محمد شعبان صوان
الاثنين, 02 ديسمبر 2013 21:53
فهرس المقال
من تاريخ انتفاضة الحجارة في ذكراها:
مواقف التيارات الإسلامية من القضايا المتعلقة باندلاعها
أسست انتفاضة الحجارة التي اندلعت في نهاية سنة 1987 مرحلة جديدة في النضال من أجل استعادة حقوق شعب فلسطين، وتميزت هذه الانتفاضة بمشاركة التيارات الإسلامية وارتفاع صوتها فيها،
وفي هذه الدراسة التاريخية أحاول تتبع آراء الحركات الإسلامية في القضايا الحاسمة التي طرحت زمن اندلاع هذه الانتفاضة، وربما اختلفت الظروف اليوم في فلسطين، مثل الانقسام الواضح بين فتح وحماس خلافاً للماضي، وزيادة الحضور السلفي وتنوع آرائه ومشاركاته، وانتشار حركة الجهاد الإسلامي وظهورها إعلامياً أكثر من الماضي رغم استمرار تركيزها على الإنجازات دون الدعاية، وانقسام أعضاء حزب التحرير بين أكثر من تنظيم وتنوع آرائهم بعد المركزية الفكرية الشديدة التي تميز بها الحزب في زمن الدراسة، وتهميش المجلس الوطني الفلسطيني بعد قيام السلطة الفلسطينية فلم يعد له أهمية إلا لإلغاء الميثاق الوطني الفلسطيني وهو ما قام به فعلاً (1996) ثم رسمياً (1998) استجابة لمطالب صهيونية وبحضور الرئيس الأمريكي آنذاك بيل كلنتون في غزة، ولهذا فإن ما كتب في هذا المقال يخص زمن تلك الانتفاضة ولا يتعدى بالضرورة إلى زمن آخر، لاسيما في ضوء التغيرات السريعة لسياسات ذلك الزمان، ولن يحدث قفز زمني إلا عند الإشارة إلى ذلك
۞ أ- حركة الإخوان المسلمين
تأسست حركة الإخوان المسلمين في سنة 1928 في مدينة الإسماعيلية بمصر على يد الشيخ حسن البنا المولود في سنة 1906 في مدينة المحمودية بمحافظة البحيرة، وقد اجتاز مراحل الدراسة الأولى في مدارس المدينة وبرز اهتمامه منذ البداية بالعمل للإسلام إذ أسس جمعيات أخلاقية مع بعض زملائه في المدرسة، ولما انتقل إلى القاهرة ليلتحق بدار العلوم انفتح على التيارات الإسلامية المتواجدة في تلك الفترة، فحضر المجالس الصوفية وتردد على دروس علماء الأزهر وقرأ في كتب السلفيين.[1
وبعد تخرجه من دار العلوم عين مدرساً بمدينة الإسماعيلية وهناك بدأ دعوته وأسس جماعة الإخوان لتقف في وجه هذه الموجة الطاغية من مدنية المادة وحضارة المتع والشهوات التي جرفت الشعوب الإسلامية ’’حتى تنحسر عن أرضنا ويبرأ من بلائها قومنا، ولسنا واقفين عند هذا الحد بل سنلاحقها في أرضها وسنغزوها في عقر دارها حتى يهتف العالم كله باسم النبي صلى الله عليه وسلم وتوقن الدنيا كلها بتعاليم القرآن’’.[2]
والطريق إلى ذلك ’’أن يكون في مصر أولاً بحكم أنها في المقدمة من دول الإسلام وشعوبه، ثم في غيرها كذلك:
- نظام داخلي للحكم يتحقق به قول الله تبارك وتعالى: وأن احكم بينهم بما أنزل الله..
- ونظام للعلاقات الدولية.
- ونظام عملي للقضاء.
- ونظام اقتصادي استقلالي للثروة...
- ونظام للثقافة والتعليم يقضي على الجهالة والظلام.
- ونظام للأسرة والبيت ينشئ الصبي المسلم والفتاة المسلمة.
- ونظام للفرد في سلوكه الخاص.
- وروح عام يهيمن على كل فرد في الأمة.
نحن نريد: الفرد المسلم والبيت المسلم والشعب المسلم والحكومة المسلمة والدولة التي تقود الدول الإسلامية وتضم شتات المسلمين وتستعيد مجدهم وترد عليهم أرضهم المفقودة ثم تحمل علم الجهاد’’.[3]
* قضية فلسطين واهتمام الإخوان بها[4]
اهتم الإخوان المسلمون منذ البداية بقضية فلسطين، وبرز هذا الاهتمام مع اندلاع ثورة 1936، فقاموا بعدة أنشطة لدعم الثورة، وألفوا لجنة لذلك، وقاموا بدعاية واسعة النطاق بواسطة المساجد والمطبوعات، هاجموا فيها سياسة بريطانيا في فلسطين ودعوا إلى مقاطعة المتاجر اليهودية في مصر، وبثوا دعاتهم في أنحاء مصر للدعوة إلى مساعدة فلسطين، وأرسلوا برقيات إلى مسئولي الدولة لمطالبتهم بالتدخل لصالح القضية، ونظموا مظاهرات تأييداً لفلسطين، ويقال إن بعض أفراد الإخوان شاركوا في الثورة بصفة فردية، ولما قامت الجماعة بتأسيس ’’النظام الخاص’’ في بداية الأربعينيات، كانت مساعدة فلسطين على التخلص من الانتداب والصهيونية سبباً من أسباب إنشائه.
وقد بدأت جهود الإخوان لنشر دعوتهم في فلسطين سنة 1935 عندما وصل مندوبان عنهم وقابلا الحاج أمين الحسيني، هذا بالإضافة إلى دور الطلبة الفلسطينيين الدارسين في جامعات ومعاهد مصر، وكذلك دور دعاة الإخوان الذين كانوا يزورون فلسطين ويؤسسون فروعاً فيها.
ويتضح التواجد الإخواني في فلسطين بعد نهاية الحرب الكبرى الثانية (1939- 1945)، وقد استفاد الإخوان من وجود بعض الجمعيات الدينية التي كان أهالي فلسطين قد أسسوها، فنلاحظ أن أول فرع أسسه الإخوان هو فرع غزة الذي ترأسه الحاج ظافر الشوا رئيس جمعية التوحيد التي انتقل كثير من أعضائها إلى حركة الإخوان، وتأسس فرع آخر في مدينة حيفا وتكوّن أعضاؤه أساساً من أعضاء جمعية الاعتصام، وتوالى تأسيس الفروع حتى وصل عددها قبل حرب 1948 إلى عشرين فرعاً، هذا بالإضافة إلى الفرق الكشفية، ومع ذلك لم يكن لهم قيادة موحدة في فلسطين وكانوا يتبعون الحركة في مصر مباشرة.
وقبل اندلاع حرب 1948 عقد الإخوان في فلسطين مؤتمرين، الأول في 18-10-1946، وتقرر فيه تحميل حكومة فلسطين البريطانية مسئولية اضطراب الأوضاع، والمطالبة بعرض القضية الفلسطينية على مجلس الأمن، وتأييد الجامعة العربية، أما المؤتمر الثاني فعقد في 27-10-1947 واستنكر فيه الإخوان محاولة العرب تحقيق أهدافهم الوطنية عن طريق مجلس الأمن أو هيئة الأمم، وأعلن المؤتمر أن الإخوان سيتحملون مسئوليتهم في الدفاع عن أرض فلسطين.
* دور الإخوان في حرب 1948
شارك الإخوان المسلمون من مختلف الأقطار العربية في حرب فلسطين سنة 1948، وكان لكل فرع ظروفه الخاصة التي حددت طريقة مساهمته، ومع أن اندفاع الإخوان كان كبيراً للمشاركة في إنقاذ فلسطين من المؤامرة الصهيونية، فإنهم لم يتمكنوا من أداء دورهم كاملاً بسبب العقبات الرسمية التي وقفت سداً في وجوههم.
وقد قام الإخوان في مصر بالدعوة إلى الجهاد قبل إعلان الحرب ونظموا مظاهرات وحملات لجمع التبرعات وانتشروا في صحراء مصر باحثين عن بقايا أسلحة الحرب الكبرى الثانية، وأبلغ الشيخ حسن البنا مجلس الجامعة العربية أنه على استعداد لإرسال عشرة آلاف متطوع من الإخوان إلى فلسطين، وحاول الحصول على إذن عبور الحدود من الحكومة المصرية آنذاك ولكنها رفضت ذلك، فلجأ الإخوان إلى محاولة الوصول إلى فلسطين عن طريق الحيلة نتيجة التضييق الرسمي، فطلبوا مثلاً القيام برحلة علمية إلى سيناء وانطلقوا من هناك تسللاً نحو فلسطين، ولما ظهر نجاح العمليات التي قاموا بها لاسيما بعد انضمام أعداد كبيرة من أهل فلسطين إليهم، طلبت الحكومة المصرية من مركز الإخوان سحب قواته من النقب ولما رفض قطعت الإمدادات والتموين عنهم فأغناهم أهل فلسطين عن مساعدات الحكومة.
كانت مشاركة الإخوان في حرب فلسطين مشاركة فعالة لاسيما في منطقة الجنوب، إذ هاجموا المستعمرات الاستيطانية وقطعوا خطوط المواصلات وشاركوا في معركة التبة 86 التي أنقذت قطاع غزة من الاحتلال، وقد استشهد مائة مجاهد تقريباً منهم وجرح عدد مقارب وأسر البعض الآخر، وكان الصهاينة ينتقمون من أسرى الإخوان بوحشية لشدة غيظهم منهم.
وشارك الإخوان المسلمون من الأردن بجهد مماثل، فجمعوا التبرعات وفتحوا أبواب التطوع، وتطوع منهم في عمّان 120 مقاتلاً وفي إربد 100 مقاتل، أما إخوان العراق فساهموا في المظاهرات وحملات التطوع واشتركوا في تأسيس جمعية إنقاذ فلسطين التي كانت ترسل المتطوعين إلى اللجنة العسكرية في دمشق، وبعد إرسال ثلاثة أفواج تلقت إنذاراً من اللجنة لعدم إرسال أفواج أخرى، وهددها رئيس اللجنة ورئيس الوزراء العراقي سابقاً طه الهاشمي بإعادة المتطوعين على نفقتها إذا أرسلتهم ثانية، فاقتصر نشاطها بعد ذلك على إرسال التبرعات، وشارك المتطوعون الذين أرسلتهم في معارك شمال فلسطين، أما إخوان سوريا فقد شارك منهم في الحرب مائة مقاتل وساهموا في معارك القدس، وأما إخوان فلسطين فقد شاركوا في الحرب حيث وجدوا، وتحت قيادة كل الجيوش، سواء جيش الإنقاذ أو جيش الجهاد المقدس أو قوات الإخوان المصريين إلى أن أصدرت القيادة المصرية أمراً بتسريح الفلسطينيين خوفاً على سلامة الدولة (يبدو أن صرعة التخويف من الخطر الفلسطيني الماحق والمزعوم على مصر ليست حديثة).
ونتيجة لغيظ الصهاينة من الدور الذي قام به الإخوان في الحرب حاولوا نسف مقرهم في القدس وقام بهذه المحاولة أحد إرهابيي منظمة الأرغون في القدس، ولكن اكتُشف أمره قبل أن يقوم بجريمته وتم إعدامه.
* الإخوان بعد حرب 1948
أسفرت الحرب عن النكبة التي حلت بفلسطين، ومع ازدياد الكثافة السكانية في قطاع غزة فجأة نتيجة الهجرة واللجوء، ازداد انتشار دعوة الإخوان فيه، وأصبح قاضي غزة وعالمها الشيخ عمر صوان رئيساً للمكتب الإداري للجماعة، وأصبح لها أربعة فروع في المدينة وفروع في باقي المدن في القطاع بالإضافة إلى بعض المخيمات.
أما في مصر فقد توترت العلاقات مع السلطة توتراً شديداً بعد الحرب، فحلت الجماعة، وزج بأعضائها في السجون، وتم اغتيال الشيخ حسن البنا في 12-2-1949، ولما قامت ثورة الضباط الأحرار في 23-7-1952 كان الإخوان من روافدها، إلا أن الوفاق لم يستمر طويلاً بين الطرفين وسرعان ما دخلا في صراع طويل وغير متكافئ إلى نهاية حكم الرئيس جمال عبد الناصر.
* الإخوان والمنظمات الفدائية
اجتاحت العالم العربي في الستينيات الرياح القومية، وتأسست فيه كثير من الأحزاب التي تتبنى هذه الفكرة، وانحسر التيار الإسلامي انحساراً شديداً لاسيما بعد اصطدامه بالنظام الناصري في مصر، وفي غمرة الموجة القومية، نشأ تيار الوطنية الفلسطينية الذي يئس من العروبة وأتباعها والأنظمة وحكامها، ودعا لأن يتولى أصحاب القضية، وهم الفلسطينيون، أمرهم بأنفسهم، وقد تعرض هذا التيار الذي مثلته حركة فتح في البداية إلى معارضة ناصرية، ويذكر الإخوان دائما أن الجذور التاريخية لقادة فتح تعود إلى مجموعات ’’الشباب المسلم’’، وينوهون بالعداء المشترك الذي واجهه الإخوان وحركة فتح من النظام في مصر.
* تضارب الآراء
لا نستطيع أن نقف على رأي قاطع للإخوان في الحركة الفدائية قبل ظهور حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في فلسطين، واحتكاك الجماعة المباشر بالقضية الفلسطينية، ويمكننا القول أنه في تلك الفترة ابتعد الإخوان عن المنظمات ذات الصبغة اليسارية، وظلت جسورهم مفتوحة مع حركة فتح، وعندما كانت الحركة تتعرض لأزمات مصدرها معارضة مشتركة لها وللإخوان، كانت هذه الجسور تتحول إلى دعم وتأييد رغم الانتقادات القوية التي كان الإخوان يوجهونها إلى سياسة فتح.
فعلى صعيد الخلافات الفكرية مثلاً، كانت حركة فتح ومازالت تتبنى الحل العلماني، وهو ما يتناقض مع دعوة الإخوان المسلمين، فكان دعاتهم يهاجمون نهج فتح ومنظمة التحرير بكل قوة، ومع ذلك اعترف تنظيم الإخوان بمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني ’’المسلم’’ بشكل رسمي، وقد حدث هذا عندما وقّع الإخوان ميثاق ’’التحالف الوطني لتحرير سورية’’ في سنة 1982، إذ تنص المادة 12 على الاعتراف بتمثيل المنظمة للشعب الفلسطيني.
