محمد شعبان صوان
* خلاصة البحث
تبين المعارك الحاسمة التي خاضتها مدينة غزة أو التي جرت على أرضها، كما تظهر اللحظات الفارقة في حياتها أن هذه المدينة لم يكن لها شأن في التاريخ إلا بصفتها جزءً من محيطها الأوسع وبتضامن أخوتها إلى جانبها،
وإذا كانت هذه الحقيقة بارزة في تاريخ المدينة الإسلامي بصورة خاصة، فإن تاريخ التجزئة يبرزها بصورة أكثر إلحاحاً إذ لم تكن المدينة لتصنع بطولاتها الحديثة إلا وهي مستندة إلى ظهر عربي أو مسلم، قد يعجزه منطق التجزئة والبعد والانفصال عن التضامن الكامل، أو قد يكون له من البرامج ما هو أكثر تواضعاً من الأحلام الكبرى للعرب والمسلمين، ولكن إذا كانت هذه هي نتيجة الدعم الجزئي لمدينة واحدة في مواجهة عدو ضخم يدعي أنه لا يُقهر ويسنده عالم الغرب برمته، فما هي إمكانات الوحدة والاندماج؟
* ميلاد المدينة
غزة مدينة قديمة، وتعد بين أقدم مدن العالم، ولن أدخل في الخلافات الناشئة على تاريخ تأسيسها وهوية بُناتها، لأن الهدف من الدراسة ليس التأريخ للمدينة بل الاعتبار من لحظاتها الحاسمة، ولكن لا بأس من الإشارة إلى أنها نشأت في موقعها الحالي في حوالي القرن السابع عشر قبل الميلاد،[1] وتذهب تقديرات أخرى إلى وجودها قبل ذلك.
* أهمية الموقع الجغرافي
تقع غزة على أبرز الطرق التجارية في العالم القديم، وهو الطريق البادئ من جنوب الجزيرة العربية حيث تجتمع تجارة اليمن والهند وتسير نحو مكة والمدينة والبتراء ثم تتفرع نحو غزة، ودمشق وتدمر، وانطلق منها أيضاً طريق الفرما نحو مصر وطريق الشرق نحو العراق، كما كان للمدينة أهمية عسكرية لأنها تصل بين مصر والشام، فإذا أراد ملوك مصر غزو الشام تطلعوا أولاً إلى فتحها، وإذا أراد ملوك آشور أو بابل غزو مصر من الشمال حشدوا قواتهم فيها قبل الغزو، كما كانت ساحة لحسم الصراع بين الهلينستيين: البطالمة في مصر والسلوقيين في سوريا، فكان الاستيلاء على غزة ’’يعني السيطرة على طرق الحرب والتجارة بين آسيا وإفريقيا’’.[2]
* قاعدة مبكرة للحكم المصري
وقد تعاقب على المدينة أنواع مختلفة من السلالات البشرية في فجر ميلادها، كإنسان البحر المتوسط بالإضافة إلى القبائل السامية وأشهرها الكنعانيون، وهناك مجموعات مختلطة كالهكسوس، وقد أدرك حكام مصر مبكراً الأهمية الاستراتيجية لبلاد الشام عموماً وفلسطين خاصة، وفي كتاب ’’خرافات يهودية’’ يتتبع الأستاذ أحمد الشقيري أول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية، تاريخ الصلات المصرية الشامية وامتداد السيادة المصرية على فلسطين منذ القرن العشرين قبل الميلاد،[3] ولما كانت غزة هي موضوعنا، فإنها برزت حينما التفت الحكام في مصر إلى أهمية الشام في الدفاع عن أراضيها حتى لا تتكرر اعتداءات الهكسوس[4] فقاموا في عهد الدولة الحديثة ببناء امبراطوريتها التي ضمت سورية إليها على يد الملك تحتمس الثالث، أول بناة الامبراطوريات في التاريخ، من الأسرة الثامنة عشرة بعد القضاء على حكم الهكسوس والانتصار على ملوك كنعان في معركة مجدو (1479 ق. م)، ويمتد الحكم المصري في هذه البلاد من القرن السادس عشر إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد وهو زمن الأسرتين الثامنة عشرة والتاسعة عشرة في العصر البرونزي الأخير،[5] وفي هذه القرون الأربعة ’’كان تاريخ فلسطين ينبئ بأنها ولاية مصرية... وكانت غزة هي المركز الرئيس للإدارة’’،[6] ولم يضعف الحكم المصري في فلسطين في هذه الفترة إلا مدة لا تزيد عن خمسين عاماً[7] منذ انشغال الملك أخناتون (1375- 1358 ق. م) بثورته الدينية التوحيدية التي زادت أثناءها التهديدات الحثية التي دفعت حكام المدن الكنعانية إلى إرسال رسائل الاستغاثة إلى الفرعون لطلب النجدة كما تدل على ذلك مئات الرسائل الخزفية التي عثر عليها سنة 1887 في العاصمة المصرية القديمة (أخيت-آتون) في تل العمارنة حاليا شمال أسيوط وجنوب القاهرة،[8] وقد اتخذت الدولة المصرية في أثناء قرون سيطرتها على فلسطين من مدينة غزة قاعدتها الإدارية والتجارية والعسكرية في أرض كنعان ووُصفت المدينة بأنها ’’العاصمة المصرية في أرض الكنعانيين’’ وشهدت ازدهاراً واهتماماً من جانب الملوك الفراعنة.[9]
ولما انتهت الحروب بين الامبراطوريتين المصرية في الجنوب والحثية في الشمال في زمن رعمسيس الثاني (1301- 1224 ق. م) اتضح من معاهدات الصلح أن مصر عدت’’فلسطين بأسرها وديار الشام كلها أرضاً مصرية، وجزءً لا يتجزأ من الدولة المصرية، أو بالتعبير الحاضر، محافظة مصرية... ويقول المؤرخ الفلسطيني الكبير الأستاذ مصطفى الدباغ في كتابه الرائع بلادنا فلسطين: وكانت اللغة المصرية القديمة منتشرة في جميع المدن الفلسطينية المشهورة وبخاصة في بيسان كما كانت اللغة الكنعانية منتشرة في كثير من مدن مصر الشمالية’’.[10]
* هجرة شعوب البحر
ابتداء من نهاية القرن الثالث عشر قبل الميلاد، شهدت منطقة بحر إيجة (غرب الأناضول واليونان وجزيرة كريت) اضطرابات سكانية نتجت عن عمليات غزو قامت بها الشعوب اليونانية التي كانت بدائية لهذه المنطقة، وقد عبرت عن هذه الاضطرابات الملاحم اليونانية التي روت قصص حروب طروادة (الإلياذة والأوديسة)، ودفعت هذه الاضطرابات أهالي تلك البلاد إلى الهجرة والبحث عن مواطن جديدة،[11] وأدى اختلاط من بقي منهم في وطنه باليونانيين إلى رفع المستوى الحضاري اليوناني الذي كان غارقاً في الهمجية فنتج عن اختلاط هؤلاء الوافدين اليونانيين بالإيجيين الأصليين وعن مؤثرات شرقية أخرى الحضارة الإغريقية فيما بعد،[12] واتجهت شعوب إيجية بأكملها نحو قبرص وسواحل الشام ومصر ودمرت الامبراطورية الحثية في طريقها، وذلك بالإضافة إلى هجرة القبائل الليبية في نفس الفترة من سواحل وجزر جنوب أوروبا إلى سواحل ليبيا في موجات متتابعة تحالفت مع شعوب البحر (1221 ق. م)[13] واستهدفت مصر ابتداء، من الشرق والغرب،[14] ومن البر والبحر، وبدأت هذه الهجمات في عهد الملك رعمسيس الثاني (1304- 1237 ق. م) ثم الملك مرنبتاح (1236-1223ق. م) الذي صد هذه الموجة سنة 1225 ق. م، ثم الملك رمسيس الثالث (1198- 1166 ق. م) الذي تمكن من صد غزو شعوب البحر بمعركة برية وبحرية جرت حوالي سنة 1191 ق. م، وسجل انتصاره فيها بنقوش مازالت ماثلة على جدران معبد آمون في مدينة هابو، وهي أول معركة بحرية مصورة في التاريخ وفقاً للمؤرخ الكبير سليم حسن،[15] وتصور النقوش التي امتدت على آلاف من الأقدام المربعة المنحوتة على الحجر[16] الجنود من شعب ’’بلست’’ وغيره وقد ارتدوا الدروع وحملوا التروس الصغيرة المستديرة والسيوف العريضة والثقيلة وارتدوا فوق رءوسهم قلنسوات مزينة بالريش تشبه تلك التي رأيناها على الهنود الحمر فيما بعد،[17] كما تصور النقوش عرباتهم البرية ذات العجلات المدورة التي تجرها الثيران وسفنهم البحرية ورءوس الطير التي تتقدمها، ومسار المعارك والهزيمة والأسر، ورغم هزيمتهم أمام الملك رعمسيس الثالث فقد سمح لهم بعد انتصاره عليهم بالاستقرار على الساحل الشامي الذي يلي مصر مباشرة، وكان أبرز هذه الشعوب الفلسطينيون، أو ’’بلست’’ كما مر، والذين منحوا اسمهم للسهل الساحلي في البداية فأصبح يعرف بفلسطيا أو سهل فلسطيا ثم صار اسمهم علماً على البلد كله المعروف اليوم، واستوطنوا جنوب جبل الكرمل الذي كان الحد الفاصل بين بلادهم وبلاد الفينيقيين شمالاً،[18] وتوزع استيطانهم في خمس مدن رئيسة هي غزة وعسقلان وأسدود وجت (مازال موقعها موضع نقاش) وعقرون (تل المقنع)، هذا بالإضافة إلى مدن أخرى كرفح ويبنا ومدينتي اللد وصقلغ (شمال بئر السبع) اللتين استحدثوهما ولم يكن لهما وجود من قبل.
كان الفلسطينيون القدماء أصحاب قوة مرهوبة الجانب بسبب استعمالهم الأدوات الحديدية التي كانوا يتقنون صناعتها قبل أن تكون معروفة في المنطقة، إذ لم يكن استعمال الحديد شائعاً في سورية قبل قدومهم وكان معروفاً في مصر منذ سنة 1300 ق. م فقط،[19] ’’فعظمت صولتهم وقويت شوكتهم’’[20] وكانوا السبب في نقل هذه البلاد من العصر البرونزي إلى العصر الحديدي ’’وكان ذلك أهم فضل لهم’’،[21] وكان جيرانهم يأتون إلى بلادهم لتصنيع الأدوات الحديدية المختلفة، وبهذا ’’بدأ عصر الثراء الحضاري والتكنولوجي لمدينة غزة وما حولها’’.[22] وبنى الفلسطينيون سوراً ضخماً حولها لحمايتها، وفي نفس هذه الفترة ظهر بنو إسرائيل على مسرح الأحداث في أرض كنعان، وكانت غزة وبقية المدن الفلسطينية عائقاً كبيراً في وجه التمدد الإسرائيلي بسبب القوة الرهيبة التي تمتع بها أهلها كما تصف ذلك أسفار التوراة التي هيمنت على الأفكار والتصورات الغربية تجاه بلادنا، ولم يتمكن القائد الإسرائيلي يشوع الذي عبر بقومه نهر الأردن وأسقط كثيراً من المدن الكنعانية من التحرش ببلاد الفلسطينيين طيلة حياته، وعلى الرغم من اتساع فتوحاته في بلاد الكنعانيين فقد ’’بقيت أرض كثيرة جداً للامتلاك، هذه هي الأرض الباقية، كل دائرة الفلسطينيين’’ سفر يشوع 13/ 2.
وحدثت جولات عديدة بعد ذلك بين الفريقين كانت الغلبة في معظمها للفلسطينيين، وحتى في فترة الازدهار الإسرائيلي الخاطف التي تصورها التوراة لزمن داود وسليمان، لم تتمكن الدولة الإسرائيلية من ضم غزة ومدن الفلسطينيين الأخرى التي ظلت مستعصية عليها، وتتراوح آراء المؤرخين بين القول بأن المملكة الإسرائيلية لم تلامس البحر قط والقول بأنها لامسته ولكنها لم تقدر على ضم غزة والمنطقة المحيطة بها والتي ظلت شوكة في عنق اليهود حتى في أعلى مراحل ازدهار مملكتهم الموحدة، كما ستصبح فيما بعد في عهد الغزوة الصهيونية المعاصرة، ثم لم تلبث أن انقضت على هذه المملكة بعد وفاة سليمان وانقسام مملكته إلى دولتين متناحرتين ليقتطع الفلسطينيون من أراضيها ويساهمون في تقويضها.
هذا العناد الفلسطيني الذي واجهه بنو إسرائيل من غزة ومحيطها أشعل الحقد والغيظ في قلوبهم تجاهها، ولما لم يقدروا على إخضاعها في الواقع، نالوا منها في خيالهم، فرووا أساطير كأسطورة شمشون التي تحكي قصة بطل من أبطالهم يتمكن من قتل ألف فلسطيني بفك حمار، ويهدم معبد غزة على من فيه بذراعيه ’’فكان الذين أماتهم في موته أكثر من الذين أماتهم في حياته’’ سفر القضاة 16/ 30.
كما كثر ذكر الفلسطينيين وبلادهم في التوراة حتى زاد عن أربعمائة مرة،[23] وكرست التوراة كثيراً من النبوءات والأدعية للنيل من غزة وأهلها ومحيطها: ’’غزة تكون متروكة، وأشقلون (عسقلان) للخراب، أشدود عند الظهيرة (أي سريعاً) يطردونها، وعقرون تُستأصل، ويل لسكان ساحل البحر أمة الكريتيين، كلمة الرب عليكم، يا كنعان أرض الفلسطينيين إني أخربك بلا ساكن، ويكون ساحل البحر مرعى بآبار للرعاة وحظائر للغنم، ويكون الساحل لبقية بيت يهوذا عليه يرعون’’ صفنيا 2/ 4-7.
’’فأرسل ناراً على سور غزة فتأكل قصورها وأقطع الساكن من أشدود..’’ عاموس 1/ 7، ’’الملك يبيد من غزة وأشقلون لا تُسكن ويسكن في أشدود زنيم وأقطع كبرياء الفلسطينيين وأنزع دماءه من فمه ورجسه من بين أسنانه... ’’ زكريا 9/ 6، ’’هكذا قال السيد الرب: هأنذا أمد يدي على الفلسطينيين وأستأصل الكريتيين وأهلك بقية ساحل البحر وأجري عليهم نقمات عظيمة بتأديب سخط فيعلمون أني أنا الرب إذ أجعل نقمتي عليهم’’ حزقيال 25/ 16.
وهذه الأدعية والنبوءات هي جزء مما نال كل أعداء بني إسرائيل وقد تجاوزتها المسيحية التقليدية بالتفسيرات المجازية للتوراة وجعلت من كل من ذُكر فيها بالشر رمزاً لمملكة إبليس العدو الحقيقي للإنسان، ومن دمار هذه الأمم دماراً لمملكة الشر وليس لشعوب معينة.
ونتيجة هذه الأساطير والأدعية والنبوءات والتاريخ المليء بالمواجهات بين شعب الله المختار وأعداء الله الفلسطينيين، أصبحت كلمة فلسطيني Philistine تحمل مدلولاً سلبياً مثل كلمة البربري، وقد انتقل هذا الانطباع إلى اللغات الأوروبية التي تحمل هذه الكلمة فيها معاني الجهل والنزعة المادية وعدم الاهتمام بالفكر والفن، وستوضح الحفريات والاكتشافات الحديثة عدم دقة انطباق هذه الصفات على الفلسطينيين القدماء الذين ’’كانوا شعباً يتعاطى الزراعة والتجارة، وكانوا يملكون ثقافة متقدمة وعريقة... وإنها سخرية عجيبة من سخريات القدر أن كتب على لفظ فلستيني أن تكون مرادفة لكلمة بربري، وقد نشأ هذا الاستخدام اللفظي لأن تاريخ أيامهم وصل إلينا عن طريق الإسرائيليين الذين لم يكن في ضميرهم إنصاف لأعدائهم، وقد استخدم اليهود القدامى إسم ’’فلستيني’’ حتى جعلوه مرادفاً للسكير العربيد، ولكن الحقيقة هي أن الفلستينيين كانوا على درجة كبيرة من الحضارة تفوق حضارة الإسرائيليين’’.[24]
في البداية احتفظ الفلسطينيون باستقلالهم وألفوا طبقة عسكرية أجنبية مكتفية بذاتها نتيجة لقوتهم ووجود أسرهم معهم، ووصلوا ذروة قوتهم في النصف الثاني من القرن الحادي عشر قبل الميلاد (1050 ق. م)، ومن إنجازاتهم الحضارية بالإضافة إلى صناعة الحديد، تحفيز الفينيقيين على ارتياد البحار[25] إذ لم يسجل اهتمام هؤلاء بالبحر قبل ذلك،[26] وهناك من يتحدث عن نقل الكتابة الإيجية إلى أرض كنعان حيث ظهرت الأبجدية لدى الفينيقيين، ولكن هذا ليس مؤكداً[27] ويفضل ترك هذا الاختراع بلا هذا التحديد، ومع ذلك فإن الإنجازات الحضارية للفلسطينيين القدماء بصفتهم ورثة الحضارة المينووية في جزيرة كريت تنفي المعنى السلبي الذي ارتبط باسمهم في اللغات الأوروبية لاسيما أن اليهود هم من وصموهم بالصفات السلبية مع أن الفلسطينيين فاقوهم في التمدن والعمارة ’’فتدل بقايا منازلهم عن فن رفيع في البناء، بينما المنازل اليهودية بدائية صغيرة واطئة السقوف’’،[28] وعندما زار هيرودوتس أبو التاريخ سورية في القرن الخامس قبل الميلاد ’’أي بعدما أدى الأنبياء الكبار رسالتهم فعلاً، كان اسم إسرائيل نفسه غير معروف عند هيرودوتس، وكانت أرض إسرائيل - في الصورة العامة التي رسمها هيرودوتس عن العالم السوري- ماتزال تحجبها أرض الفلسطينيين، وهو يتحدث فيما كتب عن أرض الفلسطينيين، وقد ظل اسمها حتى اليوم فلسطين أو بالستين’’ كما يقول المؤرخ الشهير أرنولد توينبي.[29]
ويقول الأستاذ سليم عرفات المبيض: ’’استطاعت غزة في الفترة الفلسطينية أن تصل إلى ذروة مجدها الاقتصادي والعمراني... حتى أضحى اسمها يعني كل الأرض الفلسطينية كما جاءت في قائمة شيشنق، فكثيراً ما كانت تبدي الولاء والطاعة للمصريين أكثر مما قاومتهم’’،[30] ويتحدث عن مصادر هذا الدخل الذي لم يأت من تجارة المرور والبحر المتوسط بل من التجارة والصناعات الحديدية ومن التعاون مع مصر في تأمين طريقها التجاري والعسكري نحو الشمال ’’فكان حسن الجوار والمعاملة لأننا نرى أن معظم الآثار الفلسطينية جنباً إلى جنب مع الفرعونية في غزة ودير البلح وتل جمة وتل الفارعة ورفح ويافا وجازر ومجدو حتى بيسان كأهم قواعد كنعانية- مصرية- فلسطينية على طريق الساحل وبالقرب منه’’.[31]
وهذا ما يقودنا إلى الصفة التي ميزت الوجود الفلسطيني القديم بعد فترة علوه التي لم تزد على قرنين منذ بداية توطنه (1200- 1000 ق. م)،[32] وهي صفة الاندماج في المحيط، ذلك أن غربة أي كيان عن محيطه تحتاج مدداً مستمراً من الهجرة لتحافظ على هويته، ولما كان هذا الأمر غير وارد في الحالة الفلسطينية،[33] فقد اتجهوا نحو امتصاص المؤثرات المحيطة بهم من مصر وبقية أرض كنعان، وينقل الدكتور أحمد سوسة عن أحد المؤرخين، وهو لودز، قوله إن الفلسطينيين ’’تكنعنوا’’[34] بعد زمن هيمنتهم وتقبلوا التأثيرات الثقافية والحضارية المحيطة في اللغة والدين وحتى الخزف[35] الذي تميزوا به في البداية عن غيرهم، ’’حتى كادوا أن لا يتركوا أثراً يمكن أن يذكرنا بهم’’ كما يقول الدكتور فيليب حتي،[36] وهو ما يكذب التعريف المقبول لكلمة Philistinism بأنها التمسك المغرور بالتقاليد.[37]
استمر عهد الاندماج الفلسطيني بالمحيط أربعمائة سنة (1000- 600 ق. م)، قام أثناءها الملك شيشنق أول فراعنة الأسرة الثانية والعشرين (الليبية) التي حكمت قرنين بعد ذلك، بقيادة حملة أخضعت أكثر من 150 موقعاً في أرض كنعان بعد انقسام مملكة داود وسليمان (922 ق. م) إلى مملكتين متصارعتين هما يهودا التي عمرت 350 عاماً وإسرائيل التي عمرت قرنين، وبعد أن تلقى دعوات بسبب التنافس على العرش في مملكة يهودا، ويلاحظ أن مدينة غزة لم تبد أية مقاومة لهذه الحملة وجاء اسمها على القائمة التي نقشها شيشنق لتسجيل انتصاراته بصفتها أول مدينة استولى عليها للتأكيد على مكانتها الاستراتيجية، ’’فمازالت الأرض الفلسطينية وأبرزها غزة رصيداً فلسطينياً زاخراً وثرياً فهي من المدن الواقعة في الجنوب والقريبة من مصر الفرعونية التي تواءمت مع الفلسطينيين بحسن الجوار وتوطيد العلاقات الاقتصادية بحيث أسند الفلسطينيون ظهورهم جنوباً وهم مطمئنون’’.[38]
* دور عالمي في الزمن الآشوري
ثم تعرضت فلسطين للغزو الآشوري في بداية القرن الثامن قبل الميلاد وأصبحت جزءً من الامبراطورية الآشورية واستبدلت بسلالاتها الحاكمة قادة محليين يدينون بمناصبهم للآشوريين وشهدت المدن الفلسطينية تمدداً عمرانياً ورخاء تجارياً وصناعياً غير مسبوق في ظل السلام الآشوري لمدة سبعين عاماً[39] وأصبحت مدينة عقرون (تل المقنع) أكبر مركز لإنتاج زيت الزيتون في الشرق الأدنى القديم،[40] بل في العالم القديم،[41] وكان الزيت آنذاك مصدر دخل رئيس في الامبراطورية الآشورية،[42] ولهذا كانت المدينة مساهماً رئيساً في اقتصاد الآشوريين،[43] ولكن هذا الازدهار وما صاحبه من دفع ضرائب باهظة أدى إلى ثورات في العالم الآشوري قامت فيها مدينة غزة بدور قيادي وصفه أحد المؤرخين بالعالمي[44] وذلك بمؤازرة مصرية،[45] ثم ما لبث الآشوريون أن انسحبوا بعدها (630 ق. م) لتعود البلاد للحكم المصري الذي ما لبث أن واجه هجوماً من بابل حاول الفلسطينيون الاحتماء منه بفرعون مصر ولكنه أدى هذه المرة إلى اختفاء الوجود الفلسطيني القديم من مسرح الأحداث، وتعزو نظرية حديثة هذا الاختفاء المفاجئ للحضور الفلسطيني إلى اندماجه الثقافي والحضاري في محيطه في عدة مجالات كاللغة والكتابة والدين والتجارة والتقنية، والتأثر الكبير بالثقافات المحيطة في أرض كنعان مما جعل الفلسطينيين يفقدون هويتهم المميزة وكان للهزيمة التي ألحقها بهم الهجوم البابلي في نهاية القرن السابع قبل الميلاد الأثر الحاسم في القضاء على الوجود السياسي الذي فقد التماسك الذي يمكنه من البقاء بعدما فقد جوهره الثقافي المتميز في قرون الاندماج التدريجي والاستعارة الحضارية، أما عن الأفراد فإن الهزيمة أدت إما إلى التشتت أو الرحيل عن مدنهم والاندماج في الكيانات التي تبقت من حولهم بعدما فقدوا الطاقة الثقافية التي تحافظ عليهم وذاب تماسكهم وحيويتهم.[46]
* مدينة بابلية عظيمة
لم يعن اختفاء الشخصية الفلسطينية القديمة زوال المدن والسكان، وقد سقطت الامبراطورية الآشورية على يد الكلدانيين أو البابليين الجدد الذين احتلوا مدينة نينوى سنة 612 ق. م ثم انتصروا على القوات المصرية في معركتي كركميش (605 ق. م) وحماة (604 ق. م) فانتقلت بلاد الشام إلى الحكم البابلي الجديد لمدة 65 عاماً كانت مدينة غزة في أثنائها تسمى المدينة العظيمة أو المدينة الكبيرة نتيجة المكانة التجارية المرموقة التي تحققت لها من موقعها الحدودي الهام على طرف الامبراطورية البابلية.[47]
* ازدهار اقتصادي في الزمن الفارسي
سقطت بابل في سنة 539 ق. م على أيدي الفرس الذين قام امبراطورهم قورش بإعادة اليهود الذين سباهم نبوخذ نصر إلى بابل فيما سبق (586 ق. م)، وقد عارض سكان فلسطين عودة هؤلاء اليهود ولكن لم يقع صدام ملحوظ بين غزة والإمبراطورية الفارسية التي كانت حريصة على ازدهار موانئ البحر المتوسط، ورغم المقاومة الأولية التي أبدتها المدينة ضد الحكم الفارسي، فإنها ائتلفت معه فيما بعد،[48] وشهدت المدينة ازدهاراً اقتصادياً ملحوظاً وسكت نقوداً باسمها فاكتسبت هذه النقود أهمية عالمية لشبهها بالنقود الأثينية المنتشرة في تلك الفترة، وكانت تلك النقود هي الأولى التي تسك في فلسطين، وتمتعت غزة في الفترة الفارسية بحكم ذاتي واسع وحرية دينية كبيرة وأصبحت مدينة عظيمة لما هاجمتها جيوش الإسكندر في القرن الرابع قبل الميلاد كما سيأتي مما دفع أهلها للوقوف إلى جانب الفرس.[49]
* هيرودوتس في بلادنا
وقد زار المؤرخ اليوناني الكبير هيرودوتس الذي لقب بأبي التاريخ بلاد الشرق في القرن الخامس قبل الميلاد، وقد وصف ساحل فلسطين بقوله: ’’الأرض الممتدة من جنوب فينيقيا حتى مدينة غزة يسكنها سوريون يسمون بالفلسطينيين، وجميع الموانئ من غزة إلى مدينة اينوسوس تتبع ملك العرب وتنتمي للسوريين...’’،[50] وهي فقرة دالة على مدى اندماج الهويات في هذه البلاد وعدم وجود الحدود الفاصلة، فالفلسطينيون سوريون وبلاد ملك العرب تنتمي للسوريين.
