مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب
2022/05/30 19:18
سيمياء السرد في مدح الأنوثة  قراءة في المجموعة القصصية″زمن المؤنث″ لمجيد فلوح

 سيمياء السرد في مدح الأنوثة

قراءة في المجموعة القصصية″زمن المؤنث″ لمجيد فلوح

بقلم: د.ثريا الهادي السوسية

 

maintenant, il est devenu clair que les femmes

 doivent prendre leur place parmi les habitants de Médine

 tout comme elles sont des hommes,

 et qu’elles doivent se tenir au même rang que les hommes.”

Abu al-Walid Ibn Rushd, résumant la politique, XIIe siècle de notre ère

 

“هذه المجموعة هديّة للمؤنث الذي سكن قلبي..″

زمن المؤنث، ص 106

 

I.سيمياء الكتابة: المرأة موضوعا

ليس جديدا أن يكتب الرجل عن المرأة، وبإتقان لعوالمها النفسية والجسدية. سبق أن فعلها الكثير من الروائيين الغربيين، كما في “لوليتا” لنابوكوف و”آنا كارنينا” لتولستوي، حتّى إن غوستاف فلوبير تماهى مع بطلته إلى أن قال “مدام بوفاري هي أنا”.

يحتفي الكاتب ببطلاته، ويأخذهن معه في رحلة يتأمل فيها عوالم المؤنث النفسية والثقافية  عبر هذا الاستدعاء لشخصيات واقعية تاريخية من ذاكرته وأخرى متخيّلة من عوالم الإمكان والتخييل…

وهذه النماذج  لا أدوار هامشية لها، فكلّ منها تصنع مركزا، خصص لها حكايات.. فالمرأة ليست واحدة، بل تكاد تخلق خصوبتها عوالم تعددت بتعدد تكوينها: فنجد المرأة الطفلة والمرأة الشيخة، المرأة البنت والمرأة الأم… ونجد المدارات المتنوعة لوجودها:

فهي الفقيرة والغنية المترفة والمخدومة، تحب وتكره، تعتل وتمرض أو تكون هي الدواء، تتعلّم وتعلّم غيرها، تكبر وتهرم، وتكون وفية وتغرم، تعتزل الكون وتغترب، أو تعتكف وتتصوّف فتتجمل بغير جمال جسدها وترنو إلى جمال من ظل الإله…

إن هذه المجموعة القصصية تطلب نظرا وتحليلا، فهي مكتوبة بحب طافح نحو العالم بشخوصه وأمكنته، ونساءه، وبروح تفوقت على الكثير من كتابات المرأة عن نفسها. وفي إصرار الروائي مجددا على منح المرأة صفات الحكمة، ودمجها مع التفاصيل، والجمال في أجواء ساحرة مع أمانيها وحركتها….

تعج المجموعة بالتفاصيل الأنثوية، وتلوّح بالتقاطع بين المرأة والحياة بل وكينونة الإنسان الذي ترتبط به على نحو من الأنحاء، يقول الكاتب وقد فاض به التأمل:″ هل سمح السرد لعباراتي أن ترتدي كسوة الليونة والجمال؟″﴿ص103﴾

لقد أكد لنا الكاتب ان مجموعته ″زمن المؤنث″ هي نصوص ذات أطروحة تتعلق بالمرأة ومكانتها عنده ومدى انشغاله بعوالمها، فيقدم رؤيته لوجودها فيه.

لكن ″النص المؤنث″ الذي يقترحه علينا الكاتب ليس ″النص النسائي″، فهذا الأخير ينغلق على دائرة جنس النساء، بينما″ينزع المؤنث الذي نراهن عليه إلى الاشتغال في مجال أرحب…فهو نص لا ينطلق من تصنيف مسبق، بل يسعى إلى التعريف بنفسه من خلال حركة ممارسة فعل الكتابة″[1]، ﴿ زهرة الجلاصي، ص 14﴾.

