من ثلاث سنوات، جاز لزوجته بعد سنة من الغياب أو السجن أن تطلب إلى القاضي التفريق ، ولو كان له مال تستطيع الإنفاق منه.
وذهب الشافعية: إلى أن من فقد أو أسر، وانقطع خبره، لا يحكم بموته حتى تقوم بيِّنة بموته، أو تمضي مدة يعلم أو يغلب على الظن أنه لا يعيش فوقها، كما هو حال أقرانه.
- مدة انتظار المفقود أو مدة صفة الفقدان بدءاً وانتهاء:
مدة انتظار المفقود الذي يغلب على الظن هلاكه بالنسبة للحكم بفراق زوجته: أربع سنين، في رأي الحنفية، وهو المنقول عن عمر -  -: أن امرأة المفقود تتربص أربع سنوات، ثم تعتد للوفاة أربعة أشهر وعشرة أيام، وتحل بعدها للأزواج وليس في ظاهر الرواية عند الحنفية تقدير مدة لحياة المفقود، وإنما تقدر بموت أقرانه، وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه قدر تلك المدة بمئة سنين وعشرين من وقت الولادة، والأرفق أن تقدر بتسعين عاماً(1)، وهذا هو رأي المالكية المعتمد في شأن زوجة المفقود ببلاد الإسلام، وأما المفقود في بلاد الأعداء: فإن زوجته لا تحل للأزواج إلا إذا ثبت موته، أو بلغ من العمر حداً لا يحيا إلى مثله، وهو مقدر بسبعين سنة في قول مالك وصاحبيه (ابن القاسم وأشهب). وكذلك المفقود في قتال المسلمين مع الكفار، وفي رواية عن مالك: تتربص امرأته سنة ثم تعتد. وأما المفقود في قتال المسلمين بعضهم مع بعض ففي رأي مالك: ليس في ذلك أجل معين، وإنما تعتد زوجته من يوم التقاء الصفين(2).
وذهب الشافعية: إلى أن من أسر أو فُقد، وانقطع خبره، ترك ماله حتى تقوم بيِّنة بموته، أو تمضي مدة يغلب على الظن أنه لا يعيش فوقها، فيجتهد القاضي، ويحكم بموته، ثم يعطى ماله من يرثه وقت الحكم، أي إن هذه المدة لا تتقدر، وهو الصحيح(3).
وأما الحنابلة: فقالوا: المفقود الذي ظاهر غيبته الهلاك، فإن زوجته تتربص أربع سنين، ثم تعتد للوفاة، وهو المذهب، وأما المفقود الذي ليس الغالب من حاله الهلاك كالمسافر لتجارة أو طلب علم أو سياحة ونحو ذلك، ولم يعلم خبره، ففي الرواية القوية المفتى بها، وهو الصحيح في المذهب: أن زوجته تنتظر حتى يبلغ من العمر تسعين سنة(4). فهم كالحنفية في الحالين.
وتبدأ مدة انتظار المفقود في رأي المالكية من حيث رفع الأمر إلى القاضي (أو حاكم السياسة)(1) أو جابي الزكاة (الساعي) إن وجد واحد منهما في بلد الزوجة، وإلا (إن لم يوجد واحد) فلجماعة المسلمين أو لصالحي جيرانها، وهو المذهب عند المالكية(2).
وهو رأي الحنفية القائلين: ينصب القاضي ناظراً لكل عاجز عن النظر لنفسه، والمفقود عاجز عنه، فصار كالصبي والمجنون، فعلى القاضي أن يفعل في أمر هؤلاء لرعاية مصالحهم، ويستوفي الناظر حقوق المفقود من قبض غلاته والدين الذي أقربه غريم (مدين) ويخاصم عنه في دين وجب بعقد الناظر، لأنه أصيل في حقوق عقده(3).