كما أنه يعزى لهذا المؤرخ تسجيل أن هذا الجزء من سورية يعرف بفلسطين، ثم انتقل الاستعمال إلى اليونانيين الذين أطلقوه على كل أجزاء البلد وانتقل بعدهم إلى الرومان والبيزنطيين وما خلفهم،[51] ويعلق الأستاذ فوكس جاكسون على وصف هيرودوتس لفلسطين وغياب اليهود عن هذا الوصف بقوله: ’’تفسيره بسيط غاية في البساطة. لقد كانت مملكة يهودا مقاطعة غاية في الصغر وكان سكانها من التفاهة في العدد لدرجة أن أذكى وأبصر السواح في القرن الخامس قبل الميلاد (هيرودوتس) كان يزور ما كانت تسمى بفلسطين سورية أو بسورية الفلسطينية وقد لا يسمع عن اليهود شيئاً أبداً’’.[52]
* في مواجهة الإسكندر ثم تحت رعايته
اندفع الإسكندر المقدوني لفتح الساحل الشامي سنة 333 ق. م، ولم يواجه مقاومة حقيقية إلا من مدينة صور التي اضطر لحصارها سبعة أشهر وتمكن منها بعدما وصل جزيرتها بالبر، ثم من مدينة غزة التي خف الأنباط لنجدتها رغم كونها خارج سلطانهم،[53] وكان يحميها كذلك السور الذي بناه الفلسطينيون قبل قرون، فلجأ الإسكندر إلى بناء تل ارتفاعه 80 متراً نصب عليه أسلحته وبدأ قصف المدينة حتى تمكن منها بعدما ضحى بعدد كبير من جنوده وبعدما أصيب هو نفسه في كتفه وركبته مما أثار نقمته على المدينة وجعله ينكل بأهلها قتلاً وبيعاً في سوق الرقيق وبحاميتها العربية والفارسية لاسيما قائدها الفارسي.[54]
ولما استتب الوضع له اهتم بإعادة تعمير المدينة وبناء ما دمرته الحرب، و’’اهتم بها أكثر من اهتمامه قبل فتحها، وبعد أن كان غاضباً من سكانها، عاد فعفا عنهم وعن الذين هربوا من وجهه منهم، وأمر ببناء مساكنهم التي تهدمت أثناء الحرب، وإعادتها إلى سالف عزها’’، وبهذا بدأ الحكم الأوروبي في بلادنا والذي سيمتد ألف عام إلى مجيء الفتح الإسلامي في القرن السابع الميلادي، واستدعى الإسكندر أعداداً كبيرة من اليونانيين للإقامة في المدينة، ومع أن بعض الباحثين رأوا في ذلك استعماراً استيطانياً هدد هوية المدينة العربية،[55] فإن رؤية الإسكندر كانت تختلف عمن أتى بعده من المستعمرين الأوروبيين، ذلك أنه كان مهتماً بتشجيع ’’التمازج والتفاعل الحضاري’’،[56] و’’لم ير الشرقيين أقل درجة من بني قومه اليونان لأنه كان يرغب في إدماج الشرق بالغرب، باتحاد شعوبه في عالم واحد ودولة واحدة تحت سلطانه. وقد شرع في ذلك فملأ البلاد المفتتحة بالتجار اليونانيين، وتزوج زوجة فارسية، وتبعه قواده وعشرة آلاف من أتباعه المكدونيين فتزوجوا زوجات آسيويات، اعتقاداً منهم بأن ذلك من أعظم الوسائل لامتزاج الشرق والغرب. وكانت امبراطوريته تقوم على أساس المساواة بين الناس جميعاً’’.[57]
ولهذا لم تقتصر سكنى غزة على اليونانيين الوافدين، فقد استدعى الإسكندر إليها بالإضافة إلى أهلها الأصليين عدداً من سكان القرى المجاورة، وسعى لمزج كل هذه العناصر بعضها ببعض،[58] و’’ضمن لسكان المناطق الداخلية حقوقهم وأماكن سكناهم إلى حد بعيد فاحتفظوا من ثم على تراثهم وثقافتهم العربية السامية لتبقى ذخراً للساحل الذي أصبح إلى حد كبير يونانياً بلغته وحضارته وكذا نظمه السياسية لألف سنة تقريباً’’.[59]
كانت غزة عندما فتحها الإسكندر ’’أعظم مدينة في سوريا على الإطلاق، وقد وصفها مؤرخو اليونان بالمدينة العظيمة’’، وسبب ذلك الطيب واللبان ووقوعها على طرق التجارة والمواصلات، أي أن أسباب ازدهارها زراعية وتجارية وعسكرية، ولما فتحها الإسكندر وجد فيها كميات هائلة ون الذخائر والمؤن والكنوز العظيمة والمواد غالية الأثمان،[60] وعادت لها أهميتها التجارية لتصل علاقاتها إلى اليونان وإيطاليا، كما أصبحت مركزاً ثقافياً يقصدها الطلاب من أثينا لدراسة الفلسفة،[61] ’’وقصارى القول إن عصر اليونان في غزة كان عصرها الذهبي، وكان الناس يومئذ يسمونها غزة المقدسة وغزة المستقلة وغزة المضيئة وغزة العظيمة، وفي الحقيقة كانت يومئذ أكبر مدن سوريا على الإطلاق’’،[62] ولا شك أن هذا الوضع يختلف جذرياً في أثره على السكان الأصليين عما اقترفه الاستعمار الأوروبي الحديث.
* ساحة لحسم الصراع بين ورثة الإسكندر
بعد وفاة الإسكندر سنة 323 ق. م دخلت امبراطوريته في ثلاث دورات من الحروب: الأولى (323- 301 ق. م) هي صراعات قواده على اقتسام الامبراطورية التي أنشأها، وفي سنة 315 ق. م استولى القائد أنتيجونس صاحب آسيا الصغرى على سوريا، ولكن القائد بطلميوس والي مصر لم يقبل بذلك ودارت بين الطرفين معركة غزة في سنة 312 ق. م التي كان النصر فيها حليف والي مصر، وعلى إثر ذلك استولى على سوريا الجنوبية، وعلى الرغم من محاولة أنتيجونس العودة إلى غزة في السنة نفسها، والصلح الذي عقده مع مصر في السنة التالية (311 ق. م) وحصل بموجبه على المنطقة الساحلية حتى حدود مصر، فقد استمر التوتر بينه وبين بقية قواد الإسكندر لأنه حاول إعادة وحدة الامبراطورية تحت قيادته مما أدى إلى اجتماعهم عليه وهزيمته في سنة 302 ق. م وتقسيم امبراطورية الإسكندر، وقد جرت معارك عديدة في هذه الفترة التي تلت وفاة الإسكندر بين الأطراف المتنافسة والتي عبرت جيوشها فلسطين سبع مرات بين وفاته وهزيمة أنتيجونس، ثم تجدد الصراع في الدورة الثانية (301- 277 ق. م) من الحروب -بعد هزيمة أنتيجونس وتقسيم الامبراطورية عملياً- إلى سنة 277 ق. م بين قادة الإسكندر والجيل الثاني الذي خلفهم،[63] ثم أصبحت بعد ذلك منطقة سوريا الجنوبية التي آلت إلى بطلميوس والي مصر وصارت جزءً من الدولة البطلمية محلاً للصراع مجدداً في دورة ثالثة (276- 168 ق. م) بينها وبين جارتها الدولة السلوقية في سوريا، الأمر الذي نتج عنه قيام ست حروب عنيفة بين الجانبين عرفت بالحروب السورية، وتمكن السلوقيون في الحرب الرابعة منها من الوصول إلى جبل الكرمل ولكن البطالمة هزموهم في معركة رفح قرب غزة سنة 217 ق. م، وقد استخدم السلوقيون فيها فيلة هندية واستخدم البطالمة فيلة إفريقية، ومع أن الفيلة البطلمية الإفريقية تراجعت أمام الفيلة السلوقية الهندية،[64] فقد مالت كفة المعركة لصالح الجانب البطلمي بسبب الأداء الفعال لسلاح المشاة فيه والمكون من الفلاحين المصريين،[65] ونتج عن هذه المعركة بقاء سوريا الجنوبية في حوزة الدولة البطلمية المصرية حتى سنة 198 ق. م عندما انتصر السلوقيون عليها في معركة بانياس.
* مصدر إزعاج للمكابيين
انقسم اليهود في فلسطين في ظل الحكم اليوناني إلى حزبين: أحدهما تبنى الحضارة اليونانية وعاش وفق الأسلوب اليوناني وأهمل التقاليد الدينية اليهودية، والثاني تمسك بهذه التقاليد وانتهز فرصة ضعف الدولة السلوقية ليقوم بثورة بداية من سنة 167ق. م وتمكن في النهاية من الحصول على درجات متفاوتة من الاستقلال.
لم تدخل غزة في البداية تحت حكم هؤلاء المكابيين، ولما توجه إليها يوناثان، ثاني حكامهم، أغلقت الأبواب في وجهه، ’’فحاصرها وأحرق ضواحيها بالنار ونهبها’’ (سفر المكابيين/11)، فطلب أهلها الأمان وعقدوا معه اتفاقاً، ولكن الوئام لم يستمر لأن خليفة يوناثان توجه لحصار المدينة مرة أخرى وهدم أصنامها ولكنها لم تخضع مع ذلك وعادت إلى الثورة في زمن اسكندر جانيوس الذي قام هذه المرة بتدميرها سنة 96 ق. م.[66]
* مركز الوثنية
في القرن الأول قبل الميلاد دخلت غزة في حكم الرومان الذين أعادوا بناء ما دمره المكابيون وقضوا على الدولة اليهودية ودمروا مدينة القدس (135م) وحولوها إلى مدينة وثنية، إلا أن ذلك لم يكن سبب شتات اليهود كما يدعون لأنه منذ ما قبل دمار الهيكل سنة 70 م كان عددهم خارج فلسطين أكبر من عددهم داخلها، وهو أمر مجمع عليه.[67]
وفي ظل السيادة الرومانية تمتعت المنطقة بفترة من السلام بعيداً عن الصراعات الدولية التي أنهكتها، وأصبحت غزة في هذا العصر من مدن الشرق الرئيسة وشعرت بالأمان وزاد عمرانها واستعادت صلاتها السابقة وازدهارها التجاري مع ضم بلاد العرب إلى الامبراطورية وإعلانها ولاية،[68] وأطلق على غزة في هذا العصر المدينة الشريفة والمدينة الجميلة والمدينة الغنية،[69] ونزل بها الامبراطور هدريان سنة 130 م وأحدث فيها الألعاب الهدريانية وهي مباريات في البلاغة والمصارعة وغير ذلك،[70] إلا أن انتشار المسيحية أوجد صراعاً عقائدياً وثقافياً بين الديانة الجديدة والديانات الوثنية المتوارثة، وفي غمرة هذا الصراع، أصبحت مدينة قيسارية مركز الديانة المسيحية، ومدينة طبرية مركزاً لليهودية، ومدينة غزة مركزاً للوثنية، فقد تمسك أهلها بآلهتهم التي يعود بعضها إلى أقدم العصور، وقاوموا المبشرين بالمسيحية مقاومة عنيفة، كما لم يستجيبوا للقوانين التي أصدرها الأباطرة الرومان الذين تبنوا المسيحية رسمياً (ابتداءً من قسطنطين سنة 324 م) للحد من الممارسات الوثنية في المدينة، ولما أصدرت الامبراطورة أفدوكسيا أمرها بتدمير جميع المعابد الوثنية في غزة في بداية القرن الخامس الميلادي حاول الغزيون منع ذلك بالقوة لكنهم لم يتمكنوا من ذلك وبدأت المسيحية بالانتشار في المدينة منذ ذلك الوقت.[71]
* إنجازات غزة البيزنطية
انقسمت الامبراطورية الرومانية في سنة 395 م وأصبحت غزة ومحيطها من نصيب الامبراطورية الرومانية الشرقية التي عرفت بالإمبراطورية البيزنطية التي كانت عاصمتها القسطنطينية، وبصفتها جزءً من هذه الدولة المسيحية عرفت غزة كثيراً من الإنجازات رغم بقائها أكبر مركز للوثنية في فلسطين حتى أواخر القرن الرابع الميلادي.[72]
في البداية كان هيلاريون الغزي (291- 371م) هو أول الرهبان في فلسطين، وقد تلقى العلم في الإسكندرية ثم عاد ليعتكف في برية غزة فوفد إليه الكثيرون ليقتدوا به واكتظ جواره بالأديرة التي انتشرت في أنحاء فلسطين أيضاً.[73]
أصبحت غزة أيضاً في مقدمة مراكز التعليم وكانت تحتوي واحدة من المدارس الست الرئيسة في الامبراطورية البيزنطية،[74] وتقف في صف واحد إلى جانب أثينا والقسطنطينية وبيروت وأنطاكية والإسكندرية،[75] ورغم كون غزة بنتاً للاسكندرية، فقد تفوقت بعد سنة 500م على أمها،[76] و’’كانت تمثل أرفع ما وصلت إليه المعرفة الكلاسيكية والمسيحية في المشرق في القرن السادس بشكل خاص’’،[77] وفي تلك الحقبة عم أثر غزة الثقافي محيطها وتجاوز حدود فلسطين.[78]
وقد امتاز ميناء غزة عن بقية موانئ الساحل الفلسطيني بجواره العربي الذي تنتهي قوافله في المدينة فتصل بدورها مراكز التجارة في شمال الجزيرة العربية بالبحر المتوسط الذي يحمل إليها أيضاً سفن الأسطول الإمبراطوري الذي كان مركزه في سلوقية في الشمال السوري.[79]
وفي مجال التأثيرات الحضارية ’’وبسبب ارتباط فلسطين بمختلف الجهات والأقطار القريبة منها أو البعيدة عنها قليلاً’’، لم يعزلها الانتماء للإمبراطورية البيزنطية عن بقية جوارها إذ تأثرت بالتطورات في إيران كما تأثرت بأرض الرافدين وآسيا الصغرى ومصر وشرق المتوسط عموماً وإن كان التأثير المصري والسوري أقوى من غيره، وتأثرت البلاد كذلك بالعناصر اليونانية والمقدونية الوافدة وأصبحت القاعدة الأساس في التطور الفني في فلسطين هي ’’التلاحم بين التقاليد الأساسية المحلية وما يأتي من الخارج، كان هذا أيام الكنعانيين والفلسطينيين، كما حدث، ولو إلى درجة أقل، أيام الآشوريين والكلدانيين والفرس، ولكن التلاحم كان أبعد أثراً في الفترة الهلينستية- الرومانية’’،[80] ولما بنى الامبراطور جستنيان (527- 565 م) كنيسة آيا صوفيا بإدخال طراز هندسي جديد إلى العالم الشرقي وأراد نشر هذا الطراز، كانت كنيسة القديس سرجيوس وكنيسة القديس أسطفان في غزة من أهم الأماكن التي احتوت التخطيط الجديد إلى جانب كنيسة القيامة في القدس وكنيسة المهد في بيت لحم.[81]
’’كانت غزة، في أوائل القرن السادس للميلاد، شأن المدن الكبيرة الفنية في الامبراطورية البيزنطية، مدينة تزهو بما تعج به من تجار وزوار كانوا يتجولون في شوارعها المعمدة وينعمون بحماماتها العامة، ويمتعون النظر بأبنيتها الإدارية الفخمة، ويقلبون الكتب في مكتبتها الغنية، ويستريحون في حدائقها الأنيقة، ويتسلون في مسرحها الجميل ويختتمون يومهم بزيارة المسبق حيث يتسابق أبطال الركض ورفع الأثقال وما إلى ذلك. هذه الأبنية لم تكن جديدة على غزة، ولا على غيرها، حتى قبل عقود من السنين أو قرنين في بعض الحالات، ولكن الذي كان جديداً هو الكنيسة المسيحية’’وفقاً لوصف الدكتور نقولا زيادة في الموسوعة الفلسطينية.[82]
وعن سكان فلسطين في الزمن البيزنطي يقول الدكتور زيادة إنهم كانوا يمثلون مجموع العناصر التي كونت الشعب، ’’وهي عناصر كنعانية آرامية فلسطية عربية كانت تتكلم العربية والآرامية/السريانية وقد تستعمل اليونانية عند الحاجة، أو تلجأ إلى اللاتينية لقضاء شئون الدولة أيام الرومان. وقد انضاف إلى هذه عناصر مقدونية ويونانية ورومانية وغيرها، وكان في البلاد جماعتان صغيرتان نسبياً هما اليهود.. والسامريون’’،[83] وهذا الاندماج الحضاري يقف عائقاً أمام من جرهم المنطق الصهيوني الذي حاول تبرير لحظته الحاضرة باحتكار تاريخ فلسطين، إلى محاولة الرد بنفس الأسلوب وإسقاط اللحظة التي سبقت الغزو الصهيوني على التاريخ كله بإثبات الاحتكار العرقي العربي لهذا التاريخ كله.
* ممهدات الفتح الإسلامي: صلات العرب بغزة قبل الإسلام
كانت مدينة غزة من المحطات النهائية التي تقصدها القوافل العربية للتجارة في بلاد الشام إلى جانب بصرى ودرعا ومعان،[84] ونتيجة صلاتها العربية القوية ميزها بعض المؤرخين عن محيطها بكونها مدينة عربية على مر الدهور[85] ومنذ أقدم الأزمنة،[86] وفقاً للمؤرخ مارتن أبراهام مير،[87] وكان الروم يقيمون فيها سوقاً في موسم معلوم ترتاده قريش، وقد نزلها أمية بن أبي الصلت أحد الحنفاء الذين اجتنبوا عبادة الأوثان وشرب الخمر قبل الإسلام، كما نزلها وتوفي فيها هاشم بن عبد مناف جد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما زال مقامه مشهوراً في جامع السيد هاشم الذي يروى أن بانيه هو السلطان العثماني عبد المجيد الأول،[88] كما نزل غزة عبد الله بن عبد المطلب والد النبي قبل وفاته وهو عائد منها، واغتنى فيها عمر بن الخطاب، وكان فيها أبو سفيان بن حرب لما استدعاه هرقل ليسأله عن الدعوة الإسلامية لما وصله كتاب النبي عليه الصلاة والسلام يدعوه إلى الإسلام، وكان الحدث المباشر الذي قاد إلى غزوة بدر الكبرى محاولة المسلمين مهاجمة قافلة لقريش كانت قادمة من غزة.[89]
* الفتح الإسلامي
يرى مؤرخون أن تمسك بلادنا في العهد البيزنطي بمذهب الطبيعة الواحدة كان شكلاً لمقاومة الهيمنة الرومية،[90] وأن الاضطهاد الذي أصاب أتباع هذا المذهب كان مما سهل عملية الفتح الإسلامي، وعموماً فقد دخل المسلمون غزة بقيادة عمرو بن العاص سنة 13 من الهجرة، 634م، في خلافة أبي بكر الصديق، وذلك رغم تحصيناتها القوية، وكان هذا أول انتصاراتهم في هذه البلاد،[91] وتمكنوا به من الفصل بين الشام ومصر والتمهيد لفتح مصر بعد عزلها عن قوة الروم،[92] وقد زارها عمر بن الخطاب بعد الفتح أكثر من مرة (638 و639) للاطمئنان على الجيش وترتيب أوضاعها.[93]
* الإمام الشافعي يلخص الروابط الإسلامية
وكان أبرز حدث بين فتح غزة والغزو الفرنجي (492 من الهجرة، 1099م) هو ميلاد الإمام الشافعي (150 من الهجرة، 767م) مؤسس أحد المذاهب الكبرى في الإسلام في تلك المدينة، وشخصيته تلخص الروابط التي ضمت المنطقة في العهد الإسلامي، فالإمام قرشي مطلبي من مكة وأمه يمانية من الأزد، نزل والده غزة واستقر فيها ثم عادت به والدته إلى مكة حيث حفظ القرآن وتلقى العلم وتنقل بين الأقطار الإسلامية طلباً للشعر والأدب ثم الفقه والحديث، فسافر إلى المدينة المنورة واليمن وفارس والكوفة وبغداد وساح في البادية ثم حط رحاله في مصر إلى نهاية حياته (204 هجرية، 820 م)، وقد عبر عن شوقه إلى غزة في بيتين شهيرين من الشعر:
وإني لمشتاق إلى أرض غزة وإن خانني بعد التفرق كتماني
سقى الله أرضاً لو ظفرت بتربها كحلت به من شدة الشوق أجفاني
’’وعلى كل فكفى غزة فخراً أنها أنجبت مثل هذا الإمام العظيم: رضي الله عنه’’.[94]
واشتهر من غزة أيضاً من رواة الحديث والفقهاء والشعراء لعل أشهرهم ’’شاعر العصر’’ إبراهيم بن عثمان الغزي المولود سنة 441 من الهجرة (1049م) أي قبل خمسين عاماً من الغزو الفرنجي، والذي زار دمشق وبغداد ثم ارتحل إلى خراسان وتوفي في بلخ، ’’ويشبهونه بالمتنبي جزالة وقوة شعر ورائق معنى’’.[95] وهو نموذج آخر للروابط التي ضمت العالم الإسلامي في ذلك العصر، ذلك أن ’’الوجه الحضاري لفلسطين في هذه القرون الممتدة من أواسط القرن 4 هجرية/ 10م إلى أواسط القرن 7 هجرية/ 13م جزء من الوجه الحضاري للمنطقة العربية الإسلامية في مده وجزره، وفي قممه وتياراته الروحية والفكرية، وحياته الاقتصادية والسياسية، فليس هو إذن بوجه منفصل أو كيان مستقل، وإذا استثنينا فترة الاحتلال الفرنجي فمن الصعب أن نجد لفلسطين كياناً حضارياً خاصاً بها ذا سمات منفردة يميزها عن باقي الشام أو عن باقي البلاد العربية، ولعل هذا هو السر في أننا لا نكاد نجد لفلسطين في المصادر العربية من بحوث خاصة أو عناوين منفردة، كانوا يعتبرونها كما يجب أن تكون قطعة من النسيج الحضاري العام للمنطقة العربية الإسلامية’’ ولم تكن فلسطين ’’الأرض التي تستبقي النابهين من أبنائها، فما أن ينبه طبيب أو شاعر أو جغرافي أو نسابة حتى يغادرها إلى القاهرة حيث ينفق بعض الوزراء على الوراقة لمكتبته ألف دينار في الشهر، أو إلى دمشق أو إلى بغداد حيث الأفق الأوسع’’ كما يقول الدكتور شاكر مصطفى في دراسته عن فلسطين في العهدين الفاطمي والأيوبي.[96]
* الأيوبيون في مصر ينجزون حطين ثانية في غزة
استولى الفرنجة الصليبيون على غزة سنة 1100 م وتسلمت عسقلان راية المقاومة بعدما كادت تسقط لولا تنازع الأمراء الصليبيين وبعد برهة من التخاذل الفاطمي ومحاولة التفاهم مع الفرنجة ضد السلاجقة على أساس أن يكون شمال الشام للصليبيين وجنوبه للفاطميين الذين استفاقوا متأخراً – ككل المستقوين بالغرب في جميع العصور- عندما ’’اكتشفوا’’ أن الحملة الصليبية تستهدف القدس التي سرعان ما سقطت سنة 1099م وأصبحت عسقلان هي جزيرة المقاومة الفاطمية في البحر الفرنجي أكثر من خمسين سنة تالية وانطلقت منها الحملات المتتالية ضد الوجود الصليبي في فلسطين،[97] وظلت غزة بحوزة الفرنجة حتى تحررت بعد معركة حطين سنة 1187م، ولكن لم يكن ذلك نهاية الأمر لأن الأطماع الفرنجية استمرت متصلة بالمدينة، وفي سنة 1239م وصلت حملة فرنسية إلى عكا ثم توجهت إلى عسقلان فبادر سلطان مصر الأيوبي إلى إرسال قوة إلى غزة للوقوف في وجه الحملة التي لم تكن محكمة القيادة فانفصلت عنها مجموعة طمعت بالاستئثار بالغنائم وأسرعت للقاء المسلمين عند قرية بيت حانون شمال غزة، وهناك انكسر الصليبيون وهُزموا هزيمة نكراء دفعت بقية الحملة التي كانت ما تزال في عسقلان إلى الرجوع إلى عكا.[98]
وفي سنة 1240م نشب خلاف بين ملك دمشق وسلطان مصر الأيوبيين، ولجأ ملك دمشق ’’الصالح’’ اسماعيل إلى الفرنجة يطلب عونهم ضد ابن أخيه سلطان مصر، وفي مقابل ذلك سلمهم القدس وعسقلان وطبريا وغيرها، ’’وضجت البلاد بالاستنكار والرفض، وأكثر العلماء حتى في دمشق كالشيخ عز الدين بن عبد السلام وجمال الدين ابن الحاجب، من التشنيع على الصالح إسماعيل والغضب على عمله، وقطعا الدعاء له على المنبر، فلاحقهما فهربا إلى مصر وإلى الكرك’’،[99] واجتمعت الجيوش الصليبية والشامية لمواجهة الجيش المصري قرب غزة ولكن الشاميين انحازوا إلى إخوانهم المصريين رافضين القتال إلى جانب الصليبيين الذين دارت الدائرة عليهم ومنوا بهزيمة منكرة وخسائر فادحة حملت الفرنسيين على مغادرة الشرق بعد عقد الصلح مع سلطان مصر الصالح أيوب.