ولما تعرضت حركة فتح لهزة قوية نتيجة انفجار المعارضة داخلها بدعم سوري بعد الانسحاب من لبنان (1982) وبروز التوجهات الفلسطينية نحو الحل السلمي وما نتج عن ذلك من أحداث دامية في مدينة طرابلس، وقف الإخوان بكل ثقلهم إلى جانب فتح، وبعد تصاعد الخلاف مع سوريا ازداد التقارب بين فتح والإخوان حتى أصبح الإخوان يرونه تقارباً ليس مرحلياً فقط بل ما هو أبعد من ذلك، ويبدو أنه في هذه المرحلة تراجع الإخوان عن مواقفهم الهجومية السابقة وامتد تقاربهم مع فتح إلى المواقف الفكرية ذاتها، فلم تعد نقاط الالتقاء تقتصر على ’’الجذور التاريخية’’ الإسلامية لقيادة الحركة، أو على كونها ’’المنظمة الأصلح’’ وأنه لا مبرر للإسلاميين للهجوم عليها وأن هذا الهجوم سيصب في خانة العدو المشترك، او على الأمل الذي لم ينقطع في أن ’’تعود صياغتها صياغة إسلامية’’، بل أصبحت التصريحات التي كان يطلقها زعماء حركة فتح ومنظمة التحرير بشأن الاعتراف بالكيان الصهيوني والسلام معه وتحتوي على ما يغضب الإخوان، أصبحت ’’تصريحات غامضة... من قبيل المناورة السياسية في الوسط العربي والدولي المضطرب، ومثل هذه التصريحات الغامضة لا يحكم عليها بقدر ما يحكم على التصريح الواضح والإجراء الفعلي’’،[5] ولما ظهر فيما بعد أن هذه ’’التصريحات الغامضة’’ هي نفسها ’’التصريح الواضح والإجراء الفعلي’’، عاد الهجوم على القيادة الفلسطينية مرة أخرى.
وفي الوقت الذي كانت فيه قيادة إخوانية تتخذ هذه المواقف المؤيدة لقيادة منظمة التحرير وحركة فتح، كانت قيادة أخرى تهاجم المنظمة، فقد سئل الأستاذ عمر التلمساني في لقائه مع صحيفة القبس الكويتية:
’’- أفهم من ذلك أنك ترى أن منظمة التحرير الفلسطينية لم تؤد عملاً لحل القضية حتى وقتنا هذا (1985)؟
- حتى الآن لا، ولم أجد لهذه المنظمة أي أثر في الوجود، وكلما تتعرض لأي ضغط فإنها تستجيب، كانوا في جنوب لبنان وقالوا لهم اخرجوا فخرجوا، ثم ذهب بعضهم إلى طرابلس وخرجوا منها، ولم تفعل المنظمة شيئاً، منظمة التحرير الفلسطينية في نظري لم تفعل شيئاً’’.[6]
وكما لا نستطيع أن نحدد رأي الإخوان في الحركة الفدائية غير اليسارية في ذلك الزمن، لا نستطيع كذلك تحديد رأيهم في أمور أخرى تتعلق بالقضية الفلسطينية رغم أنه قد يبدو لأول وهلة أنها قضايا محسومة،[7] وكان من المألوف أن يجيب الإخوان في ذلك الزمان على السؤال الاعتراضي عن التصريحات غير الشعبية التي يطلقها هذا أو ذاك من وجوههم بالقول ’’إن هذا الرجل لا يمثلنا’’.
* ظهور حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في فلسطين
تميزت انتفاضة الحجارة (1987) بظهور حركة المقاومة الإسلامية بصفتها تنظيماً مستقلاً عن بقية المنظمات الفلسطينية المعروفة، بالإضافة إلى كونها فرعاً من حركة الإخوان المسلمين، وقد أعلنت الحركة عن نفسها في بيان وزع في غزة يوم 12-12-1987 وفي الضفة بعد يومين،[8] ويرى كثير من المراقبين أن سلطات الاحتلال الصهيوني شجعت نمو هذا التيار، وأعتقد أن ذلك لم يكن بالاتفاق والتآمر كما يحلو للبعض أن يصوروا الأحداث، وإذا قبلنا بهذا المنطق فعلى أنصاره الإجابة عن أسئلة كثيرة عن دور الولايات المتحدة في التنسيق مع ثورة يوليو/ تموز/ جويلية 1952،[9] وعن صراع الرئيس جمال عبد الناصر ضد الشيوعية[10] والذي استفادت منه الولايات المتحدة،[11] وعن وقوف أمريكا ضد العدوان الثلاثي (1956) لمصلحة مصر،[12] وحين نرفض تفسير الأحداث السياسية على هذا الوجه المجتزأ فإن علينا التقاط صورة كاملة لها وتدبر مآلاتها، فأمريكا قضت أو قبلت بالقضاء على التجربة الناصرية بالقوة المسلحة في النهاية،(1967) والكيان الصهيوني أيضاً قضى على أبرز قادة حماس فيما بعد، ورغم اختلاف الظرفين، لم يكن الطرفان المصري والفلسطيني ’’كالخاتم في الأصبع’’ لدى أمريكا أو الكيان الصهيوني، وتؤكد وثائق المخابرات الأمريكية أنها فوجئت برفض الرئيس ناصر التصرف وكأنه مشترى ولهذا قامت بعمليات إفساد ضده،[13] كما أصدر الرئيس الأمريكي آيزنهاور أوامر خطية لوزير خارجيته جون فوستر دالاس أن ’’حجموا ناصراً’’،[14] وبعد تسوية السويس (1957) ثبت للولايات المتحدة أن تفاؤلها فيما يتعلق ’’بالاتفاق السري’’ مع الحكومة المصرية لم يكن مطابقاً للواقع،[15] وهو ما يؤكده أيضاً واحد من أشد الباحثين نقداً للرئيس جمال عبد الناصر وهو الأستاذ محمد جلال كشك حين يؤرخ لتصاعد الخلاف الذي انتهى بالقطيعة بين الطرفين.[16]
وكذلك فإن كل ما في الأمر في الحالة الفلسطينية أن الصهاينة في ذلك الوقت، ونتيجة لعدوانيتهم وغطرستهم ورفضهم أي حل سلمي يتطلب التنازل عن أي من مسروقاتهم، عملوا على إفشال المبادرات التي مدت يد السلام إليهم، وأعماهم الحقد وأساءوا حساباتهم - ولم تكن تلك هي المرة الوحيدة- فتصوروا إمكان سد الطريق على ذلك الحل السلمي الذي تتبناه منظمة التحرير الفلسطينية بشق الصف الفلسطيني الذي كان ’’يحرج’’ الكيان الصهيوني بهجومه السلمي بهذه المطالب والتنازلات، إذ لم يكن السلام من ضمن البرامج الصهيونية إلا بقبول الطرف الآخر الاستسلام الكامل، ولهذا نبذت جميع الحلول الوسط سواء حل الدولة الديمقراطية العلمانية لجميع سكان فلسطين في البداية أو حل الدولتين فيما بعد، وقد وصف نمو التيار الإسلامي المتشدد تجاه المطالب الفلسطينية الرسمية المنسجمة مع ’’الشرعية الدولية’’ بأنه انقلاب السحر على الساحر بعدما أصبحت مطالب منظمة التحرير الفلسطينية أكثر سلمية تجاه فكرة وجود الكيان الصهيوني مقارنة بمطالب حماس التي كانت تركز آنذاك على إزالة هذا الكيان وهو ما استلزم حملة الضغوط والابتزاز لترويضها كما روض من قبلها.
* كيف نشأت حماس؟
تشير المراجع الإسلامية المؤيدة لحركة حماس إلى ازدهار النشاط الإسلامي منذ احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة سنة 1967، فقد ارتفع عدد مساجد الضفة من 400 إلى 750، ومساجد القطاع من 200 إلى 600، ولعل هذه الأرقام تؤكد قصر نظر سياسة الاحتلال تجاه النشاط الإسلامي الذي ما لبث أن انقلب الصهاينة عليه وحاولوا تصفيته بقوة أكبر من القوة المبذولة في تشجيعه، وهو ما يجب أن نضعه في الحسبان فلا نظن أنه الكيان صاحب القدرات الكلية التي لا تُقهر أو العقول المعصومة التي لا تخطئ، كما تبين الأرقام أن انتشار التيار الإسلامي في غزة كان أسرع من انتشاره في الضفة.
ويشير الشيخ الراحل خليل القوقا (توفي 2005) الذي وصف بأنه كان الرجل الثاني في حماس بعد الشيخ أحمد ياسين رحمه الله، إلى أوجه هذا النشاط فيقول: ’’المسجد هو الثكنة العسكرية التي ربت هذا الجيل المنتظم، وهذا الطفل الذي كان بالأمس في عام 67 قبل أن يعرف المسجد يقول: بيعه وتربح منه، واليوم يقول: خيبر خيبر يا يهود جيش محمد سوف يعود، من أين أتى بهذه العبارة؟ أليس من المسجد وحلقات الدرس ودروس التقوية وتحفيظ القرآن وقيام الليل بالمسجد، والمنبر الذي اعتلاه شباب تربوا في أحضان المسجد’’.[17]
ويمكننا القول في ضوء مجمل السياسات الصهيونية تجاه حركة حماس إلى اليوم أنه سواء شجع الكيان الصهيوني نمو هذا التيار الإسلامي، أو تجاهله ولم يقاومه ابتداء، فإن الثابت أنه تصدى له فيما بعد نموه بكل قوة ليس لمجرد ’’تحجيمه’’ هذه المرة بل للقضاء عليه تماماً ولذلك اغتال قيادات الصف الأول فيه وشن الحرب عليه، ويمكن الاستنتاج من ذلك أنه أخطأ في حساباته الأولى وظن في غمرة عدوانيته ورفضه لأي تنازل أنه سيسد الطريق على الحل السلمي ليحتفظ بكل ما سلبه فإذا بهذا التيار الجديد يطالبه آنذاك بالرحيل كلياً وترك كل المسروقات التي استولى عليها دون أن يحتفظ بأي شيء منها.
* آراء حركة حماس
أصدرت الحركة ميثاقاً اعترفت فيه بصراحة بانتمائها إلى حركة الإخوان المسلمين، وحددت فيه موقفها من القضايا المهمة على الساحة الفلسطينية:
1- تقول المادة 15 من الميثاق: ’’ولا بد من ربط قضية فلسطين في أذهان الأجيال المسلمة على أنها قضية دينية ويجب معالجتها على هذا الأساس، فهي تضم مقدسات إسلامية’’.
2- الحلول السلمية: تعارض حركة حماس الحلول السلمية لأنها تؤدي إلى التفريط بجزء من أرض فلسطين وهذا يعني ’’تفريط في جزء من الدين’’،[18] وتنظر الحركة إلى المسألة من الوجهة الفقهية لأن أرض فلسطين ’’وقف إسلامي على أجيال المسلمين إلى يوم القيامة’’،[19] ولا تملك أي جهة أن تتنازل عنها لأن ذلك يعد من باب التصرف في ما لا تملك، وما دامت الأرض ملكاً للمسلمين إلى يوم القيامة فلا يستطيع التفاوض عليها إلا من يملك التفويض من صاحب الملك، ’’ومن يملك النيابة الحقة عن الأجيال الإسلامية إلى يوم القيامة؟’’، وترى الحركة أن أطراف المؤتمر الدولي لها مواقف معروفة من قضايا المسلمين مما يجعل إمكان إنصافهم لنا معدوماً.[20]
3- الدولة الفلسطينية: ترى حماس أن الدولة التي ستقوم على أرض فلسطين يجب أن تكون إسلامية كما تذكر المادة 19 من الميثاق، ولا مانع من إقامة هذه الدولة على أي جزء يتم تحريره من الأرض ولكن بشرط عدم التنازل عن بقية الأرض وعدم الاعتراف بشرعية وجود العدو عليها، فلا بأس بإقامة دولة على جزء من الأرض ’’مع إصرار على رفض أي اتفاقيات أو التزامات توقف مسيرة الجهاد والتحرير الشامل لكل فلسطين’’، وهذه هي نقطة الفراق بين حماس ومنظمة التحرير الفلسطينية، وهكذا ترفض حماس تبرير ما جرى في المجلس الوطني الفلسطيني (1988) من تنازلات بالاعتراف بالكيان الصهيوني ونبذ العنف والقبول بقرار 242 على أسس المرحلية والواقعية تحت غطاء إعلان الاستقلال الفلسطيني، ’’وهي بذلك تدين الذين يفلسفون منطق التراجع والانهزام بحجة الواقعية ويزينونه للشعب على أنه انتصار سياسي عظيم وتؤكد أنه لا يجوز للحلول المرحلية أن تتناقض مع الخيار الاستراتيجي في التحرير الشامل بل لا بد أن تخدمه وتعمل على تحقيقه’’.[21]
4- حل القضية الفلسطينية: ترفض حركة حماس جميع المبادرات السلمية وترى أنه ’’لا حل للقضية الفلسطينية إلا بالجهاد’’،[22] وتحرير فلسطين ’’فرض عين على كل مسلم حيثما كان’’.[23]
5- منظمة التحرير الفلسطينية: سارت حركة حماس في بداياتها على النهج السلمي تجاه منظمة التحرير، ورغم الخلافات المبدئية بين الطرفين لم تقطع خطوط الاتصال مع المنظمة، وعدتها ’’من أقرب المقربين إلى حركة المقاومة الإسلامية، ففيها الأب أو الأخ أو القريب أو الصديق، وهل يجفو المسلم أباه أو أخاه أو صديقه؟’’، ثم واصلت الأمل بعودة المنظمة للخط الإسلامي، وهو أمر طالما حلم به الإخوان، وحينئذ، أي عندما يحدث هذا التحول المنشود، يصبح أعضاء الحركة الإسلامية جنود المنظمة ووقود نارها التي تحرق الأعداء، وإلى أن يحدث هذا الأمل المرتجى يبقى موقف حماس من المنظمة ’’موقف الابن من أبيه والأخ من أخيه والقريب من قريبه، يتألم لألمه إن أصابته شوكة، ويشد أزره في مواجهة الأعداء ويتمنى له الهداية والرشاد’’.[24]
* تعقيب على الموقف المرحلي لحركة حماس
يجب التنويه ابتداء أن توجيه أي نقد لحركة مقاومة لا يعني بخس حقها أو التقليل من شأن تضحياتها الكبيرة وهو ليس سوى تناصح من باب تلمس الطرق الأفضل لاستعادة حقوقنا، كما لا يعني هذا النقد مطلقاً أنه موجه لفكرة المقاومة بل هو بحث عن أفضل الطرق لتطبيقها والحصول على أفضل النتائج منها.