فالنصّ لن يكون مؤنثا إلا متى كان بوسعنا أن ″نرصد علامات ″مؤنث″ فيمتلك قابلية التوافق مع جنس مبدعه …ليقتحم حقل المؤنث بكل خياراته المتعددة التي تتراوح بين الحقيقي والاستعاري والجمالي والرمز والعلامة″

II. سيمياء المؤنث:

هل كان الكاتب يريد رحلة واحدة حقا؟ أم أنها سفر طويل في الذاكرة والمكان والكتب والدواوين الشعرية؟ أم رحيل في ماضي الأسماء المحمّلة بتاريخ أصحابها؟

هي “محطات”، لكن العبارة تحتمل وقفة تأمّل، وهذا المعنى نلمحه في هذه الوقفات التي جعلها الكاتب لحضور المرأة وكلّ أشكال المؤنث في وجوده الواقعيّ يسرده تخييلا.

لقد كان هناك اعتناء واضح بالشكل وإخراج النصوص والكتابة وانتقاء الرسوم على نحو يتماهى مع دلالة العنوان الرئيسيّ: زمن المؤنث، بل كلّ ما في المجموعة يحتفى به ويؤنّث،على نحو جماليّ استيتيقي: فلوحة الغلاف بعنوان” شذرات من الماضي”، ليتفق الرسام والكاتب في أيقونة التأنيث: الأوّل بالأوان والأشكال والظلال والنور، والثاني باللغة ونسج مجازها وإيحاءاتها.

1- هندسة النصوص أو في سيمياء الشكل:

  • الحجم: جل الأقاصيص على أكثر من أربع صفحات، وتتراوح بين 12 و4 صفحة
  • عدد الأقاصيص: 22 أقصوصة
  • الغلاف الخارجي: لوحة الغلاف
  • العنوان الرئيسي للمجموعة:  زمن المؤنث ″، مركب إضافي، تنضاف صفة الأنوثة للزمن ، في إيحاء أوليّ بان الرحلة ستكون زمنيّة لا مكانية وهذا ما يتأكد في العتبة الثانية تحت العنوان الرئيسي، فالكتاب عبارة عن رحلة في محطات معرفة عوالم المرأة وأسرارها
  • العنوان أو العتبة الثانية: رحلة واحدة وان تعدّدت المحطات″، ميثاق تمهيدي بين الكاتب والقارئ، اتفاق وتوجيه لزاوية القراءة: رحلة زمنية تمتد من الماضي القريب إلى البعيد فالأبعد، محطات بلغة الكاتب نفسه ، تنقسم فيه الذات وتسافر
  • عدد الرسوم: هي لنفس الرسام وتكون في صلة بالمحتوى، ذات بعد تجريديّ ورمزيّ
  • الأقوال: في صدارة الأقاصيص، وهي لشخصيات أدبية عربية وعالمية، منها ما هو أبيات شعرية ومنها ما هو أمثال وحكم.هجين عجيب من الأدب العربي والغربي يوجهه الكاتب في عتبات نصوصه
  • الراوي:مختلف متلوّن في كلّ مرّة إذا استسلمنا إلى ورطة القراءة الأولى، لكنه الكاتب والشخصية الرئيسة التي تراقب حكايات بطلاتها نساء من كل الأعمار.هذا الراوي أعطى في أكثر من مرة سلطة الحكي وغاب لكن ″قبل ان أخوض هذا الخضم حاولت أن استأجر من ينوب مناب فؤادي، من يرسم أفكاري بدلا عني، أقلّب كتب الأولين وابحث عن أفكار المتأخرين، أستجلي متاهات التائهين،أسرق منهم بعض العبارات التي تٌبين عن عيّ لساني″﴿ 108ص﴾

˗ 2- أيّ حضور للمؤنث ؟

أثناء السرد طفا على سطحه سؤال مهمّ يدعو القارئ للتأمل والتوقّف. والحقيقة أنه ككثير من الأسئلة التي تقطع مدى السرد ولكن هذا السؤال دالّ لأهمية ما يوحي به، إذا أنزلناه منزلته من سؤال المؤنث وحضوره على امتداد القصّ:

″هل كانت الصورة تعكس الحقيقة؟ ″﴿ص64﴾

فإذا كانت هذه القصص هي في الأصل نتيجة ″تفاعل المحكي مع الكاتب يعني تأثير القصة الواقعية ﴿الحقيقة؟﴾ على ذاتي ﴿الصورة ؟﴾″ ﴿ص103﴾فكيف عسانا نفهم هذا الذي انطبع في ذاكرته وفؤاده من تجليات المؤنث فتتمظهر صورا لمشاهد عديدة لا تتكرر حتّى بالمحاكاة اللغوية؟