وذهب الشافعية إلى أن مدة المفقود ونحوه كالأسير تبدأ مدة فقده حين تقوم بينة بموته، أو تمضي مدة يغلب على الظن أنه لا يعيش فوقها، فيجتهد القاضي ويحكم بموته، ثم يعطى ماله من يرثه وقت إقامة البينة أو وقت صدور الحكم بموته، فإنه فائدة الحكم(4).
وتبدأ المدة عند الحنابلة على الصواب من حين الغيبة، وعبارتهم: من انقطع خبره لغيبة ظاهرها السلامة كأسر وتجارة وسياحة وطلب علم، انتظر به تمام تسعين سنة منذ ولد، فإن فقد ابن تسعين، اجتهد الحاكم(5).
وتنتهي مدة الفقد: بظهور بينة على موت المفقود أو عودته إلى بلده، أو بمضي مدة طويلة على المفقود من وقت ولادته بحيث لا يعيش مثله إلى تلك المدة يقيناً أو غالباً، فيحكم بموته.
الوجهة القانونية في مدة انتظار المفقود:
أخذ القانون المصري رقم (15) لسنة 1929 في حال الغيبة التي يغلب فيها الهلاك كالغيبة في أثناء حرب أو غارة أو في ميدان القتال أو لقضاء مصلحة قريبة بمذهب الإمام أحمد، وهو أن يحكم القاضي بموته بعد أربع سنين من تاريخ فقده.
وفي الحال التي لا يغلب فيها الهلاك، وإنما يظن مع الغيبة بقاؤه حياً، كأن خرج لسياحة أو تجارة أو طلب علم أو أداء حج في حال الأمن، أخذ القانون المذكور بمذهبي الحنفية والحنابلة، فنصت المادة (21) على كلتا الحالتين، والنص ما يأتي: يحكم بموت المفقود الذي يغلب عليه الهلاك بعد أربع سنين من تاريخ فقده. وأما في جميع الأحوال الأخرى فيفوض أمر المدة التي يحكم بموت المفقود بعدها إلى القاضي، وذلك كله بعد التحري عنه بجميع الطرق الممكنة الموصلة إلى معرفة إن كان المفقود حياً أو ميتاً.
علماً بأن المفتى عند الحنفية(1) التعميم وهو: تفويض الأمر إلى رأي الحاكم ، ينظر ويجتهد، ويفعل ما يغلب على ظنه أنه المصلحة، لإطلاق قول علي -  -: «امرأة المفقود امرأة ابتليت فلتصبر حتى يأتيها يقين موته».
- أثر الفقدان على الزوجة ومطالبتها بالتفريق في المدة:
على الزوجة التي فقد زوجها بعد مدة الانتظار أن تعتد بعدة الوفاة أربعة أشـهر وعشرة أيام ، ولا تحتاج بعد هذه المدة لحكم القاضي بالعدة ولا بالزواج بعـد انتهاء عدتها، ولها أن تتزوج من شاءت، في رأي المالكية والحنابلة، لأن عمر -  - قضى بذلك في مفقود؛ فأمر امرأة غاب عنها زوجها أن تمكث أربع سنين، ثم أمرها أن تعتد ثم تتزوج.
علماً بأن المالكية قالوا: تعتد المرأة في حال فقد زوجها في القتال الواقع بين المسلمين والكفار بعد مضي سنة في أمره بحسب رأي الحاكم في ذلك(2).
والأظهر عند الشافعية أنه لا بد من حكم الحاكم بالزواج بعد انقضاء العدة، لأن مدة العدة ثبتت بالاجتهاد، فافتقرت إلى حكم الحاكم، كمدة التعنين(3).
حكم العدة: هذه العدة بعد مدة الانتظار واجبة بالاتفاق، لأمر عمر بذلك كما تقدم، ولأن المرأة في مدة الانتظار ما تزال مرتبطة بزوجيتها من الزوج المفقود، فإذا فرّق القاضي بينها وبين زوجها، وجبت عليها العدة.