وافقت حركة حماس على فكرة إقامة الدولة الفلسطينية على أي جزء يتم تحريره من أرض فلسطين، ولكنها اشترطت ألا يؤدي ذلك إلى أي التزامات بالاعتراف بالكيان الصهيوني، وربما كان هذا الوضع الذي تخيلت فيه إمكان حدوث هذه المعادلة أبعد ما يكون عن ظروف العالم العربي والإسلامي التي نشأت الحركة في ظل موازين القوى فيها، فالصراع ليس بين طرفين متكافئين يؤمل أن يحدث التحرير الجزئي فيه بالقوة المسلحة بعيداً عن هيمنة الطرف الآخر ومن ثم يمكننا أن نقبل بدولة جزئية إلى جولة أخرى من القتال، ليس هذا هو حالنا بل هو حال أقرب إلى صراع العصور الوسطى بين المسلمين وممالك الفرنجة حين ساد التكافؤ إلى حد ما بين الطرفين، أما في عصرنا فالميزان يميل بشكل كامل لناحية الأعداء ولا يمكن أن ينضم أي جزء يتم تحريره إلى مركز قوة يرعاه بعيداً عن الهيمنة الغربية الصهيونية، فإذا تحرر أي جزء ظل في مرمى نيران الأعداء الأقوى منا بلا أي رادع مكافئ يمكّن من مواصلة عملية التحرير التدريجي لصلب الأراضي المغتصبة التي يحرص الصهاينة على استبقائها تحت حكمهم، وكل ما يمكن تحقيقه رغم كل بطولات المقاومة هو الحفاظ على الوضع القائم دون العبور إلى عمق فلسطين المحتلة، وإلا وقف ’’المجتمع الدولي’’لنا بالمرصاد بالقوة المسلحة، ولن يكون الكيان الصهيوني بأرخص عنده من نفط الكويت الذي دُمر بلد عربي لأجله تدميراً شاملاً منذ 1990 إلى هذا اليوم
ومن هنا كانت كل عمليات التطهير السابقة من الوجود الصهيوني (جنوب لبنان وقطاع غزة) هي الحد الأعلى الذي يمكن الوصول إليه في الوقت الحاضر والذي لا يخترق معادلة ’’الشرعية الدولية’’ التي تقر وجود الكيان الصهيوني على حدود 1949 وما يمكن نهبه من حدود 1967، ولهذا تحول جميع الأطراف المعنية من جانبنا بما فيها المقاومة بعد تحقيق الانتصارات السابقة إلى الاهتمام بحراسة الحدود من الاختراق حتى لا يتسبب في صراع جديد لن يكون مداه كالسابق، ولهذا فإن التحرير الجزئي التدريجي غير وارد الآن ولن يكون أي انسحاب إلا في ظل شروط والتزامات ومواثيق تؤبد وجود الكيان الصهيوني ما دام الغرب هو الطرف الأقوى في العالم، أي أن ما تخيله ميثاق حماس لا موضع له حالياً وكان من سبق إلى طريق الحل السلمي قد بدأ بتخيل نفس التسلسل السابق عن إقامة الدولة على أي شبر يتم تحريره فكانت النتيجة النهائية هي كل التنازلات التي قدمت منذ ذلك التاريخ (1974) سواء الاعتراف بحق الكيان وليس بمجرد وجوده بعدما كان يقال إن هذا الاعتراف لم يرد في الأدبيات الفلسطينية قط، أو بنبذ المقاومة التي أصبحت إرهاباً في نظر القائمين عليها، والإقرار بما تلقيه إلينا الشرعية الدولية من فتات بعد قضم ما شاء لها من حقوقنا وذلك بالقبول بالقرارات الدولية التي تؤكد شرعية الكيان الصهيوني والتي كان يقال فيها إنه لم يُخلق بعد، القائد الفلسطيني الذي يقبل بها، أما انقلاب الظروف وتغير موازين القوى جذرياً فهو حديث يطلق العنان لجميع الاحتمالات.
۞ ب- حركة الجهاد الإسلامي
تعرضت حركة الجهاد الإسلامي في بداية انتفاضة الحجارة إلى كثير من سوء الفهم والتشهير والافتراء من جهات تدعو إلى وقف هذه التجاوزات بين المسلمين لتتوحد صفوفهم، وانتشرت الأقاويل عن الحركة في محاولة لإلغاء دورها الفاعل في الانتفاضة بالادعاء أن زعماءها عملاء للسفارات، وأنها تحمل فكراً غريباً، وليس لها أثر في الانتفاضة، وعندما أصبحت هذه الانتفاضة وسيلة للصعود الإعلامي حتى لصغار الفنانين، لم يمانع البعض في سرقة إنجازات حركة الجهاد ونسبتها إلى السجلات الخاصة بهم، ربما باسم وحدة العمل الإسلامي، وقد ساعد على استفحال هذه الظاهرة عاملان مهمان هما أن حركة الجهاد لم تكن باتساع غيرها وليس لها من الإمكانات الإعلامية ما يملكه غيرها، وهذا ما يحجم انتشار وجهة نظرها آنذاك، كما أنها لم تكن تهتم بالجوانب الإعلامية قدر اهتمامها بتنفيذ أهدافها على الساحة الفلسطينية، ويتضح هذا من تواضع ادعاءاتها وعدم اهتمامها باحتكار الساحة فتضيف الآخرين إلى سجلات الإنجازات كما سيأتي.
* نشأة الحركة
نشأت حركة الجهاد الإسلامي في نهاية السبعينيات من القرن العشرين، ويبدو أنها كانت تستهدف طرح تصور إسلامي في عملية المواجهة المباشرة مع الاحتلال الصهيوني، وذلك لأن بقية التيارات الإسلامية لم تكن في ذلك الوقت تدعو لهذه المجابهة ﻓ’’أعيت تساؤلات السنوات العديد من أبناء الإسلام في فلسطين حول دور الحركة الإسلامية بكل قواها تجاه القضية الفلسطينية’’،[25] فرفعت الحركة شعار: القضية الفلسطينية قضية مركزية للحركة الإسلامية، في محاولة ’’لزج’’ التيار الإسلامي في المواجهة.
’’كان تصورنا في نهاية السبعينات أن قوى الحركة الإسلامية تحتاج إلى رأس رمح يشعل المواجهة مع العدو في فلسطين ويعيد للإسلام رايته في مقدمة الجبهة، وكان خيارنا أن نكون رأس الرمح ذلك’’،[26] وبهذا يمكننا تحديد نقطتين رئيستين تميز حركة الجهاد عن بقية الحركات الإسلامية المعاصرة
1- مركزية القضية الفلسطينية: فبينما كانت الحركات الإسلامية تنظر إلى هذه القضية بصفتها إحدى قضايا المسلمين، قد يكون لها خصوصية أيضاً، جعلتها حركة الجهاد قضية مركزية.
2- توقيت المواجهة مع الاحتلال: ففي الوقت الذي لم تكن فيه بقية التيارات على استعداد للمواجهة مع الاحتلال في نهاية السبعينيات، ولكل منها أسبابه الخاصة، اتخذت حركة الجهاد قرارها بالمواجهة المباشرة وعدم تأجيل ذلك، مما عرضها لملاحقة سلطات الاحتلال مبكراً، ووضع عدد من أعضائها في السجون، الأمر الذي اتخذه بعض المنافسين دليلاً على عدم مشاركة الحركة في انتفاضة الحجارة فيما بعد وذلك لأن أعضاءها كانوا في السجون قبل اندلاعها، وكأن وجود بعض العناصر في السجن يمنع وجود غيرهم في الخارج، أو حتى يمنع السجناء أنفسهم من المشاركة في التخطيط لأعمال في الخارج، وقد تكون هذه المشاركة مما أدى إلى إشعال الانتفاضة ذاتها فيما بعد كما سيأتي.
* متى بدأت انتفاضة الحجارة؟
المشهور بين الناس أن الانتفاضة بدأت في الثامن من ديسمبر سنة 1987، بعد قتل العمال الأربعة في قطاع غزة، ولكن الجذر المباشر للحدث والذي يعلمه كل أهل غزة في ذلك الوقت أن البداية كانت قبل ذلك بشهرين، وبالتحديد في السادس من أكتوبر، وفي حي الشجاعية في المدينة، عندما قام كل من محمد الجمل وسامي الشيخ خليل، وهما هاربان من سجن غزة المركزي، بالإضافة إلى أحمد حلس وفايز قريقع، بعملية بطولية أدت إلى استشهادهم جميعا، فنتج عن ذلك حداد عام في الحي ونشبت اضطرابات متفرقة في القطاع حتى قُتل المستوطن في غزة في السادس من ديسمبر وانتقم أخوه بقتل العمال الأربعة مما أدى إلى اشتعال الانتفاضة في جباليا فبقية أنحاء القطاع فالضفة الغربية.
كانت حركة الجهاد الإسلامي وراء عملية الأربعة في السادس من أكتوبر ثم عملية قتل المستوطن في السادس من ديسمبر، وقد صدر بعد العملية الأولى قرار صهيوني بإبعاد الشيخ عبد العزيز عودة أحد القيادات البارزة في الحركة، ومع ذلك نسب آخرون العملية إلى أنفسهم واتخذوا من هذا الإبعاد دليلاً على عدم مشاركة الشيخ في انتفاضة ديسمبر لأنه كان خارج الساحة،[27] وبذلك يُنكر دور الرائد في القافلة لأنه لا يسير معها بل يسبقها بمسافة، واستمر هذا المسلسل فيما بعد ويمكننا أن نضع أكثر من حدث بعد ذلك ضمن محاولة نزع البطولات عن حركة الجهاد الإسلامي ونسبتها إلى غيرهم كعملية عبسان (3-2010) حين تلقت الحركة الأمر برحابة صدر كالعادة ومالت إلى جعل الادعاء مجرد التباس حسن النية،[28] وتكرر الادعاء أيضاً مؤخراً في استشهاد البطل محمد عاصي قرب رام الله (22-10-2013)، ولهذه الظاهرة جذور منذ اندلاع انتفاضة الحجارة.
* سباق الادعاءات
حرصت عدة أطراف فلسطينية على الادعاء أنها، وحدها، فجرت الانتفاضة ثم قادت تحريكها، وأن الآخرين الذين يدعون غير هذا كاذبون، ولما كان حديثنا مقتصراً على التيارات الإسلامية، فمن المهم استطلاع آرائهم في هذا الموضوع.
1- رأي الجهاد: حددت حركة الجهاد الإسلامي دورها في الانتفاضة بكونها رأس الرمح الذي ساهم في إشعال شرارة الانتفاضة التي أصبحت حركة جماهيرية لكل الشعب الفلسطيني، وأن حركة الجهاد ليست كل الحركة الإسلامية التي تضم تيارات أخرى أيضاً، كما أنها لا تدعي قيادة الانتفاضة إذ أن قيادتها في يد الجماهير.
’’إننا لا نمثل كل قوى الاتجاه الإسلامي في فلسطين، وإن مشاركتنا في الانتفاضة يجاورها مشاركة الإخوان المسلمين ومجموعات تحريرية (أي تنتمي لحزب التحرير) وسلفية’’.[29]
’’قد جاء الوقت - ربما- الذي يدرك فيه بعضنا أن التعدد ميراث تجبرنا عليه سنة الله في التاريخ والناس وأن واجبنا هو العمل من أجل الوحدة لا من أجل العزل وإصدار قرارات الحرمان’’، وأنه ليس من الصواب أن يحتكر تنظيم معين مصطلح ’’الحركة الإسلامية’’ لنفسه لأن ’’أكبر التنظيمات الإسلامية لا يتعدى بضعة عشرات من الآلاف، فيما الأمة تعج بعشرات التيارات وبملايين المسلمين من رجال يربطهم بهذا الدين ولاء العقيدة والتاريخ والحضارة... وآلاف العلماء المسلمين غير المنظمين، وملايين المحافظين على دينهم المتطلعين إلى عزة الإسلام ونهضته، جميعهم حركة إسلامية’’.[30]
’’إن الانتفاضة في شمولها واستمرارها هي فعلاً انتفاضة كل جماهير شعبنا، ولو كانت انتفاضة تنظيم أو حزب أو منظمة لانتهت منذ شهور طويلة، وهي أيضاً نتاج العديد من الأسباب السياسية والعقائدية والاجتماعية’’.
وترفض الحركة أن تعزو اندلاع الانتفاضة إلى نفسها وترد على من ينسبون اندلاعها إليها بالقول إنها ’’كانت انتفاضة تلقائية قام بها الشعب كله بكل فئاته’’، أما دور الحركة فيشرحه قولها: ’’إن كان لا بد لكل حركة سياسية جماهيرية من شرارة تشعلها فليس لأحد أن ينكر الشجاعة الفذة والتضحيات لمجاهدي حركتنا من سرايا الجهاد الإسلامي في فلسطين (ثم يسرد قصة العمليتين السابقتين)’’، ’’ونحن لا ندعي قيادة الانتفاضة لأن القيادة هي في يد الجماهير’’.[31]
وترفض الحركة رغم مساهمتها ’’أن تتحول الانتفاضة إلى جدل فارغ: من تحرك ومن المستفيد’’ فالمهم هو ’’أن ننطلق ابتداء منها’’.[32]
2- رأي حماس: يقول الشيخ خليل القوقا: ’’ليس هناك أدنى شك بأن الحركة الإسلامية، والتي شعارها حماس، هي التي فجرت الانتفاضة وهي التي قادتها منذ اليوم الأول’’.[33]
ويقول أيضاً: ’’وبكل فخر، ودون أن نبخس الناس حقهم أو نتجنى على دور الآخرين، أو نحاول تهميشهم أو إقصاءهم، فللحركة الإسلامية (التي شعارها حماس كما يقول) الفخر في أنها فجرت الانتفاضة في ليلة 8 ديسمبر صبيحة الأربعاء وأذكر ذلك بالتحديد’’.[34]
ورغم ذلك فإن القول بالتخطيط للانتفاضة في ليلتها كما يقول الشيخ لصحيفة الأنباء كان أكثر تواضعاً من ادعاء فصائل فلسطينية أخرى أنها خططت لاندلاعها منذ زمن وأنها تسير حسب الخطة المرسومة وأنها الآن في مرحلة كذا وستدخل مرحلة كذا.
* طبيعة الصراع مع الكيان الصهيوني
ترى حركة الجهاد الإسلامي أن صراعنا مع الكيان الصهيوني يتجاوز قضية احتلال الأرض وما ترتب عليه، وتنظر إليه من الزاوية التاريخية والحضارية لترى فيه حلقة من حلقات الصراع مع الغرب الذي نجح أولاً في تحويل مجموعة كبيرة من نخبة المسلمين عن ثقافتهم الأصلية وربطهم بمرجعيته الثقافية والحضارية، ثم تمكن ثانياً من تمزيق العالم الإسلامي بالقوة إلى وحدات مفككة، وبعد ذلك زرع الكيان الصهيوني في قلب العالم العربي والإسلامي ليضمن استمرار التجزئة والتبعية والإلحاق والهيمنة.