ثم تجدد الخلاف بين أيوبيي الشام ومصر سنة 1244م، فتحالف حكام الشام مع الفرنجة ووعدوهم بنصيب من مصر والشام فاستنجد الصالح أيوب في مصر بالخوارزميين الذين اندفعوا فيما يشبه انهيار سد يأجوج ومأجوج بعد سقوط دولتهم في إيران، ونأى صاحب الكرك الأيوبي بنفسه وجيشه عن التحالف الفرنجي- الشامي الذي تورط فيه صاحب حمص، والتقت الجيوش الفرنجية وحلفاؤها بجيش مصر المتحالف مع الخوارزميين عند قرية الحربية في الشمال الشرقي من غزة وأنزل جيش الصالح بالمتحالفين ’’هزيمة سحقتهم سحقاً’’،[100] وعادت القدس إلى ملك المسلمين، وحملت هذه الهزيمة المؤرخين الأوروبيين على إطلاق اسم ’’حطين الثانية’’ على هذه المعركة،[101] وفي ذلك يقول المؤرخ إرنست باركر: ’’أما الانهيار النهائي لمملكة بيت المقدس، فإنه تحدد فعلاً في معركة غزة سنة 1244، وما قام به المماليك من إقصاء الأسرة الأيوبية عن الحكم’’،[102] وكان قائد المسلمين في هذه المعركة هو بيبرس الذي سيصبح سلطاناً فيما بعد، وعن تقويم هذه المعركة يقول الدكتور شاكر مصطفى: ’’كانت الكارثة الفرنجية تعدل حطين في شأنها. وقد سماها المؤرخون بحطين الثانية للمعنى الذي حملته في سحق الفرنجة، وللنتائج التي نجمت عنها والتي أشبهت بنتائج حطين، فقد سلبت هزيمة غزة الفرنج كل ما أحرزته لهم الدبلوماسية والحروب الصغيرة من مكاسب طارئة في عشرات السنين السابقة، كما أفقرت الفرنج في القوى البشرية المقاتلة، وجعلت الشرق الفرنجي من العجز بحيث لا يستطيع الدفاع إلا عن مناطقه الساحلية وبعض قلاعه الحصينة، على أن الفرق مع حطين إنما جاء من موقف الصالح أيوب الذي كان عليه تصفية حسابه مع أهله الأيوبيين في الشام قبل تصفية الفرنجة (نموذج متكرر من عرقلة الخلافات الداخلية لأهداف الأمة) وهذا ما أنقذ الشرق الفرنجي’’.[103]
وكان من نتائج هذه المعركة أن ازدادت الكثافة السكانية الخوارزمية التركمانية في غزة بعدما وعدهم الصالح أيوب بإقطاعهم الأراضي إذا شاركوا معه في المعركة،[104] كما منحهم أملاك الصليبيين في فلسطين خشية ولم يدخلهم مصر خشية عبثهم بها فاندفعوا للهجوم على الفرنجة وأملاكهم حتى وصلوا أطراف مركزهم في عكا.[105]
وعن مكانة غزة الأيوبية يقول الدكتور شاكر مصطفى إنها حلت محل عسقلان بصفتها محطة تجارة وممراً إلى مصر ’’وصارت من الثغور ومن أحسن مدن فلسطين مغارس ومزارع وأشجاراً ونخلاً وأنواع فواكه، وحظي بالتقديس الموضع الذي ولد فيه الإمام الشافعي’’، أما المشهد العظيم الذي بناه الفاطميون على مدفن رأس الإمام الحسين بن علي عليهما السلام في عسقلان فقد ظل قائماً[106] رغم نقل الرأس الشريف إلى القاهرة قبل أن يحتل الفرنجة المدينة سنة 1153م.
* حسم الخلاف بين الأيوبيين والمماليك على أرض غزة
أدى سقوط القدس بيد المسلمين سنة 1244م إلى قدوم الحملة الصليبية السابعة بقيادة ملك فرنسا (القديس) لويس التاسع الذي توجه ضد مصر سنة 1248م لعلمه أنها مصدر القوة الإسلامية التي إذا سقطت هان ما دونها، ولكنه هُزم وأُسر ولم يطلق سراحه إلا بعد دفعه الفدية ليتولى شئون الحكم في عكا، وقامت دولة المماليك في مصر سنة 1250م بعد موت آخر الملوك الأيوبيين فيها، ولكن أيوبيي الشام لم يعترفوا بإنهاء سلالتهم في القاهرة، ودخلوا في سباق مع المماليك للفوز بالتحالف مع الفرنجة ضد بعضهم البعض، باذلين الوعود بتسليم بيت المقدس التي كان بيبرس قد دخلها بعد انسحاب الخوارزميين،[107] وأحسن الصليبيون استغلال الخلاف الأيوبي المملوكي واستقروا على التحالف مع المماليك فأرسل الناصر يوسف حفيد صلاح الدين جيشاً لاحتلال غزة التي كان المماليك قد سبقوا إليها، وأدى استيلاء الأيوبيين عليها إلى قطع الاتصال بين المماليك في مصر والفرنجة في الشام ثم تدخلت الخلافة العباسية لعقد الصلح بين المسلمين على أساس اعتراف الأيوبيين بالحكم المملوكي في مصر والتنازل له عن بيت المقدس وغزة ونابلس والساحل وذلك سنة 1253م.[108]
* أول انتصار على الغزو المغولي يتم في غزة
تعرض العالم الإسلامي في القرن السابع الهجري لغزو مغولي من الشرق تزامن مع الغزو الفرنجي من الغرب وحاول التحالف معه، واجتاح المغول بلاد الإسلام كالإعصار الذي لا يقوى على مواجهته أحد، ولم يتمكن من الوقوف في وجهه، سوى قوتين، الأولى دولة الإسماعيليين في شمال إيران، ومما يؤسف له أن العصبية المذهبية تغلبت على مشاعر الوحدة في تلك الظروف العصيبة أمام ذلك الخطر الداهم إذ قام كثير من المسلمين بتحريض ومؤازرة الوثني هولاكو على الانتقام من ’’الملاحدة’’ الإسماعيليين، فجرؤ أن يتبجح أنه سار ’’بقوة الله’’ وفرغ ’’من أمر الملاحدة’’(!) ويعلق المؤرخ حسن الأمين على ذلك بالقول إنه يعجب من الزمن الذي جعل وثنياً مثل هولاكو يسمي الاسماعيليين ملاحدة ويتبجح بين المسلمين بأنه سيقضي عليهم،[109] ثم استدار للهجوم على عالم من شجعوه وساندوه، وتمكن من القضاء على الخلافة العباسية في بغداد (656 من الهجرة، 1258م) مستعيناً بكثير من أمراء المسلمين وجيوشهم[110] التي أرعبها المنطق المغولي الذي شابه منطق الولايات المتحدة في اعتداءاتها المعاصرة: من ليس معنا فهو ضدنا.[111]
أما القوة الثانية التي تصدت للإعصار المغولي بعد سقوط ’’أمر الملاحدة’’ ’’بقوة الله’’، فهي دولة المماليك في مصر، وكانت مدينة غزة هي النقطة الأخيرة التي وصل إليها المغول وأرسلوا منها إلى السلطان قطز رسالة تهديد عجيبة من هولاكو تأمره بالاستسلام وتعيّر المسلمين بذنوبهم، وتدعي أن المغول هم عقاب الله، وأن المغول يطهرون الأرض من الفساد بقتل معظم العباد،[112] وهو نفس منطق الحضارة الغربية الذي عيّر الشعوب الأخرى فيما بعد بتخلفها كما عيّر هولاكو المسلمين بعيوبهم، وادعى أن الغرب ينشر الحضارة كما نشر هولاكو الطهارة، بفتح البلاد وقتل العباد.
رد السلطان قطز على رسالة هولاكو بإرسال جيش بقيادة بيبرس إلى غزة تمكن من استردادها وطارد المغول حتى تمكن من سحقهم في عين جالوت بشمال فلسطين، فكانت معركة غزة (658 من الهجرة، 1260م) هي الأولى التي انتصر فيها المسلمون على المغول وأفاقوا من كابوسهم المرعب الذي بدا أنه لن ينجلي، كما كانت تلك المعركة تمهيداً للمعركة الفاصلة التي لم تكن معركة حكام بأي حال من الأحوال وشارك فيها وفقاً للمقريزي’’أهل القرى من الفلاحين’’ الفلسطينيين بشكل فعال ومؤثر وبأعداد كبيرة ضد العدو حتى أزاحوا خطره.[113]
كان من نتائج الغزو المغولي ومعركة عين جالوت زوال الحكم الأيوبي في الشام وتولي المماليك الذين تمكنوا من توطيد دولتهم بعد انتصارهم،[114] وتسلم السلطان بيبرس حكم الدولة المملوكية وقام بالقتال على جبهتين: جبهة الفرنجة وجبهة الفلول المغولية، وبعد فتح صفد سنة 664 من الهجرة/ 1266م، عاد إلى مصر ثم توجه إلى الشام ثانية في العام التالي ودخل غزة حيث وافاه رسل الفرنجة يقدمون بعض الأسرى المسلمين بالإضافة إلى الهدايا ويطالبون بتأكيد العمل بالهدنة، وفي سنة 666 من الهجرة/ 1268م قاد بيبرس قواته إلى غزة بعد ورود أنباء عن محاولة المغول العودة إلى الشام،[115] وكان من إنجازاته في المدينة دعم سكنى التركمان والأكراد فيها،[116] وقد حفر هذا السلطان لنفسه بإنجازاته وانتصاراته مكاناً إلى جانب كبار قادة المسلمين ضد الصليبيين وهم عماد الدين زنكي ونور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي.[117]
* نيابة غزة المملوكية
يقول الدكتور سهيل زكار إن الحكم المملوكي لم يعرف الاستقرار ولا دوام الولاء والإخلاص، وتميز بصراعات الأمراء على السلطة، وإن غزة كانت ساحة النزاع بين أمراء دمشق وسلاطين القاهرة، فقد كانت غزة آخر البلاد الشامية للمتوجه إلى مصر وأول هذه البلاد للقادم من مصر، مما تطلب نشوء نيابة حاجزة بين الفرقاء فيها، هذا بالإضافة إلى أنه في أثناء الحملات المملوكية على المغول والفرنجة في الشام كانت غزة ’’محطة إنذار أولى بالنسبة إلى مصر، وفيها كانت تتجمع فلول القوات المملوكية في حالة تعرضها لهزيمة ما في الشام، ولهذا ازداد الاهتمام بهذه المدينة، ولا شك أن نفقات تجريد الجيوش وما كانت العساكر تبذله أثناء تحركاتها قد أفادت غزة كثيراً وساعدت على سرعة تطورها وتقدمها ودفعت بالتالي إلى تأسيس نيابة مستقلة فيها’’، وقامت هذه النيابة بالفعل في عهد المنصور قلاوون (680 من الهجرة/ 1281م) وتأكد هذا الاستقلال الذاتي في عهد ابنه الناصر محمد بن قلاوون (711من الهجرة/ 1311م)، ولم تشهد المدينة حوادث متميزة في عصر المماليك ولكنها شهدت نزول العديد من السلاطين بها، وشهدت حركة عمرانية عظيمة بالإضافة إلى ظهور عدد من العلماء منها[118] ومن جوارها القريب الذي تتكون منه النيابة لعل أشهرهم ابن حجر العسقلاني صاحب أفضل شروح صحيح البخاري والذي ولد في القاهرة سنة 773 من الهجرة/ 1372م في آخر عهد دولة المماليك البحرية، وكانت غزة من ضمن رحلاته في طلب العلم مما يدل على كونها من مراكز النشاط الديني والعلمي في بداية القرن التاسع الهجري،[119] كما رحل إلى دمشق ومكة المكرمة والمدينة المنورة والإسكندرية والقدس والرملة والخليل نابلس واليمن وغيرها.[120]
ولما حلت كارثة الغزو المغولي الثاني بقيادة تيمورلنك سنة 1400 م، فإن ’’غالب أهل الرملة وغزة والقدس ودمشق وصفد وحماة وطرابلس قدموا إلى الديار المصرية، وتركوا أولادهم وأوطانهم وأموالهم خوفاً من تيمورلنك، فمنهم من جاء حافياً عارياً، ومنهم من جاء عليه قميص واحد على بدنه في البرد الشديد، بعدما كان في الخدم والعز الشديد، وأبلاهم الله بإجلائهم عن أوطانهم في مثل هذه الأيام الشديدة’’[121] كما جاء في كتاب السلوك للمقريزي وكأنه يتحدث عن النكبة بل النكبات المعاصرة مع فارق أن اللاجئ في الزمن الغابر لم يكن أجنبياً في البلاد المحيطة بل مجرد خارج من داره بسبب نكبة ألمت به إلى دور إخوته وأشقائه مهما اختلف الحكام فيما بينهم.
* غزة المندمجة بمحيطها في ظل السلام العثماني
بعد فترة الانقسامات السياسية الطويلة ضم العثمانيون منطقة الشرق العربي إلى سلطانهم الذي امتد ستة قرون أطلق عليها المؤرخون اسم ’’السلام العثماني’’، ويقول الدكتور عبد الكريم رافق إنه باستثناء الخطر البرتغالي الذي هدد البحر الأحمر وخليج البصرة لفترات قصيرة في بداية القرن السادس عشر ’’لم تنافس أية دولة أوروبية العثمانيين في احتلال المشرق العربي’’، وذلك إلى مجيء الحملة الفرنسية الفاشلة على مصر، ولهذا لم تحدث حوادث حاسمة كالتي كانت تميز عهود التنافس بين الكيانات القائمة في المنطقة.
ولكن ما ميز مدينة غزة وعموم فلسطين في هذا العصر هو اندماجها في محيطها الشامي والمصري، فقد كانت غزة لواء إدارياً ضمن ولاية الشام أو دمشق، وأصبحت لفترة قصيرة ملحقة بولاية صيدا، ثم بمتصرفية القدس[122] حين كان شمال فلسطين جزءً من ولاية بيروت التي لا ينتمي جبل لبنان إليها، وهي صورة مغايرة لواقع التجزئة القطرية في يومنا هذا حين يعيش ابن عكا مثلاً غريباً في بيروت التي كان تابعاً لها إدارياً في العهد العثماني[123] وليس تابعاً للقدس، كما سكن غزة عشرات من العائلات المصرية، وفي مناسبة واحدة هي الهروب من حكم محمد علي باشا دخل فلسطين حتى علم 1831 م ما يقارب ستة آلاف من منطقة الشرقية لاسيما بلبيس وسكن معظمهم في غزة وقراها، ومازالت هذه الأسر يحمل بعضها من الألقاب ما ينبئ عن أصله كالمصري والبلبيسي، ولما حاول محمد علي أن يسترجعهم من والي صيدا عبد الله باشا رد عليه الوالي بأنهم رعايا السلطان وشأنهم في الشام كشأنهم في مصر فكلها دولة السلطان،[124] وهو رد يكشف عن طبيعة الرأي السائد آنذاك حتى لو كانت النوايا تخفي أهدافاً أخرى.
ويدل تضاعف عدد سكان غزة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر على نمو سريع شهدته المدينة في ذلك الزمن، ففي آخر سنوات الحكم المصري سنة 1840 كان عدد سكانها ألفين نسمة، وفي نهاية القرن التاسع عشر وصل عدد السكان إلى 18 ألف نسمة، ثم أصبح40 ألف نسمة سنة 1906.[125]
* عندما أصبحت غزة من معالم الصمود العثماني الأخير
ازداد العدوان الاستعماري الغربي على بلاد الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر بعد فورة الثورة الصناعية وتصاعد القوة الغربية الذي أدى إلى التزاحم على احتلال بلاد العالم غير الغربي عموماً، وتنافست دول أوروبا في اقتطاع أجزاء من بلادنا طوال ذلك القرن، وقد ترافق ذلك مع الضعف الذي انتاب الدولة العثمانية وتراجعها[126] نتيجة سنة الحياة والموت التي تسري على جميع الدول وذلك بعدما عمرت هذه الدولة أكثر من غيرها وكانت أطول السلالات عمراً في التاريخ، ولكن رغم الضعف والتراجع احتفظت الدولة العثمانية بقوة مكنتها من الصمود[127] الذي حسدته دول أوروبا واحترمته في نفس الوقت،[128] ولم يعترف العثمانيون بكل التغييرات السياسية والعسكرية التي أحدثها الأوروبيون في دولتهم حتى تنازلت تركيا الكمالية عن الأملاك العثمانية سنة 1923، ولما دخلت الدولة العثمانية الحرب الكبرى الأولى سنة 1914، كان ذلك بهدف استرجاع ما سلبه الغرب منها بالإضافة إلى التخلص من قيوده السياسية والاقتصادية عليها وللوقوف مرة ثانية على قدم المساواة مع بقية الدول العظمى.[129]
ورغم أن الدولة العثمانية كانت في حالة النزع الأخير وفي آخر أيامها، فإنها لم تكن لقمة سائغة لأعدائها وسجلت بطولات كبرى في ساحة الحرب وعلى جبهات عديدة هي اسطنبول (غاليبولي) والقوقاز والبلقان والعراق (الكوت) [130] والجزيرة العربية (سكة الحجاز)،[131] ولكن ما يهمنا هنا هو جبهة فلسطين ومعارك غزة بالذات، إذ بعد فشل حملة جمال باشا على الاحتلال البريطاني في مصر، قررت وزارة الحرب البريطانية احتلال فلسطين في بداية عام 1917، وتمكن الجيش البريطاني من احتلال العريش ورفح وخان يونس، فتحصن الأتراك في غزة واستعدوا للدفاع عنها، وتم إجلاء أهلها بسبب الضرورات العسكرية، وشن الإنجليز هجوماً في 26-3-1917، ولكنه فشل، فأعادوا الكرة في 17-4 وفشلوا أيضاً رغم القذف العنيف الذي أصابوا به المدينة، وكان عدد الجيش البريطاني يفوق العثمانيين بأربعة أضعاف،[132] وكانت خسائر الإنجليز في المعركتين 9500 بين قتيل وجريح ومفقود وأسير، أما الخسائر العثمانية فكانت 4116 بين شهيد وجريح ومفقود، وبعد هاتين المحاولتين الفاشلتين غيرت القيادة البريطانية في وزارة الدفاع القائد العام لجيشها شرق السويس وأسندت هذا المنصب إلى الجنرال اللنبي ووضعت تحت تصرفه كل ما طلبه من جنود وسلاح، وبدأت معركة غزة الثالثة في 31-10 واستمرت حتى يوم 7-11 واشترك فيها أكثر من مائة ألف جندي من الجانبين وتمكن الإنجليز من الفصل بين الجيشين العثمانيين السابع والثامن فانشقت الجبهة واضطر العثمانيون إلى إخلاء غزة، ومع ذلك فإن المصادر البريطانية تعترف بأن القوات البريطانية حتى بعد ذلك خاضت أربع معارك عنيفة في السهل الساحلي في تسعة أيام خسر الأتراك فيها عشرة آلاف أسير ’’ولكنهم تحاشوا الخراب والدمار التامين اللذين كانا يهددانهم’’ وأنهم قاتلوا بشجاعة وشهامة وتحملوا كثيراً من العناء وكبدوا البريطانيين خسائر وصلت إلى ستة آلاف، ويعلق العميد الركن شكري نديم على ذلك بالقول إن ’’اللنبي لم يحصل على النصر الباهر الذي كان يحلم به وأنه دفع ثمناً باهظاً لما أحرزه من ظفر، ولكنه مهد الطريق للنصر النهائي الكاسح الذي أحرزه بعد عام’’،[133] وبذلك توغل الإنجليز في فلسطين التي دخلت تحت الهيمنة البريطانية التي لن تلبث أن تنفذ مؤامرة الوطن القومي اليهودي.[134]
* نجاة غزة من النكبة يعيد تاريخ صمودها القديم
نجت غزة وقطاعها من الاحتلال الصهيوني عام 1948 لتعيد بذلك ذكريات نجاتها الأولى أثناء ذروة التاريخ الإسرائيلي القديم، ولتتطابق خريطة قطاعها الناجي مع الخريطة الفلسطينية القديمة التي نجت من تمدد المملكة الإسرائيلية في أوج عظمتها، ولتكون هذه المرة، بمعونة إخوتها وأشقائها، شوكة في عنق الصهاينة كما ستثبت الأيام في كثير من المواقف، رغم قصور هذا الدعم بسبب قيود السياسات الدولية المكبلة ومسايرة أولي الأمر لها، ولكنه مع ذلك أظهر ما يمكن أن يؤديه التكافل من نتائج باهرة حين يكون في حده الأدنى، فكيف سيكون الحال لو ارتفع سقف الدعم نحو الاندماج الكامل؟
* ثورة لحفز حكومة الثورة على الثورة
أصبح قطاع غزة بعد النكبة من نصيب الإدارة المصرية وآخر بقعة تحمل اسم فلسطين في مواجهة اسم إسرائيل، بعد انضمام الضفة الغربية للمملكة الأردنية، وعندما قامت ثورة 1952 في مصر، لم تكن تشغل نفسها كثيراً بالخطر الصهيوني وتفضل التركيز على عملية البناء الداخلي، ولكن الغارة الصهيونية على غزة وقتل الجنود المصريين فيها في فبراير/ شباط/ فيفري دق ناقوس الخطر وجعل قادة الثورة يدركون كون الكيان الصهيوني ليس مجرد كيان غاصب بل رأس حربة استعمارية كما قال الرئيس جمال عبد الناصر في خطابه بعد الغارة سنة 1955.[135]
ذلك أنه بعد نجاة غزة من الاحتلال سنة 1948 رغم محاولة الصهاينة السيطرة على أكبر مساحة من فلسطين بعد خروج القوات البريطانية، تجمع في محيط المدينة نتيجة الحرب آلاف من المهجرين الذين عمد الصهاينة إلى اقتلاعهم من أراضيهم بوسائل التخويف والعنف والتهجير القسري ليقيموا على أنقاضها كيانهم المصطنع، فاجتمعت في قطاع غزة نتيجة ذلك آلام المشردين وأحلام المهجرين، وبدأت عمليات عبور خطوط الهدنة، يقوم بها اللاجئون للحصول على الطعام أو استعادة الأموال أو حتى العودة إلى البيوت، وتطورت هذه العمليات لتصبح غارات تقتل الصهاينة اللصوص وتحرمهم من الاستمتاع بما سرقوه، ولم تقتصر معاناة أولئك الفدائيين الأوائل على ما يلاقونه من الجانب الصهيوني، بل كان الجانب بل الجوانب العربية التي اهتمت كعادتها بالالتزام باتفاقيات الهدنة مهتمة بملاحقة كل من تسول له نفسه الحنين إلى أرضه وبيته وبستانه ومهد طفولته ومصدر معيشته.