وينفذ حكم الحاكم بالتفريق في الظاهر دون الباطن، في الأصح عند الشافعية، لأن عمر -  - جعل للمفقود لما رجع أن يأخذ زوجته، فإن تزوجت بعد مدة التربص وانقضاء العدة، فالنكاح باطل في القول الجديد، فإن عاد الزوج السابق سلمت إليه(1).
وقال الحنابلة: ينفذ ظاهراً وباطناً(2). وهو وجه آخر لدى الشافعية، فلا تعود الزوجة إلى زوجها السابق. ومذهب الإمام أحمد فيما إذا كانت غيبة المفقود ظاهرها الهلاك أن زوجته تتربص أربع سنين أكثر مدة الحمل، ثم تعتد للوفاة أربعة أشهر وعشراً، وتحل للأزواج(3).
- الإنفاق من مال الزوج المفقود على زوجته وغيرها:
يترتب على فقدان الزوج المفقود آثار مالية في مقدمتها الإنفاق على الزوجة باتفاق المذاهب(4)، وغير ذلك مما يقوم به القاضي بحسب صلاحياته في مال المفقود وأهله. وهي ما يأتي:
أولاً: تعيين قيِّم على أموال المفقود:
يعين القاضي أميناً يحفظ مال المفقود، ويشرف على شؤونه ويستثمره، ويستوفي حقوقه العائدة إليه، كالقيِّم على مال الصبي والمجنون.
وأوجب ابن عمر وابن عباس نفقة زوجة المفقود في مدة العدة، وللمالكية والحنابلة قولان في ذلك.
وأجاز ابن عباس لزوجة المفقود أن تستدين ، فإن عاد زوجها أخذت من ماله، وإن مات أخذت من نصيبها من الميراث، وبه قال إبراهيم النخعي، وقال زفر: يأمرها القاضي أن تستدين، وتنفق على نفسها(5).
ثانياً: وجوه النفقة:
ينفق من مال المفقود على زوجته إن كان يعلم ببقاء الزوجية، وكذا ينفق من ماله على أولاده الصغار ذكوراً وإناثاً، وكذا على أولاده الفقراء الزمني (المرضى مرضاً مزمناً).
وإن لم يكن له مال ، وله ودائع، فإنه ينفق منها، إذا كانت للطعام والثياب والأموال النقدية من الدراهم والدنانير.
فإن كان مال المفقود من غير الطعام والنقود، كعروض التجارة أو العقارات، فلا ينفق منه القاضي على هؤلاء من الزوجة والأولاد، لأنه لا يمكن الإنفاق إلا بالبيع، وليس للقاضي أن يبيع العقار والعروض التجارية على الغائب.
ثالثاً: بيع مال المفقود:
ليس للقاضي في رأي الحنفية بيع عقار المفقود وعروضه التي لا يتسارع إليها الفساد. وأما ما يتسارع إليه الفساد كالثمار ونحوها، فإنه يبيعه ويحفظ ثمنه(1).
وأجاز المالكية بيع مال المفقود، لقولهم بجواز القضاء على الغائب(2).
رابعاً: قبض حقوق المفقود:
لم يجز الحنفية للقاضي أن يأخذ مال المفقود الذي في يد الوديع، أو في يد المضارب، لأنهما نائبان عن المفقود في الحفظ.
وأجاز المالكية له ذلك، وهو قول عند الحنفية.
وأما ديون المفقود: فليس للمدين عند الحنفية(3) دفع الدين إلى زوجة المفقود أو ولده، وكذا المستأجر إذا دفع الأجرة ، فلا تبرأ ذمة الدافع، ما لم يأمر القاضي بذلك. وذهب المالكية أيضاً إلى أن ديون المفقود لا تدفع للورثة، وإنما تدفع للقاضي أو السلطان.
خامساً: وصية المفقود:
ذهب الحنفية إلى أن وصية المفقود تكون موقوفة حتى يتبين حاله، فإن ظهر حياً قبل موت أقرانه، نفذت الوصية، وإذا حكم بموته، رد المال الموصى به إلى ورثته(1).