فالكيان الصهيوني من منظور الحركة يمثل ركيزة الهجمة الغربية على المنطقة، ومن العبث أن نفصل بين الهيمنة الاستعمارية والتبعية للغرب وبين هذا الكيان الذي يكوّن أداة تحقيق ذلك.[35]
* مركزية القضية الفلسطينية للحركة الإسلامية المعاصرة
انطلاقاً من الرؤية السابقة لحقيقة الكيان الصهيوني، رأت حركة الجهاد أن تحقيق أهداف الأمة الإسلامية الكبرى، وهي الاستقلال والوحدة والنهضة، يستلزم خوض المعركة حتى النهاية ضد التغريب وضد مركز الهجمة الغربية وهو هذا الكيان، ولهذا رفعت الحركة شعارها الاستراتيجي: فلسطين: القضية المركزية للحركة الإسلامية المعاصرة، وترى الحركة أن هذا الشعار يعبر عن وعي تاريخي عميق لأبعاد القضية، وليس نتاجاً لانتقائية اعتباطية، أي أن اختيار الحركة لخوض المعركة ضد الكيان الصهيوني لا يماثل القتال ضد مجرد احتلال عسكري لقطعة من أرض الإسلام كما يحدث في بعض البلدان، بل هو كفاح من أجل تحقيق الأهداف الكبرى للأمة الإسلامية كلها.[36]
* الحلول السلمية
يلاحظ المتتبع لمواقف حركة الجهاد أنها تحاول أن تفهم واقع موازين القوى كما هو وتنطلق من هذا الفهم لمعالجته في نطاق الإمكانات الموجودة، بلا مزايدة طنانة أو شعارات رنانة، وبلا استعجال قد يؤدي إلى الاستسلام باسم الواقعية، ومن هنا كانت عملية فهم مواقف الحركة تحتاج إلى الدقة.
وتعترف حركة الجهاد أن الغرب تمكن في هذه الجولة من الصراع من الفوز بواسطة المشروع الصهيوني، ولا تنازع في هذه الحقيقة البادية للعيان بوضوح، كما تسلم بأن الواقع العربي والإسلامي غير مؤهل الآن للمواجهة المنشودة، وهي حقيقة أخرى لا نزاع حولها، ولكنها لا ترى مشكلة في هاتين الحقيقتين، إذ المشكلة الحقيقية في نظرها هي في فكرة القبول بمشروعية الإنجاز الصهيوني، وتستحضر في هذا المجال التجربة الفرنجية الصليبية التي تمكنت من الانتصار على الإرادة العربية والإسلامية فيما سبق، وقامت ممالكها في نفس المنطقة وعمرت قروناً ولكنها مع ذلك لم تتمكن من اكتساب أي نوع من الشرعية، وظل وجودها احتلالاً واغتصاباً وغزواً، لم تغير السنين وضعها رغم استمرار العجز في الأمة عن مواجهتها، فلماذا لا يستمر الحال اليوم على ما هو عليه بلا اعتراف وتظل صفة الاحتلال والاغتصاب عالقة بالمشروع الصهيوني حتى تبرز القيادة التاريخية وتقوم بدورها المرتقب؟ لماذا لا نتعامل مع القضية من الزاوية الحضارية التاريخية التي يعلم الصهاينة أنفسهم أنها محسومة لصالحنا؟ وترى الحركة أن الاعتراف بشرعية المحتل يؤلف بداية للتخلي عن الموقف التاريخي الذي يرفض الهزيمة.[37]
* إعلان الدولة الفلسطينية المستقلة
وانطلاقاً من هذا الموقف الرافض للاعتراف بشرعية الكيان الصهيوني، رفضت حركة الجهاد إعلان الاستقلال الفلسطيني وقيام الدولة المستقلة الذي أصدره المجلس الوطني الفلسطيني (1988)، ولم تر الحركة في هذا الإعلان سوى ’’حملة خداع وتمويه كبيرة’’، هدفها ’’تغطية الخطوة الكارثة بالاعتراف بالكيان الصهيوني أمام أعين شعبنا، ولكن ذلك لن يدوم طويلاً’’ لأن الجماهير ’’ستدرك شيئاً فشيئاً، بعد أن صمتت طبول المهرجان التاسع عشر (أي دورة المجلس الوطني)، أي هاوية انحدر إليها المشروع الوطني الفلسطيني’’.[38]
أما عن إمكان الحصول على هذه الدولة المستقلة على أرض الواقع فإن حركة الجهاد لا ترى ما يشير إلى اتجاه لدى الكيان الصهيوني لتقديم هذا التنازل، فموازين القوى راجحة لصالحه، واتجاهات الفكر داخله تدفعه للمزيد من التطرف وهذا ما أثبتت الانتخابات الأخيرة (1988)، وأما الولايات المتحدة فهي حليف لإسرائيل التي تمثل أداة المشروع الاستعماري الغربي في المنطقة، بالإضافة إلى انشغالها في الوقت الحاضر (1988) بترتيبات الرئاسة الجديدة، وأما الاتحاد السوفياتي فأصبح أكثر مرونة تجاه الوجود الصهيوني ويدعو إلى إنهاء الصراع بأي شكل يمثل الحد الأدنى، ونتيجة لكل ذلك فإن ’’العطاء المرتقب’’ من الكيان الصهيوني سيكون محدوداً، وستكون الدولة الفلسطينية خارج موضوع البحث حتى لو ارتبطت كونفدرالياً مع الأردن لأن إسرائيل لن تقبل بإيجاد وضع قد يصبح لغماً ينفجر ولو بعد حين (ثبتت صحة هذا التحليل بعدم قيام الدولة الفلسطينية رغم كثرة الوعود الأمريكية منذ ذلك الوقت إلى يومنا هذا في سنة 2013)، ولو تزايد الضغط عليها فقد تلجأ للحرب، وترى حركة الجهاد أن ما تقوم به الأوساط العربية والدولية من دفع منظمة التحرير لمواصلة التحرك في مشروع الدولة لا يهدف إلا إلى القضاء على نهضة الشعب الفلسطيني وتمزيق نضاله.[39]
وتعتقد حركة الجهاد أن هذه الدولة لو قامت فعلاً فستؤدي إلى مجموعة من الكوارث: التخلي عن معظم فلسطين، تمزيق الساحة الفلسطينية بين مؤيد ومعارض لهذه الخطوة الخطيرة، وبذلك ’’ستنتقل المعركة من معركة ضد العدو إلى معركة على الساحة الفلسطينية نفسها’’ (وقد وقعت هذه الكوارث فعلاً حتى دون قيام الدولة)، رفع حدة التوتر في بلاد الشام وخاصة مع الأردن وذلك لوجود الظروف المعقدة المحيطة بالبلدين، وتؤكد الحركة أن هذه الدولة لن تكون لكل الشعب الفلسطيني لأنها لن تتمكن من استيعابه، كما أنها لن تكون قادرة على الصمود إلا بالخضوع والتبعية للقوى الكبرى ’’بل وللصغرى أيضاً’’، أما الكارثة الكبرى فهي أن هذه الدولة ستكون جسراً للتوسع الصهيوني، حضارياً واقتصادياً، في العالم الإسلامي كله، فإذا كان الفلسطينيون قد ركعوا، فمن سيصمد بعدهم؟
* حل القضية الفلسطينية
ترى حركة الجهاد الإسلامي أنه من العبث أن يستند المشروع الوطني الفلسطيني إلى موازين القوى المحلية والدولية للوصول إلى إحقاق الحق، أو بعض الحق، لأن القوى الدولية ليست مستعدة للتخلي عن مشروعها الصهيوني الذي أقامته لضمان استمرار التجزئة والتبعية، أما القوى المحلية في المنطقة فليست قادرة على تحقيق شيء، لأن وجودها - بانقسامها وتبعيتها- كان شرطاً لقيام الكيان الصهيوني، فكيف يمكن أن تتحول ضده؟
وتعتقد الحركة أن التنازل عن معظم فلسطين مقابل القبول بالعيش في جزء منها في ظل الهيمنة الاستعمارية، مساومة خاسرة، لأن وضع التجزئة الذي نعيشه وضع طارئ على تاريخنا، فلماذا نقبل به مقابل التخلي عن فلسطين؟
ولا تقبل حركة الجهاد بأقل من كل فلسطين، من نهر الأردن إلى البحر المتوسط، لأن تحريرها واستقلالها يعني تدمير المشروع الصهيوني، وتزيد على ذلك بالمطالبة بجعلها إسلامية لضمان الاستقلال عن مشروع الهيمنة الغربية، وضمان التحرك نحو الوحدة أيضاً.
أما إذا سارت الرياح بغير ما تشتهي السفن، ووجدت الحركة نفسها أمام الاعتراف بالكيان الصهيوني، ودويلة فلسطينية، فستعد أن شيئاً لم يتغير وأن باب الصراع ضد الكيان الدخيل ما زال مفتوحاً، عسكرياً وسياسياً وثقافياً، إلى أن يتم قذفه في البحر المتوسط، وستظل الحركة ترفع لواء الجهاد مهما كان حجم العقبات التي ستعترض سبيلها حينئذ، وستطرح نظام الإسلام في الكيان الفلسطيني لضمان استمرار الصراع ضد العدو.
هذا ما ستفعله الحركة في حال تطبيق التسوية السلمية، أما قبل ذلك فللحركة دعوة مرحلية، وهدف استراتيجي، أما الدعوة المرحلية فهي مناسبة لظروف المنطقة العربية والإسلامية العاجزة عن التحرك الشامل، وتتلخص في ’’حشد منظم وجاد وحقيقي لكل القوى السياسية ولكل قوى وقواعد شعبنا على كل المستويات لمواصلة الصراع ضد العدو الصهيوني حتى النهاية ودحره عن أرضنا شبراً شبراً وقرية قرية، ومدينة مدينة حتى ساحل المتوسط’’، ولا تفاوض ’’إلا إذا تقدم العدو للتفاوض على تفكيك مشروعه والرحيل إلى الأبد من بلادنا’’، أما المشروع الاستراتيجي للحركة فهو أن يستمر شعبنا ومجاهدونا في مواجهة العدو سياسياً وعسكرياً وبكل الوسائل حتى تتفجر طاقات الأمة نحو النهضة والوحدة والاستقلال تحت راية الإسلام العظيم، وتحشد طاقات أمتنا أو حتى جزء منها نحو المعركة الفاصلة في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس’’.[40]
* منظمة التحرير الفلسطينية
تحرص حركة الجهاد على تنفيذ أهدافها أكثر من تفجير الخلافات مع الأطراف التي لا تتفق معها، ورغم الخلافات العميقة التي تفصل بينها وبين منظمة التحرير الفلسطينية، فإنها تؤثر أن تلتزم بمواقفها بهدوء دون تفجير صراعات جانبية، فعلى سبيل المثال قدمت الحركة إلى رئيس منظمة التحرير الفلسطينية الزعيم الراحل ياسر عرفات بياناً أثناء انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني التاسع عشر في الجزائر اعترضت فيه على مسيرة التسوية السياسية ’’ثم انصرفت بعد ذلك لتواصل دورها الذي قامت من أجله’’،[41] وتؤكد الحركة أنه حتى لو وافقت المنظمة على الاعتراف بالكيان الصهيوني واكتفت بإقامة دويلة فلسطينية على جزء من أرض فلسطين، فإن الحركة ستواصل جهادها ضد إسرائيل ’’مع التأكيد على أن معركتنا هي مع العدو الصهيوني ومشروعه ولن تكون يوماً مع أي جزء من أجزاء شعبنا أو أمتنا’’،[42] ولكن الظروف وضعت الحركة بعد ذلك ضد فصائل فلسطينية اختارت التنسيق مع العدو الصهيوني والدفاع عن أمنه بحجج مختلفة وإن كانت متهاوية، وأصبح تجنب الصدام مع هؤلاء يعني عدم الدفاع عن النفس وعن مشروع المقاومة ضد الإجراءات التي ستنتهي بمجاهدي الحركة في يد الصهاينة أو الموت، ومن ثم نهاية المقاومة كما يريد مشروع التسوية وأنصاره الفلسطينيون.
* حركة الجهاد الإسلامي والطائفية
ترى حركة الجهاد أن حضارة الإسلام ليست حضارة إحراق الآخرين، وإنما هي حضارة قانونية تعترف بالتعدد البشري العقائدي وتتعايش معه وتقنن له، وعلى هذا الأساس تنظر إلى المسيحيين الفلسطينيين بصفتهم ’’شركاء وطن وتاريخ وحضارة ومعركة واحدة ضد المشروع الغربي الصهيوني’’، وترفض محاولات إثارة النعرات الطائفية ’’اليوم وغداً وفي كل وقت’’،[43] وقد اعترفت بمشاركة المسيحيين في الانتفاضة مثل مشاركات بقية فئات الشعب الفلسطيني ولا تحاول طمس هذا الدور أو التعتيم عليه، وبالإضافة إلى ذلك لا تثير الحركة قضايا الخلافات المذهبية بين المسلمين ولا توزع تهم الكفر والزندقة هنا وهناك ولا تدين أصحاب المذاهب الأخرى.
* تعقيب على موقف حركة الجهاد من النموذج الإيراني
كانت حركة الجهاد من الذين تحمسوا بشدة للثورة الإسلامية في إيران، وألف مؤسسها الشهيد فتحي الشقاقي في هذا الموضوع كتابه الشهير ’’الخميني: الحل الإسلامي والبديل’’، كما كتب أن ’’الإمام الخميني ثورة احتضنت فلسطين’’، ورأت الحركة في النموذج الإيراني بديلاً جامعاً يصلح لقيادة الأمة نحو آمالها العريضة في كسر القطبية الأمريكية وتأسيس شرق إسلامي تكون فيه إيران قوة عظمى بديلة،[44] ومازال هذا الحماس مستمراً إلى اليوم وهو أمر جر على الحركة تهماً بالتشيع وحمل الأفكار الغريبة وغير ذلك من اتهامات لم تخل من الطائفية، والنقد الآتي ليس بأي حال من الأحوال انتقاصاً من بطولات الحركة وتضحياتها بل هو من باب التناصح ليس إلا، كما أن نقد النموذج الإيراني لا ينطلق من حزازات مذهبية وليس دعوة للتخندق القومي ولا للحشد الطائفي الذي تتلاعب بواسطته الولايات المتحدة ببلادنا، وكما لا نستطيع أن نلوم العرب على ممارسات أنظمة عربية كثيرة، أو إلزام أهل السنة بممارسات أنظمة تحاول استخدام الألوية الدينية، أو محاسبة جميع المدارس السلفية اليوم بالنموذج السعودي الذي تعارضه كثير منها، فكذلك لا نستطيع مطابقة السياسة الإيرانية بالتشيع، إنما هي سياسات يطبقها بشر غير معصومين وتخضع للتصويب أو التخطئة حسب اجتهاد الباحث لاسيما إذا كان همه مصلحة جميع المسلمين وليس مصلحة أية فئة على حساب أخرى ولا يقبل في نفس الوقت الوقوف مع أية سياسة استعمارية ضد أمته.