وفي 28-2-1955 قام الصهاينة بغارة على غزة قُتل فيها 39 جندياً مصرياً وجُرح 33 آخرون، فانفجرت غزة غاضبة في انتفاضة شعبية عارمة ضد القيود الرسمية على العمل الفدائي والتي تلتزم باتفاقيات الهدنة، وخرج الغزيون في مظاهرات ثائرة واقتحموا مواقع القوات المصرية وهاجموا مواقع قوات الأمم المتحدة وأحرقوا السيارات وأسقطوا الأعلام.[136]
* غزة تزرع الرعب داخل الكيان الصهيوني بدعم مصري
رغم الإجراءات التي اتخذتها الإدارة المصرية ضد المسئولين عن الانتفاضة في غزة[،137] فقد استجاب الرئيس جمال عبد الناصر لمطالب جماهيرها، (وهذا هو الفرق بين حكم عسكري وطني يتعرض لإدانة الدول الكبرى عندما يستجيب لأمته كما سيأتي وحكم عسكري يستخدم أسلوب القمع ضد أمته لإرضاء الصهيونية متوسلاً بها لنيل رضا نفس هذه الدول الكبرى)، وأعلنت مصر تبنيها العمل الفدائي ضد الكيان الصهيوني، وتدل المعلومات على أن هذا القرار اتخذ في شهر إبريل/ نيسان/ أفريل 1955،[138] وعين المقدم مصطفى حافظ موجهاً للفدائيين في القطاع، وأشرف الضباط المصريون على العمليات الفدائية وقادوا بعضها أحياناً،[139] وتطوع مصريون للاشتراك في هذا الجهاد،[140] وأطلق سراح الذين اعتقلوا بتهمة ’’التسلل’’ إلى بيوتهم في الأراضي المحتلة، واشتعلت شرارة العمل الفدائي في تلك الفترة على شكل عمليات خاطفة يومية تقوم بها مجموعات تعبر الحدود لتزرع الألغام، وتهاجم الدوريات، وتدمر محطات المياه، وتقتحم المستعمرات، فنشرت بذلك الرعب في أنحاء الكيان المصطنع، كيف لا وقد وصل الفدائيون إلى قرب عاصمته نفسها؟ وسجل أكبر عدد من الفدائيين اقتحموا الكيان الصهيوني في يوم واحد في أعقاب قصف الصهاينة مستشفى غزة المدني واستشهاد ما يقارب المائة شخص في يوم 15-4-1956، إذ قام 300 فدائي على إثر الحادث بالقيام بعملية اقتحام الكيان دفعة واحدة.[141]
لقد أصبحت قضية الأمن جزءً من الحياة اليومية للفرد الصهيوني الذي أصبح يعيش رعباً مستمراً، وقد تقدم الكيان بشكوى رسمية إلى مجلس الأمن في 8 سبتمبر 1955 بعد هجوم كبير شنه الفدائيون عليه لمدة أسبوع قال عنه المندوب الصهيوني في خطابه أمام المجلس: ’’إن إسرائيل لم تذق النوم طيلة أسبوع كامل’’،[142] ولا عجب في ذلك إذ وصلت الخسائر الصهيونية الناتجة عن العمليات الفدائية في فترة 1955- 1956 حجماً أكبر مما وصلته خسائر العدوان الثلاثي فيما بعد، وتشير الإحصائيات إلى أن خسائر الصهاينة من الغارات الفدائية في الفترة الواقعة بين النكبة (1948) والعدوان الثلاثي (1956) اقتربت من ستة أضعاف خسائرها في ذلك العدوان بل ومن ضعف خسائرها في حرب رمضان 1973،[143] وقد أثبتت حرب العصابات فعاليتها ضد الوجود الصهيوني أكثر من الحروب النظامية في أكثر من موقف من مواقف المقاومة فيما بعد في غزة وفي لبنان أيضاً، وفي موضوع أثر العمل الفدائي على الكيان الصهيوني يقول الصحفي البريطاني وخبير الشرق الأوسط بيتر مانسفيلد إن ’’مصر تعرضت إثر ذاك إلى الكثير من هجمات الإدانة الدبلوماسية والسياسية العالمية (يقصد الغربية) وقد عانت من استنكار المجتمع الدولي والغربي خصوصاً للعمليات الفدائية’’،[144] وقد كان لهذه الفترة آثارها المعنوية المهمة: فقد أعادت للاجئين ثقتهم بأنفسهم وأحيت لديهم أمل العودة الذي حاول الكيان الصهيوني القضاء عليه، ومن ثم فشلت مشاريع التوطين التي طرحت آنذاك بغزارة، كما وقف أهل فلسطين موقف المواجهة مع عدوهم وأصبح بإمكانهم اتخاذ قرار التحدي بعدما تخيل الصهاينة أنهم أصحاب الكلمة العليا، بل الوحيدة، في المنطقة.[145]
* مقاومة القطاع أثناء العدوان الثلاثي
التقت مصالح بريطانيا وفرنسا والكيان الصهيوني على القيام بالعدوان على مصر سنة 1956، وكان لكل من هذه الأطراف مصالحه الخاصة، ومن ضمن أهداف الصهاينة القضاء على مقاومة قطاع غزة، ورغم العزلة التي وجد القطاع نفسه فيها نتيجة انسحاب الجيش المصري من سيناء فقد رفض اللواء 86 المتمركز في خان يونس الاستسلام ودخل معركة طاحنة مع القوات المعتدية في 3-11-1956، أي في اليوم الرابع من العدوان، واستعان الصهاينة فيها بالطيران وأطلقوا على المدينة أكثر من ثمانين ألف قذيفة قبل أن يتمكنوا منها.[146]
وقد ارتكب المعتدون الصهاينة كثيراً من الأعمال الإرهابية الوحشية في القطاع، فقدرت الجامعة العربية عدد الشهداء أثناء فترة الاحتلال ﺑ1231 شهيداً وقارب عدد الجرحى والمفقودين الألف أيضاً،[147] ومن أشهر موثقي تلك المرحلة الدكتور أحمد شوقي الفنجري الذي احتفظ بصور عديدة للجرائم الصهيونية في تلك المرحلة التي تركت فيه أثراً عميقاً بصفته طبيباً في غزة ونشر عنها كتاباً مثيراً بعنوان ’’إسرائيل كما عرفتها’’،[148] ومع ذلك لم توهن تلك الجرائم من عزم أهله على مقاومة الاحتلال فرفضوا إعادة الحياة الطبيعية إلى مجراها في ظله، فلا مدارس ولا وظائف ولا تعامل حتى تم الجلاء في مارس 1957.
وبعد انسحاب الصهاينة تمسك أهل القطاع بعودة الإدارة المصرية وقاوموا بشدة عملية التدويل التي حاولت قيادة القوات الدولية تطبيقها بواسطة الاتصال بالقيادات الشعبية ووجهاء القطاع، وبلغت مقاومة التدويل ذروتها ’’بسقوط بعض الشهداء وهم يتصدون بغابة من الأعلام الفلسطينية والمصرية لعلم الأمم المتحدة، وقد توازى ذلك مع التظاهر وتوزيع المنشورات واحتلال الشوارع وكتابة الشعارات على الحوائط’’.[149]
توقف العمل الفدائي في القطاع بعد ذلك،[150] وكان هذا ضمن ’’اتفاق سري’’ حملت الولايات المتحدة مسئولية التفاوض بشأنه ’’لإنقاذ عبد الناصر من التهمة بأنه في الواقع يتفاوض مع الإسرائيليين’’، وكانت بنود هذه ’’الصفقة’’ التي اتهمت الولايات المتحدة الرئيس جمال عبد الناصر فيما بعد بأنه حطم بنودها واحداً تلو الآخر هي: ’’أنه إذا انسحب الإسرائيليون من سيناء، لن تحدث غارات فدائية من مصر وأنه لن يمر وقت طويل قبل أن تفتح مضائق تيران وقناة السويس، ثم إنه في أي وقت مناسب ستبرم مصر السلام مع إسرائيل، وإذا ما أغلق تيران في أي وقت فمن المفهوم أن لإسرائيل الحق في استخدام القوة لفتحه دفاعاً عن النفس’’،[151] ويقودنا الاتهام الأمريكي للرئيس ناصر مرة أخرى للفرق بين تمرد حكم عسكري وطني على رغبات الدول الكبرى وعدم اهتمامه بالحصول على الرضا الصهيوني واستسلام حكم عسكري آخر لأوامر الصهيونية ذاتها لاسيما في التضييق على غزة في سبيل الوصول إلى رضا الدول الكبرى.
* غزة تحت حكم الفدائيين بعد النكسة
بعد عشر سنوات من الانسحاب الصهيوني وجد أهل غزة أنفسهم في مواجهة العدوان مرة أخرى إلى جانب أهل سيناء بالإضافة إلى بقية فلسطين ومرتفعات الجولان، وقد حسم الاحتلال المعركة في ساعاتها الأولى بتدميره سلاح الطيران المصري.
ومع ذلك قاومت غزة مقاومة عنيفة منذ اللحظات الاولى، وكبدت العدو خسائر فادحة قبل أن يتمكن منها في اليوم الرابع (8-6-1967)، وبعدما اتضحت نتيجة المعركة، انطلقت العمليات الفدائية لتحرق الأرض تحت أقدام الغزاة وتهاجم أهدافهم في كل وقت ومكان، حتى اعترف الجنرال موشيه دايان في سبتمبر 1969 بأن غزة ’’يحكمها الفدائيون في الليل’’،[152] وكتب أحد المراقبين الصهاينة في صحيفة علهمشمار في 13-11-1981: ’’قبل عشر سنوات كانت في غزة معارضة مسلحة ضد الاحتلال الإسرائيلي، ففي الليل كان يسيطر رجال فتح والجبهة الشعبية في المخيمات والقرى والمدن بينما يعود إليها الجنود الإسرائيليون في النهار.. وفي تلك الفترة قام شارون قائد المنطقة الجنوبية، في حينه، يضرب تلك المقاومة بقسوة، هدم أحياء كاملة في المخيمات وطرد السكان’’،[153] وظل القطاع المنطقة الوحيدة من الأراضي المحتلة خارج نطاق الاستيطان الصهيوني لأكثر من ثلاث سنوات بعد نكسة حزيران.[154]
تراجعت المقاومة في القطاع بعد سنة 1971 بتراجع الوضع العربي العام، فقد انسحبت قوات المقاومة من الأردن وهدأت الجبهات العربية باستثناء حرب رمضان 1973، وانشغلت الثورة بالدفاع عن وجودها في لبنان،[155] ومع ذلك كانت سلطات الاحتلال تشكو في سنة 1977 من تهريب الأسلحة إلى غزة من سيناء الواقعة تحت الاحتلال أيضاً.[156]
* انتفاضة الحجارة ومقدماتها وتبعاتها
شهد عاما 1985 و1986 صعوداً فجائياً في عمليات المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الصهيوني في غزة،[157] وهو ما ارتقى سنة 1987 إلى انتفاضة الحجارة التي اشتعلت في غزة وتجاوبت معها الضفة وأنحاء فلسطين بعد اليأس من دعم المحيط العربي الذي تراجعت أهمية القضية الفلسطينية في حساباته خلف الحرب العراقية الإيرانية، وفي يوم 6-10-1987 قام أربعة أبطال من حركة الجهاد الإسلامي بعملية بطولية في حي الشجاعية أدت إلى استشهادهم جميعاً مما أدى إلى حداد في الحي ونشوب اضطرابات في أنحاء متفرقة من غزة، منها ما حدث يوم الأحد 6-12-1987 حين قُتل تاجر صهيوني في ميدان فلسطين، فطوقت قوات الاحتلال المنطقة واعتقلت 500 شخص، وبعد يومين انتقم أخوه بقتل أربعة عمال فلسطينيين فاندلعت الانتفاضة في جباليا بعد نقل جثث الشهداء وتشييعهم هناك إذ اشتبك الأهالي مع قوات الاحتلال ليأخذ الحادث أبعاداً خطيرة ويفلت الزمام من أيدي الصهاينة ويمتد الحريق إلى القطاع فالضفة ومخيماتها في غضون أسبوع واحد ويتجمع غضب عشرين عاماً في الأسر لينفجر في وجوه الآسرين وتبدأ بذلك الانتفاضة لتسطر صفحة مجيدة في سجل الحرية الإنسانية، وليتمنى قادة الاحتلال أن يبتلع البحر غزة ويخلصهم منها بعدما كانوا يعلنون تمسكهم بها وعدم نيتهم التخلي عنها،[158] ثم أبدوا نية الخلاص في أول فرصة أتتهم عندما التفت السياسة على المقاومة لتنجز اتفاق أوسلو سنة 1993 وكان القطاع واحداً من منطقتين ستقوم فيهما السلطة الوطنية الفلسطينية بعد الانسحاب الصهيوني سنة 1994 لتنتقل مهمة ضبط سكانه إلى الأيدي الفلسطينية بدلاً من جنود الاحتلال، ورغم فشل هذه الاتفاقية وعدم تطبيق بنودها أصر الصهاينة على ترك غزة وانسحبوا منها في عهد ممثل اليمين الصهيوني الأشد تطرفاً الجنرال شارون 2005، ولكن ذلك لم يعن أن يتخلوا عن الهيمنة عليها واقتحامها وقتما أرادوا، ومارسوا حصاراً شديداً عليها ثم شنوا حروباً متتالية ضدها ابتداء من محرقة شهر فبراير/ شباط/ فيفري 2008 التي ذهب ضحيتها 1160 شخصاً ما بين شهيد وجريح، ثم معركة الفرقان في نهاية نفس العام والتي أشعل شرارتها انتهاك صهيوني لاتفاق الهدنة الموقع في القاهرة في يونيو/ حزيران/ جوان من ذلك العام ومع ذلك أعلنت الحرب من القاهرة وكان ذلك زمن مبارك واستمرت أكثر من ثلاثة أسابيع وذهب ضحيتها ما يقارب 6500 شخص بين شهيد وجريح ومعاق وسط صمت معسكر الاعتلال العربي الذي دعمته فتاوى الخذلان التي ادعت أن التظاهر لأجل غزة يلهي عن ذكر الله(!)، ثم تبع تلك الحرب معركة حجارة السجيل بين 14-21 نوفمبر 2012 والتي بدأت كذلك بعدوان صهيوني باغتيال القائد أحمد الجعبري فردت المقاومة بصواريخها ضد الكيان وراح ضحية العدوان الصهيوني 155 شهيداً ومئات الجرحى إلا أن الإصابات الصهيونية لم تكن يسيرة كذلك ووصلت إلى ما يقارب 650 إصابة، وما زال الحصار يطوق قطاع غزة بأمر صهيوني مباشر.
* دور المحيط العربي والإسلامي في صمود غزة
إذا كان معظم العرب والمسلمين قد تخلوا عن دور المؤازرة في الصراع مع الكيان الصهيوني، وفضل بعضهم تحريض الصهاينة سراً وعلناً على غزة بل أيضاً بدعمهم السري والعلني في حربهم عليها وتقديم الوجبات الساخنة للجنود المعتدين والتضييق عليها وتشديد الحصار حولها، فإن صمودها وتطور سلاحها من الحجر إلى الصاروخ جاء بدعم من المحور المقاوم المؤلف من إيران وسوريا وحزب الله في منطقتنا، وهو محور مقاوم في القضية الفلسطينية تحديداً وقد لا تمتد المقاومة إلى مواقع أخرى كالعراق مثلاً، ودعمه إن لم يكن كافياً للتحرير وفك الحصار الذي يمكن للإمكانات العربية والإسلامية مجتمعة تحقيقه، فإن ما زاد من إظهار أهميته وإبراز أثره في موقف غزة، التخاذل والعمالة الظاهرة لمحور الاعتلال المقابل الذي استكثر مجرد التظاهر لدعم صمود المدينة فضلاً عن أن يخصص لها بعض المال الذي يُدفع كالسيول لتمويل مشاريع الإفساد التي تزايد على الإفساد الغربي، كما حرض هذا المحور المعتدل أو المعتل الصهاينة سراً على إنهاء مهمتهم بسرعة في غزة، مما استوجب شكراً رسمياً قدمه قادة حماس لإيران على وجه الخصوص، وليس هذا هو مجال البحث في دوافع ذلك الدعم الإيراني أو مدى كفايته أو نقد التزامه بالقيود الدولية (أي الغربية) التي يضعها النظام العالمي (أي الغربي) على نصرة العرب والمسلمين بعضهم بعضاً بعدما تشتتوا في كيانات مجزأة لا تمكنها بنيتها الضعيفة من تجاوز هذه القيود التي تحتاج إمكانات دول كبرى لكسرها، فقد تم جانب من هذا البحث في دراسة سابقة (في ذكرى انتفاضة الحجارة: مواقف التيارات الإسلامية من القضايا المتعلقة باندلاعها)، المهم في موضوعنا أن هذا الصمود بل الهجوم الغزي المبهر مقارنة بحجم القطاع، لم يتأت إلا بدعم من المحيط العربي والإسلامي على ندرة الداعمين وخذلان القاسطين، فإذا كان هذا الدعم ليس كافياً أو ليس خالصاً لوجه الله في نظر البعض أو مشوباً بقيود الحدود الاستعمارية، فإن نقطتي الرئيسة هي أنه إذا كان هذا الصمود الأسطوري قد تحقق ببعض مظاهر التكافل البسيطة وغير الكافية فكيف سيكون حالنا لو كان هذا الدعم متحققاً في ظل الاندماج والوحدة التي تجعل مصلحة من هو في القاهرة أو دمشق أو البصرة أو إسلام أباد أو كابول أو طهران أو أية عاصمة عربية أو إسلامية بعيدة أو قريبة هي صد العدوان عن غزة وأمثال غزة لأنها تقع ضمن مسئولياته المباشرة كما كانت القدس مسئولية مباشرة للخليفة العثماني في اسطنبول البعيدة ففضل التنازل عن العرش على التنازل عنها، أما اليوم فإن المسئول الفلسطيني المباشر عن القدس لم يعد مستعداً لمثل هذه التضحيات الكبرى في سبيلها ويتمسك بمنصبه في ظل محتل ما انفك يزحف بتسارع في التمدد الذي يغير الحقائق على أراضيها دون اعتراض يوقفه عند حده بل بموافقة ضمنية تتبرأ من كل الأسلحة الرادعة بل تحارب حملتها وتعلن ألا سبيل أمامها سوى التفاوض، مما يجعل الزمن في صالح من يقوم بدور عملي على الأرض وهم الصهاينة وليس في صالح من يكتفي بالاستجداء السلبي الضعيف الخالي من وسائل المقاومة ومن ثم فإنه يمنح الفرصة الذهبية للص القوي لإكمال مهمته.
* النتائج والعبر:
1- الحتمية الجغرافية
استند ظهور غزة وازدهارها وقدرتها على المقاومة تاريخياً إلى انضمامها إلى جوارها الجغرافي والحضاري الذي كانت تصعد بصعوده وتهبط بهبوطه، وتنتصر بدعمه وتُهزم بضعفه أو بخذلانه وتآمره، وقد تكونت في هذا الجوار امبراطوريات عديدة تعاقبت على مر الزمن، وكان للمدينة علاقة خاصة بجوارها المصري الذي حرص على تأمين حدوده بضمها مع ما يمكن من الشام إلى مصر وذلك على مر التاريخ المصري واختلاف الحضارات التي قامت فيه وتباين أنظمة الحكم وتنوع السلالات إذ التصقت المدينة بكيان مصر واندمجت بمكوناته أكثر من التحامها حتى بجسمها السوري[159] الذي كان بدوره الجزء المتمم لجبهة الدفاع عن هذا الجزء الحيوي من الأمة في العصور الإسلامية، ولهذا تبذل الهجمة الاستعمارية الصهيونية كل طاقتها في زمننا المعاصر لمنع التحام هذين الجزأين في وحدة واحدة تطبق على الكيان الاستيطاني الطفيلي الدخيل.
وعندما تعرضت المدينة لهجمات مما وراء البحار، لم تكن هذه الهجمات تستقر إلا بموافقة من دولة رائدة كمصر في حالة شعوب البحر الفلسطينية التي منحت اسمها لفلسطين وهيمنت السياسة المصرية على وجودها، أو كانت الهجمات الأخرى تستقر زمناً نتيجة الضعف والانقسام الذي تعانيه بلادنا كما حدث في زمن الغزوة الفرنجية والهجمة الصهيونية.
2- سياسة دولة التجزئة شذوذ عن المسار التاريخي
وبناء على ما سبق فإن سياسة أنظمة كامب ديفيد بالتخلي عن غزة في مواجهة الأعداء أو حتى تسليمها لهم ومشاركتهم في العدوان عليها وحصارها وتصويرها بصورة الخطر الداهم على مصر هي سياسة خارجة عن مسار التاريخ المصري الطبيعي منذ فجر التاريخ حين كانت السياسة المصرية تحرص كل الحرص على الأمن الداخلي المصري بتأمين حدود مصر إلى أبعد مسافة ممكنة من بلاد الشام بالإضافة إلى بلاد السودان، وهذا ما سار عليه جميع حكام مصر المستقلين الذين كانوا يعدون غزة من ضرورات الأمن المصري، هذا إن لم تكن جزءً من التراب المصري، وحتى عندما يصيب بعضهم الضعف والتخاذل ويفكر بالخيانة فإنه يتنازل عن الشمال الشامي ولا يفرط في الجنوب حيث تقع غزة وجوارها، وهذا ما حدث عندما تصور الفاطميون إمكان التفاهم مع الفرنجة، فلما تبين لهم أن الصليبيين يستهدفون القدس والجنوب وقفوا بكل قوتهم ضد الحملة الصليبية، وعندما كانت مصر والشام مقسمتين بين دولتين تتبعان حضارة واحدة كانت مصر حريصة على تملك غزة وجنوب الشام وعدم تركه للدولة الشامية رغم تبعيته جغرافياً لبلاد الشام، وهذا ما حدث في العصر الهلنستي وفي زمن الأيوبيين والمماليك، وبناء على ما سبق فإن الحتمية الجغرافية ستقضي على سياسة التخاذل والتعاون مع الأعداء ولا يمكن للشذوذ أن يصبح طبيعة وأن يعادي المرء نفسه ولا بد لمصر أن تعود لحقيقتها وتتبع مصالحها التي يشوهها الشعار الدارج في أقطار التجزئة التي ينادي كل واحد منها ’’نفسي أولاً’’، ولا يمكن أن يكون محباً لوطنه من ينادي بعزله عن إخوته وذلك برفع شعار مموه هو ’’أنا أولاً’’، فوقوف المرء في صف متراص مع الإخوة لا يلغي الذات أو يمحوها بل يعزز موقفها ويقويها، والوقوف ’’مستقلاً’’ وحيداً هو الذي يمهد لافتراس المرء وزواله بجعله عرضة لهجوم أي وحش عابر في الغابة التي نعيش فيها، وهذا ليس خياراً بل هو قانون الطبيعة وهو قانون البقاء، ومهما شذت دولة التجزئة فإن الحقيقة ستفرض نفسها وتعود الطبيعة إلى مسارها الذي جرت فيه آلاف السنين لا يمثل زمننا الهابط سوى لحظة مرض عابر منها.
3- شذوذ الاستعمار الغربي الحديث والمعاصر عن مسار الحضارات السابقة
رأينا أن كل الحضارات التي مرت بمدينة غزة قامت بدمجها في نسيجها السياسي الاجتماعي الاقتصادي على تفاوت بينها في درجة الإدماج، وهذا الكلام ينطبق على مصر الفرعونية والآشوريين والبابليين والفرس واليونانيين والبيزنطيين ثم المسلمين بدولهم المختلفة، بل حتى الرومان الذين اشتهروا بنخبويتهم أيضاً، ولهذا عرفت المدينة ازدهاراً متفاوتاً في ظل هذه الحضارات المختلفة، ثم رأينا الشذوذ النخبوي في الحضارة الغربية الحديثة التي استندت إلى مسلمات فكرية عنصرية أسبغت عليها الصفات العلمية وزرعت الكيان الصهيوني في فلسطين بنموذج استثنى السكان الأصليين من دائرته ولهذا أصر على تهجيرهم من الأرض التي يعتزم إقامة دولته اليهودية عليها ثم استبعدهم من العودة إلى ديارهم رغم ادعائه عدم المسئولية عن تهجيرهم، وهو ما يستلزم ألا مصلحة له في خروجهم، ولكنه أصر على عدم عودتهم بشكل مريب ونظر إلى وجودهم بصفته تهديداً لهوية كيانه اليهودية ومن ثم كان هو الذي جعل الصراع صراع وجود وليس صراع حدود، في الوقت الذي وافق فيه أصحاب الدار على مشاركة اللصوص وسكناهم في المنزل، ومن ينظر في واقع الحياة في غزة في ظل الاحتلال ثم الحصار الصهيوني من حيث الافتقار إلى مستلزمات الحياة الأساسية كالمياه والكهرباء والبنية التحتية، بالإضافة إلى جعلها مكباً للمياه الفاسدة، لسخر من دعاوى نشر الحضارة والتمدين وجلب التنمية إلى المنطقة والتي روجها أنصار الصهيونية عندما اعتزموا إنشاء كيانهم، ولعلم أن هذه المدنية مقصورة على الصهاينة كما يتبدى ذلك من الفرق الكبير بين الحياة المزدهرة في كيانهم والحياة الميتة في الأراضي المحتلة لاسيما غزة التي ما كانت تذوق المياه العذبة مثلاً إلا بشكل غير مقصود وذلك في المناطق التي تقع صدفة في طريق المستعمرات الصهيونية وتمتد الأنابيب خلالها.
4- الذوبان هو مصير الغزاة في هذه البقعة
وعلى كل حال كان الذوبان في المحيط الشرقي هو مصير الكيانات التي أقامها مهاجرون وغزاة كانوا ينعزلون عن هذا المحيط في البداية مكونين طبقات عسكرية حصرية مغلقة، ولكن عدم تلبية الحاجة المستمرة لتغذية هذه الكيانات الغريبة بالهجرة المتواصلة، وعملية الاندماج الحضاري الناتجة عن حتمية التواصل لتلبية الحاجات اليومية لسكان هذه الكيانات، أفقدها بالتدريج صلتها بأصولها وربطها بمحيطها الجديد ولم يتبق إلا هزيمتها عسكرياً، وهو ما يحتاج دائماً لإعداد يحافظ على جذوة المقاومة، للقضاء على تميزها، والتحام سكانها بأهل الشرق أو رحيلهم إلى حيث أصولهم، وهذا نذير بمصير الهجمة الصهيونية الحالية التي لن تستطيع تجميد الأحوال التي تمدها بالهجرات الخارجية التي لا بد أن تنضب ينابيعها يوماً ما بالنظر إلى قلة عدد اليهود وتلاشيهم،[160] مما أجبر الكيان الصهيوني على قبول هجرات مشكوك في يهوديتها[161] بل ولتهويد بعض الغرباء جداً عن اليهودية كالهنود الحمر في أمريكا الجنوبية ليصبح لهم الحق في العودة إلى أرض ’’أجدادهم’’ في فلسطين،[162] وذلك عوضاً عن أرض أجدادهم الحقيقيين التي فقدوها، وكل ذلك للحفاظ على عزلة الدولة الصهيونية عن العالم العربي والتي يصر عليها الغرب بتأييده هويتها اليهودية الحصرية لتبقى هذه العزلة ضماناً لارتباط الصهاينة بالغرب وعمالتهم له،[163] وهو ما أشار إليه زعماء الصهيونية كحاييم وايزمان وماكس نوردو وفلاديمير جابوتنسكي حين قالوا إن فلسطين العربية ستنضم إلى العالم العربي، أما الدولة الصهيونية المعزولة عن العرب والتي لا تنتمي إلى المنطقة سيظل سكانها موالين للغرب وحلفاء له،[164] وهذه هي ميزة الكيان العميل برمته على الكيانات الطبيعية في المنطقة والتي يمكن للاستعمار أن يسيطر عليها بواسطة تنصيب عملاء لحكمها ولكنه لا يستطيع جعل الشعوب أنفسها عميلة له و
* خلاصة البحث
تبين المعارك الحاسمة التي خاضتها مدينة غزة أو التي جرت على أرضها، كما تظهر اللحظات الفارقة في حياتها أن هذه المدينة لم يكن لها شأن في التاريخ إلا بصفتها جزءً من محيطها الأوسع وبتضامن أخوتها إلى جانبها،
وإذا كانت هذه الحقيقة بارزة في تاريخ المدينة الإسلامي بصورة خاصة، فإن تاريخ التجزئة يبرزها بصورة أكثر إلحاحاً إذ لم تكن المدينة لتصنع بطولاتها الحديثة إلا وهي مستندة إلى ظهر عربي أو مسلم، قد يعجزه منطق التجزئة والبعد والانفصال عن التضامن الكامل، أو قد يكون له من البرامج ما هو أكثر تواضعاً من الأحلام الكبرى للعرب والمسلمين، ولكن إذا كانت هذه هي نتيجة الدعم الجزئي لمدينة واحدة في مواجهة عدو ضخم يدعي أنه لا يُقهر ويسنده عالم الغرب برمته، فما هي إمكانات الوحدة والاندماج؟
* ميلاد المدينة
غزة مدينة قديمة، وتعد بين أقدم مدن العالم، ولن أدخل في الخلافات الناشئة على تاريخ تأسيسها وهوية بُناتها، لأن الهدف من الدراسة ليس التأريخ للمدينة بل الاعتبار من لحظاتها الحاسمة، ولكن لا بأس من الإشارة إلى أنها نشأت في موقعها الحالي في حوالي القرن السابع عشر قبل الميلاد،[1] وتذهب تقديرات أخرى إلى وجودها قبل ذلك.