يسمّي الكاتب إحدى شخصياته في أوائل المجموعة بـ″مّي خديجة″، ولاح لنا الاسم في البداية قريب الوشائج بالكاتب، فهي ليست شخصية متخيّلة بقدر ما هي واقعية وحقيقية إلى حد الخيال، فإذا هو يحيّيها بتحية أهل الجنة كناية عن انتقالها إلى عوالم أرحب حتّى من ذاكرته نفسها:″سلام عليك مّي خديجة″ ﴿ م ن، ص35﴾. لكن بعد أن يسرد لنا بعض التفاصيل  العالقة به من أثرها، تتحول الشخصية إلى نمط متعال مفارق للواقع الذي أنتجها، فهي″ كأنها لم تكن تنام، ولم تكن تعجز، ولم تكن تمرض″﴿ م ن، ص38﴾، شخصية تبعث الذهول وترتفع إلى القداسة والعجائبية لأنّ لها ألف دور، وألف بعد، وألف صوت:

″ سقت جذوري، حضنت صباي، شذبت أغصاني، غذّت جذعي الطريّ ″ وهي ″ المرأة التي تبيع كل شيء الذهب والشجر والحجر لتصنع نساء ورجالا ″﴿ م ن، ص37﴾،  وليس غريبا إذن أن يأخذنا المسمى الواقعي، هذه الجدة، إلى المسمى في المخيال الجمعي العربي الإسلامي، ونعني بها السيدة ″خديجة بنت خويلد″، سيدة نساء العالمين وجدة كل المسلمين، وحديث ″التحية والسلام″ الذين يحضران مضمنين في السرد والرمز.

غير بعيد عن الجدة مّي خديجة، تطالعنا شخصية أخرى[2] : المرأة الفقيهة التي تخطف الألباب بفصاحتها وصدقها ـ حكمتها ورجاحة عقلها، وربّما رمز حضورها لصوت الحكمة / المؤنث، متجسدا في حكايتها مع اللصّ ″دادا″ وحكاية زواجها وارتحالها بين الريف والمدينة ورعايتها للكاتب في أوّل عمره.

و يحدث غياب المؤنث في نشأة الصبي شروخا وفراغا في الذاكرة﴿40ص ﴾ لا يسدّه سوى التأمل في ″ في خوارزميات″ انتقاء الذاكرة الطفولية: ما يبقى فيها رغما عنا، وما نبقيه فيها رغبة منا.  فقصة ″الغريب″ تصوّر لقاء الكاتب وهو صبي بأبيه، فيرفض ان يسميه ويرفض  أن يعطيه دور الأب، وبغيابه عنه غابت مقولة الأبوة و محمولاتها غيابا تاما من لغته ومن وعييه.

وذات هذه الذاكرة ستشفى شيئا فشيئا بفعل الزمن والسفر في الحياة، ولكن لكي تكون الرحلة كان لابد من المؤنث ″ كانت رفيقتي وكنت رفيقها….حنونة كتومة ″{ص66  {نموذج المرأة الصاحبة يطالعنا في قصة ” كريمبوش”، فرغم حجم ما فقدته هذه المرأة ﴿الزوج /العمل/ الصحة﴾ فإنّها هادئة، راضية، مطمئنة على نحو غير طبيعي، رصده لنا الكاتب مشدوها معجبا، والأعجب من ذلك ان الحكاية  انتهت مؤقتا، لتمتد إلى القصة التالية ″ الهوية الضائعة″، حيث تكون راوية القصة فتاة في الرابعة عشر تكبر أمامنا مع خطية السرد السريع، لتصير في النهاية ″امرأة كالعمود لا يمكن الاستغناء عنه″ ، في نقد صريح لنموذج مؤنث يحمل كل الأدوار بإتقان، فإذا هي بلا هوية، وإذا هي تشدها أسئلة عن عمرها الضائع بين الأولاد والزوج والأهل، وهويات حقيقية ومتعددة لكن لا وجود  لهوية تشبهها وتكونها.