ليس المهم هو الاختيار العقائدي الذاتي لحركة الجهاد بقدر أهمية فاعلية الخيار الإيراني الذي اختارته للأمة والذي يحكم واقعه منطق التجزئة الذي فُرض على الأمة الإسلامية والذي فرّق ما سماه التشبيه النبوي البليغ الجسد الإسلامي الواحد، ذا المصلحة الواحدة والشعور الواحد، فجعلته التجزئة الاستعمارية عدة أجساد لها مصالح متفرقة: كيانات متنابذة تفصل مصالح الأخ عن مصالح أخيه وتضع الشقيق في مواجهة شقيقه، وأصبح على أي خيار وحدوي جامع أن ينتهج سياسة لم تتفق حتى الآن مع أية سياسة انتهجها أي كيان دعا إلى الوحدة نظرياً، وبعدما كانت المصلحة واحدة في الكيان العثماني الكبير والموحد، مهما تباعدت المسافات بين الأجزاء، والخليفة في اسطنبول يدافع عن مسئوليته المباشرة على أرض فلسطين البعيدة لحمايتها من الأطماع الصهيونية، وعن أرض مصر لحمايتها من الاحتلال البريطاني، ويصر على هذه المسئولية عن أراض أبعد في أعماق إفريقيا في مواجهة أطماع أوروبا، أصبحت المصالح متضاربة في عهد الأجساد المتعددة حتى بين الأقرباء المباشرين كالمصري والفلسطيني، وأصبح ’’الاستقلال’’ يعني نفي مسئولية أحدهما عن الآخر، فما وراء الحدود ليس لي ولا أهمية له، ومن لا يحمل الجنسية الوطنية مطرود من رحمتي حتى لو كان أصله عندي، بل لعله أصبح عدواً، فانقسمت المدينة الواحدة إلى شطرين، وتشتت الإخوة، وتباعدت العائلة، وصار المصري يرى أن الفلسطيني يهدد معيشته وأمنه القومي، والفلسطيني يرى أن المصري يحاصره ويخنقه، وفي الحقيقة أن هذه إملاءات الدول الكبرى التي بيدها خبز وسلاح كياناتنا العاجزة والتي أصبحت الخيانة جزءاً من صلب بنيتها، وليست من المصلحة الحقيقية لأي من أفراد الشعب الواحد على طرفي الحدود واللذين تحكمهما حتمية الجوار الجغرافي.
ومن المنطقي أن ينطبق التنافر على وضع دولة أبعد من ذلك أي سياسة الجمهورية الإيرانية تجاه ما تراه حركة الجهاد قضية مركزية للمسلمين وهي قضية فلسطين، إذ حكم منطق التجزئة هذه السياسة وفرض على إيران أن تحصر منافعها في ’’أن تصبح قوة إقليمية بلا منازع’’[45] وأن يكون هذا الطموح هو سر تناقضها مع الكيان الصهيوني المنافس على نفس الهدف، ولهذا ظهر التنافر بين البلدين منذ زمن الشاه،[46] أي أن هذا الطموح أقوى من الحرص على حقوق المسلمين والفلسطينيين[47] الذين هم بمنطق التقسيمات السياسية والقومية السائدة خارج دائرة مسئولياتها رغم الأحاديث المنمقة،[48] وهذا هو الذي يفسر شعور إيران في مرحلة، زمن خاتمي، أن فلسطين البعيدة عبء عليها وليست من مسئوليتها لأن القرار وطني وليس دينياً، أي أن القضية لا ’’تخصنا’’ بقدر ما ’’تخصهم’’، وليس من الحكمة المزايدة على آراء الفلسطينيين أنفسهم،[49] وأن عملية التسوية لا تتعارض مع المصالح الإيرانية،[50] بل منذ البداية أجرت إيران اتصالات بالغرب والكيان الصهيوني[51] تتنافى مع منطق تحرير فلسطين الذي نادت الثورة به واتبعت سياسات تخالف نفس المنطق لاسيما رفض وقف الحرب العراقية الإيرانية سنة 1982 حينما عرض الرئيس العراقي الراحل صدام حسين على إيران وقف الحرب والسماح للجيش الإيراني بعبور العراق للتصدي معاً للغزو الصهيوني للبنان، وهو عرض لا يمكن تبرير رفضه، لاسيما بعدما عرض العراق دفع تعويضات عن خسائر الحرب لإيران،[52] ومهما حاولنا شيطنة صاحب العرض فإن صده كان كارثة على الجميع، لاسيما لمن يتبنى مركزية القضية الفلسطينية، ويعلق أحد المراقبين الأمريكيين البارزين على ذلك بالقول إنه ’’من دواعي السخرية أن إيران حققت من خلال الحرب أهداف إسرائيل كدولة محيطة عبر شل قدرة العراق، وتحييد الجبهة الشرقية’’،[53] وقد أدى موقف الرئيس صدام هذا إلى أن يضمره الصهاينة في نفوسهم إلى حين قيامهم عندما سنحت الفرصة بالتأليب عليه حين فتح اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة ’’إيباك’’ ملفاته وأصبح هدفاً للحملات الإعلامية التحريضية الصهيونية والغربية قبل قضية الكويت بزمن.[54]
ولم تنفع كل محاولات الرئيس العراقي بعد اندلاع أزمة الخليج (1990) للتقرب من إيران بإيفاد مبعوثين رفيعي المستوى (نائب رئيس مجلس قيادة الثورة آنذاك السيد عزة إبراهيم الدوري ونائب رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية السيد طارق عزيز) لطهران وتقديم تنازلات سخية لها لتوحيد الجهود ضد الهجمة الغربية[55] وقام الرئيس هاشمي رافسنجاني بتأليب الجماهير المحتشدة في صلاة الجمعة (25-1-1991) على العراق من منطلق قومي فارسي، وذلك بعد اندلاع الحرب وأثناء مجزرة القصف إذ قال إن مساعدة العراق تعني تحول الخليج الفارسي إلى خليج عربي، وسأل الحضور مستنكراً: ’’أليس هذا انتحاراً في نظركم؟’’(!!)،[56] وقد تكون هذه الخطبة رداً على توجهات إيرانية قوية ولكنها غير رسمية مع الأسف طالب فيها أصحابها بحماس آنذاك بمساندة العراق ضد الشيطان الأكبر الذي طالما بنت الثورة شرعيتها على معاداته، ولكن القيادة المتنفذة رفضت ذلك بوضوح، وفضلت موقف ’’الحياد الإيجابي’’ الذي وصفه مراقب أمريكي بأنه ’’كان مؤيداً من حيث الجوهر للسياسة الموالية لأميركا’’ وينقل عن نائب وزير الخارجية الإيراني في زمن العدوان على العراق قوله إن سياسة الحياد كانت في الواقع ’’سياسة معادية للعراق’’، وقد أدت تصرفات إيران، ومنها رفض المناشدات العراقية للحصول على الدعم الإيراني بل السماح لسلاح الجو الأمريكي باستخدام الأجواء الإيرانية، إلى الحصول على ثناء وزير الخارجية الأمريكي آنذاك جيمس بيكر[57] ووزير الدفاع الأمريكي ريتشارد تشيني الذي عد إيران من ضمن دول التحالف ويجب أن تبقى كذلك.[58]
واستمرت السياسة المعادية للعراق برفض إعادة أكثر من مائة طائرة من طائراته الحربية والمدنية التي ائتمن إيران عليها بموجب اتفاق شرف لإنقاذها من قصف المعتدين في الحرب،[59] وذلك رغم الأحاديث الصارمة لأئمة أهل البيت عليهم السلام عن ضرورة أداء الأمانة مهما كان المؤتمِن شريراً، كما جاء عن الإمام علي بن الحسين (ع): ’’عليكم بأداء الأمانة، فوالذي بعث محمداً نبياً لو أن قاتل أبي الحسين بن علي ائتمنني على السيف الذي قتله به لأديته إليه’’، وقال حفيده الإمام جعفر الصادق (ع): ’’أد الأمانة ولو إلى قاتل الحسين بن علي’’، ’’اتقوا الله وعليكم بأداء الأمانة إلى من ائتمنكم، فلو أن قاتل أمير المؤمنين (علي بن أبي طالب) ائتمنني على أمانة لأديتها إليه’’،[60] كل هذا يؤكد بُعد الدوافع السياسية في المواقف الإيرانية - التي حرصت على الانتقام من العراق آنذاك- عن الأحكام الإسلامية التي استندت شرعية الثورة الإسلامية إلى المناداة بتطبيقها والتي كان تطبيقها عملياً كفيلاً بترطيب الأجواء بين الطرفين اللذين يفترض معاداتهما للمشروع الأمريكي بدلاً من استفراده بكل منهما على حدة، ولم تتمكن إيران بعد ذلك من إقامة نظام معاد للمشروع الأمريكي حتى عندما سيطرت على مجريات الأمور في العراق في ظل الاحتلال الأمريكي وكانت الخسارة من نصيب أمتنا.
هذا بالإضافة إلى الاتصالات الإيرانية التي أسفرت عن التزود بالأسلحة الأمريكية عبر الكيان الصهيوني مقابل إطلاق الرهائن فيما اختصر بفضيحة إيران- كونترا أو إيران- غيت (1985) وهي حوادث لم تكن فريدة ولا يمكن إنكارها بعدما تم توثيقها بدقة[61] وتدل على أن معارضة الغرب، والجهاد ضده كان سياسة نفعية (براغماتية) لجذب الغرب إلى طاولة المفاوضات للحصول على منافع سياسية إقليمية منه وذلك حين تصبح إيران ’’أكثر قدرة على إفساد الأمور’’ التي يرتبها الغربيون ومن هذا الموقع تعرض المغريات الاقتصادية على الغرب وهو ما يعكس ’’تشوق طهران لتحسين علاقاتها مع الولايات المتحدة’’[62] وحرصها على عدم إفشال التقارب الأمريكي الإيراني،[63] ولم تكن المعارضة تستهدف تحطيم النفوذ الأمريكي وبناء النموذج الإسلامي الموحد والجامع، كما أن السياسة الإيرانية لم تكن مطابقة لخطابها الإعلامي حتى في زمن ’’التطرف’’ فضلاً عن الاعتدال،[64] وأن المصالح الاستراتيجية تفوقت على المصالح العقائدية،[65] وهذا هو على كل حال أقصى ما تمنحه إمكانات التجزئة وليس لمن يعمل وفق إطارها أن يخرج عن قيود محدودية إمكاناتها[66] واضطراره للمساومة وتقديم التنازلات للحصول على حاجاته التي لا يستطيع الاستقلال بإنتاجها، وهذا هو المنطق الذي جعل الكيان الصهيوني أقل خطراً على إيران من العراق من وجهة النظر الإيرانية،[67] وهو منطق يناقض مركزية القضية الفلسطينية وفق رؤية حركة الجهاد الإسلامي.
ويبدو أن هذا المنطق ظل هو السائد في السياسة الإيرانية وجعلها تقف موقفاً مسانداً للمشروع الأمريكي في كل من أفغانستان (2001) والعراق (2003) حيث شن الحكم العميل الذي جلبته الدبابة الأمريكية وأيدته إيران حرباً دموية على الوجود الفلسطيني،[68] وهي سياسة لا يمكن أن يقبل بها تنظيم فلسطيني وطني فضلاً عن صاحب مشروع نهضوي للأمة الإسلامية كلها ومقاوم للهيمنة الغربية برمتها حتى لو كان معادياً لنظامي الحكم في العراق وأفغانستان لأي سبب كان، لأن العداء الخارجي مقدم على الخلافات الداخلية كما تعلمنا من سيرة أهل البيت عليهم السلام لاسيما الإمام الحسين الذي قاتل الراية الأموية الظالمة داخل المجتمع الإسلامي دون طلب مساعدة خارجية رغم حرج موقفه البطولي، بل إنه لم يمانع أن يقاتل مع هذه الراية نفسها وتحت قيادتها ضد العدو الرومي الخارجي عند أسوار القسطنطينية، وكان ولده الإمام السجاد عليه السلام يلهج بالدعاء للجيوش الأموية عندما تقاتل أعداء الإسلام الخارجيين كما توثق ذلك الصحيفة السجادية، رغم أن هذه الجيوش هي التي قتلت أباه أيضاً.
وإن مسايرة إيران للسياسة الأمريكية ضد العراق وأفغانستان تذكر بطموحات الشاه في زمنه حين تطلع إلى أن يكون دولة ’’عظمى’’ في الظل الأمريكي في المنطقة بموافقة ودعم من الولايات المتحدة،[69] وليس كياناً مستقلاً عن الهيمنة الغربية، ولم تمكنه إمكاناته المحدودة إلا من البقاء معتمداً على الغرب في تكديس الأسلحة وعدم الاستقلال بصناعتها وإبقاء شعبه فقيراً معوزاً نتيجة الخلل في الإنفاق،[70] فلم يجن العظمة السياسية ولم يحقق الازدهار الاقتصادي، وقد استمرت السياسة الإيرانية في العهد الجمهوري تتطلع للقيام بهذا الدور القيادي في المنطقة والاعتراف بأهميتها ومنحها فرصة لرسم وتخطيط الأوضاع فيها[71] وإن بالاتفاق مع الولايات المتحدة كما تبين في الهجوم الأمريكي على أفغانستان حيث كانت المساعدة الإيرانية ’’حاسمة’’ في التمهيد للاحتلال الأمريكي بل والإنفاق عليه ومع ذلك لم يرد الأمريكيون إلا بالصد وتصنيف إيران ضمن محور الشر، ولم يأبهوا بالموقف الإيراني من بلادهم بل بالموقف من الكيان الصهيوني[72] الذي كانت إيران تنافسه على القبول الأمريكي،[73] ولذلك ’’لم تنقلب طهران على أمريكا في أفغانستان قط’’ رغم كل الجهود الصهيونية لعزلها وتصنيفها ضمن الأشرار،[74] ثم تعاون الإيرانيون مع أمريكا ضد العراق حيث كان الدور الإيراني ’’مفيداً جداً’’ رغم أن احتلال العراق أحكم الطوق الأمريكي حول إيران فاضطرت إلى وضع كل خطوطها الحمر، بما فيها علاقتها بحركة الجهاد الإسلامي ومقاطعة الكيان الصهيوني، على طاولة المفاوضات لتقابل برفض وعجرفة من الجانب الأمريكي الذي اغتر بقوته واعتقد أنه في موقع الإملاء لا التفاوض ليندم فيما بعد على إضاعة هذه الفرصة الهامة،[75] وعلى كل حال فإن كل هذا لا يتفق مع ما بشرت به حركة الجهاد الإسلامي، أي الاندفاع الثوري الذي يسعى لإزالة الهيمنة الأجنبية والاستقلال الكامل عنها ونزع سيادتها عن الأمة وإحلال سيادة المسلمين على بلادهم مكانها، وليس مجرد الطلب إلى الدول الكبرى أن تعترف بحضورنا وتشركنا في هيمنتها علينا.