* أهمية الموقع الجغرافي
تقع غزة على أبرز الطرق التجارية في العالم القديم، وهو الطريق البادئ من جنوب الجزيرة العربية حيث تجتمع تجارة اليمن والهند وتسير نحو مكة والمدينة والبتراء ثم تتفرع نحو غزة، ودمشق وتدمر، وانطلق منها أيضاً طريق الفرما نحو مصر وطريق الشرق نحو العراق، كما كان للمدينة أهمية عسكرية لأنها تصل بين مصر والشام، فإذا أراد ملوك مصر غزو الشام تطلعوا أولاً إلى فتحها، وإذا أراد ملوك آشور أو بابل غزو مصر من الشمال حشدوا قواتهم فيها قبل الغزو، كما كانت ساحة لحسم الصراع بين الهلينستيين: البطالمة في مصر والسلوقيين في سوريا، فكان الاستيلاء على غزة ’’يعني السيطرة على طرق الحرب والتجارة بين آسيا وإفريقيا’’.[2]
* قاعدة مبكرة للحكم المصري
وقد تعاقب على المدينة أنواع مختلفة من السلالات البشرية في فجر ميلادها، كإنسان البحر المتوسط بالإضافة إلى القبائل السامية وأشهرها الكنعانيون، وهناك مجموعات مختلطة كالهكسوس، وقد أدرك حكام مصر مبكراً الأهمية الاستراتيجية لبلاد الشام عموماً وفلسطين خاصة، وفي كتاب ’’خرافات يهودية’’ يتتبع الأستاذ أحمد الشقيري أول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية، تاريخ الصلات المصرية الشامية وامتداد السيادة المصرية على فلسطين منذ القرن العشرين قبل الميلاد،[3] ولما كانت غزة هي موضوعنا، فإنها برزت حينما التفت الحكام في مصر إلى أهمية الشام في الدفاع عن أراضيها حتى لا تتكرر اعتداءات الهكسوس[4] فقاموا في عهد الدولة الحديثة ببناء امبراطوريتها التي ضمت سورية إليها على يد الملك تحتمس الثالث، أول بناة الامبراطوريات في التاريخ، من الأسرة الثامنة عشرة بعد القضاء على حكم الهكسوس والانتصار على ملوك كنعان في معركة مجدو (1479 ق. م)، ويمتد الحكم المصري في هذه البلاد من القرن السادس عشر إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد وهو زمن الأسرتين الثامنة عشرة والتاسعة عشرة في العصر البرونزي الأخير،[5] وفي هذه القرون الأربعة ’’كان تاريخ فلسطين ينبئ بأنها ولاية مصرية... وكانت غزة هي المركز الرئيس للإدارة’’،[6] ولم يضعف الحكم المصري في فلسطين في هذه الفترة إلا مدة لا تزيد عن خمسين عاماً[7] منذ انشغال الملك أخناتون (1375- 1358 ق. م) بثورته الدينية التوحيدية التي زادت أثناءها التهديدات الحثية التي دفعت حكام المدن الكنعانية إلى إرسال رسائل الاستغاثة إلى الفرعون لطلب النجدة كما تدل على ذلك مئات الرسائل الخزفية التي عثر عليها سنة 1887 في العاصمة المصرية القديمة (أخيت-آتون) في تل العمارنة حاليا شمال أسيوط وجنوب القاهرة،[8] وقد اتخذت الدولة المصرية في أثناء قرون سيطرتها على فلسطين من مدينة غزة قاعدتها الإدارية والتجارية والعسكرية في أرض كنعان ووُصفت المدينة بأنها ’’العاصمة المصرية في أرض الكنعانيين’’ وشهدت ازدهاراً واهتماماً من جانب الملوك الفراعنة.[9]
ولما انتهت الحروب بين الامبراطوريتين المصرية في الجنوب والحثية في الشمال في زمن رعمسيس الثاني (1301- 1224 ق. م) اتضح من معاهدات الصلح أن مصر عدت’’فلسطين بأسرها وديار الشام كلها أرضاً مصرية، وجزءً لا يتجزأ من الدولة المصرية، أو بالتعبير الحاضر، محافظة مصرية... ويقول المؤرخ الفلسطيني الكبير الأستاذ مصطفى الدباغ في كتابه الرائع بلادنا فلسطين: وكانت اللغة المصرية القديمة منتشرة في جميع المدن الفلسطينية المشهورة وبخاصة في بيسان كما كانت اللغة الكنعانية منتشرة في كثير من مدن مصر الشمالية’’.[10]
* هجرة شعوب البحر
ابتداء من نهاية القرن الثالث عشر قبل الميلاد، شهدت منطقة بحر إيجة (غرب الأناضول واليونان وجزيرة كريت) اضطرابات سكانية نتجت عن عمليات غزو قامت بها الشعوب اليونانية التي كانت بدائية لهذه المنطقة، وقد عبرت عن هذه الاضطرابات الملاحم اليونانية التي روت قصص حروب طروادة (الإلياذة والأوديسة)، ودفعت هذه الاضطرابات أهالي تلك البلاد إلى الهجرة والبحث عن مواطن جديدة،[11] وأدى اختلاط من بقي منهم في وطنه باليونانيين إلى رفع المستوى الحضاري اليوناني الذي كان غارقاً في الهمجية فنتج عن اختلاط هؤلاء الوافدين اليونانيين بالإيجيين الأصليين وعن مؤثرات شرقية أخرى الحضارة الإغريقية فيما بعد،[12] واتجهت شعوب إيجية بأكملها نحو قبرص وسواحل الشام ومصر ودمرت الامبراطورية الحثية في طريقها، وذلك بالإضافة إلى هجرة القبائل الليبية في نفس الفترة من سواحل وجزر جنوب أوروبا إلى سواحل ليبيا في موجات متتابعة تحالفت مع شعوب البحر (1221 ق. م)[13] واستهدفت مصر ابتداء، من الشرق والغرب،[14] ومن البر والبحر، وبدأت هذه الهجمات في عهد الملك رعمسيس الثاني (1304- 1237 ق. م) ثم الملك مرنبتاح (1236-1223ق. م) الذي صد هذه الموجة سنة 1225 ق. م، ثم الملك رمسيس الثالث (1198- 1166 ق. م) الذي تمكن من صد غزو شعوب البحر بمعركة برية وبحرية جرت حوالي سنة 1191 ق. م، وسجل انتصاره فيها بنقوش مازالت ماثلة على جدران معبد آمون في مدينة هابو، وهي أول معركة بحرية مصورة في التاريخ وفقاً للمؤرخ الكبير سليم حسن،[15] وتصور النقوش التي امتدت على آلاف من الأقدام المربعة المنحوتة على الحجر[16] الجنود من شعب ’’بلست’’ وغيره وقد ارتدوا الدروع وحملوا التروس الصغيرة المستديرة والسيوف العريضة والثقيلة وارتدوا فوق رءوسهم قلنسوات مزينة بالريش تشبه تلك التي رأيناها على الهنود الحمر فيما بعد،[17] كما تصور النقوش عرباتهم البرية ذات العجلات المدورة التي تجرها الثيران وسفنهم البحرية ورءوس الطير التي تتقدمها، ومسار المعارك والهزيمة والأسر، ورغم هزيمتهم أمام الملك رعمسيس الثالث فقد سمح لهم بعد انتصاره عليهم بالاستقرار على الساحل الشامي الذي يلي مصر مباشرة، وكان أبرز هذه الشعوب الفلسطينيون، أو ’’بلست’’ كما مر، والذين منحوا اسمهم للسهل الساحلي في البداية فأصبح يعرف بفلسطيا أو سهل فلسطيا ثم صار اسمهم علماً على البلد كله المعروف اليوم، واستوطنوا جنوب جبل الكرمل الذي كان الحد الفاصل بين بلادهم وبلاد الفينيقيين شمالاً،[18] وتوزع استيطانهم في خمس مدن رئيسة هي غزة وعسقلان وأسدود وجت (مازال موقعها موضع نقاش) وعقرون (تل المقنع)، هذا بالإضافة إلى مدن أخرى كرفح ويبنا ومدينتي اللد وصقلغ (شمال بئر السبع) اللتين استحدثوهما ولم يكن لهما وجود من قبل.
كان الفلسطينيون القدماء أصحاب قوة مرهوبة الجانب بسبب استعمالهم الأدوات الحديدية التي كانوا يتقنون صناعتها قبل أن تكون معروفة في المنطقة، إذ لم يكن استعمال الحديد شائعاً في سورية قبل قدومهم وكان معروفاً في مصر منذ سنة 1300 ق. م فقط،[19] ’’فعظمت صولتهم وقويت شوكتهم’’[20] وكانوا السبب في نقل هذه البلاد من العصر البرونزي إلى العصر الحديدي ’’وكان ذلك أهم فضل لهم’’،[21] وكان جيرانهم يأتون إلى بلادهم لتصنيع الأدوات الحديدية المختلفة، وبهذا ’’بدأ عصر الثراء الحضاري والتكنولوجي لمدينة غزة وما حولها’’.[22] وبنى الفلسطينيون سوراً ضخماً حولها لحمايتها، وفي نفس هذه الفترة ظهر بنو إسرائيل على مسرح الأحداث في أرض كنعان، وكانت غزة وبقية المدن الفلسطينية عائقاً كبيراً في وجه التمدد الإسرائيلي بسبب القوة الرهيبة التي تمتع بها أهلها كما تصف ذلك أسفار التوراة التي هيمنت على الأفكار والتصورات الغربية تجاه بلادنا، ولم يتمكن القائد الإسرائيلي يشوع الذي عبر بقومه نهر الأردن وأسقط كثيراً من المدن الكنعانية من التحرش ببلاد الفلسطينيين طيلة حياته، وعلى الرغم من اتساع فتوحاته في بلاد الكنعانيين فقد ’’بقيت أرض كثيرة جداً للامتلاك، هذه هي الأرض الباقية، كل دائرة الفلسطينيين’’ سفر يشوع 13/ 2.
وحدثت جولات عديدة بعد ذلك بين الفريقين كانت الغلبة في معظمها للفلسطينيين، وحتى في فترة الازدهار الإسرائيلي الخاطف التي تصورها التوراة لزمن داود وسليمان، لم تتمكن الدولة الإسرائيلية من ضم غزة ومدن الفلسطينيين الأخرى التي ظلت مستعصية عليها، وتتراوح آراء المؤرخين بين القول بأن المملكة الإسرائيلية لم تلامس البحر قط والقول بأنها لامسته ولكنها لم تقدر على ضم غزة والمنطقة المحيطة بها والتي ظلت شوكة في عنق اليهود حتى في أعلى مراحل ازدهار مملكتهم الموحدة، كما ستصبح فيما بعد في عهد الغزوة الصهيونية المعاصرة، ثم لم تلبث أن انقضت على هذه المملكة بعد وفاة سليمان وانقسام مملكته إلى دولتين متناحرتين ليقتطع الفلسطينيون من أراضيها ويساهمون في تقويضها.
هذا العناد الفلسطيني الذي واجهه بنو إسرائيل من غزة ومحيطها أشعل الحقد والغيظ في قلوبهم تجاهها، ولما لم يقدروا على إخضاعها في الواقع، نالوا منها في خيالهم، فرووا أساطير كأسطورة شمشون التي تحكي قصة بطل من أبطالهم يتمكن من قتل ألف فلسطيني بفك حمار، ويهدم معبد غزة على من فيه بذراعيه ’’فكان الذين أماتهم في موته أكثر من الذين أماتهم في حياته’’ سفر القضاة 16/ 30.
كما كثر ذكر الفلسطينيين وبلادهم في التوراة حتى زاد عن أربعمائة مرة،[23] وكرست التوراة كثيراً من النبوءات والأدعية للنيل من غزة وأهلها ومحيطها: ’’غزة تكون متروكة، وأشقلون (عسقلان) للخراب، أشدود عند الظهيرة (أي سريعاً) يطردونها، وعقرون تُستأصل، ويل لسكان ساحل البحر أمة الكريتيين، كلمة الرب عليكم، يا كنعان أرض الفلسطينيين إني أخربك بلا ساكن، ويكون ساحل البحر مرعى بآبار للرعاة وحظائر للغنم، ويكون الساحل لبقية بيت يهوذا عليه يرعون’’ صفنيا 2/ 4-7.
’’فأرسل ناراً على سور غزة فتأكل قصورها وأقطع الساكن من أشدود..’’ عاموس 1/ 7، ’’الملك يبيد من غزة وأشقلون لا تُسكن ويسكن في أشدود زنيم وأقطع كبرياء الفلسطينيين وأنزع دماءه من فمه ورجسه من بين أسنانه... ’’ زكريا 9/ 6، ’’هكذا قال السيد الرب: هأنذا أمد يدي على الفلسطينيين وأستأصل الكريتيين وأهلك بقية ساحل البحر وأجري عليهم نقمات عظيمة بتأديب سخط فيعلمون أني أنا الرب إذ أجعل نقمتي عليهم’’ حزقيال 25/ 16.
وهذه الأدعية والنبوءات هي جزء مما نال كل أعداء بني إسرائيل وقد تجاوزتها المسيحية التقليدية بالتفسيرات المجازية للتوراة وجعلت من كل من ذُكر فيها بالشر رمزاً لمملكة إبليس العدو الحقيقي للإنسان، ومن دمار هذه الأمم دماراً لمملكة الشر وليس لشعوب معينة.
ونتيجة هذه الأساطير والأدعية والنبوءات والتاريخ المليء بالمواجهات بين شعب الله المختار وأعداء الله الفلسطينيين، أصبحت كلمة فلسطيني Philistine تحمل مدلولاً سلبياً مثل كلمة البربري، وقد انتقل هذا الانطباع إلى اللغات الأوروبية التي تحمل هذه الكلمة فيها معاني الجهل والنزعة المادية وعدم الاهتمام بالفكر والفن، وستوضح الحفريات والاكتشافات الحديثة عدم دقة انطباق هذه الصفات على الفلسطينيين القدماء الذين ’’كانوا شعباً يتعاطى الزراعة والتجارة، وكانوا يملكون ثقافة متقدمة وعريقة... وإنها سخرية عجيبة من سخريات القدر أن كتب على لفظ فلستيني أن تكون مرادفة لكلمة بربري، وقد نشأ هذا الاستخدام اللفظي لأن تاريخ أيامهم وصل إلينا عن طريق الإسرائيليين الذين لم يكن في ضميرهم إنصاف لأعدائهم، وقد استخدم اليهود القدامى إسم ’’فلستيني’’ حتى جعلوه مرادفاً للسكير العربيد، ولكن الحقيقة هي أن الفلستينيين كانوا على درجة كبيرة من الحضارة تفوق حضارة الإسرائيليين’’.[24]
في البداية احتفظ الفلسطينيون باستقلالهم وألفوا طبقة عسكرية أجنبية مكتفية بذاتها نتيجة لقوتهم ووجود أسرهم معهم، ووصلوا ذروة قوتهم في النصف الثاني من القرن الحادي عشر قبل الميلاد (1050 ق. م)، ومن إنجازاتهم الحضارية بالإضافة إلى صناعة الحديد، تحفيز الفينيقيين على ارتياد البحار[25] إذ لم يسجل اهتمام هؤلاء بالبحر قبل ذلك،[26] وهناك من يتحدث عن نقل الكتابة الإيجية إلى أرض كنعان حيث ظهرت الأبجدية لدى الفينيقيين، ولكن هذا ليس مؤكداً[27] ويفضل ترك هذا الاختراع بلا هذا التحديد، ومع ذلك فإن الإنجازات الحضارية للفلسطينيين القدماء بصفتهم ورثة الحضارة المينووية في جزيرة كريت تنفي المعنى السلبي الذي ارتبط باسمهم في اللغات الأوروبية لاسيما أن اليهود هم من وصموهم بالصفات السلبية مع أن الفلسطينيين فاقوهم في التمدن والعمارة ’’فتدل بقايا منازلهم عن فن رفيع في البناء، بينما المنازل اليهودية بدائية صغيرة واطئة السقوف’’،[28] وعندما زار هيرودوتس أبو التاريخ سورية في القرن الخامس قبل الميلاد ’’أي بعدما أدى الأنبياء الكبار رسالتهم فعلاً، كان اسم إسرائيل نفسه غير معروف عند هيرودوتس، وكانت أرض إسرائيل - في الصورة العامة التي رسمها هيرودوتس عن العالم السوري- ماتزال تحجبها أرض الفلسطينيين، وهو يتحدث فيما كتب عن أرض الفلسطينيين، وقد ظل اسمها حتى اليوم فلسطين أو بالستين’’ كما يقول المؤرخ الشهير أرنولد توينبي.[29]
ويقول الأستاذ سليم عرفات المبيض: ’’استطاعت غزة في الفترة الفلسطينية أن تصل إلى ذروة مجدها الاقتصادي والعمراني... حتى أضحى اسمها يعني كل الأرض الفلسطينية كما جاءت في قائمة شيشنق، فكثيراً ما كانت تبدي الولاء والطاعة للمصريين أكثر مما قاومتهم’’،[30] ويتحدث عن مصادر هذا الدخل الذي لم يأت من تجارة المرور والبحر المتوسط بل من التجارة والصناعات الحديدية ومن التعاون مع مصر في تأمين طريقها التجاري والعسكري نحو الشمال ’’فكان حسن الجوار والمعاملة لأننا نرى أن معظم الآثار الفلسطينية جنباً إلى جنب مع الفرعونية في غزة ودير البلح وتل جمة وتل الفارعة ورفح ويافا وجازر ومجدو حتى بيسان كأهم قواعد كنعانية- مصرية- فلسطينية على طريق الساحل وبالقرب منه’’.[31]
وهذا ما يقودنا إلى الصفة التي ميزت الوجود الفلسطيني القديم بعد فترة علوه التي لم تزد على قرنين منذ بداية توطنه (1200- 1000 ق. م)،[32] وهي صفة الاندماج في المحيط، ذلك أن غربة أي كيان عن محيطه تحتاج مدداً مستمراً من الهجرة لتحافظ على هويته، ولما كان هذا الأمر غير وارد في الحالة الفلسطينية،[33] فقد اتجهوا نحو امتصاص المؤثرات المحيطة بهم من مصر وبقية أرض كنعان، وينقل الدكتور أحمد سوسة عن أحد المؤرخين، وهو لودز، قوله إن الفلسطينيين ’’تكنعنوا’’[34] بعد زمن هيمنتهم وتقبلوا التأثيرات الثقافية والحضارية المحيطة في اللغة والدين وحتى الخزف[35] الذي تميزوا به في البداية عن غيرهم، ’’حتى كادوا أن لا يتركوا أثراً يمكن أن يذكرنا بهم’’ كما يقول الدكتور فيليب حتي،[36] وهو ما يكذب التعريف المقبول لكلمة Philistinism بأنها التمسك المغرور بالتقاليد.[37]
استمر عهد الاندماج الفلسطيني بالمحيط أربعمائة سنة (1000- 600 ق. م)، قام أثناءها الملك شيشنق أول فراعنة الأسرة الثانية والعشرين (الليبية) التي حكمت قرنين بعد ذلك، بقيادة حملة أخضعت أكثر من 150 موقعاً في أرض كنعان بعد انقسام مملكة داود وسليمان (922 ق. م) إلى مملكتين متصارعتين هما يهودا التي عمرت 350 عاماً وإسرائيل التي عمرت قرنين، وبعد أن تلقى دعوات بسبب التنافس على العرش في مملكة يهودا، ويلاحظ أن مدينة غزة لم تبد أية مقاومة لهذه الحملة وجاء اسمها على القائمة التي نقشها شيشنق لتسجيل انتصاراته بصفتها أول مدينة استولى عليها للتأكيد على مكانتها الاستراتيجية، ’’فمازالت الأرض الفلسطينية وأبرزها غزة رصيداً فلسطينياً زاخراً وثرياً فهي من المدن الواقعة في الجنوب والقريبة من مصر الفرعونية التي تواءمت مع الفلسطينيين بحسن الجوار وتوطيد العلاقات الاقتصادية بحيث أسند الفلسطينيون ظهورهم جنوباً وهم مطمئنون’’.[38]
* دور عالمي في الزمن الآشوري
ثم تعرضت فلسطين للغزو الآشوري في بداية القرن الثامن قبل الميلاد وأصبحت جزءً من الامبراطورية الآشورية واستبدلت بسلالاتها الحاكمة قادة محليين يدينون بمناصبهم للآشوريين وشهدت المدن الفلسطينية تمدداً عمرانياً ورخاء تجارياً وصناعياً غير مسبوق في ظل السلام الآشوري لمدة سبعين عاماً[39] وأصبحت مدينة عقرون (تل المقنع) أكبر مركز لإنتاج زيت الزيتون في الشرق الأدنى القديم،[40] بل في العالم القديم،[41] وكان الزيت آنذاك مصدر دخل رئيس في الامبراطورية الآشورية،[42] ولهذا كانت المدينة مساهماً رئيساً في اقتصاد الآشوريين،[43] ولكن هذا الازدهار وما صاحبه من دفع ضرائب باهظة أدى إلى ثورات في العالم الآشوري قامت فيها مدينة غزة بدور قيادي وصفه أحد المؤرخين بالعالمي[44] وذلك بمؤازرة مصرية،[45] ثم ما لبث الآشوريون أن انسحبوا بعدها (630 ق. م) لتعود البلاد للحكم المصري الذي ما لبث أن واجه هجوماً من بابل حاول الفلسطينيون الاحتماء منه بفرعون مصر ولكنه أدى هذه المرة إلى اختفاء الوجود الفلسطيني القديم من مسرح الأحداث، وتعزو نظرية حديثة هذا الاختفاء المفاجئ للحضور الفلسطيني إلى اندماجه الثقافي والحضاري في محيطه في عدة مجالات كاللغة والكتابة والدين والتجارة والتقنية، والتأثر الكبير بالثقافات المحيطة في أرض كنعان مما جعل الفلسطينيين يفقدون هويتهم المميزة وكان للهزيمة التي ألحقها بهم الهجوم البابلي في نهاية القرن السابع قبل الميلاد الأثر الحاسم في القضاء على الوجود السياسي الذي فقد التماسك الذي يمكنه من البقاء بعدما فقد جوهره الثقافي المتميز في قرون الاندماج التدريجي والاستعارة الحضارية، أما عن الأفراد فإن الهزيمة أدت إما إلى التشتت أو الرحيل عن مدنهم والاندماج في الكيانات التي تبقت من حولهم بعدما فقدوا الطاقة الثقافية التي تحافظ عليهم وذاب تماسكهم وحيويتهم.[46]
* مدينة بابلية عظيمة
لم يعن اختفاء الشخصية الفلسطينية القديمة زوال المدن والسكان، وقد سقطت الامبراطورية الآشورية على يد الكلدانيين أو البابليين الجدد الذين احتلوا مدينة نينوى سنة 612 ق. م ثم انتصروا على القوات المصرية في معركتي كركميش (605 ق. م) وحماة (604 ق. م) فانتقلت بلاد الشام إلى الحكم البابلي الجديد لمدة 65 عاماً كانت مدينة غزة في أثنائها تسمى المدينة العظيمة أو المدينة الكبيرة نتيجة المكانة التجارية المرموقة التي تحققت لها من موقعها الحدودي الهام على طرف الامبراطورية البابلية.[47]
* ازدهار اقتصادي في الزمن الفارسي
سقطت بابل في سنة 539 ق. م على أيدي الفرس الذين قام امبراطورهم قورش بإعادة اليهود الذين سباهم نبوخذ نصر إلى بابل فيما سبق (586 ق. م)، وقد عارض سكان فلسطين عودة هؤلاء اليهود ولكن لم يقع صدام ملحوظ بين غزة والإمبراطورية الفارسية التي كانت حريصة على ازدهار موانئ البحر المتوسط، ورغم المقاومة الأولية التي أبدتها المدينة ضد الحكم الفارسي، فإنها ائتلفت معه فيما بعد،[48] وشهدت المدينة ازدهاراً اقتصادياً ملحوظاً وسكت نقوداً باسمها فاكتسبت هذه النقود أهمية عالمية لشبهها بالنقود الأثينية المنتشرة في تلك الفترة، وكانت تلك النقود هي الأولى التي تسك في فلسطين، وتمتعت غزة في الفترة الفارسية بحكم ذاتي واسع وحرية دينية كبيرة وأصبحت مدينة عظيمة لما هاجمتها جيوش الإسكندر في القرن الرابع قبل الميلاد كما سيأتي مما دفع أهلها للوقوف إلى جانب الفرس.[49]
* هيرودوتس في بلادنا
وقد زار المؤرخ اليوناني الكبير هيرودوتس الذي لقب بأبي التاريخ بلاد الشرق في القرن الخامس قبل الميلاد، وقد وصف ساحل فلسطين بقوله: ’’الأرض الممتدة من جنوب فينيقيا حتى مدينة غزة يسكنها سوريون يسمون بالفلسطينيين، وجميع الموانئ من غزة إلى مدينة اينوسوس تتبع ملك العرب وتنتمي للسوريين...’’،[50] وهي فقرة دالة على مدى اندماج الهويات في هذه البلاد وعدم وجود الحدود الفاصلة، فالفلسطينيون سوريون وبلاد ملك العرب تنتمي للسوريين.