وقال المالكية: لو أن رجلاً أقام البينة على أن المفقود قد أوصى له بوصية، ومات المفقود أو بلغ من السنين ما لا يحتاج إلى مثلها، تقبل البينة، وتنفذ في حدود الثلث، وهذا مبني على أصلهم في جواز القضاء على الغائب(2).
سادساً: الإرث:
يرى الحنفية: أن المفقود لا يرث من غيره، ولا تثبت له وصية من الآخرين، لأن شرط استحقاق الإرث والوصية: ثبوت حياة الوارث والموصى له عند موت المورث، وحياة المفقود غير متحققة، وإنما يحتمل أن يكون ميتاً، فلا يرث ولا يورَّث(3)، كما تقدم بيانه.
وذهب جمهور الفقهاء غير الحنفية: إلى أن المفقود يرث من غيره، وإن لم يورث، لأن استصحاب الحال حجة مطلقاً، ما لم يقم دليل مانع من الاستمرار، وحياة المفقود هي الأصل الثابت، فيرث من غيره، ولا يورث عنه ماله(4).
وفصل الحنابلة رأيهم الفقهي، فقالوا:
المفقود نوعان:
أحدهما: الغالب من حاله الهلاك: وهو من يفقد في مهلكة كالذي يفقد بين الصفين، فيوقف للمفقود نصيبه من ميراثه قبل الحكم بوفاته، فإن بان حياً أخذه، ورد الفضل إلى أهله، وإن علم أنه مات بعد حين موت مورثه، ردَّ الموقوف إلى ورثة مورثه.
النوع الثاني: من ليس الغالب هلاكه كالمسافر لتجارة أو طلب علم أو سياحة ونحو ذلك ، ففيه روايتان(1):
إحداهما: لا يقسم ماله ولا تتزوج امرأته حين يتيقن موته، أو يمضي عليه مدة لا يعيش في مثلها، وذلك مردود إلى اجتهاد الحاكم.
وهذا قول الشافعي ومحمد بن الحسن، وهو المشهور عن مالك وأبي حنيفة وأبي يوسف، لأن الأصل حياته، والتقدير لا يصار إليه إلا بتوقيف، ولا توقيف ههنا، فوجب التوقف عنه.
والرواية الثانية: أنه ينتظر به تمام تسعين سنة مع سنة يوم فقد، وهذا قول عبد الملك بن الماجشون المالكي، لأن الغالب أنه لا يعيش أكثر من هذا.
وقال عبد الله بن عبد الحكم المالكي: ينتظر به إلى تمام سبعين مع سنة يوم فقد، ولعله يحتج بقول النبي ﷺ: «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك» (2). ولأن الغالب أنه لا يعيش أكثر من هذا، فأشبه التسعين.
انتهاء الفقدان:
ينتهي الفقدان بالاتفاق بإحدى الحالات الآتية(3):
الأولى: عودة المفقود حياً: إذا تبين أن المفقود حي، انتهى الفقدان.
الثانية: موت المفقود: إذا ثبت أن المفقود قد مات، انتهت حالة الفقدان، لظهور أمره وزوال الجهالة التي كانت تحيط به في غيبته.
الثالثة: اعتبار المفقود ميتاً حكماً بمضي مدة على فقده، أو ببلوغه سناً معينة ولكن اختلف الفقهاء في تقدير السن التي يحكم بموته فيها:
فذهب الحنفية في ظاهر الرواية: إلى أنه يحكم بموت المفقود إذا لم يبق أحد من أقرانه في بلده، غير أنهم اختلفوا في سن موت الأقران، فرأى أبو حنيفة: أنها مئة وعشرون سنة، وهذا ما اختاره القدوري.
وعن أبي يوسف: مئة سنة. وعن محمد بن حامد البخاري: هي تسعون سنة، وقال بعضهم: سبعون سنة، وقال آخرون: المدة متروكة إلى اجتهاد الإمام بحسب القرائن الظاهرة(1).