كما لم تكن السياسة التي اتبعتها إيران في العراق بعد تمكن أتباعها من الحكم تدل على تحقيق برنامج الثورة الإسلامية لقيادة العالم الإسلامي[76] في تحقيق الوحدة والنهضة والقضاء على الانقسامات الطائفية والقومية والمذهبية والهيمنة الأجنبية، بل وجدنا تنسيقاً مع المحتل الأمريكي (أي الشيطان الأكبر) واقتساماً لغنائم الاحتلال وتفكيكاً للمشروع العلمي العراقي - الذي هو مكسب للأمة كلها- وصل حد اغتيال العشرات من الكوادر العسكرية الجوية (أكثر من 180 طياراً وفقاً لوثائق ويكيليكس)، هذا فضلاً عن التغلغل الصهيوني الذي لا ندري ما موقف حركة الجهاد الإسلامي منه، وهو الذي تمكن من اغتيال الكوادر العلمية في ظل حكم يتمسح بآل البيت، بالإضافة إلى إحياء نعرات دفينة لم تكن حتى في ظل الحكم القومي العربي، ومع ذلك كانت هذه المأساة العراقية أفضل وضع يمكن تصوره بالنسبة لإيران، وذلك وفقاً لمرجعية سياسية عليا[77] ووفقاً كذلك للانسجام السياسي الظاهر بين الحكمين في البلدين، بما يصور مصير المنضوين تحت حكم المشروع الإيراني وأنه لن يكون التمتع بثمار وحدة إسلامية تضم شتات الأمة وتعيد إليها عزتها وتحقق نهضتها، بل سيكون المصير هو الوقوع تحت احتلال أجنبي يستغل الموارد لذاته، ويفضل التعاون مع الأمريكي على التعاون عليه (وهذا ما يثبته المشهد الأفغاني أيضاً)، ولست أدري كيف يتفق ذلك مع رسالة الجمهورية الإسلامية وجيشها العقائدي في القيام بتحمل أعباء الجهاد في سبيل الله والنضال من أجل بسط حاكمية القانون الإلهي - وليس الحاكمية الأمريكية- في العالم، كما تؤكد على ذلك مقدمة الدستور الإيراني،[78] أو كيف يتفق ذلك مع ارتكاز السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية (وفقاً للدستور) على رفض كل أنواع الهيمنة والخضوع وعدم الانحياز لقوى التسلط والتوسع، والدفاع عن حقوق جميع المسلمين،[79] فهل حققت السياسة الإيرانية في كل من العراق وأفغانستان هذه الأهداف الدستورية فعلاً؟
وإن في المشهد العراقي الحالي لرد على حجة من يرى أن إيران تعرضت للنبذ العربي حينما تبنت في بداية ثورتها موقفاً إسلامياً أممياً يطمح لتصدير الثورة وإسقاط حكم العملاء فكان جزاء التصاقها بطموحات الشعوب أن تألبت عليها دول المنطقة وشنت عليها حرباً ضروساً، ولم تفلح سياستها الفلسطينية في حشد التأييد لها ضد الهجوم العراقي، ولم تستجب الشعوب العربية لنداءاتها، ومن ثم دفعها ذلك للبحث عن مصالحها الذاتية،[80] وأقول إن المشهد العراقي الحالي رد على هذا الادعاء لأننا رأينا أن مصير الوقوع تحت الحكم الإيراني في زمن رئيس ’’سائر على خط الإمام’’، أي ليس من المعتدلين السائرين على خطى الغرب، وبعد أن تحقق أمل إيران بإسقاط الرئيس العراقي صدام حسين، لم يكن مصيراً وردياً ومطابقاً لما بشرت به ’’ثورة المستضعفين’’ وهو لا يسير نحو الوحدة والنهضة ورفع الهيمنة كما حلمت الجماهير ابتداء، أي أن الجمهورية الإسلامية الكبرى التي كانت ستقلب موازين المنطقة[81] لم تتحقق وقام بدلاً منها نظام عميل وضعيف جاء به احتلال غاشم دمر به الجوانب الإيجابية للعراق السابق، كالصحة والتعليم والتصنيع والتكامل الإقليمي والاندماج المذهبي وتحدي الصهيونية واستقلال القرار، وفي نفس الوقت زاد من سلبيات الماضي، لاسيما الاستبداد والدموية، وأتى بسلبيات جديدة لم تكن معروفة أشهرها الطائفية المقيتة، فهل تحلم حركة الجهاد بالمصير العراقي للمسلمين أو حتى للفلسطينيين الذين ذاقوا الأمرّين منه؟
ولهذا كان رهان الصهاينة على منطق التجزئة الذي جعل المصلحة الإيرانية مناقضة للمصالح العربية ويمكن أن يوحد الصهاينة والإيرانيين ضد المحيط العربي الخطر على الطرفين كما يزعمون،[82] وهو منطق اعتنقه شاه إيران زمناً ولم تتحرر من قيوده الثورة الإسلامية أو القيادة المتنفذة فيها بعد نجاحها رغم وجود تيارات قوية حاولت نبذ هذا المنطق واتباع سياسة إسلامية جامعة، ولكن الرهان الصهيوني كان دائماً بعيد المدى ومتجهاً نحو الجناح الإصلاحي ومتطلعاً لتجاوز العقدة الخمينية التي لم ير الصهاينة أنها عقبة أبدية،[83] وظلت السياسة الإيرانية تنويعاً ’’إسلامياً’’ على اللحن الذي عزفه الشاه فيما سبق فيما يتعلق بالطموحات الإقليمية[84] التي جنحت نحو المبالغة أحياناً، تحفزها إمكانات إيران الواسعة، فتطلعت نحو القيام بدور يتجاوز ’’الشرق الأوسط’’ إلى المحيط الهندي في عهد الشاه ثم إلى قيادة العالم الإسلامي كله في بداية الثورة ولكن ما لبثت طهران أن خفضت مستوى الطموح لتحصره في منطقة الخليج وبحر قزوين[85] وقبلت بتحجيم نفسها وفق مصالح الدول الكبرى ولم تعد تتطلع لإيجاد بديل إسلامي حقيقي للهيمنة الغربية كما أثبتت الوقائع في أفغانستان والعراق.
* فشل النموذج الأفغاني الذي عارضت به حركة حماس النموذج الإيراني لحركة الجهاد
وإذا كان النموذج الإيراني قاصراً عن أداء الدور الذي يؤمل منه قيادة نهضة إسلامية كبرى فإن النموذج الأفغاني الذي طرحته حركة حماس في مواجهة الرأي الإيراني لحركة الجهاد[86] قد فشل أيضاً، ويبدو أن هذا الطرح لم يكن إلا من باب المعارضة إذ أثبتت الأيام عدم فاعليته أيضاً بعدما استند الجهاد الأفغاني ضد السوفييت إلى الدعم الأمريكي ودعم الأنظمة العربية الرجعية التي لم تكن نهضة المسلمين من اهتماماتها ثم دخلت أفغانستان بعد انسحاب السوفييت في أتون حرب أهلية طاحنة أشعلها قادة الجهاد السابق سنوات طويلة في سبيل الصراع على الحكم لتدخل البلاد بعدها بقليل في محنة الاحتلال الأمريكي.
وخلاصة الأمر أن النموذج الحضاري الإسلامي الجامع لم يتحقق حتى الآن منذ سقوط الخلافة العثمانية ومازالت الأنظمة منذ ذلك الوقت أسيرة الأطر القومية والوطنية مما يمنعها من قيادة التحدي الإسلامي للهيمنة الغربية وهو ما أكدته الأيام.
۞ ج- الاتجاه الإسلامي داخل المجلس الوطني الفلسطيني
(معظم معلومات هذا الفصل الخاصة بالتيار الإسلامي داخل المجلس الوطني الفلسطيني، وليس آراء الكاتب الشخصية كالتعقيب، تستند إلى تصريحات أدلى بها أحد رموز هذا التيار وهو الأستاذ جمال عايش، وكان ذلك في لقاء تم في يوم الأربعاء22-2-1989 في مدينة الكويت حيث كان يقيم).
في عام 1987 قُبل عناصر من الحزب الشيوعي الفلسطيني لدخول المجلس الوطني الفلسطيني، ومن أجل إيجاد التوازن اتصلت منظمة التحرير الفلسطينية بالإخوان المسلمين، قبل ظهور حركة حماس، لدخول المجلس الوطني، ولكن الإخوان رفضوا الاستجابة، فطلب إليهم ترشيح أشخاص قريبين منهم، فلم يرشحوا أحداً بطريقة مباشرة، وأشاروا من طرف خفي إلى بعض العناصر، وبحثت المنظمة بدورها عن عناصر لها توجه إسلامي وماض وطني نضالي، وأسفرت عملية البحث عن توجيه الدعوة إلى ثلاثة هم: جمال عايش وعبد الرحمن الحوراني وعبد الله أبو عزة، لدخول المجلس الوطني، وعين الحوراني وأبو عزة في المجلس المركزي، ولم يطل المقام بأحدهما وهو عبد الله أبو عزة، الذي ما إن أحس أن الأجواء العامة تتجه نحو الاعتراف بالكيان الصهيوني حتى آثر الابتعاد وعدم المشاركة في إقرار ذلك، فأصبح التيار الإسلامي مقتصراً على عنصرين انضم إليهما أحد العناصر القديمة في المجلس فعاد التيار ممثلاً بثلاثة أعضاء.
والإسلاميون في المجلس الوطني لم يدخلوه آنذاك ممثلين لفصائل إسلامية بل دخلوا بصفتهم إسلاميين فقط، وبعضهم كان داخل المجلس منذ فترة طويلة وكان لهم علاقات بالإخوان المسلمين ثم ابتعدوا عنهم لسبب أو لآخر، وبعضهم انتظم في حركة فتح وظل على خلفيته الإسلامية، وهناك من التزم بفتح وبالتصويت إلى جانبها رغم قناعته بعكس ما يصوت له اعتقاداً منه أنه يستطيع بواسطة فتح أن يقدم خدمات للفكرة الإسلامية والتيار الإسلامي وأن اعتراضه قد يؤدي إلى فصله ومن ثم ابتعاده عن مجال التأثير والفعل.
ويمكن القول إنه كان هناك في ذلك الزمن (1989) اثنان من هذا التيار يمثلان حركة حماس، وإن لم يكن ذلك بشكل رسمي، (وقد أكد ذلك العضو الراحل في المجلس الوطني الفلسطيني عن الجبهة الديمقراطية والقيادي الفلسطيني ثم مستشار الرئيس الراحل عرفات، ممدوح نوفل في كتابه البحث عن الدولة “صدر سنة 2000” حين ذكر مخاطبة أبي عمار في اجتماع المجلس لعبد الرحمن الحوراني بصفته ممثلاً لحركة حماس)،[87] أما الثالث فكان مستقلاً، وهم لا يكوّنون تياراً له وزن عند التصويت، ولكن صوتهم كان مسموعاً ويمكن أن يلتقي عليه بعض المستقلين وبعض العناصر من التنظيمات الأخرى في بعض القضايا التي تتعلق بموضوع الاعتراف بالكيان الصهيوني أو بالتنازل عن أي جزء من أرض فلسطين، ويوجد كذلك أعضاء من حركة فتح يؤمنون بطرح الإسلاميين ويعملون حسب قناعاتهم وربما امتنعوا عن التصويت في القضايا الحساسة كما حدث في عملية التصويت على قبول القرار 242 في دورة الجزائر (1988) حيث امتنع عدد من كوادر فتح وقيادييها عن التصويت.
* علاقة التيار الإسلامي بالمنظمات الفلسطينية داخل المجلس الوطني
كانت التيارات ’’اليسارية’’ تنسق مع الإسلاميين فيما يتعلق ببعض القضايا، مثل قضية القبول بالقرار 242، ولكن هذه التيارات لا تعترض على المؤتمر الدولي ومبدأ المفاوضات في حين يعترض الإسلاميون عليها بصفتها ستؤدي في النهاية إلى الاعتراف بالكيان الصهيوني.
* علاقة التيار الإسلامي بالمنظمات الفلسطينية خارج المجلس الوطني
رأى أحد رموز هذا التيار الإسلامي إن المنظمات الفلسطينية خارج المجلس الوطني كانت آنذاك تنضوي تحت لواء هيمنة دول إقليمية ومحكومة لقرارها، ومهما كان لدى هذه المنظمات من عناصر وطنية فإن ثقلها في الأرض المحتلة لا يكاد يذكر، كما أن فاعليتها في لبنان ضد العدو الصهيوني ضعيفة، وقوتها في الهجوم على المخيمات تستمدها من دعم إقليمي، وما دامت قد ارتضت لأنفسها أن تكون أداة في يد غيرها لضرب إخوتها الفلسطينيين، فإن موقف التيار الإسلامي رافض لتصرفاتها، ويرى أنه كان من الأجدر بهذه المنظمات توجيه بنادقها إلى العدو الصهيوني وهذا ما لم يحدث، لأنها كما يقول لم تنشأ لذلك أو لأنها عاجزة عن القيام بما لا يريده القرار الإقليمي.
(للتذكير فقط أن هذا الكلام قيل سنة 1989 وينطبق على فترة تميزت بالخلاف بين قيادات فلسطينية والقيادة السورية في ذلك الوقت وربما تغيرت كثير من الظروف منذئذ).
* إعلان قيام الدولة الفلسطينية المستقلة
لم يعترض التيار الإسلامي داخل المجلس الوطني على قيام دولة فلسطينية مستقلة من حيث المبدأ، أما الدولة التي تريدها الولايات المتحدة بواسطة انعقاد المؤتمر الدولي فهي لتكريس وجود الكيان الإسرائيلي على ثلاثة أرباع فلسطين، وهذا مرفوض، ويعمل التيار الإسلامي على ألا يقع ذلك، ولكن إذا حدث ذلك رغماً عنه وتحققت الدولة بشروط المؤتمر الدولي، فسيعدها الإسلاميون مرحلة في طريق التحرير الشامل، ومثلما تجاوز الصهاينة قرارات الأمم المتحدة، يمكن للإسلاميين أن يقهروا المؤامرات الدولية، ويمكن للشعب الفلسطيني أن يخترق الضمانات الدولية التي سيضعها المؤتمر الدولي لحماية وجود الكيان الصهيوني، ورأى أحد رموز التيار الإسلامي أن الضمانات الدولية ليست حاجزاً في وجه إرادة الشعوب، فلو كان الشعب الألماني مثلاً (زمن انقسام ألمانيا) يريد الوحدة فعلاً بين شطري وطنه لحققها ولما تمكنت الإرادة الدولية التي تفرض عليه التقسيم من الوقوف في وجه إرادة الوحدة، والشعب الفلسطيني في رأيه لا يمكن أن يقبل طائعاً تجزئة وطنه والقبول بجزء منه، كما أن الحركة الإسلامية التي تتحرك الآن (1989) لتسلم زمام المبادرة، ليس على أرض فلسطين وحدها بل في كثير من البلاد العربية والإسلامية أيضاً، ملتزمة بالإسلام نصاً وروحاً ومن ثم فإن إمكانات عودة الإسلام لواقع الحياة، كبيرة، وعند ذلك سيفرض المسلمون إرادتهم التي هي أمر الله لهم بالجهاد والتحرير.