كما أنه يعزى لهذا المؤرخ تسجيل أن هذا الجزء من سورية يعرف بفلسطين، ثم انتقل الاستعمال إلى اليونانيين الذين أطلقوه على كل أجزاء البلد وانتقل بعدهم إلى الرومان والبيزنطيين وما خلفهم،[51] ويعلق الأستاذ فوكس جاكسون على وصف هيرودوتس لفلسطين وغياب اليهود عن هذا الوصف بقوله: ’’تفسيره بسيط غاية في البساطة. لقد كانت مملكة يهودا مقاطعة غاية في الصغر وكان سكانها من التفاهة في العدد لدرجة أن أذكى وأبصر السواح في القرن الخامس قبل الميلاد (هيرودوتس) كان يزور ما كانت تسمى بفلسطين سورية أو بسورية الفلسطينية وقد لا يسمع عن اليهود شيئاً أبداً’’.[52]
* في مواجهة الإسكندر ثم تحت رعايته
اندفع الإسكندر المقدوني لفتح الساحل الشامي سنة 333 ق. م، ولم يواجه مقاومة حقيقية إلا من مدينة صور التي اضطر لحصارها سبعة أشهر وتمكن منها بعدما وصل جزيرتها بالبر، ثم من مدينة غزة التي خف الأنباط لنجدتها رغم كونها خارج سلطانهم،[53] وكان يحميها كذلك السور الذي بناه الفلسطينيون قبل قرون، فلجأ الإسكندر إلى بناء تل ارتفاعه 80 متراً نصب عليه أسلحته وبدأ قصف المدينة حتى تمكن منها بعدما ضحى بعدد كبير من جنوده وبعدما أصيب هو نفسه في كتفه وركبته مما أثار نقمته على المدينة وجعله ينكل بأهلها قتلاً وبيعاً في سوق الرقيق وبحاميتها العربية والفارسية لاسيما قائدها الفارسي.[54]
ولما استتب الوضع له اهتم بإعادة تعمير المدينة وبناء ما دمرته الحرب، و’’اهتم بها أكثر من اهتمامه قبل فتحها، وبعد أن كان غاضباً من سكانها، عاد فعفا عنهم وعن الذين هربوا من وجهه منهم، وأمر ببناء مساكنهم التي تهدمت أثناء الحرب، وإعادتها إلى سالف عزها’’، وبهذا بدأ الحكم الأوروبي في بلادنا والذي سيمتد ألف عام إلى مجيء الفتح الإسلامي في القرن السابع الميلادي، واستدعى الإسكندر أعداداً كبيرة من اليونانيين للإقامة في المدينة، ومع أن بعض الباحثين رأوا في ذلك استعماراً استيطانياً هدد هوية المدينة العربية،[55] فإن رؤية الإسكندر كانت تختلف عمن أتى بعده من المستعمرين الأوروبيين، ذلك أنه كان مهتماً بتشجيع ’’التمازج والتفاعل الحضاري’’،[56] و’’لم ير الشرقيين أقل درجة من بني قومه اليونان لأنه كان يرغب في إدماج الشرق بالغرب، باتحاد شعوبه في عالم واحد ودولة واحدة تحت سلطانه. وقد شرع في ذلك فملأ البلاد المفتتحة بالتجار اليونانيين، وتزوج زوجة فارسية، وتبعه قواده وعشرة آلاف من أتباعه المكدونيين فتزوجوا زوجات آسيويات، اعتقاداً منهم بأن ذلك من أعظم الوسائل لامتزاج الشرق والغرب. وكانت امبراطوريته تقوم على أساس المساواة بين الناس جميعاً’’.[57]
ولهذا لم تقتصر سكنى غزة على اليونانيين الوافدين، فقد استدعى الإسكندر إليها بالإضافة إلى أهلها الأصليين عدداً من سكان القرى المجاورة، وسعى لمزج كل هذه العناصر بعضها ببعض،[58] و’’ضمن لسكان المناطق الداخلية حقوقهم وأماكن سكناهم إلى حد بعيد فاحتفظوا من ثم على تراثهم وثقافتهم العربية السامية لتبقى ذخراً للساحل الذي أصبح إلى حد كبير يونانياً بلغته وحضارته وكذا نظمه السياسية لألف سنة تقريباً’’.[59]
كانت غزة عندما فتحها الإسكندر ’’أعظم مدينة في سوريا على الإطلاق، وقد وصفها مؤرخو اليونان بالمدينة العظيمة’’، وسبب ذلك الطيب واللبان ووقوعها على طرق التجارة والمواصلات، أي أن أسباب ازدهارها زراعية وتجارية وعسكرية، ولما فتحها الإسكندر وجد فيها كميات هائلة ون الذخائر والمؤن والكنوز العظيمة والمواد غالية الأثمان،[60] وعادت لها أهميتها التجارية لتصل علاقاتها إلى اليونان وإيطاليا، كما أصبحت مركزاً ثقافياً يقصدها الطلاب من أثينا لدراسة الفلسفة،[61] ’’وقصارى القول إن عصر اليونان في غزة كان عصرها الذهبي، وكان الناس يومئذ يسمونها غزة المقدسة وغزة المستقلة وغزة المضيئة وغزة العظيمة، وفي الحقيقة كانت يومئذ أكبر مدن سوريا على الإطلاق’’،[62] ولا شك أن هذا الوضع يختلف جذرياً في أثره على السكان الأصليين عما اقترفه الاستعمار الأوروبي الحديث.
* ساحة لحسم الصراع بين ورثة الإسكندر
بعد وفاة الإسكندر سنة 323 ق. م دخلت امبراطوريته في ثلاث دورات من الحروب: الأولى (323- 301 ق. م) هي صراعات قواده على اقتسام الامبراطورية التي أنشأها، وفي سنة 315 ق. م استولى القائد أنتيجونس صاحب آسيا الصغرى على سوريا، ولكن القائد بطلميوس والي مصر لم يقبل بذلك ودارت بين الطرفين معركة غزة في سنة 312 ق. م التي كان النصر فيها حليف والي مصر، وعلى إثر ذلك استولى على سوريا الجنوبية، وعلى الرغم من محاولة أنتيجونس العودة إلى غزة في السنة نفسها، والصلح الذي عقده مع مصر في السنة التالية (311 ق. م) وحصل بموجبه على المنطقة الساحلية حتى حدود مصر، فقد استمر التوتر بينه وبين بقية قواد الإسكندر لأنه حاول إعادة وحدة الامبراطورية تحت قيادته مما أدى إلى اجتماعهم عليه وهزيمته في سنة 302 ق. م وتقسيم امبراطورية الإسكندر، وقد جرت معارك عديدة في هذه الفترة التي تلت وفاة الإسكندر بين الأطراف المتنافسة والتي عبرت جيوشها فلسطين سبع مرات بين وفاته وهزيمة أنتيجونس، ثم تجدد الصراع في الدورة الثانية (301- 277 ق. م) من الحروب -بعد هزيمة أنتيجونس وتقسيم الامبراطورية عملياً- إلى سنة 277 ق. م بين قادة الإسكندر والجيل الثاني الذي خلفهم،[63] ثم أصبحت بعد ذلك منطقة سوريا الجنوبية التي آلت إلى بطلميوس والي مصر وصارت جزءً من الدولة البطلمية محلاً للصراع مجدداً في دورة ثالثة (276- 168 ق. م) بينها وبين جارتها الدولة السلوقية في سوريا، الأمر الذي نتج عنه قيام ست حروب عنيفة بين الجانبين عرفت بالحروب السورية، وتمكن السلوقيون في الحرب الرابعة منها من الوصول إلى جبل الكرمل ولكن البطالمة هزموهم في معركة رفح قرب غزة سنة 217 ق. م، وقد استخدم السلوقيون فيها فيلة هندية واستخدم البطالمة فيلة إفريقية، ومع أن الفيلة البطلمية الإفريقية تراجعت أمام الفيلة السلوقية الهندية،[64] فقد مالت كفة المعركة لصالح الجانب البطلمي بسبب الأداء الفعال لسلاح المشاة فيه والمكون من الفلاحين المصريين،[65] ونتج عن هذه المعركة بقاء سوريا الجنوبية في حوزة الدولة البطلمية المصرية حتى سنة 198 ق. م عندما انتصر السلوقيون عليها في معركة بانياس.
* مصدر إزعاج للمكابيين
انقسم اليهود في فلسطين في ظل الحكم اليوناني إلى حزبين: أحدهما تبنى الحضارة اليونانية وعاش وفق الأسلوب اليوناني وأهمل التقاليد الدينية اليهودية، والثاني تمسك بهذه التقاليد وانتهز فرصة ضعف الدولة السلوقية ليقوم بثورة بداية من سنة 167ق. م وتمكن في النهاية من الحصول على درجات متفاوتة من الاستقلال.
لم تدخل غزة في البداية تحت حكم هؤلاء المكابيين، ولما توجه إليها يوناثان، ثاني حكامهم، أغلقت الأبواب في وجهه، ’’فحاصرها وأحرق ضواحيها بالنار ونهبها’’ (سفر المكابيين/11)، فطلب أهلها الأمان وعقدوا معه اتفاقاً، ولكن الوئام لم يستمر لأن خليفة يوناثان توجه لحصار المدينة مرة أخرى وهدم أصنامها ولكنها لم تخضع مع ذلك وعادت إلى الثورة في زمن اسكندر جانيوس الذي قام هذه المرة بتدميرها سنة 96 ق. م.[66]
* مركز الوثنية
في القرن الأول قبل الميلاد دخلت غزة في حكم الرومان الذين أعادوا بناء ما دمره المكابيون وقضوا على الدولة اليهودية ودمروا مدينة القدس (135م) وحولوها إلى مدينة وثنية، إلا أن ذلك لم يكن سبب شتات اليهود كما يدعون لأنه منذ ما قبل دمار الهيكل سنة 70 م كان عددهم خارج فلسطين أكبر من عددهم داخلها، وهو أمر مجمع عليه.[67]
وفي ظل السيادة الرومانية تمتعت المنطقة بفترة من السلام بعيداً عن الصراعات الدولية التي أنهكتها، وأصبحت غزة في هذا العصر من مدن الشرق الرئيسة وشعرت بالأمان وزاد عمرانها واستعادت صلاتها السابقة وازدهارها التجاري مع ضم بلاد العرب إلى الامبراطورية وإعلانها ولاية،[68] وأطلق على غزة في هذا العصر المدينة الشريفة والمدينة الجميلة والمدينة الغنية،[69] ونزل بها الامبراطور هدريان سنة 130 م وأحدث فيها الألعاب الهدريانية وهي مباريات في البلاغة والمصارعة وغير ذلك،[70] إلا أن انتشار المسيحية أوجد صراعاً عقائدياً وثقافياً بين الديانة الجديدة والديانات الوثنية المتوارثة، وفي غمرة هذا الصراع، أصبحت مدينة قيسارية مركز الديانة المسيحية، ومدينة طبرية مركزاً لليهودية، ومدينة غزة مركزاً للوثنية، فقد تمسك أهلها بآلهتهم التي يعود بعضها إلى أقدم العصور، وقاوموا المبشرين بالمسيحية مقاومة عنيفة، كما لم يستجيبوا للقوانين التي أصدرها الأباطرة الرومان الذين تبنوا المسيحية رسمياً (ابتداءً من قسطنطين سنة 324 م) للحد من الممارسات الوثنية في المدينة، ولما أصدرت الامبراطورة أفدوكسيا أمرها بتدمير جميع المعابد الوثنية في غزة في بداية القرن الخامس الميلادي حاول الغزيون منع ذلك بالقوة لكنهم لم يتمكنوا من ذلك وبدأت المسيحية بالانتشار في المدينة منذ ذلك الوقت.[71]
* إنجازات غزة البيزنطية
انقسمت الامبراطورية الرومانية في سنة 395 م وأصبحت غزة ومحيطها من نصيب الامبراطورية الرومانية الشرقية التي عرفت بالإمبراطورية البيزنطية التي كانت عاصمتها القسطنطينية، وبصفتها جزءً من هذه الدولة المسيحية عرفت غزة كثيراً من الإنجازات رغم بقائها أكبر مركز للوثنية في فلسطين حتى أواخر القرن الرابع الميلادي.[72]
في البداية كان هيلاريون الغزي (291- 371م) هو أول الرهبان في فلسطين، وقد تلقى العلم في الإسكندرية ثم عاد ليعتكف في برية غزة فوفد إليه الكثيرون ليقتدوا به واكتظ جواره بالأديرة التي انتشرت في أنحاء فلسطين أيضاً.[73]
أصبحت غزة أيضاً في مقدمة مراكز التعليم وكانت تحتوي واحدة من المدارس الست الرئيسة في الامبراطورية البيزنطية،[74] وتقف في صف واحد إلى جانب أثينا والقسطنطينية وبيروت وأنطاكية والإسكندرية،[75] ورغم كون غزة بنتاً للاسكندرية، فقد تفوقت بعد سنة 500م على أمها،[76] و’’كانت تمثل أرفع ما وصلت إليه المعرفة الكلاسيكية والمسيحية في المشرق في القرن السادس بشكل خاص’’،[77] وفي تلك الحقبة عم أثر غزة الثقافي محيطها وتجاوز حدود فلسطين.[78]
وقد امتاز ميناء غزة عن بقية موانئ الساحل الفلسطيني بجواره العربي الذي تنتهي قوافله في المدينة فتصل بدورها مراكز التجارة في شمال الجزيرة العربية بالبحر المتوسط الذي يحمل إليها أيضاً سفن الأسطول الإمبراطوري الذي كان مركزه في سلوقية في الشمال السوري.[79]
وفي مجال التأثيرات الحضارية ’’وبسبب ارتباط فلسطين بمختلف الجهات والأقطار القريبة منها أو البعيدة عنها قليلاً’’، لم يعزلها الانتماء للإمبراطورية البيزنطية عن بقية جوارها إذ تأثرت بالتطورات في إيران كما تأثرت بأرض الرافدين وآسيا الصغرى ومصر وشرق المتوسط عموماً وإن كان التأثير المصري والسوري أقوى من غيره، وتأثرت البلاد كذلك بالعناصر اليونانية والمقدونية الوافدة وأصبحت القاعدة الأساس في التطور الفني في فلسطين هي ’’التلاحم بين التقاليد الأساسية المحلية وما يأتي من الخارج، كان هذا أيام الكنعانيين والفلسطينيين، كما حدث، ولو إلى درجة أقل، أيام الآشوريين والكلدانيين والفرس، ولكن التلاحم كان أبعد أثراً في الفترة الهلينستية- الرومانية’’،[80] ولما بنى الامبراطور جستنيان (527- 565 م) كنيسة آيا صوفيا بإدخال طراز هندسي جديد إلى العالم الشرقي وأراد نشر هذا الطراز، كانت كنيسة القديس سرجيوس وكنيسة القديس أسطفان في غزة من أهم الأماكن التي احتوت التخطيط الجديد إلى جانب كنيسة القيامة في القدس وكنيسة المهد في بيت لحم.[81]
’’كانت غزة، في أوائل القرن السادس للميلاد، شأن المدن الكبيرة الفنية في الامبراطورية البيزنطية، مدينة تزهو بما تعج به من تجار وزوار كانوا يتجولون في شوارعها المعمدة وينعمون بحماماتها العامة، ويمتعون النظر بأبنيتها الإدارية الفخمة، ويقلبون الكتب في مكتبتها الغنية، ويستريحون في حدائقها الأنيقة، ويتسلون في مسرحها الجميل ويختتمون يومهم بزيارة المسبق حيث يتسابق أبطال الركض ورفع الأثقال وما إلى ذلك. هذه الأبنية لم تكن جديدة على غزة، ولا على غيرها، حتى قبل عقود من السنين أو قرنين في بعض الحالات، ولكن الذي كان جديداً هو الكنيسة المسيحية’’وفقاً لوصف الدكتور نقولا زيادة في الموسوعة الفلسطينية.[82]
وعن سكان فلسطين في الزمن البيزنطي يقول الدكتور زيادة إنهم كانوا يمثلون مجموع العناصر التي كونت الشعب، ’’وهي عناصر كنعانية آرامية فلسطية عربية كانت تتكلم العربية والآرامية/السريانية وقد تستعمل اليونانية عند الحاجة، أو تلجأ إلى اللاتينية لقضاء شئون الدولة أيام الرومان. وقد انضاف إلى هذه عناصر مقدونية ويونانية ورومانية وغيرها، وكان في البلاد جماعتان صغيرتان نسبياً هما اليهود.. والسامريون’’،[83] وهذا الاندماج الحضاري يقف عائقاً أمام من جرهم المنطق الصهيوني الذي حاول تبرير لحظته الحاضرة باحتكار تاريخ فلسطين، إلى محاولة الرد بنفس الأسلوب وإسقاط اللحظة التي سبقت الغزو الصهيوني على التاريخ كله بإثبات الاحتكار العرقي العربي لهذا التاريخ كله.
* ممهدات الفتح الإسلامي: صلات العرب بغزة قبل الإسلام
كانت مدينة غزة من المحطات النهائية التي تقصدها القوافل العربية للتجارة في بلاد الشام إلى جانب بصرى ودرعا ومعان،[84] ونتيجة صلاتها العربية القوية ميزها بعض المؤرخين عن محيطها بكونها مدينة عربية على مر الدهور[85] ومنذ أقدم الأزمنة،[86] وفقاً للمؤرخ مارتن أبراهام مير،[87] وكان الروم يقيمون فيها سوقاً في موسم معلوم ترتاده قريش، وقد نزلها أمية بن أبي الصلت أحد الحنفاء الذين اجتنبوا عبادة الأوثان وشرب الخمر قبل الإسلام، كما نزلها وتوفي فيها هاشم بن عبد مناف جد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما زال مقامه مشهوراً في جامع السيد هاشم الذي يروى أن بانيه هو السلطان العثماني عبد المجيد الأول،[88] كما نزل غزة عبد الله بن عبد المطلب والد النبي قبل وفاته وهو عائد منها، واغتنى فيها عمر بن الخطاب، وكان فيها أبو سفيان بن حرب لما استدعاه هرقل ليسأله عن الدعوة الإسلامية لما وصله كتاب النبي عليه الصلاة والسلام يدعوه إلى الإسلام، وكان الحدث المباشر الذي قاد إلى غزوة بدر الكبرى محاولة المسلمين مهاجمة قافلة لقريش كانت قادمة من غزة.[89]
* الفتح الإسلامي
يرى مؤرخون أن تمسك بلادنا في العهد البيزنطي بمذهب الطبيعة الواحدة كان شكلاً لمقاومة الهيمنة الرومية،[90] وأن الاضطهاد الذي أصاب أتباع هذا المذهب كان مما سهل عملية الفتح الإسلامي، وعموماً فقد دخل المسلمون غزة بقيادة عمرو بن العاص سنة 13 من الهجرة، 634م، في خلافة أبي بكر الصديق، وذلك رغم تحصيناتها القوية، وكان هذا أول انتصاراتهم في هذه البلاد،[91] وتمكنوا به من الفصل بين الشام ومصر والتمهيد لفتح مصر بعد عزلها عن قوة الروم،[92] وقد زارها عمر بن الخطاب بعد الفتح أكثر من مرة (638 و639) للاطمئنان على الجيش وترتيب أوضاعها.[93]
* الإمام الشافعي يلخص الروابط الإسلامية
وكان أبرز حدث بين فتح غزة والغزو الفرنجي (492 من الهجرة، 1099م) هو ميلاد الإمام الشافعي (150 من الهجرة، 767م) مؤسس أحد المذاهب الكبرى في الإسلام في تلك المدينة، وشخصيته تلخص الروابط التي ضمت المنطقة في العهد الإسلامي، فالإمام قرشي مطلبي من مكة وأمه يمانية من الأزد، نزل والده غزة واستقر فيها ثم عادت به والدته إلى مكة حيث حفظ القرآن وتلقى العلم وتنقل بين الأقطار الإسلامية طلباً للشعر والأدب ثم الفقه والحديث، فسافر إلى المدينة المنورة واليمن وفارس والكوفة وبغداد وساح في البادية ثم حط رحاله في مصر إلى نهاية حياته (204 هجرية، 820 م)، وقد عبر عن شوقه إلى غزة في بيتين شهيرين من الشعر:
وإني لمشتاق إلى أرض غزة وإن خانني بعد التفرق كتماني
سقى الله أرضاً لو ظفرت بتربها كحلت به من شدة الشوق أجفاني
’’وعلى كل فكفى غزة فخراً أنها أنجبت مثل هذا الإمام العظيم: رضي الله عنه’’.[94]
واشتهر من غزة أيضاً من رواة الحديث والفقهاء والشعراء لعل أشهرهم ’’شاعر العصر’’ إبراهيم بن عثمان الغزي المولود سنة 441 من الهجرة (1049م) أي قبل خمسين عاماً من الغزو الفرنجي، والذي زار دمشق وبغداد ثم ارتحل إلى خراسان وتوفي في بلخ، ’’ويشبهونه بالمتنبي جزالة وقوة شعر ورائق معنى’’.[95] وهو نموذج آخر للروابط التي ضمت العالم الإسلامي في ذلك العصر، ذلك أن ’’الوجه الحضاري لفلسطين في هذه القرون الممتدة من أواسط القرن 4 هجرية/ 10م إلى أواسط القرن 7 هجرية/ 13م جزء من الوجه الحضاري للمنطقة العربية الإسلامية في مده وجزره، وفي قممه وتياراته الروحية والفكرية، وحياته الاقتصادية والسياسية، فليس هو إذن بوجه منفصل أو كيان مستقل، وإذا استثنينا فترة الاحتلال الفرنجي فمن الصعب أن نجد لفلسطين كياناً حضارياً خاصاً بها ذا سمات منفردة يميزها عن باقي الشام أو عن باقي البلاد العربية، ولعل هذا هو السر في أننا لا نكاد نجد لفلسطين في المصادر العربية من بحوث خاصة أو عناوين منفردة، كانوا يعتبرونها كما يجب أن تكون قطعة من النسيج الحضاري العام للمنطقة العربية الإسلامية’’ ولم تكن فلسطين ’’الأرض التي تستبقي النابهين من أبنائها، فما أن ينبه طبيب أو شاعر أو جغرافي أو نسابة حتى يغادرها إلى القاهرة حيث ينفق بعض الوزراء على الوراقة لمكتبته ألف دينار في الشهر، أو إلى دمشق أو إلى بغداد حيث الأفق الأوسع’’ كما يقول الدكتور شاكر مصطفى في دراسته عن فلسطين في العهدين الفاطمي والأيوبي.[96]
* الأيوبيون في مصر ينجزون حطين ثانية في غزة
استولى الفرنجة الصليبيون على غزة سنة 1100 م وتسلمت عسقلان راية المقاومة بعدما كادت تسقط لولا تنازع الأمراء الصليبيين وبعد برهة من التخاذل الفاطمي ومحاولة التفاهم مع الفرنجة ضد السلاجقة على أساس أن يكون شمال الشام للصليبيين وجنوبه للفاطميين الذين استفاقوا متأخراً – ككل المستقوين بالغرب في جميع العصور- عندما ’’اكتشفوا’’ أن الحملة الصليبية تستهدف القدس التي سرعان ما سقطت سنة 1099م وأصبحت عسقلان هي جزيرة المقاومة الفاطمية في البحر الفرنجي أكثر من خمسين سنة تالية وانطلقت منها الحملات المتتالية ضد الوجود الصليبي في فلسطين،[97] وظلت غزة بحوزة الفرنجة حتى تحررت بعد معركة حطين سنة 1187م، ولكن لم يكن ذلك نهاية الأمر لأن الأطماع الفرنجية استمرت متصلة بالمدينة، وفي سنة 1239م وصلت حملة فرنسية إلى عكا ثم توجهت إلى عسقلان فبادر سلطان مصر الأيوبي إلى إرسال قوة إلى غزة للوقوف في وجه الحملة التي لم تكن محكمة القيادة فانفصلت عنها مجموعة طمعت بالاستئثار بالغنائم وأسرعت للقاء المسلمين عند قرية بيت حانون شمال غزة، وهناك انكسر الصليبيون وهُزموا هزيمة نكراء دفعت بقية الحملة التي كانت ما تزال في عسقلان إلى الرجوع إلى عكا.[98]
وفي سنة 1240م نشب خلاف بين ملك دمشق وسلطان مصر الأيوبيين، ولجأ ملك دمشق ’’الصالح’’ اسماعيل إلى الفرنجة يطلب عونهم ضد ابن أخيه سلطان مصر، وفي مقابل ذلك سلمهم القدس وعسقلان وطبريا وغيرها، ’’وضجت البلاد بالاستنكار والرفض، وأكثر العلماء حتى في دمشق كالشيخ عز الدين بن عبد السلام وجمال الدين ابن الحاجب، من التشنيع على الصالح إسماعيل والغضب على عمله، وقطعا الدعاء له على المنبر، فلاحقهما فهربا إلى مصر وإلى الكرك’’،[99] واجتمعت الجيوش الصليبية والشامية لمواجهة الجيش المصري قرب غزة ولكن الشاميين انحازوا إلى إخوانهم المصريين رافضين القتال إلى جانب الصليبيين الذين دارت الدائرة عليهم ومنوا بهزيمة منكرة وخسائر فادحة حملت الفرنسيين على مغادرة الشرق بعد عقد الصلح مع سلطان مصر الصالح أيوب.