إن اتساع مدى السرد في بعض القصص لم يمنع أن يتقلص في أغلبها، ولكن هذا المدّ والجزر في حجم الكتابة له سيمياء رصدناها من خلال نموذج هو الأقل حجما في المجموعة ، ونعني بها قصة″ بانت سعاد″، حيث حمل الكاتب المرأة المسمّاة بهذا الاسم منذ البداية وزر الاسم، لنتبيّن أن مصير هذه  المرأة كان مرتهنا ببيت شعر من بردة كعب بن زهير، وانّه قد لا تتحمّل امرأة تاريخ امرأة أخرى فتضيق بالاسم، ضيقها بمن سمّاها، وينفتح الأمر إلى رمزيّة الاسم وما يحمله من تاريخ، لأجل ذلك كان السرد يتماهى مع الذات الساردة، والتي بدورها ارتبطت برجل بسبب اسمه  ″تزوّجت سهيلا،لأنّه كإسمه سهل، حلو الكلام ″﴿ص84﴾.

هل كانت هذه القصة دليلا على أنّ اللغة لا تسع المؤنث؟

وأنّ فعل التسمية ليس فعلا اعتباطيا يتوسّل إليه لتقييد الذوات وما يمكن أن تشير إليه في كونها، بقدر ما هو فعل خلق ووجود بالفعل.

إنّنا لا نعدَم تراسلا بين الأقاصيص، فلا يكاد القارئ يتمّ الواحدة وينتهي من شخوصها حتّى يبدأ الحكي في التوالد والاسترسال، فلا يوجد انقطاع مطلق بين النصّ والنصّ، كأن ″المؤنث″ لا ينقطع ولا يتوقف ″فيضه″ من ذات الكاتب السارد حينا، والراوي حينا آخر، والحاضر الصامت أحيانا كثيرة.

لكن ما علّة هذا التطبيع مع  المؤنث؟﴿ص103﴾

يحاول الكاتب الإجابة عن سؤاله بخطاب تبريريّ استرجاعيّ عن أسباب هذا الحضور المكثف للمرأة في حياته أوّلا، ثم في ملفوظه السرديّ بجملة اسمية جعلها عنوانا لقصته ″أنا الأنثى″، ولتكون أيضا ردّا لصرخة الأم في بداية النصّ:

″ يا ربّ لماذا خلقتني أنثى؟﴿ص97﴾

لقد حدث الانفصام باكرا  في وعي هذه الأم بين  جنّة الأرض وجنّة السماء، فهي لها جنّة موعودة لا تدركها إلا إذا عاشت جحيم الإقامة في الأرض واحتملت فكرة ″أنها آثمة منذ الولادة وأنّ عقوبتها أنوثتها″﴿ص100﴾، أو هكذا درج الناس على النظر إليها، فانعكس الناظر على المنظور بإطلاق.

ويحدث أن يترك الكاتب دوره رغبة في التحررّ، فيبتعد مساحة كافية ليعترف في نوع من الميتا˗ لغة méta˗langage، بان الكتابة في زمن المؤنث عن المؤنث ليست أمرا هينا:

″ حاولت أن أتقمص ثوب الأنثى، أن انطق بلسانها، كنت أحاول ″﴿ص109﴾

لم يكن المؤنث بسيطا، ولا البحث عن خلجات المؤنث أيضا، وأن فكرة محاكاة تفكير المرأة كان سببه ″أمران اثنان: اكتشاف دواخل المرأة المؤنث.. والاستمتاع ببراعة الوصف والكشف″﴿114ص﴾.

لكن ما معنى زمن المؤنث؟هل هو خيار في التصنيف موجّه في نطاق الحيّز المعرفيّ الجنسيّ؟ هل هو ردّ ضمني للنظرة المسطحة للأنوثة أُ ُسس على مفهوم التناظر والمقابلة مع كلّ ما هو مذكر وقد تجذّرت في أشكال من الوعي الجمعيّ على مرّ القرون؟

لقد اتخذ الكاتب منزلة الأنثى في المجتمع العربيّ مرقاة لتفكيك سمات هذا الزمن، فلا يخفى على المتأمل معرفة أبرز هذه السمات، فهو زمن ابتعد كثيرا عن معين الصفاء الأول : الأنثى: رحم الوجود والولادة والخلق والكينونة، لكنّ المهمّ عنده هو الإيمان بذلك، في كلّ الأزمنة لا في هذا الزمن فحسب. فهو زمن يؤنث ليوجــِد الإنسان السويّ.