* الحوار الفلسطيني الأمريكي
عندما فتحت الولايات المتحدة حواراً مع منظمة التحرير الفلسطينية بعد تلبية الشروط الأمريكية في دورة المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر (1988) بشأن الاعتراف بحق الكيان الصهيوني في الوجود ونبذ ’’الإرهاب’’ والاعتراف بقرار 242، رأى التيار الإسلامي في المجلس أن أمريكا تريد من هذا الحوار تطويع الفلسطينيين للاعتراف بالكيان الإسرائيلي وقبول سيادة الدولة اليهودية على المنطقة، أما الجانب الفلسطيني المتمثل في منظمة التحرير الفلسطينية فقد أدرك المتغيرات الدولية التي تجسدت في الوفاق الدولي والتراجع السوفييتي أمام الولايات المتحدة وتراجعه داخلياً وفكرياً وانفتاحه على العالم اقتصادياً وتخليه تدريجياً عن الماركسية اللينينية فيما يسمى بعملية إعادة البناء، وأدرك الجانب الفلسطيني كذلك أن الولايات المتحدة أصبحت صاحبة الأمر والنهي في المنطقة، فأراد أن يحصل بعد هذا الصراع الطويل ولو على بعض الحقوق بدلاً من فقدان الأمل بالحصول على كل شيء.
* الحلول السلمية والمؤتمر الدولي
عارض التيار الإسلامي داخل المجلس الوطني الحلول السلمية والمشاركة في المؤتمر الدولي، ولكنه رأى أنه سواء نجحت المساعي السلمية أو لم تنجح فهي في صالح القضية الفلسطينية، فنجاحها يجعلها مرحلة وخطوة نحو تحرير فلسطين كلها إذا اتجهت إرادة الشعب الفلسطيني لذلك، وإن لم تنجح فسيدرك الساعون خلفها عدم جدواها ويصبح موقفهم حرجاً مما سيعطي دفعة للخط الجهادي الإسلامي الذي سيكسب بذلك أنصاراً جدداً داخل الشعب الفلسطيني وداخل منظمة التحرير نفسها ومن جميع أنحاء العالم الإسلامي.
* طبيعة الصراع مع الكيان الصهيوني
اعتقد التيار الإسلامي، مثل بقية الاتجاهات الإسلامية خارج المجلس الوطني، أن صراعنا مع الكيان الصهيوني هو صراع عقيدة وليس صراعاً طبقياً، صراع حضاري وليس خلافاً سياسياً أو اقتصادياً، صراع وجود وليس نزاع حدود.
* الخلاف مع بقية الجماعات الإسلامية
اختلف التيار الإسلامي داخل المجلس الوطني مع الجماعات الإسلامية التي لا ترى جدوى من العمل مع منظمة التحرير الفلسطينية، سواء بصفة فردية مستقلة أو بصفة حركية رسمية، وقد رأى أحد رموز هذا التيار أنه يجب أن يكون للإسلاميين صوت مسموع حتى لو لم يتمكن هذا الصوت من إحداث تغييرات جذرية، وأخذ على التنظيمات الإسلامية أنها أسيرة النظريات والجهل بالعمل السياسي والعجز عن طرح أنفسها بصفتها بديلاً جهادياً على الساحة الفلسطينية، ولهذا ظل عملهم إما نظرياً أو متعثراً أو منشغلاً بالجزئيات والثانويات والخلافات المذهبية ومن ثم ظل تأثيرهم ضعيفاً (كان هذا الحديث في 1989 وقد تغيرت كثير من الأحوال منذ ذلك الوقت).
* إنجازات التيار الإسلامي داخل المجلس الوطني كما يقومها بنفسه
كما سبق الذكر، لم يكن للتيار الإسلامي داخل المجلس وزن كبير، لأن عدد أعضائه كان صغيراً بالنسبة لمجموع أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني، ولكنه تمكن من استغلال بعض المواقع داخل المجلس، مثل وجود أحد رموزه ضمن اللجنة السياسية التي صاغت البيان السياسي في الدورة التاسعة عشرة التي انعقدت في الجزائر (1988)، وقد تمكن هذا العضو، وهو الأستاذ جمال عايش، من تغيير صياغة بعض عبارات البيان بشكل اعتقد أنه يفتح الباب أمام الأجيال القادمة في مواصلة العمل لتحرير بقية فلسطين، بحيث لا يؤلف هذا البيان عقبة في وجهها.
كما حاول التيار الإسلامي أن يجمع حوله كل من يمكن أن يلتقي معه في بعض القضايا الحساسة لتكوين معارضة ذات وزن داخل المجلس الوطني كما حدث عند التصويت على الموافقة على القرار 242 في دورة الجزائر.
(وقد واصل أعضاء التيار الإسلامي فيما بعد اتفاقية أوسلو سباحتهم ضد التيار المتنفذ في منظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح ومن ذلك الاعتراض على إلغاء الميثاق الوطني الفلسطيني إذ شارك الأستاذ عبد الرحمن الحوراني في فعاليات المعارضة كمؤتمر دمشق في ديسمبر 1998، ووصف الأستاذ جمال عايش اجتماع المجلس الوطني الذي قام بمهمة إلغائه بأنه ’’مهرجان’’ وليس اجتماعاً لمجلس وطني، وأنكر عملية التغيير من أساسها، كما قام بتوجيه انتقادات شديدة أخرى أيضاً، وقد أصبح عضواً في المجلس المركزي لحركة فتح فضلاً عن عضويته في المجلس الوطني عن الحركة، عندما قال إن منظمة التحرير وحركة فتح ’’مخطوفتان’’ على يد تيار مدعوم إقليمياً ودولياً لاسيما من الولايات المتحدة والكيان الصهيوني بهدف الحصول على تنازلات عن الحقوق الفلسطينية وهو ما يعارضه تيار قوي حتى داخل فتح نفسها خلافاً للقيادة المتنفذة، وإن منظمتي الجهاد وحماس يجب أن تدخلا ضمن منظمة التحرير ويكون لهما صوت بدلاً من المنظمات المجهرية التي يعلو صوتها دون أن يكون لها وزن على الأرض ودون أن يكون لها شرعية المقاومة، كما أكد بأن حكومة اسماعيل هنية هي الشرعية وليست حكومة فياض في وقته، وذلك في أكثر من حديث مع قناة الجزيرة: 6-11-2007 و9-5-2008).
* تعقيب على رؤية التيار الإسلامي في المجلس الوطني لفعالية الإرادة الشعبية
أثبتت الأحداث منذ الحديث السابق أن تجاوز الإرادة الدولية السياسية يحتاج تحدياً ما زال بظهر الغيب وأكبر من الإمكانات المتوفرة، وحتى الوحدة الألمانية تحققت بعد انهيار الإرادة السوفييتية التي كانت قطباً في تقسيم ألمانيا ولم تخرج هذه العملية عن الإرادة السياسية الغربية، وعندما تحدت شعوب العالم قرار العدوان على العراق سنة 2003 لم تأبه الإرادة السياسية الأمريكية بذلك، كما أن التجارب التي حملت لواء الإسلام في كل من أفغانستان المجاهدين وإيران الثورة الإسلامية ثم في ثورات الربيع العربي أثبتت أن الإرادة الشعبية وحدها ليست كافية لتحدي القرارات الدولية كما أنها لم تبلور خياراً مجمعاً عليه داخلياً أو قيادات مسئولة لتواجه بهمة الشعوب تلك القرارات، ومثل هذه الحوادث يدل على أن التحدي المطلوب ما زال أكبر من إمكاناتنا المتفرقة والمتنابذة ولهذا يجب أن نلتفت جيداً إلى ما نمنحه من صكوك تمليك فلسطين اعتماداً على قوة الأجيال لإلغائها.
۞ د- حزب التحرير
تأسس حزب التحرير في سنة 1952، مؤسسه هو الشيخ تقي الدين النبهاني من أسرة علمية في قرية إجزم في قضاء حيفا، وكان من أشهر علمائها جده لأمه الشيخ يوسف النبهاني (1849- 1932) الذي عرف بتأييده الشديد للخلافة العثمانية، وقد ولد الشيخ تقي الدين سنة 1909 ودرس المرحلة الابتدائية في مدرسة القرية ثم التحق بالأزهر وحصل على شهادة العالمية، انتسب بعدها إلى دار العلوم وعاد بعد ذلك ليعمل مدرساً في فلسطين، ثم تدرج في سلك القضاء الشرعي ليصبح قاضياً شرعياً في محكمة بيسان ويتنقل بعدها بين عدة مدن فلسطينية حتى وقعت نكبة 1948، فاستقر بعدها في بيروت ليعين بعد ذلك عضواً في محكمة الاستئناف الشرعية في القدس، ثم استقال ليعمل في الكلية الإسلامية في عمّان.[88]
ولما أسس حزب التحرير استقال من عمله ليتفرغ لقيادة الحزب، وتنقل بين بلاد الشام حاملاً دعوته التي تركزت على وجوب استئناف الحياة الإسلامية بإقامة الدولة الإسلامية ومبايعة خليفة للمسلمين، وشرح أفكاره في كتب كثيرة منها: نظام الإسلام، التكتل الحزبي، الشخصية الإسلامية، نظام الحكم في الإسلام، النظام الاقتصادي في الإسلام، النظام الاجتماعي في الإسلام، مفاهيم حزب التحرير، الدولة الإسلامية، التفكير، سرعة البديهة، نظرات سياسية، مقدمة الدستور والأسباب الموجبة له.
وقد تميز فكر الحزب بالدقة الشديدة، وعلى عكس كثير من التنظيمات الإسلامية الأخرى، حدد الحزب بوضوح أهدافه والخطوات التي سيسلكها لتحقيق هذه الأهداف والمؤشرات التي سينتقل على أساسها من خطوة إلى أخرى، ولم يتبن الإسلام بشكل مفتوح، فإذا سئل عن النظام الذي سيحكم به دولة الخلافة التي ينوي إقامتها لا يكتفي بالإجابات العامة كالقول إن دستورنا القرآن أو أن الإسلام هو الحل، بل يعطي السائل دستوراً كاملاً تمت كتابته منذ البداية مع أدلة كل مادة من مواده، وهذا ما عرضه لانتقادات من الجماعات الإسلامية الأخرى التي اتهمته بالمركزية والحجر على الثقافة الإسلامية وتضييق سبلها، ولكنه لا يرى أن تبنيه أحكاماً معينة من الإسلام يلغي الآراء الإسلامية الأخرى في نفس المجالات، ويردد دائماً مقولة إن رأينا صواب قابل للخطأ ورأي غيرنا خطأ قابل للصواب، وذلك تبعاً للدليل، أما عدم التبني مطلقاً فإنه يوقع الحركات في هلامية فكرية وتخبط في الآراء.
وقد حاول الحزب الوصول إلى السلطة، بعد اجتيازه المراحل التمهيدية كما قومها، وذلك في عدة بلاد إسلامية استناداً إلى مفهوم طلب النصرة من مراكز القوى في هذه البلاد لاسيما من جيوشها، إذ يعتمد في ذلك على اقتناع أي طرف قوي في بلد مسلم بمنحه تأييده والقيام بانقلاب يطيح السلطة القائمة ويسلم الحكم للحزب، وهذا المفهوم تعرض لنقد من مفكرين إسلاميين رأوا خطأ عدم الاعتماد على القوة الذاتية للحركة في تحقيق أهدافها، وقد فشلت حتى الآن جميع محاولات الحزب لتسلم الحكم في بلاد عربية وإسلامية عديدة يشترط فيها أن تكون قواعد مناسبة لانطلاق الخلافة بإمكاناتها الذاتية وألا تكون إمكانات الدولة الأولى ضعيفة كدول الخليج الصغيرة مثلاً، وتركزت محاولاته في الأردن والعراق ومصر، وأكسبته عداء الحكومات في البلاد التي يعمل بها سواء في البلاد العربية أو دول وسط آسيا السوفييتية سابقاً أو تركيا، وكان موضع ملاحقة واعتقال في زمن كانت فيه حركات إسلامية أخرى تحظى بدعم السلطات الحاكمة.
* الشيخ النبهاني قبل تأسيس حزب التحرير: كتاب إنقاذ فلسطين[89]
كتب الشيخ النبهاني هذا الكتاب سنة 1949 ورسم فيه تصوره لقضية فلسطين وطريقة حلها، فنسب قيام الدولة اليهودية إلى الأطماع الأجنبية في الشرق العربي منذ نهاية القرن السابع عشر ثم إلى الأطماع البريطانية بعد جلاء محمد علي عن بلاد الشام سنة 1840 وسرد التطورات التي انتهت بقيام هذه الدولة سنة 1948 وكان هدف الاستعمار من ذلك ضرب الشرق العربي بشعوبه ودوله في بقعة مقدسة ومهمة اقتصادياً واستراتيجياً لتسهيل استعماره والقضاء على مقاومته وإشغال دوله كي لا تحقق استقلالها الكامل.