ثم تجدد الخلاف بين أيوبيي الشام ومصر سنة 1244م، فتحالف حكام الشام مع الفرنجة ووعدوهم بنصيب من مصر والشام فاستنجد الصالح أيوب في مصر بالخوارزميين الذين اندفعوا فيما يشبه انهيار سد يأجوج ومأجوج بعد سقوط دولتهم في إيران، ونأى صاحب الكرك الأيوبي بنفسه وجيشه عن التحالف الفرنجي- الشامي الذي تورط فيه صاحب حمص، والتقت الجيوش الفرنجية وحلفاؤها بجيش مصر المتحالف مع الخوارزميين عند قرية الحربية في الشمال الشرقي من غزة وأنزل جيش الصالح بالمتحالفين ’’هزيمة سحقتهم سحقاً’’،[100] وعادت القدس إلى ملك المسلمين، وحملت هذه الهزيمة المؤرخين الأوروبيين على إطلاق اسم ’’حطين الثانية’’ على هذه المعركة،[101] وفي ذلك يقول المؤرخ إرنست باركر: ’’أما الانهيار النهائي لمملكة بيت المقدس، فإنه تحدد فعلاً في معركة غزة سنة 1244، وما قام به المماليك من إقصاء الأسرة الأيوبية عن الحكم’’،[102] وكان قائد المسلمين في هذه المعركة هو بيبرس الذي سيصبح سلطاناً فيما بعد، وعن تقويم هذه المعركة يقول الدكتور شاكر مصطفى: ’’كانت الكارثة الفرنجية تعدل حطين في شأنها. وقد سماها المؤرخون بحطين الثانية للمعنى الذي حملته في سحق الفرنجة، وللنتائج التي نجمت عنها والتي أشبهت بنتائج حطين، فقد سلبت هزيمة غزة الفرنج كل ما أحرزته لهم الدبلوماسية والحروب الصغيرة من مكاسب طارئة في عشرات السنين السابقة، كما أفقرت الفرنج في القوى البشرية المقاتلة، وجعلت الشرق الفرنجي من العجز بحيث لا يستطيع الدفاع إلا عن مناطقه الساحلية وبعض قلاعه الحصينة، على أن الفرق مع حطين إنما جاء من موقف الصالح أيوب الذي كان عليه تصفية حسابه مع أهله الأيوبيين في الشام قبل تصفية الفرنجة (نموذج متكرر من عرقلة الخلافات الداخلية لأهداف الأمة) وهذا ما أنقذ الشرق الفرنجي’’.[103]
وكان من نتائج هذه المعركة أن ازدادت الكثافة السكانية الخوارزمية التركمانية في غزة بعدما وعدهم الصالح أيوب بإقطاعهم الأراضي إذا شاركوا معه في المعركة،[104] كما منحهم أملاك الصليبيين في فلسطين خشية ولم يدخلهم مصر خشية عبثهم بها فاندفعوا للهجوم على الفرنجة وأملاكهم حتى وصلوا أطراف مركزهم في عكا.[105]
وعن مكانة غزة الأيوبية يقول الدكتور شاكر مصطفى إنها حلت محل عسقلان بصفتها محطة تجارة وممراً إلى مصر ’’وصارت من الثغور ومن أحسن مدن فلسطين مغارس ومزارع وأشجاراً ونخلاً وأنواع فواكه، وحظي بالتقديس الموضع الذي ولد فيه الإمام الشافعي’’، أما المشهد العظيم الذي بناه الفاطميون على مدفن رأس الإمام الحسين بن علي عليهما السلام في عسقلان فقد ظل قائماً[106] رغم نقل الرأس الشريف إلى القاهرة قبل أن يحتل الفرنجة المدينة سنة 1153م.
* حسم الخلاف بين الأيوبيين والمماليك على أرض غزة
أدى سقوط القدس بيد المسلمين سنة 1244م إلى قدوم الحملة الصليبية السابعة بقيادة ملك فرنسا (القديس) لويس التاسع الذي توجه ضد مصر سنة 1248م لعلمه أنها مصدر القوة الإسلامية التي إذا سقطت هان ما دونها، ولكنه هُزم وأُسر ولم يطلق سراحه إلا بعد دفعه الفدية ليتولى شئون الحكم في عكا، وقامت دولة المماليك في مصر سنة 1250م بعد موت آخر الملوك الأيوبيين فيها، ولكن أيوبيي الشام لم يعترفوا بإنهاء سلالتهم في القاهرة، ودخلوا في سباق مع المماليك للفوز بالتحالف مع الفرنجة ضد بعضهم البعض، باذلين الوعود بتسليم بيت المقدس التي كان بيبرس قد دخلها بعد انسحاب الخوارزميين،[107] وأحسن الصليبيون استغلال الخلاف الأيوبي المملوكي واستقروا على التحالف مع المماليك فأرسل الناصر يوسف حفيد صلاح الدين جيشاً لاحتلال غزة التي كان المماليك قد سبقوا إليها، وأدى استيلاء الأيوبيين عليها إلى قطع الاتصال بين المماليك في مصر والفرنجة في الشام ثم تدخلت الخلافة العباسية لعقد الصلح بين المسلمين على أساس اعتراف الأيوبيين بالحكم المملوكي في مصر والتنازل له عن بيت المقدس وغزة ونابلس والساحل وذلك سنة 1253م.[108]
* أول انتصار على الغزو المغولي يتم في غزة
تعرض العالم الإسلامي في القرن السابع الهجري لغزو مغولي من الشرق تزامن مع الغزو الفرنجي من الغرب وحاول التحالف معه، واجتاح المغول بلاد الإسلام كالإعصار الذي لا يقوى على مواجهته أحد، ولم يتمكن من الوقوف في وجهه، سوى قوتين، الأولى دولة الإسماعيليين في شمال إيران، ومما يؤسف له أن العصبية المذهبية تغلبت على مشاعر الوحدة في تلك الظروف العصيبة أمام ذلك الخطر الداهم إذ قام كثير من المسلمين بتحريض ومؤازرة الوثني هولاكو على الانتقام من ’’الملاحدة’’ الإسماعيليين، فجرؤ أن يتبجح أنه سار ’’بقوة الله’’ وفرغ ’’من أمر الملاحدة’’(!) ويعلق المؤرخ حسن الأمين على ذلك بالقول إنه يعجب من الزمن الذي جعل وثنياً مثل هولاكو يسمي الاسماعيليين ملاحدة ويتبجح بين المسلمين بأنه سيقضي عليهم،[109] ثم استدار للهجوم على عالم من شجعوه وساندوه، وتمكن من القضاء على الخلافة العباسية في بغداد (656 من الهجرة، 1258م) مستعيناً بكثير من أمراء المسلمين وجيوشهم[110] التي أرعبها المنطق المغولي الذي شابه منطق الولايات المتحدة في اعتداءاتها المعاصرة: من ليس معنا فهو ضدنا.[111]
أما القوة الثانية التي تصدت للإعصار المغولي بعد سقوط ’’أمر الملاحدة’’ ’’بقوة الله’’، فهي دولة المماليك في مصر، وكانت مدينة غزة هي النقطة الأخيرة التي وصل إليها المغول وأرسلوا منها إلى السلطان قطز رسالة تهديد عجيبة من هولاكو تأمره بالاستسلام وتعيّر المسلمين بذنوبهم، وتدعي أن المغول هم عقاب الله، وأن المغول يطهرون الأرض من الفساد بقتل معظم العباد،[112] وهو نفس منطق الحضارة الغربية الذي عيّر الشعوب الأخرى فيما بعد بتخلفها كما عيّر هولاكو المسلمين بعيوبهم، وادعى أن الغرب ينشر الحضارة كما نشر هولاكو الطهارة، بفتح البلاد وقتل العباد.
رد السلطان قطز على رسالة هولاكو بإرسال جيش بقيادة بيبرس إلى غزة تمكن من استردادها وطارد المغول حتى تمكن من سحقهم في عين جالوت بشمال فلسطين، فكانت معركة غزة (658 من الهجرة، 1260م) هي الأولى التي انتصر فيها المسلمون على المغول وأفاقوا من كابوسهم المرعب الذي بدا أنه لن ينجلي، كما كانت تلك المعركة تمهيداً للمعركة الفاصلة التي لم تكن معركة حكام بأي حال من الأحوال وشارك فيها وفقاً للمقريزي’’أهل القرى من الفلاحين’’ الفلسطينيين بشكل فعال ومؤثر وبأعداد كبيرة ضد العدو حتى أزاحوا خطره.[113]
كان من نتائج الغزو المغولي ومعركة عين جالوت زوال الحكم الأيوبي في الشام وتولي المماليك الذين تمكنوا من توطيد دولتهم بعد انتصارهم،[114] وتسلم السلطان بيبرس حكم الدولة المملوكية وقام بالقتال على جبهتين: جبهة الفرنجة وجبهة الفلول المغولية، وبعد فتح صفد سنة 664 من الهجرة/ 1266م، عاد إلى مصر ثم توجه إلى الشام ثانية في العام التالي ودخل غزة حيث وافاه رسل الفرنجة يقدمون بعض الأسرى المسلمين بالإضافة إلى الهدايا ويطالبون بتأكيد العمل بالهدنة، وفي سنة 666 من الهجرة/ 1268م قاد بيبرس قواته إلى غزة بعد ورود أنباء عن محاولة المغول العودة إلى الشام،[115] وكان من إنجازاته في المدينة دعم سكنى التركمان والأكراد فيها،[116] وقد حفر هذا السلطان لنفسه بإنجازاته وانتصاراته مكاناً إلى جانب كبار قادة المسلمين ضد الصليبيين وهم عماد الدين زنكي ونور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي.[117]
* نيابة غزة المملوكية
يقول الدكتور سهيل زكار إن الحكم المملوكي لم يعرف الاستقرار ولا دوام الولاء والإخلاص، وتميز بصراعات الأمراء على السلطة، وإن غزة كانت ساحة النزاع بين أمراء دمشق وسلاطين القاهرة، فقد كانت غزة آخر البلاد الشامية للمتوجه إلى مصر وأول هذه البلاد للقادم من مصر، مما تطلب نشوء نيابة حاجزة بين الفرقاء فيها، هذا بالإضافة إلى أنه في أثناء الحملات المملوكية على المغول والفرنجة في الشام كانت غزة ’’محطة إنذار أولى بالنسبة إلى مصر، وفيها كانت تتجمع فلول القوات المملوكية في حالة تعرضها لهزيمة ما في الشام، ولهذا ازداد الاهتمام بهذه المدينة، ولا شك أن نفقات تجريد الجيوش وما كانت العساكر تبذله أثناء تحركاتها قد أفادت غزة كثيراً وساعدت على سرعة تطورها وتقدمها ودفعت بالتالي إلى تأسيس نيابة مستقلة فيها’’، وقامت هذه النيابة بالفعل في عهد المنصور قلاوون (680 من الهجرة/ 1281م) وتأكد هذا الاستقلال الذاتي في عهد ابنه الناصر محمد بن قلاوون (711من الهجرة/ 1311م)، ولم تشهد المدينة حوادث متميزة في عصر المماليك ولكنها شهدت نزول العديد من السلاطين بها، وشهدت حركة عمرانية عظيمة بالإضافة إلى ظهور عدد من العلماء منها[118] ومن جوارها القريب الذي تتكون منه النيابة لعل أشهرهم ابن حجر العسقلاني صاحب أفضل شروح صحيح البخاري والذي ولد في القاهرة سنة 773 من الهجرة/ 1372م في آخر عهد دولة المماليك البحرية، وكانت غزة من ضمن رحلاته في طلب العلم مما يدل على كونها من مراكز النشاط الديني والعلمي في بداية القرن التاسع الهجري،[119] كما رحل إلى دمشق ومكة المكرمة والمدينة المنورة والإسكندرية والقدس والرملة والخليل نابلس واليمن وغيرها.[120]
ولما حلت كارثة الغزو المغولي الثاني بقيادة تيمورلنك سنة 1400 م، فإن ’’غالب أهل الرملة وغزة والقدس ودمشق وصفد وحماة وطرابلس قدموا إلى الديار المصرية، وتركوا أولادهم وأوطانهم وأموالهم خوفاً من تيمورلنك، فمنهم من جاء حافياً عارياً، ومنهم من جاء عليه قميص واحد على بدنه في البرد الشديد، بعدما كان في الخدم والعز الشديد، وأبلاهم الله بإجلائهم عن أوطانهم في مثل هذه الأيام الشديدة’’[121] كما جاء في كتاب السلوك للمقريزي وكأنه يتحدث عن النكبة بل النكبات المعاصرة مع فارق أن اللاجئ في الزمن الغابر لم يكن أجنبياً في البلاد المحيطة بل مجرد خارج من داره بسبب نكبة ألمت به إلى دور إخوته وأشقائه مهما اختلف الحكام فيما بينهم.
* غزة المندمجة بمحيطها في ظل السلام العثماني
بعد فترة الانقسامات السياسية الطويلة ضم العثمانيون منطقة الشرق العربي إلى سلطانهم الذي امتد ستة قرون أطلق عليها المؤرخون اسم ’’السلام العثماني’’، ويقول الدكتور عبد الكريم رافق إنه باستثناء الخطر البرتغالي الذي هدد البحر الأحمر وخليج البصرة لفترات قصيرة في بداية القرن السادس عشر ’’لم تنافس أية دولة أوروبية العثمانيين في احتلال المشرق العربي’’، وذلك إلى مجيء الحملة الفرنسية الفاشلة على مصر، ولهذا لم تحدث حوادث حاسمة كالتي كانت تميز عهود التنافس بين الكيانات القائمة في المنطقة.
ولكن ما ميز مدينة غزة وعموم فلسطين في هذا العصر هو اندماجها في محيطها الشامي والمصري، فقد كانت غزة لواء إدارياً ضمن ولاية الشام أو دمشق، وأصبحت لفترة قصيرة ملحقة بولاية صيدا، ثم بمتصرفية القدس[122] حين كان شمال فلسطين جزءً من ولاية بيروت التي لا ينتمي جبل لبنان إليها، وهي صورة مغايرة لواقع التجزئة القطرية في يومنا هذا حين يعيش ابن عكا مثلاً غريباً في بيروت التي كان تابعاً لها إدارياً في العهد العثماني[123] وليس تابعاً للقدس، كما سكن غزة عشرات من العائلات المصرية، وفي مناسبة واحدة هي الهروب من حكم محمد علي باشا دخل فلسطين حتى علم 1831 م ما يقارب ستة آلاف من منطقة الشرقية لاسيما بلبيس وسكن معظمهم في غزة وقراها، ومازالت هذه الأسر يحمل بعضها من الألقاب ما ينبئ عن أصله كالمصري والبلبيسي، ولما حاول محمد علي أن يسترجعهم من والي صيدا عبد الله باشا رد عليه الوالي بأنهم رعايا السلطان وشأنهم في الشام كشأنهم في مصر فكلها دولة السلطان،[124] وهو رد يكشف عن طبيعة الرأي السائد آنذاك حتى لو كانت النوايا تخفي أهدافاً أخرى.
ويدل تضاعف عدد سكان غزة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر على نمو سريع شهدته المدينة في ذلك الزمن، ففي آخر سنوات الحكم المصري سنة 1840 كان عدد سكانها ألفين نسمة، وفي نهاية القرن التاسع عشر وصل عدد السكان إلى 18 ألف نسمة، ثم أصبح40 ألف نسمة سنة 1906.[125]
* عندما أصبحت غزة من معالم الصمود العثماني الأخير
ازداد العدوان الاستعماري الغربي على بلاد الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر بعد فورة الثورة الصناعية وتصاعد القوة الغربية الذي أدى إلى التزاحم على احتلال بلاد العالم غير الغربي عموماً، وتنافست دول أوروبا في اقتطاع أجزاء من بلادنا طوال ذلك القرن، وقد ترافق ذلك مع الضعف الذي انتاب الدولة العثمانية وتراجعها[126] نتيجة سنة الحياة والموت التي تسري على جميع الدول وذلك بعدما عمرت هذه الدولة أكثر من غيرها وكانت أطول السلالات عمراً في التاريخ، ولكن رغم الضعف والتراجع احتفظت الدولة العثمانية بقوة مكنتها من الصمود[127] الذي حسدته دول أوروبا واحترمته في نفس الوقت،[128] ولم يعترف العثمانيون بكل التغييرات السياسية والعسكرية التي أحدثها الأوروبيون في دولتهم حتى تنازلت تركيا الكمالية عن الأملاك العثمانية سنة 1923، ولما دخلت الدولة العثمانية الحرب الكبرى الأولى سنة 1914، كان ذلك بهدف استرجاع ما سلبه الغرب منها بالإضافة إلى التخلص من قيوده السياسية والاقتصادية عليها وللوقوف مرة ثانية على قدم المساواة مع بقية الدول العظمى.[129]
ورغم أن الدولة العثمانية كانت في حالة النزع الأخير وفي آخر أيامها، فإنها لم تكن لقمة سائغة لأعدائها وسجلت بطولات كبرى في ساحة الحرب وعلى جبهات عديدة هي اسطنبول (غاليبولي) والقوقاز والبلقان والعراق (الكوت) [130] والجزيرة العربية (سكة الحجاز)،[131] ولكن ما يهمنا هنا هو جبهة فلسطين ومعارك غزة بالذات، إذ بعد فشل حملة جمال باشا على الاحتلال البريطاني في مصر، قررت وزارة الحرب البريطانية احتلال فلسطين في بداية عام 1917، وتمكن الجيش البريطاني من احتلال العريش ورفح وخان يونس، فتحصن الأتراك في غزة واستعدوا للدفاع عنها، وتم إجلاء أهلها بسبب الضرورات العسكرية، وشن الإنجليز هجوماً في 26-3-1917، ولكنه فشل، فأعادوا الكرة في 17-4 وفشلوا أيضاً رغم القذف العنيف الذي أصابوا به المدينة، وكان عدد الجيش البريطاني يفوق العثمانيين بأربعة أضعاف،[132] وكانت خسائر الإنجليز في المعركتين 9500 بين قتيل وجريح ومفقود وأسير، أما الخسائر العثمانية فكانت 4116 بين شهيد وجريح ومفقود، وبعد هاتين المحاولتين الفاشلتين غيرت القيادة البريطانية في وزارة الدفاع القائد العام لجيشها شرق السويس وأسندت هذا المنصب إلى الجنرال اللنبي ووضعت تحت تصرفه كل ما طلبه من جنود وسلاح، وبدأت معركة غزة الثالثة في 31-10 واستمرت حتى يوم 7-11 واشترك فيها أكثر من مائة ألف جندي من الجانبين وتمكن الإنجليز من الفصل بين الجيشين العثمانيين السابع والثامن فانشقت الجبهة واضطر العثمانيون إلى إخلاء غزة، ومع ذلك فإن المصادر البريطانية تعترف بأن القوات البريطانية حتى بعد ذلك خاضت أربع معارك عنيفة في السهل الساحلي في تسعة أيام خسر الأتراك فيها عشرة آلاف أسير ’’ولكنهم تحاشوا الخراب والدمار التامين اللذين كانا يهددانهم’’ وأنهم قاتلوا بشجاعة وشهامة وتحملوا كثيراً من العناء وكبدوا البريطانيين خسائر وصلت إلى ستة آلاف، ويعلق العميد الركن شكري نديم على ذلك بالقول إن ’’اللنبي لم يحصل على النصر الباهر الذي كان يحلم به وأنه دفع ثمناً باهظاً لما أحرزه من ظفر، ولكنه مهد الطريق للنصر النهائي الكاسح الذي أحرزه بعد عام’’،[133] وبذلك توغل الإنجليز في فلسطين التي دخلت تحت الهيمنة البريطانية التي لن تلبث أن تنفذ مؤامرة الوطن القومي اليهودي.[134]
* نجاة غزة من النكبة يعيد تاريخ صمودها القديم
نجت غزة وقطاعها من الاحتلال الصهيوني عام 1948 لتعيد بذلك ذكريات نجاتها الأولى أثناء ذروة التاريخ الإسرائيلي القديم، ولتتطابق خريطة قطاعها الناجي مع الخريطة الفلسطينية القديمة التي نجت من تمدد المملكة الإسرائيلية في أوج عظمتها، ولتكون هذه المرة، بمعونة إخوتها وأشقائها، شوكة في عنق الصهاينة كما ستثبت الأيام في كثير من المواقف، رغم قصور هذا الدعم بسبب قيود السياسات الدولية المكبلة ومسايرة أولي الأمر لها، ولكنه مع ذلك أظهر ما يمكن أن يؤديه التكافل من نتائج باهرة حين يكون في حده الأدنى، فكيف سيكون الحال لو ارتفع سقف الدعم نحو الاندماج الكامل؟
* ثورة لحفز حكومة الثورة على الثورة
أصبح قطاع غزة بعد النكبة من نصيب الإدارة المصرية وآخر بقعة تحمل اسم فلسطين في مواجهة اسم إسرائيل، بعد انضمام الضفة الغربية للمملكة الأردنية، وعندما قامت ثورة 1952 في مصر، لم تكن تشغل نفسها كثيراً بالخطر الصهيوني وتفضل التركيز على عملية البناء الداخلي، ولكن الغارة الصهيونية على غزة وقتل الجنود المصريين فيها في فبراير/ شباط/ فيفري دق ناقوس الخطر وجعل قادة الثورة يدركون كون الكيان الصهيوني ليس مجرد كيان غاصب بل رأس حربة استعمارية كما قال الرئيس جمال عبد الناصر في خطابه بعد الغارة سنة 1955.[135]
ذلك أنه بعد نجاة غزة من الاحتلال سنة 1948 رغم محاولة الصهاينة السيطرة على أكبر مساحة من فلسطين بعد خروج القوات البريطانية، تجمع في محيط المدينة نتيجة الحرب آلاف من المهجرين الذين عمد الصهاينة إلى اقتلاعهم من أراضيهم بوسائل التخويف والعنف والتهجير القسري ليقيموا على أنقاضها كيانهم المصطنع، فاجتمعت في قطاع غزة نتيجة ذلك آلام المشردين وأحلام المهجرين، وبدأت عمليات عبور خطوط الهدنة، يقوم بها اللاجئون للحصول على الطعام أو استعادة الأموال أو حتى العودة إلى البيوت، وتطورت هذه العمليات لتصبح غارات تقتل الصهاينة اللصوص وتحرمهم من الاستمتاع بما سرقوه، ولم تقتصر معاناة أولئك الفدائيين الأوائل على ما يلاقونه من الجانب الصهيوني، بل كان الجانب بل الجوانب العربية التي اهتمت كعادتها بالالتزام باتفاقيات الهدنة مهتمة بملاحقة كل من تسول له نفسه الحنين إلى أرضه وبيته وبستانه ومهد طفولته ومصدر معيشته.