والفتوى على التسعين سنة، وهو الأرفق كما تقدم بيانه.
ورأى المالكية: أن المدة مقدرة بسبعين سنة، في قول مالك وصاحبيه كما تقدم، إذا كان الفقد في بلاد الأعداء، وقال ابن عرفة: إذا بلغ خمساً وسبعين سنة، وعليه القضاء(2).
ورأى الشافعية والحنابلة أن المدة مفوضة إلى رأي الإمام(3)، أي اجتهاد الحاكم.
عودة المفقود حياً:
قد تقع المفاجأة، فيظهر أن المفقود على قيد الحياة ، فيكون لذلك أثر على زوجته وأمواله.
أما بالنسبة إلى زوجته: فيوجد رأيان لدى الفقهاء.
الرأي الأول للحنفية والمالكية والحنابلة: أن المفقود إن عاد قبل أن تتزوج امرأته فهو أحق بها، وإن عاد بعد النكاح: فلا سبيل له على زوجته، إلا أن الحنابلة قالوا: إن دخل بها الثاني، كان الأول بالخيار، إن شاء أخذ زوجته بالعقد الأول، وإن شاء أخذ مهرها وبقيت على نكاح الثاني(4).
الرأي الثاني للشافعية في المذهب الجديد: أن الزوجة(5) باقية على نكاح المفقود، فإن تزوجت غيره فنكاحها باطل، تعود للأول بعد انتهاء عدتها من الثاني.
وأما بالنسبة إلى أمواله: فللفقهاء ثلاثة آراء:
ذهب الحنفية: إلى أن المفقود إن عاد حياً، فإنه لا يرجع على زوجته وأولاده بما أنفقوه بإذن القاضي، وإن باعوا شيئاً من الأعيان ضمنوه، ويأخذ أيضاً ما بقي في أيدي الورثة من أمواله(1).
ورأى المالكية والشافعية: أنه يرجع بجميع تركته، ولو بعد تقسيمها على الورثة(2).
وقال الحنابلة: يأخذ المفقود ما وجد من أعيان ماله، وأما ما تلف فإنه مضمون على الورثة في الرواية الصحيحة في المذهب(3).
الخلاصة:
البحث في مدة انتظار المفقود يتفرع عنه أحكام تكون المدة ذات علاقة مفصلية بهذه الأحكام، علماً بأن المفقود: هو الغائب الذي انقطع خبره، فلم تعرف حياته أو موته.
والمفقود لدى الحنابلة نوعان: أحدهما - الغالب من حاله الهلاك كالمفقود في المعركة بين الصفين، والثاني - من ليس الغالب هلاكه كالمسافر لتجارة أو طلب علم أو سياحة ونحو ذلك.
وقد أخذت بعض القوانين في النوع الأول بمذهب الإمام أحمد، وهو اعتماد اجتهاد الحاكم، وفي النوع الثاني برأي الحنفية والحنابلة، فيحكم حينئذ في النوعين. وأرجح هذا الاتجاه بموت المفقود بعد أربع سنوات من تاريخ فقده.
وسبب الاختلاف بين الفقهاء في شأن الإرث والوصية: هو مدى حجية الاستصحاب ، فلا يرث عند الحنفية من غيره، ولا تثبت له وصية، وفي رأي الجمهور: يرث من غيره ولا يورث.
ومدة انتظار المفقود الذي يغلب عليه الهلاك: هو أربع سنوات، وهو رأي الحنابلة والحنفية، وأما من لا يغلب عليه الهلاك فمدة انتظاره بلوغه تسعين سنة في رأي الحنابلة وبعض الحنفية. ويفوض الأمر إلى القاضي في رأي المالكية وبعض القوانين.
ويترتب على الفقدان بالنسبة للزوجة في مدة الفقدان: أن تبقى على الزوجية بالاتفاق، ثم بعد انتهاء مدة الانتظار تعتد عدة الوفاة: أربعة أشهر وعشراً اتفاقاً أيضاً.