فعلاميّة العنوان تنهض على مصادرة أنّ البطولة في الحياة الحقيقيّة هي للمؤنث وإن خفي ذلك، وأنّ البطولة السرديّة هي أيضا للنساء، فكتب لنا بصوت المرأة المسموع، حكايات آتية من صوت المؤلف البعيد المليء باليقين، ولهذا السبب لا يستطيع إلاّ أن يهبنا هذا الاطمئنان مادام في زمن الأنوثة، فهو وإن كان يحاور هذه الأصوات المتردّد صداها في ذاكرته عن صوى أو صور فإنّه  يعلن بكلّ قوّة عن قصور اللغة أيضا عن الإحاطة بالآثار الباقية فيه من أثر المؤنث.

III. في سيمياء السرد:

تأخر بوح الكاتب، حسب ترتيب النصوص في البناء والظهور،  بأنّ هذه المجموعة″هدية المؤنث الذي سكن قلبي″﴿ص106﴾، وهو اعتراف مباشر بأنّ أيّ محاولة يسلكها لفهم ماسكن فيه من المؤنث محاولة قاصرة، فهاهي الآن تتزاحم على أبطال قصصه الرواة المؤنثة:″الكل يريد  آن يكون راويها″﴿ص161﴾. ومهما حاول أن ينوب عنهن جميعا يظل صوته غير قادر على بلوغ المدى المؤنث، ولعل في انغلاق المجموعة بقصة ″السر″ إيحاء بأن صوته وان كرره، أو فتح به أفاقا في العقول ليوصله للبعيد قبل القريب،فانه سيكتم فيضه ″أخبرك قراري بكتمان أسراري″﴿ص 184﴾

كلّما حضر المؤنث ترتفع الأنا وتفرح فيمتد مدى السرد إلى صفحات وتتكثف اللغة وتتجمّل: ″اعذرني أيها القارئ فهذه الأحداث يستجلب بعضها بعضا وتستدعيه ″﴿م ن، ص60﴾. ويتقلـّص مداه وينحسر إلى الإجمال والإغماض والصمت كلّما تألمت المرأة حوله أو أمامه، فيكتفي بالإصغاء إليها، تلك التي يتجوّل معها في الزمن، ويسمح لصوتها هي أن يعلو في السرد، ويخفت ما دونه″ ولنا عودة إلى هذا الصبي نستمع إليه بعدما يشبّ ويشيب″﴿ م ن،ص48﴾.

أكان الطواف حولها أم حول وجودها وخطابها وأدوارها″ كانت الزوجة والأم والطالبة والمعلمة…كانت أمّا لبناتها″﴿ م ن،ص59﴾ هذه الأصوات المتعدّدة مضمرة في ذاكرة كاتبها ولم يُسمع للقارئ صدى صوتَها ليس لكي يكشف هذا التعدّد بل ليقدّم للقارئ وجه المؤنث الحقيقيّ الذي يطوف بنا، فهاهو يقول على لسان أحد بطلاته ″كنت أتأمل في حاضري وماضي ومستقبلي″﴿ م ن،ص69﴾

 ﴿خطاطة رقم 1

 

 

لقد كان الكاتب يتحرّك سرديّا لغاية واحدة: رسم صور متعدّدة من ذات الكاتب المنفرد.

لذلك كان يـُنشىء نصوصا تتعطّف فيها الكتابة على الذات ″المؤنثة″، باعتبارها ذات أوساع كيان بلا حدّ، فيـُحيي وجوها نسائية من ذاكرته كي لا تتعطّب أوساع كيانه هو. وكنتيجة حتمية لذلك، كانت مقامات الوصف والسرد في أغلب نصوص المجموعة حافلة بعلامات الإعجاب بهذه الذوات والتي نرى بأنها تروم أن تغري القارئ بها وتأسره.

هذه الشخوص والوجوه المؤنثة المرصودة عبر مرآة الحكي { المطلقة، الأجنبية، الأمازيغية، الرسّامة، المعلمة، الفقيهة، المتأمّلة، المتصوّفة، قارئة القرآن….} هي أيضا علامات موزّعة بين الوجدان الفرديّ للكاتب والنماذج المعرفيّة الجمْعية.