وفي 28-2-1955 قام الصهاينة بغارة على غزة قُتل فيها 39 جندياً مصرياً وجُرح 33 آخرون، فانفجرت غزة غاضبة في انتفاضة شعبية عارمة ضد القيود الرسمية على العمل الفدائي والتي تلتزم باتفاقيات الهدنة، وخرج الغزيون في مظاهرات ثائرة واقتحموا مواقع القوات المصرية وهاجموا مواقع قوات الأمم المتحدة وأحرقوا السيارات وأسقطوا الأعلام.[136]
* غزة تزرع الرعب داخل الكيان الصهيوني بدعم مصري
رغم الإجراءات التي اتخذتها الإدارة المصرية ضد المسئولين عن الانتفاضة في غزة[،137] فقد استجاب الرئيس جمال عبد الناصر لمطالب جماهيرها، (وهذا هو الفرق بين حكم عسكري وطني يتعرض لإدانة الدول الكبرى عندما يستجيب لأمته كما سيأتي وحكم عسكري يستخدم أسلوب القمع ضد أمته لإرضاء الصهيونية متوسلاً بها لنيل رضا نفس هذه الدول الكبرى)، وأعلنت مصر تبنيها العمل الفدائي ضد الكيان الصهيوني، وتدل المعلومات على أن هذا القرار اتخذ في شهر إبريل/ نيسان/ أفريل 1955،[138] وعين المقدم مصطفى حافظ موجهاً للفدائيين في القطاع، وأشرف الضباط المصريون على العمليات الفدائية وقادوا بعضها أحياناً،[139] وتطوع مصريون للاشتراك في هذا الجهاد،[140] وأطلق سراح الذين اعتقلوا بتهمة ’’التسلل’’ إلى بيوتهم في الأراضي المحتلة، واشتعلت شرارة العمل الفدائي في تلك الفترة على شكل عمليات خاطفة يومية تقوم بها مجموعات تعبر الحدود لتزرع الألغام، وتهاجم الدوريات، وتدمر محطات المياه، وتقتحم المستعمرات، فنشرت بذلك الرعب في أنحاء الكيان المصطنع، كيف لا وقد وصل الفدائيون إلى قرب عاصمته نفسها؟ وسجل أكبر عدد من الفدائيين اقتحموا الكيان الصهيوني في يوم واحد في أعقاب قصف الصهاينة مستشفى غزة المدني واستشهاد ما يقارب المائة شخص في يوم 15-4-1956، إذ قام 300 فدائي على إثر الحادث بالقيام بعملية اقتحام الكيان دفعة واحدة.[141]
لقد أصبحت قضية الأمن جزءً من الحياة اليومية للفرد الصهيوني الذي أصبح يعيش رعباً مستمراً، وقد تقدم الكيان بشكوى رسمية إلى مجلس الأمن في 8 سبتمبر 1955 بعد هجوم كبير شنه الفدائيون عليه لمدة أسبوع قال عنه المندوب الصهيوني في خطابه أمام المجلس: ’’إن إسرائيل لم تذق النوم طيلة أسبوع كامل’’،[142] ولا عجب في ذلك إذ وصلت الخسائر الصهيونية الناتجة عن العمليات الفدائية في فترة 1955- 1956 حجماً أكبر مما وصلته خسائر العدوان الثلاثي فيما بعد، وتشير الإحصائيات إلى أن خسائر الصهاينة من الغارات الفدائية في الفترة الواقعة بين النكبة (1948) والعدوان الثلاثي (1956) اقتربت من ستة أضعاف خسائرها في ذلك العدوان بل ومن ضعف خسائرها في حرب رمضان 1973،[143] وقد أثبتت حرب العصابات فعاليتها ضد الوجود الصهيوني أكثر من الحروب النظامية في أكثر من موقف من مواقف المقاومة فيما بعد في غزة وفي لبنان أيضاً، وفي موضوع أثر العمل الفدائي على الكيان الصهيوني يقول الصحفي البريطاني وخبير الشرق الأوسط بيتر مانسفيلد إن ’’مصر تعرضت إثر ذاك إلى الكثير من هجمات الإدانة الدبلوماسية والسياسية العالمية (يقصد الغربية) وقد عانت من استنكار المجتمع الدولي والغربي خصوصاً للعمليات الفدائية’’،[144] وقد كان لهذه الفترة آثارها المعنوية المهمة: فقد أعادت للاجئين ثقتهم بأنفسهم وأحيت لديهم أمل العودة الذي حاول الكيان الصهيوني القضاء عليه، ومن ثم فشلت مشاريع التوطين التي طرحت آنذاك بغزارة، كما وقف أهل فلسطين موقف المواجهة مع عدوهم وأصبح بإمكانهم اتخاذ قرار التحدي بعدما تخيل الصهاينة أنهم أصحاب الكلمة العليا، بل الوحيدة، في المنطقة.[145]
* مقاومة القطاع أثناء العدوان الثلاثي
التقت مصالح بريطانيا وفرنسا والكيان الصهيوني على القيام بالعدوان على مصر سنة 1956، وكان لكل من هذه الأطراف مصالحه الخاصة، ومن ضمن أهداف الصهاينة القضاء على مقاومة قطاع غزة، ورغم العزلة التي وجد القطاع نفسه فيها نتيجة انسحاب الجيش المصري من سيناء فقد رفض اللواء 86 المتمركز في خان يونس الاستسلام ودخل معركة طاحنة مع القوات المعتدية في 3-11-1956، أي في اليوم الرابع من العدوان، واستعان الصهاينة فيها بالطيران وأطلقوا على المدينة أكثر من ثمانين ألف قذيفة قبل أن يتمكنوا منها.[146]
وقد ارتكب المعتدون الصهاينة كثيراً من الأعمال الإرهابية الوحشية في القطاع، فقدرت الجامعة العربية عدد الشهداء أثناء فترة الاحتلال ﺑ1231 شهيداً وقارب عدد الجرحى والمفقودين الألف أيضاً،[147] ومن أشهر موثقي تلك المرحلة الدكتور أحمد شوقي الفنجري الذي احتفظ بصور عديدة للجرائم الصهيونية في تلك المرحلة التي تركت فيه أثراً عميقاً بصفته طبيباً في غزة ونشر عنها كتاباً مثيراً بعنوان ’’إسرائيل كما عرفتها’’،[148] ومع ذلك لم توهن تلك الجرائم من عزم أهله على مقاومة الاحتلال فرفضوا إعادة الحياة الطبيعية إلى مجراها في ظله، فلا مدارس ولا وظائف ولا تعامل حتى تم الجلاء في مارس 1957.
وبعد انسحاب الصهاينة تمسك أهل القطاع بعودة الإدارة المصرية وقاوموا بشدة عملية التدويل التي حاولت قيادة القوات الدولية تطبيقها بواسطة الاتصال بالقيادات الشعبية ووجهاء القطاع، وبلغت مقاومة التدويل ذروتها ’’بسقوط بعض الشهداء وهم يتصدون بغابة من الأعلام الفلسطينية والمصرية لعلم الأمم المتحدة، وقد توازى ذلك مع التظاهر وتوزيع المنشورات واحتلال الشوارع وكتابة الشعارات على الحوائط’’.[149]
توقف العمل الفدائي في القطاع بعد ذلك،[150] وكان هذا ضمن ’’اتفاق سري’’ حملت الولايات المتحدة مسئولية التفاوض بشأنه ’’لإنقاذ عبد الناصر من التهمة بأنه في الواقع يتفاوض مع الإسرائيليين’’، وكانت بنود هذه ’’الصفقة’’ التي اتهمت الولايات المتحدة الرئيس جمال عبد الناصر فيما بعد بأنه حطم بنودها واحداً تلو الآخر هي: ’’أنه إذا انسحب الإسرائيليون من سيناء، لن تحدث غارات فدائية من مصر وأنه لن يمر وقت طويل قبل أن تفتح مضائق تيران وقناة السويس، ثم إنه في أي وقت مناسب ستبرم مصر السلام مع إسرائيل، وإذا ما أغلق تيران في أي وقت فمن المفهوم أن لإسرائيل الحق في استخدام القوة لفتحه دفاعاً عن النفس’’،[151] ويقودنا الاتهام الأمريكي للرئيس ناصر مرة أخرى للفرق بين تمرد حكم عسكري وطني على رغبات الدول الكبرى وعدم اهتمامه بالحصول على الرضا الصهيوني واستسلام حكم عسكري آخر لأوامر الصهيونية ذاتها لاسيما في التضييق على غزة في سبيل الوصول إلى رضا الدول الكبرى.
* غزة تحت حكم الفدائيين بعد النكسة
بعد عشر سنوات من الانسحاب الصهيوني وجد أهل غزة أنفسهم في مواجهة العدوان مرة أخرى إلى جانب أهل سيناء بالإضافة إلى بقية فلسطين ومرتفعات الجولان، وقد حسم الاحتلال المعركة في ساعاتها الأولى بتدميره سلاح الطيران المصري.
ومع ذلك قاومت غزة مقاومة عنيفة منذ اللحظات الاولى، وكبدت العدو خسائر فادحة قبل أن يتمكن منها في اليوم الرابع (8-6-1967)، وبعدما اتضحت نتيجة المعركة، انطلقت العمليات الفدائية لتحرق الأرض تحت أقدام الغزاة وتهاجم أهدافهم في كل وقت ومكان، حتى اعترف الجنرال موشيه دايان في سبتمبر 1969 بأن غزة ’’يحكمها الفدائيون في الليل’’،[152] وكتب أحد المراقبين الصهاينة في صحيفة علهمشمار في 13-11-1981: ’’قبل عشر سنوات كانت في غزة معارضة مسلحة ضد الاحتلال الإسرائيلي، ففي الليل كان يسيطر رجال فتح والجبهة الشعبية في المخيمات والقرى والمدن بينما يعود إليها الجنود الإسرائيليون في النهار.. وفي تلك الفترة قام شارون قائد المنطقة الجنوبية، في حينه، يضرب تلك المقاومة بقسوة، هدم أحياء كاملة في المخيمات وطرد السكان’’،[153] وظل القطاع المنطقة الوحيدة من الأراضي المحتلة خارج نطاق الاستيطان الصهيوني لأكثر من ثلاث سنوات بعد نكسة حزيران.[154]
تراجعت المقاومة في القطاع بعد سنة 1971 بتراجع الوضع العربي العام، فقد انسحبت قوات المقاومة من الأردن وهدأت الجبهات العربية باستثناء حرب رمضان 1973، وانشغلت الثورة بالدفاع عن وجودها في لبنان،[155] ومع ذلك كانت سلطات الاحتلال تشكو في سنة 1977 من تهريب الأسلحة إلى غزة من سيناء الواقعة تحت الاحتلال أيضاً.[156]
* انتفاضة الحجارة ومقدماتها وتبعاتها
شهد عاما 1985 و1986 صعوداً فجائياً في عمليات المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الصهيوني في غزة،[157] وهو ما ارتقى سنة 1987 إلى انتفاضة الحجارة التي اشتعلت في غزة وتجاوبت معها الضفة وأنحاء فلسطين بعد اليأس من دعم المحيط العربي الذي تراجعت أهمية القضية الفلسطينية في حساباته خلف الحرب العراقية الإيرانية، وفي يوم 6-10-1987 قام أربعة أبطال من حركة الجهاد الإسلامي بعملية بطولية في حي الشجاعية أدت إلى استشهادهم جميعاً مما أدى إلى حداد في الحي ونشوب اضطرابات في أنحاء متفرقة من غزة، منها ما حدث يوم الأحد 6-12-1987 حين قُتل تاجر صهيوني في ميدان فلسطين، فطوقت قوات الاحتلال المنطقة واعتقلت 500 شخص، وبعد يومين انتقم أخوه بقتل أربعة عمال فلسطينيين فاندلعت الانتفاضة في جباليا بعد نقل جثث الشهداء وتشييعهم هناك إذ اشتبك الأهالي مع قوات الاحتلال ليأخذ الحادث أبعاداً خطيرة ويفلت الزمام من أيدي الصهاينة ويمتد الحريق إلى القطاع فالضفة ومخيماتها في غضون أسبوع واحد ويتجمع غضب عشرين عاماً في الأسر لينفجر في وجوه الآسرين وتبدأ بذلك الانتفاضة لتسطر صفحة مجيدة في سجل الحرية الإنسانية، وليتمنى قادة الاحتلال أن يبتلع البحر غزة ويخلصهم منها بعدما كانوا يعلنون تمسكهم بها وعدم نيتهم التخلي عنها،[158] ثم أبدوا نية الخلاص في أول فرصة أتتهم عندما التفت السياسة على المقاومة لتنجز اتفاق أوسلو سنة 1993 وكان القطاع واحداً من منطقتين ستقوم فيهما السلطة الوطنية الفلسطينية بعد الانسحاب الصهيوني سنة 1994 لتنتقل مهمة ضبط سكانه إلى الأيدي الفلسطينية بدلاً من جنود الاحتلال، ورغم فشل هذه الاتفاقية وعدم تطبيق بنودها أصر الصهاينة على ترك غزة وانسحبوا منها في عهد ممثل اليمين الصهيوني الأشد تطرفاً الجنرال شارون 2005، ولكن ذلك لم يعن أن يتخلوا عن الهيمنة عليها واقتحامها وقتما أرادوا، ومارسوا حصاراً شديداً عليها ثم شنوا حروباً متتالية ضدها ابتداء من محرقة شهر فبراير/ شباط/ فيفري 2008 التي ذهب ضحيتها 1160 شخصاً ما بين شهيد وجريح، ثم معركة الفرقان في نهاية نفس العام والتي أشعل شرارتها انتهاك صهيوني لاتفاق الهدنة الموقع في القاهرة في يونيو/ حزيران/ جوان من ذلك العام ومع ذلك أعلنت الحرب من القاهرة وكان ذلك زمن مبارك واستمرت أكثر من ثلاثة أسابيع وذهب ضحيتها ما يقارب 6500 شخص بين شهيد وجريح ومعاق وسط صمت معسكر الاعتلال العربي الذي دعمته فتاوى الخذلان التي ادعت أن التظاهر لأجل غزة يلهي عن ذكر الله(!)، ثم تبع تلك الحرب معركة حجارة السجيل بين 14-21 نوفمبر 2012 والتي بدأت كذلك بعدوان صهيوني باغتيال القائد أحمد الجعبري فردت المقاومة بصواريخها ضد الكيان وراح ضحية العدوان الصهيوني 155 شهيداً ومئات الجرحى إلا أن الإصابات الصهيونية لم تكن يسيرة كذلك ووصلت إلى ما يقارب 650 إصابة، وما زال الحصار يطوق قطاع غزة بأمر صهيوني مباشر.
* دور المحيط العربي والإسلامي في صمود غزة
إذا كان معظم العرب والمسلمين قد تخلوا عن دور المؤازرة في الصراع مع الكيان الصهيوني، وفضل بعضهم تحريض الصهاينة سراً وعلناً على غزة بل أيضاً بدعمهم السري والعلني في حربهم عليها وتقديم الوجبات الساخنة للجنود المعتدين والتضييق عليها وتشديد الحصار حولها، فإن صمودها وتطور سلاحها من الحجر إلى الصاروخ جاء بدعم من المحور المقاوم المؤلف من إيران وسوريا وحزب الله في منطقتنا، وهو محور مقاوم في القضية الفلسطينية تحديداً وقد لا تمتد المقاومة إلى مواقع أخرى كالعراق مثلاً، ودعمه إن لم يكن كافياً للتحرير وفك الحصار الذي يمكن للإمكانات العربية والإسلامية مجتمعة تحقيقه، فإن ما زاد من إظهار أهميته وإبراز أثره في موقف غزة، التخاذل والعمالة الظاهرة لمحور الاعتلال المقابل الذي استكثر مجرد التظاهر لدعم صمود المدينة فضلاً عن أن يخصص لها بعض المال الذي يُدفع كالسيول لتمويل مشاريع الإفساد التي تزايد على الإفساد الغربي، كما حرض هذا المحور المعتدل أو المعتل الصهاينة سراً على إنهاء مهمتهم بسرعة في غزة، مما استوجب شكراً رسمياً قدمه قادة حماس لإيران على وجه الخصوص، وليس هذا هو مجال البحث في دوافع ذلك الدعم الإيراني أو مدى كفايته أو نقد التزامه بالقيود الدولية (أي الغربية) التي يضعها النظام العالمي (أي الغربي) على نصرة العرب والمسلمين بعضهم بعضاً بعدما تشتتوا في كيانات مجزأة لا تمكنها بنيتها الضعيفة من تجاوز هذه القيود التي تحتاج إمكانات دول كبرى لكسرها، فقد تم جانب من هذا البحث في دراسة سابقة (في ذكرى انتفاضة الحجارة: مواقف التيارات الإسلامية من القضايا المتعلقة باندلاعها)، المهم في موضوعنا أن هذا الصمود بل الهجوم الغزي المبهر مقارنة بحجم القطاع، لم يتأت إلا بدعم من المحيط العربي والإسلامي على ندرة الداعمين وخذلان القاسطين، فإذا كان هذا الدعم ليس كافياً أو ليس خالصاً لوجه الله في نظر البعض أو مشوباً بقيود الحدود الاستعمارية، فإن نقطتي الرئيسة هي أنه إذا كان هذا الصمود الأسطوري قد تحقق ببعض مظاهر التكافل البسيطة وغير الكافية فكيف سيكون حالنا لو كان هذا الدعم متحققاً في ظل الاندماج والوحدة التي تجعل مصلحة من هو في القاهرة أو دمشق أو البصرة أو إسلام أباد أو كابول أو طهران أو أية عاصمة عربية أو إسلامية بعيدة أو قريبة هي صد العدوان عن غزة وأمثال غزة لأنها تقع ضمن مسئولياته المباشرة كما كانت القدس مسئولية مباشرة للخليفة العثماني في اسطنبول البعيدة ففضل التنازل عن العرش على التنازل عنها، أما اليوم فإن المسئول الفلسطيني المباشر عن القدس لم يعد مستعداً لمثل هذه التضحيات الكبرى في سبيلها ويتمسك بمنصبه في ظل محتل ما انفك يزحف بتسارع في التمدد الذي يغير الحقائق على أراضيها دون اعتراض يوقفه عند حده بل بموافقة ضمنية تتبرأ من كل الأسلحة الرادعة بل تحارب حملتها وتعلن ألا سبيل أمامها سوى التفاوض، مما يجعل الزمن في صالح من يقوم بدور عملي على الأرض وهم الصهاينة وليس في صالح من يكتفي بالاستجداء السلبي الضعيف الخالي من وسائل المقاومة ومن ثم فإنه يمنح الفرصة الذهبية للص القوي لإكمال مهمته.
* النتائج والعبر:
1- الحتمية الجغرافية
استند ظهور غزة وازدهارها وقدرتها على المقاومة تاريخياً إلى انضمامها إلى جوارها الجغرافي والحضاري الذي كانت تصعد بصعوده وتهبط بهبوطه، وتنتصر بدعمه وتُهزم بضعفه أو بخذلانه وتآمره، وقد تكونت في هذا الجوار امبراطوريات عديدة تعاقبت على مر الزمن، وكان للمدينة علاقة خاصة بجوارها المصري الذي حرص على تأمين حدوده بضمها مع ما يمكن من الشام إلى مصر وذلك على مر التاريخ المصري واختلاف الحضارات التي قامت فيه وتباين أنظمة الحكم وتنوع السلالات إذ التصقت المدينة بكيان مصر واندمجت بمكوناته أكثر من التحامها حتى بجسمها السوري[159] الذي كان بدوره الجزء المتمم لجبهة الدفاع عن هذا الجزء الحيوي من الأمة في العصور الإسلامية، ولهذا تبذل الهجمة الاستعمارية الصهيونية كل طاقتها في زمننا المعاصر لمنع التحام هذين الجزأين في وحدة واحدة تطبق على الكيان الاستيطاني الطفيلي الدخيل.
وعندما تعرضت المدينة لهجمات مما وراء البحار، لم تكن هذه الهجمات تستقر إلا بموافقة من دولة رائدة كمصر في حالة شعوب البحر الفلسطينية التي منحت اسمها لفلسطين وهيمنت السياسة المصرية على وجودها، أو كانت الهجمات الأخرى تستقر زمناً نتيجة الضعف والانقسام الذي تعانيه بلادنا كما حدث في زمن الغزوة الفرنجية والهجمة الصهيونية.
2- سياسة دولة التجزئة شذوذ عن المسار التاريخي
وبناء على ما سبق فإن سياسة أنظمة كامب ديفيد بالتخلي عن غزة في مواجهة الأعداء أو حتى تسليمها لهم ومشاركتهم في العدوان عليها وحصارها وتصويرها بصورة الخطر الداهم على مصر هي سياسة خارجة عن مسار التاريخ المصري الطبيعي منذ فجر التاريخ حين كانت السياسة المصرية تحرص كل الحرص على الأمن الداخلي المصري بتأمين حدود مصر إلى أبعد مسافة ممكنة من بلاد الشام بالإضافة إلى بلاد السودان، وهذا ما سار عليه جميع حكام مصر المستقلين الذين كانوا يعدون غزة من ضرورات الأمن المصري، هذا إن لم تكن جزءً من التراب المصري، وحتى عندما يصيب بعضهم الضعف والتخاذل ويفكر بالخيانة فإنه يتنازل عن الشمال الشامي ولا يفرط في الجنوب حيث تقع غزة وجوارها، وهذا ما حدث عندما تصور الفاطميون إمكان التفاهم مع الفرنجة، فلما تبين لهم أن الصليبيين يستهدفون القدس والجنوب وقفوا بكل قوتهم ضد الحملة الصليبية، وعندما كانت مصر والشام مقسمتين بين دولتين تتبعان حضارة واحدة كانت مصر حريصة على تملك غزة وجنوب الشام وعدم تركه للدولة الشامية رغم تبعيته جغرافياً لبلاد الشام، وهذا ما حدث في العصر الهلنستي وفي زمن الأيوبيين والمماليك، وبناء على ما سبق فإن الحتمية الجغرافية ستقضي على سياسة التخاذل والتعاون مع الأعداء ولا يمكن للشذوذ أن يصبح طبيعة وأن يعادي المرء نفسه ولا بد لمصر أن تعود لحقيقتها وتتبع مصالحها التي يشوهها الشعار الدارج في أقطار التجزئة التي ينادي كل واحد منها ’’نفسي أولاً’’، ولا يمكن أن يكون محباً لوطنه من ينادي بعزله عن إخوته وذلك برفع شعار مموه هو ’’أنا أولاً’’، فوقوف المرء في صف متراص مع الإخوة لا يلغي الذات أو يمحوها بل يعزز موقفها ويقويها، والوقوف ’’مستقلاً’’ وحيداً هو الذي يمهد لافتراس المرء وزواله بجعله عرضة لهجوم أي وحش عابر في الغابة التي نعيش فيها، وهذا ليس خياراً بل هو قانون الطبيعة وهو قانون البقاء، ومهما شذت دولة التجزئة فإن الحقيقة ستفرض نفسها وتعود الطبيعة إلى مسارها الذي جرت فيه آلاف السنين لا يمثل زمننا الهابط سوى لحظة مرض عابر منها.
3- شذوذ الاستعمار الغربي الحديث والمعاصر عن مسار الحضارات السابقة
رأينا أن كل الحضارات التي مرت بمدينة غزة قامت بدمجها في نسيجها السياسي الاجتماعي الاقتصادي على تفاوت بينها في درجة الإدماج، وهذا الكلام ينطبق على مصر الفرعونية والآشوريين والبابليين والفرس واليونانيين والبيزنطيين ثم المسلمين بدولهم المختلفة، بل حتى الرومان الذين اشتهروا بنخبويتهم أيضاً، ولهذا عرفت المدينة ازدهاراً متفاوتاً في ظل هذه الحضارات المختلفة، ثم رأينا الشذوذ النخبوي في الحضارة الغربية الحديثة التي استندت إلى مسلمات فكرية عنصرية أسبغت عليها الصفات العلمية وزرعت الكيان الصهيوني في فلسطين بنموذج استثنى السكان الأصليين من دائرته ولهذا أصر على تهجيرهم من الأرض التي يعتزم إقامة دولته اليهودية عليها ثم استبعدهم من العودة إلى ديارهم رغم ادعائه عدم المسئولية عن تهجيرهم، وهو ما يستلزم ألا مصلحة له في خروجهم، ولكنه أصر على عدم عودتهم بشكل مريب ونظر إلى وجودهم بصفته تهديداً لهوية كيانه اليهودية ومن ثم كان هو الذي جعل الصراع صراع وجود وليس صراع حدود، في الوقت الذي وافق فيه أصحاب الدار على مشاركة اللصوص وسكناهم في المنزل، ومن ينظر في واقع الحياة في غزة في ظل الاحتلال ثم الحصار الصهيوني من حيث الافتقار إلى مستلزمات الحياة الأساسية كالمياه والكهرباء والبنية التحتية، بالإضافة إلى جعلها مكباً للمياه الفاسدة، لسخر من دعاوى نشر الحضارة والتمدين وجلب التنمية إلى المنطقة والتي روجها أنصار الصهيونية عندما اعتزموا إنشاء كيانهم، ولعلم أن هذه المدنية مقصورة على الصهاينة كما يتبدى ذلك من الفرق الكبير بين الحياة المزدهرة في كيانهم والحياة الميتة في الأراضي المحتلة لاسيما غزة التي ما كانت تذوق المياه العذبة مثلاً إلا بشكل غير مقصود وذلك في المناطق التي تقع صدفة في طريق المستعمرات الصهيونية وتمتد الأنابيب خلالها.
4- الذوبان هو مصير الغزاة في هذه البقعة
وعلى كل حال كان الذوبان في المحيط الشرقي هو مصير الكيانات التي أقامها مهاجرون وغزاة كانوا ينعزلون عن هذا المحيط في البداية مكونين طبقات عسكرية حصرية مغلقة، ولكن عدم تلبية الحاجة المستمرة لتغذية هذه الكيانات الغريبة بالهجرة المتواصلة، وعملية الاندماج الحضاري الناتجة عن حتمية التواصل لتلبية الحاجات اليومية لسكان هذه الكيانات، أفقدها بالتدريج صلتها بأصولها وربطها بمحيطها الجديد ولم يتبق إلا هزيمتها عسكرياً، وهو ما يحتاج دائماً لإعداد يحافظ على جذوة المقاومة، للقضاء على تميزها، والتحام سكانها بأهل الشرق أو رحيلهم إلى حيث أصولهم، وهذا نذير بمصير الهجمة الصهيونية الحالية التي لن تستطيع تجميد الأحوال التي تمدها بالهجرات الخارجية التي لا بد أن تنضب ينابيعها يوماً ما بالنظر إلى قلة عدد اليهود وتلاشيهم،[160] مما أجبر الكيان الصهيوني على قبول هجرات مشكوك في يهوديتها[161] بل ولتهويد بعض الغرباء جداً عن اليهودية كالهنود الحمر في أمريكا الجنوبية ليصبح لهم الحق في العودة إلى أرض ’’أجدادهم’’ في فلسطين،[162] وذلك عوضاً عن أرض أجدادهم الحقيقيين التي فقدوها، وكل ذلك للحفاظ على عزلة الدولة الصهيونية عن العالم العربي والتي يصر عليها الغرب بتأييده هويتها اليهودية الحصرية لتبقى هذه العزلة ضماناً لارتباط الصهاينة بالغرب وعمالتهم له،[163] وهو ما أشار إليه زعماء الصهيونية كحاييم وايزمان وماكس نوردو وفلاديمير جابوتنسكي حين قالوا إن فلسطين العربية ستنضم إلى العالم العربي، أما الدولة الصهيونية المعزولة عن العرب والتي لا تنتمي إلى المنطقة سيظل سكانها موالين للغرب وحلفاء له،[164] وهذه هي ميزة الكيان العميل برمته على الكيانات الطبيعية في المنطقة والتي يمكن للاستعمار أن يسيطر عليها بواسطة تنصيب عملاء لحكمها ولكنه لا يستطيع جعل الشعوب أنفسها عميلة له و