وللزوجة في مدة الانتظار نفقة الزوجية اتفاقاً، ولها أن تستدين في رأي ابن عباس، ويعين القاضي قيّماً على أموال المفقود، وتشمل النفقة الأولاد الصغار للمفقود، وتدفع ديون المفقود إلى السلطان في رأي الحنفية، ولا تنفذ وصية المفقود، وإنما تكون موقوفة حتى يتبين حاله كما ذكر الحنفية.
ويوقف في رأي الحنابلة للمفقود الغالب من حاله الهلاك نصيبه من الميراث، ولدى الحنابلة روايتان فيمن ليس الغالب من حاله الهلاك: رواية يرد الأمر إلى اجتهاد الحاكم، وهي متفقة مع آراء المذاهب الأخرى، ورواية: ينتظر به تمام التسعين سنة مع سنة الفقد.
وينتهي الفقدان: بعودة المفقود حياً، واعتباره ميتاً حكماً. وقد تحدث مفاجأة في شأن عودة المفقود إلى بلده وأهله، فبالنسبة لزوجته يكون لدى الجمهور الحق في الزوجة إلى الزوج الثاني إن دخل بها في رأي الحنابلة، ويكون الحق فيها للزوج الأول في رأي الشافعية في الجديد. وأما بالنسبة لأمواله: فيأخذها المفقود في رأي الحنابلة، وما تلف يكون مضموناً على الورثة.
والحمد لله ربِّ العالمين


أهم المصادر
الاختيار لتعليل المختار ، عبد الله بن محمود الموصلي (ت 683 هـ) دار قباء - دمشق.
أصول أبي سهل السرخسي، دار المعرفة، بيروت.
بدائع الصنائع للكاساني (علاء الدين) مطبعة الجمالية بمصر ، 1328 هـ.
حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، محمد بن عرفة الدسوقي، مطبعة عيسى البابي الحلبي بمصر.
حاشية الشرقاوي، مصر.
حاشية محمد بن عمر البقري على شرح الرحبية بشرح سبط المارديني.
شرح السراجية في الفرائض، السيد محمد الشريف الجرجاني (844 هـ).
شرح فتح القدير ، الكمال بن الهمام (861 هـ) المكتبة التجارية الكبرى بمصر.
شرح المحلي على جمع الجوامع لابن السبكي، الطبعة الثانية، المطبعة الأميرية بمصر.
غاية المنتهى ، الجمع بين الإقناع والمنتهى، المكتب الإسلامي، دمشق، 1378هـ.
الفقه الإسلامي وأدلته، وهبة الزحيلي، دار الفكر بدمشق، ط أولى 1404هـ / 1984م.
القوانين الفقهية لابن جزي الغرناطي، مطبعة النهضة بفاس.
كشف الأسرار للبخاري على أصول البزدوي، مكتب الصنايع، 1307 هـ.
المبسوط لأبي سهل السرخسي، ط أولى، مطبعة السعادة.
مختصر ابن الحاجب، مطبعة العالم في إسلامبول.
المدخل إلى مذهب أحمد لابن بدران الدمشقي (عبد الرحمن بن أحمد) مطبعة السلفية بمصر.
مغني المحتاج للخطيب إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج للنووي، مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر، 1352هـ/ 1933م.
المهذب لأبي إسحاق الشيرازي (476 هـ) مطبعة عيسى البابي الحلبي ، بمصر.
مواهب الجليل للحطاب، الطبعة الأولى بمصر.
شارك برأيك
1
صالح
2020/07/04
غائب
لدي عم غائب لهو مده 20 وليس لديه زوجه ولا اولاد لديه 3 اخوه فقط اثنان من اخوته ماتو بعد 12 سنه من غيابه بقي 1 من اخوته هل يرثه اخوته المتوفين
أضافة تعليق
آخر مقالات