فالمرأة هي الاسم الجمع الذي خـُلق ليقتسم جميع أدوار الكينونة: { دور الأم، والأخت، والبنت…}. ومثلما يكون الرجل طريق المرأة للمعرفة، فإنّ الوجوه التي عرضها لنا الكاتب قد مثـّلت عنده السبيل إلى الكينونة والوجود والجمال، وليس أدلّ على ذلك من فقده الدائم لها. فهو لا يخفي دعوته ″ المجتمع إلى الاتصاف بالأنوثة والمروءة ″﴿ن م، ص101﴾

﴿خطاطة رقم 2

 

بين حكاية الأنا وفلسفتها التأملية في الكون المؤنث حولها، وبين حكاية القصّ تتملى الذات الكاتبة، فهاهي الملافيظ /الملفوظات العتباتيّة في مقدّمات الأقاصيص محملة بالإحالات التي تخوّل لنا التعرّف على منزلة الأنا المتلفظة وهي بصدد التأمّل في صدى الأصوات التي تتزاحم داخلها، هذه الأنا التي نابت كثيرا عن الـ ″هنّ″  أو الـ ″هي″ المؤنّث، بالألف واللاّم الاستغراق، لكنّ ما يربط هذه الـ ″هي″ بالأنا هي تلك العلاقة الانفعالية القائمة على جدليّة الإعجاب والعرفان.

يسترجع الكاتب صورا ومشاهد من حياته بين الطفولة والشباب والكهولة عن طريق الحكي بلسان المؤنث والحوار الباطني من النمط الذاتي بصوت مسموع، فهو يشدّنا إلى هذه الذات قبل أن  يحوّلها إلى موضوع تخييليّ فنيّ. ومن هذا المستوى يكون للحكي وظيفة نفسيّة قائمة على الاعتراف بالفضل والقيمة، لترتبط هذه الأنا بالـ″هي″ في علاقة انفعالية قائمة على المحبة والإعجاب، ومعجم الاحتفاء يمتد من عتبة العنوان إلى عتبات القصص، بل يصل  إلى أقوال تتراوح بين الشعريّ والحكميّ،  فنسمع صوت ″نزار قباني″ يصدح بهدوء ثابت للأنوثة، و نرهف السمع لصوت كلّ من محمود درويش ومظفر النواب وغازي القصبي وفاروق جويدة وايليا أبو ماضي وفيكتور هيقو، وهي عتبات تفسح المجال أيضا لصوت المرأة الشاعرة والروائية فيذكر أحلام مستغانمي وغادة السمان ودوروثي روي، تنويع يكثــّـف من الوظيفة التخييلية للقراءة في اتجاه واحد أوحد : مدح المؤنث

l’éloge de féminin ، ثم إنّ هذه الأقوال تصنع رابطة تحيل على الآتي من النص القصصي وتمهد له، فتستدرج القارئ إلى داخل النص في حركة استبطان لهوية الكاتب وفلسفته.

لكن هل كان الكاتب/ الأنا في حاجة إلى تبنّي وجهات نظر مختلفة آتية من أصوات أخرى تحتفي على طريقتها بحضور المؤنث، أم أنّ الأمر كان ضروريا لاكتشاف هذه المناطق المجهولة والغامضة في الأنا وطريقة تصورها للوجود برمته؟ ﴿ انظر الخطاطة رقم2 ﴾.

ربّما هو نوع من الانفلات من حصار الفردانية  نحو التعدّد بفضل كلّ ما تتيحه مكوّنات السرد لبناء نظرة جديدة ورسم جديد واحتفالية جديدة لعالم المؤنث في زمننا.

الخاتمة:

إن المرأة لا يجب أن تلجأ إلى القلم من أجل أن تسرد ما يحصل، فهذا أمر لا يغني ولا يسمن. فالنضال الأدبي- القلمي يجب أن يربط بين قضايا المرأة وقضايا الرجل بحركة الصيرورة التاريخية، وتفاعل الإنسان مع حقائق الواقع المعاش، وتبدلها في الزمان، والمكان، وإلا فلا معنى لهذا النضال، ولا دور يحسب له.

لقد كانت عين الكاتب ترصد الجمال في تفاصيل إقامة المرأة على الأرض فبحضورها يكون للكون معنى وللإقامة فيه معان، حيث يتنسّم القارئ رائحة التأنيث عبر هويّات متعدّدة صوتا خفيّا حين يروي عنها  الراوي، وصوتا ظاهرا حين تتولّى دفة السرد بمفردها.

فأول مدركاتنا للعالم الخارجي لا يكون مباشرة إنما يكون دائما عبر الأنثى، وكل ما هو مؤنث فنحن لا نوجد خارج  المؤنث نظن أنها تطوف بنا والحال انه نحن من  يجب أن نطوف بها لنستمد كلّ مشتقات المؤنث.

لذلك نلمس هذا الاحتفاء، وإعادة نظر في جوهر وجود المرأة في حياتنا، واستبدال صورتها في تاريخ السرديات بصورة أخرى هي الأصل  قبل كلّ الصور/النسخ.فالمؤنث مقولة تحتمل مقولات أخرى وتستدعيها مباشرة: فكلّ ماهو مؤنّث جميل، هادئ، قويّ، مشرق، ناعم، حكيم

إنّ ما نحتفظ به من سمات هذه المجموعة هو:

  • تعزيز لرغبة الذات الأنثوية المضمرة كقوة فاعلة، ومتحكمة في السرد، لإبدال موقعها من خانة المفعول به إلى صدارة الفاعل، للبرهنة على وجود يوازي من حيث الرؤية والفعل ما نراه داخل القصص.
  • رؤية تتحقق وتتولد من خلال تقطير وتكثيف لغوى لحدث ما، وبنية نصية وامضة ومقتصدة إلى حد كبير يعتمد فيها الكاتب على عالم المرأة الخاص، وتجربتها الأنثوية حيال نفسها، وحيال الآخرين، خاصة علاقتها الأزلية بالآخر (الرجل: الأب، الزوج، الأخ، الابن)
  • هي تعبر في خصوصية هذا الإبداع عن عالم مؤّول، ورامز، يحمل في طياته حضور المرأة، وتناغم مشاعرها ورؤيتها الأنثوية المتجددة لواقع الحياة ومسيرتها .
  • نجد أن القصة القصيرة جدا تنحو في بعض الأحيان نحو الشعرية في سياقها العام ولغتها المكونة لها وعناصرها المؤسسة لنسيجها الخاص
  • المؤنث باعتباره صنو الحرية التي تريد التموقع في وجودنا، وتجعل الكائن متحدا في الممكن المدهش الجميل،……
  • وتوهج الذات باللحظة الومضة التي يفيض منها المؤنث باعتباره وحيا، وإلهاما فيكون الإبداع
  • المؤنث باعتباره رمزا لإرادة الروح الإنسانية في التطهر، والوضاءة، والبراءة، والعبور، ورغبة النفس في الخلق، والخرق، والتجاوز،
  • قراءة جديدة للزمن الذي يحيا فيه الإنسان اليوم باعتبار ″المؤنّث″ حلما يـــُستشرف به الغامض، ويجسده زمكانيا، فالكاتب من خلال هذه المجموعة يخرجنا من المناخات القديمة، ويعيد بناء المؤنث لأنها الأقرب لمناخات إنسان اليوم، والأقرب لروح هذا الزمن، هذا الإنسان ″الذي مازال لم يتعافى من أشياء لم يخبر بها أحدا″ ﴿ص 39﴾ وقد لا يفعل.

المصادر والمراجع:

  • فلوح مجيد: ″زمن المؤنث: رحلة واحدة وان تعددت المحطات، مفاد: مركز فاطمة الفهرية للأبحاث والدراسات، تقديم عبد العظيم صغيري، سلسلة قصص وروايات،

ط 1،2022

  • الجلاصي زهرة: ″النص المؤنث″، سلسلة عناصر ،دار سيراس للنشر، ط 1،2000

[1] ˗    زهرة الجلاصي ، النص المؤنث، سلسلة عناصر، دار سيراس للنشر، ط1،2000

 

    [2] ˗ نجد في المجموعة شخصيات أخرى كثيرة تحمل سمات نادرة فطرية قوية شبه مكتملة ، كشخصية المعلمة ﴿ص 58  ،كذلك قصة ″يا منة″، وقصة ″كريمبوش ″وقصة ″الموت الرحيم″

***منار الإسلام
أضافة تعليق
آخر مقالات