وقال إن الدول العربية آنذاك، لاسيما مصر والعراق، قادرة على القضاء على هذا الكيان في مهده وقبل استفحال أمره لأنه خطر على هذه الدول وكرامتها واستقلالها وحياتها وبقائها، وإذا لم تفعل وسمح لهذه الدولة الأوروبية بالبقاء في قلب العرب وطال عليها الوقت ’’ستكون لها أكبر قوة جوية في الشرق، وسيكون لها أسطول بحري في البحر الأبيض والبحر الأحمر، قد يسيطر على شواطئها بكاملها، وسيكون لها جيش ميكانيكي منظم، مزود بالعتاد والمعدات والمخترعات الجهنمية، وستفتح أبوابها باسم الهجرة اليهودية لمئات الألوف بل الملايين من الأوروبيين، الذين سيشتركون بهذه الدولة، لاستغلال ثروة الشرق العربي، ولإخماد أنفاس الدول العربية إذا حاولت أن تحول دون الاستعمار والمستعمرين، وستنصب فيها ملايين الدولارات والجنيهات لإقامة المصانع والمعامل..’’.[90]
وإن الواجب الأكبر في تلك المرحلة هو إنقاذ فلسطين بطريقين: طريق قصير المدى وآخر طويل المدى، أما الطريق القصير فتتولاه الحكومات العربية لتنقذ نفسها من هذا الخطر الذي لا يقتصر على فلسطين، وذلك بعدم السماح للقوى الدولية بالبت في شأنها، وإبقاء قضيتها معلقة واتخ
الاثنين, 02 ديسمبر 2013 21:53
فهرس المقال
من تاريخ انتفاضة الحجارة في ذكراها:
مواقف التيارات الإسلامية من القضايا المتعلقة باندلاعها
أسست انتفاضة الحجارة التي اندلعت في نهاية سنة 1987 مرحلة جديدة في النضال من أجل استعادة حقوق شعب فلسطين، وتميزت هذه الانتفاضة بمشاركة التيارات الإسلامية وارتفاع صوتها فيها،
وفي هذه الدراسة التاريخية أحاول تتبع آراء الحركات الإسلامية في القضايا الحاسمة التي طرحت زمن اندلاع هذه الانتفاضة، وربما اختلفت الظروف اليوم في فلسطين، مثل الانقسام الواضح بين فتح وحماس خلافاً للماضي، وزيادة الحضور السلفي وتنوع آرائه ومشاركاته، وانتشار حركة الجهاد الإسلامي وظهورها إعلامياً أكثر من الماضي رغم استمرار تركيزها على الإنجازات دون الدعاية، وانقسام أعضاء حزب التحرير بين أكثر من تنظيم وتنوع آرائهم بعد المركزية الفكرية الشديدة التي تميز بها الحزب في زمن الدراسة، وتهميش المجلس الوطني الفلسطيني بعد قيام السلطة الفلسطينية فلم يعد له أهمية إلا لإلغاء الميثاق الوطني الفلسطيني وهو ما قام به فعلاً (1996) ثم رسمياً (1998) استجابة لمطالب صهيونية وبحضور الرئيس الأمريكي آنذاك بيل كلنتون في غزة، ولهذا فإن ما كتب في هذا المقال يخص زمن تلك الانتفاضة ولا يتعدى بالضرورة إلى زمن آخر، لاسيما في ضوء التغيرات السريعة لسياسات ذلك الزمان، ولن يحدث قفز زمني إلا عند الإشارة إلى ذلك
۞ أ- حركة الإخوان المسلمين
تأسست حركة الإخوان المسلمين في سنة 1928 في مدينة الإسماعيلية بمصر على يد الشيخ حسن البنا المولود في سنة 1906 في مدينة المحمودية بمحافظة البحيرة، وقد اجتاز مراحل الدراسة الأولى في مدارس المدينة وبرز اهتمامه منذ البداية بالعمل للإسلام إذ أسس جمعيات أخلاقية مع بعض زملائه في المدرسة، ولما انتقل إلى القاهرة ليلتحق بدار العلوم انفتح على التيارات الإسلامية المتواجدة في تلك الفترة، فحضر المجالس الصوفية وتردد على دروس علماء الأزهر وقرأ في كتب السلفيين.[1
وبعد تخرجه من دار العلوم عين مدرساً بمدينة الإسماعيلية وهناك بدأ دعوته وأسس جماعة الإخوان لتقف في وجه هذه الموجة الطاغية من مدنية المادة وحضارة المتع والشهوات التي جرفت الشعوب الإسلامية ’’حتى تنحسر عن أرضنا ويبرأ من بلائها قومنا، ولسنا واقفين عند هذا الحد بل سنلاحقها في أرضها وسنغزوها في عقر دارها حتى يهتف العالم كله باسم النبي صلى الله عليه وسلم وتوقن الدنيا كلها بتعاليم القرآن’’.[2]
والطريق إلى ذلك ’’أن يكون في مصر أولاً بحكم أنها في المقدمة من دول الإسلام وشعوبه، ثم في غيرها كذلك:
- نظام داخلي للحكم يتحقق به قول الله تبارك وتعالى: وأن احكم بينهم بما أنزل الله..
- ونظام للعلاقات الدولية.
- ونظام عملي للقضاء.
- ونظام اقتصادي استقلالي للثروة...
- ونظام للثقافة والتعليم يقضي على الجهالة والظلام.
- ونظام للأسرة والبيت ينشئ الصبي المسلم والفتاة المسلمة.
- ونظام للفرد في سلوكه الخاص.
- وروح عام يهيمن على كل فرد في الأمة.
نحن نريد: الفرد المسلم والبيت المسلم والشعب المسلم والحكومة المسلمة والدولة التي تقود الدول الإسلامية وتضم شتات المسلمين وتستعيد مجدهم وترد عليهم أرضهم المفقودة ثم تحمل علم الجهاد’’.[3]
* قضية فلسطين واهتمام الإخوان بها[4]
اهتم الإخوان المسلمون منذ البداية بقضية فلسطين، وبرز هذا الاهتمام مع اندلاع ثورة 1936، فقاموا بعدة أنشطة لدعم الثورة، وألفوا لجنة لذلك، وقاموا بدعاية واسعة النطاق بواسطة المساجد والمطبوعات، هاجموا فيها سياسة بريطانيا في فلسطين ودعوا إلى مقاطعة المتاجر اليهودية في مصر، وبثوا دعاتهم في أنحاء مصر للدعوة إلى مساعدة فلسطين، وأرسلوا برقيات إلى مسئولي الدولة لمطالبتهم بالتدخل لصالح القضية، ونظموا مظاهرات تأييداً لفلسطين، ويقال إن بعض أفراد الإخوان شاركوا في الثورة بصفة فردية، ولما قامت الجماعة بتأسيس ’’النظام الخاص’’ في بداية الأربعينيات، كانت مساعدة فلسطين على التخلص من الانتداب والصهيونية سبباً من أسباب إنشائه.
وقد بدأت جهود الإخوان لنشر دعوتهم في فلسطين سنة 1935 عندما وصل مندوبان عنهم وقابلا الحاج أمين الحسيني، هذا بالإضافة إلى دور الطلبة الفلسطينيين الدارسين في جامعات ومعاهد مصر، وكذلك دور دعاة الإخوان الذين كانوا يزورون فلسطين ويؤسسون فروعاً فيها.
ويتضح التواجد الإخواني في فلسطين بعد نهاية الحرب الكبرى الثانية (1939- 1945)، وقد استفاد الإخوان من وجود بعض الجمعيات الدينية التي كان أهالي فلسطين قد أسسوها، فنلاحظ أن أول فرع أسسه الإخوان هو فرع غزة الذي ترأسه الحاج ظافر الشوا رئيس جمعية التوحيد التي انتقل كثير من أعضائها إلى حركة الإخوان، وتأسس فرع آخر في مدينة حيفا وتكوّن أعضاؤه أساساً من أعضاء جمعية الاعتصام، وتوالى تأسيس الفروع حتى وصل عددها قبل حرب 1948 إلى عشرين فرعاً، هذا بالإضافة إلى الفرق الكشفية، ومع ذلك لم يكن لهم قيادة موحدة في فلسطين وكانوا يتبعون الحركة في مصر مباشرة.
وقبل اندلاع حرب 1948 عقد الإخوان في فلسطين مؤتمرين، الأول في 18-10-1946، وتقرر فيه تحميل حكومة فلسطين البريطانية مسئولية اضطراب الأوضاع، والمطالبة بعرض القضية الفلسطينية على مجلس الأمن، وتأييد الجامعة العربية، أما المؤتمر الثاني فعقد في 27-10-1947 واستنكر فيه الإخوان محاولة العرب تحقيق أهدافهم الوطنية عن طريق مجلس الأمن أو هيئة الأمم، وأعلن المؤتمر أن الإخوان سيتحملون مسئوليتهم في الدفاع عن أرض فلسطين.
* دور الإخوان في حرب 1948
شارك الإخوان المسلمون من مختلف الأقطار العربية في حرب فلسطين سنة 1948، وكان لكل فرع ظروفه الخاصة التي حددت طريقة مساهمته، ومع أن اندفاع الإخوان كان كبيراً للمشاركة في إنقاذ فلسطين من المؤامرة الصهيونية، فإنهم لم يتمكنوا من أداء دورهم كاملاً بسبب العقبات الرسمية التي وقفت سداً في وجوههم.
وقد قام الإخوان في مصر بالدعوة إلى الجهاد قبل إعلان الحرب ونظموا مظاهرات وحملات لجمع التبرعات وانتشروا في صحراء مصر باحثين عن بقايا أسلحة الحرب الكبرى الثانية، وأبلغ الشيخ حسن البنا مجلس الجامعة العربية أنه على استعداد لإرسال عشرة آلاف متطوع من الإخوان إلى فلسطين، وحاول الحصول على إذن عبور الحدود من الحكومة المصرية آنذاك ولكنها رفضت ذلك، فلجأ الإخوان إلى محاولة الوصول إلى فلسطين عن طريق الحيلة نتيجة التضييق الرسمي، فطلبوا مثلاً القيام برحلة علمية إلى سيناء وانطلقوا من هناك تسللاً نحو فلسطين، ولما ظهر نجاح العمليات التي قاموا بها لاسيما بعد انضمام أعداد كبيرة من أهل فلسطين إليهم، طلبت الحكومة المصرية من مركز الإخوان سحب قواته من النقب ولما رفض قطعت الإمدادات والتموين عنهم فأغناهم أهل فلسطين عن مساعدات الحكومة.
كانت مشاركة الإخوان في حرب فلسطين مشاركة فعالة لاسيما في منطقة الجنوب، إذ هاجموا المستعمرات الاستيطانية وقطعوا خطوط المواصلات وشاركوا في معركة التبة 86 التي أنقذت قطاع غزة من الاحتلال، وقد استشهد مائة مجاهد تقريباً منهم وجرح عدد مقارب وأسر البعض الآخر، وكان الصهاينة ينتقمون من أسرى الإخوان بوحشية لشدة غيظهم منهم.
وشارك الإخوان المسلمون من الأردن بجهد مماثل، فجمعوا التبرعات وفتحوا أبواب التطوع، وتطوع منهم في عمّان 120 مقاتلاً وفي إربد 100 مقاتل، أما إخوان العراق فساهموا في المظاهرات وحملات التطوع واشتركوا في تأسيس جمعية إنقاذ فلسطين التي كانت ترسل المتطوعين إلى اللجنة العسكرية في دمشق، وبعد إرسال ثلاثة أفواج تلقت إنذاراً من اللجنة لعدم إرسال أفواج أخرى، وهددها رئيس اللجنة ورئيس الوزراء العراقي سابقاً طه الهاشمي بإعادة المتطوعين على نفقتها إذا أرسلتهم ثانية، فاقتصر نشاطها بعد ذلك على إرسال التبرعات، وشارك المتطوعون الذين أرسلتهم في معارك شمال فلسطين، أما إخوان سوريا فقد شارك منهم في الحرب مائة مقاتل وساهموا في معارك القدس، وأما إخوان فلسطين فقد شاركوا في الحرب حيث وجدوا، وتحت قيادة كل الجيوش، سواء جيش الإنقاذ أو جيش الجهاد المقدس أو قوات الإخوان المصريين إلى أن أصدرت القيادة المصرية أمراً بتسريح الفلسطينيين خوفاً على سلامة الدولة (يبدو أن صرعة التخويف من الخطر الفلسطيني الماحق والمزعوم على مصر ليست حديثة).
ونتيجة لغيظ الصهاينة من الدور الذي قام به الإخوان في الحرب حاولوا نسف مقرهم في القدس وقام بهذه المحاولة أحد إرهابيي منظمة الأرغون في القدس، ولكن اكتُشف أمره قبل أن يقوم بجريمته وتم إعدامه.
* الإخوان بعد حرب 1948
أسفرت الحرب عن النكبة التي حلت بفلسطين، ومع ازدياد الكثافة السكانية في قطاع غزة فجأة نتيجة الهجرة واللجوء، ازداد انتشار دعوة الإخوان فيه، وأصبح قاضي غزة وعالمها الشيخ عمر صوان رئيساً للمكتب الإداري للجماعة، وأصبح لها أربعة فروع في المدينة وفروع في باقي المدن في القطاع بالإضافة إلى بعض المخيمات.
أما في مصر فقد توترت العلاقات مع السلطة توتراً شديداً بعد الحرب، فحلت الجماعة، وزج بأعضائها في السجون، وتم اغتيال الشيخ حسن البنا في 12-2-1949، ولما قامت ثورة الضباط الأحرار في 23-7-1952 كان الإخوان من روافدها، إلا أن الوفاق لم يستمر طويلاً بين الطرفين وسرعان ما دخلا في صراع طويل وغير متكافئ إلى نهاية حكم الرئيس جمال عبد الناصر.
* الإخوان والمنظمات الفدائية
اجتاحت العالم العربي في الستينيات الرياح القومية، وتأسست فيه كثير من الأحزاب التي تتبنى هذه الفكرة، وانحسر التيار الإسلامي انحساراً شديداً لاسيما بعد اصطدامه بالنظام الناصري في مصر، وفي غمرة الموجة القومية، نشأ تيار الوطنية الفلسطينية الذي يئس من العروبة وأتباعها والأنظمة وحكامها، ودعا لأن يتولى أصحاب القضية، وهم الفلسطينيون، أمرهم بأنفسهم، وقد تعرض هذا التيار الذي مثلته حركة فتح في البداية إلى معارضة ناصرية، ويذكر الإخوان دائما أن الجذور التاريخية لقادة فتح تعود إلى مجموعات ’’الشباب المسلم’’، وينوهون بالعداء المشترك الذي واجهه الإخوان وحركة فتح من النظام في مصر.
* تضارب الآراء
لا نستطيع أن نقف على رأي قاطع للإخوان في الحركة الفدائية قبل ظهور حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في فلسطين، واحتكاك الجماعة المباشر بالقضية الفلسطينية، ويمكننا القول أنه في تلك الفترة ابتعد الإخوان عن المنظمات ذات الصبغة اليسارية، وظلت جسورهم مفتوحة مع حركة فتح، وعندما كانت الحركة تتعرض لأزمات مصدرها معارضة مشتركة لها وللإخوان، كانت هذه الجسور تتحول إلى دعم وتأييد رغم الانتقادات القوية التي كان الإخوان يوجهونها إلى سياسة فتح.
فعلى صعيد الخلافات الفكرية مثلاً، كانت حركة فتح ومازالت تتبنى الحل العلماني، وهو ما يتناقض مع دعوة الإخوان المسلمين، فكان دعاتهم يهاجمون نهج فتح ومنظمة التحرير بكل قوة، ومع ذلك اعترف تنظيم الإخوان بمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني ’’المسلم’’ بشكل رسمي، وقد حدث هذا عندما وقّع الإخوان ميثاق ’’التحالف الوطني لتحرير سورية’’ في سنة 1982، إذ تنص المادة 12 على الاعتراف بتمثيل المنظمة للشعب الفلسطيني.
ولما تعرضت حركة فتح لهزة قوية نتيجة انفجار المعارضة داخلها بدعم سوري بعد الانسحاب من لبنان (1982) وبروز التوجهات الفلسطينية نحو الحل السلمي وما نتج عن ذلك من أحداث دامية في مدينة طرابلس، وقف الإخوان بكل ثقلهم إلى جانب فتح، وبعد تصاعد الخلاف مع سوريا ازداد التقارب بين فتح والإخوان حتى أصبح الإخوان يرونه تقارباً ليس مرحلياً فقط بل ما هو أبعد من ذلك، ويبدو أنه في هذه المرحلة تراجع الإخوان عن مواقفهم الهجومية السابقة وامتد تقاربهم مع فتح إلى المواقف الفكرية ذاتها، فلم تعد نقاط الالتقاء تقتصر على ’’الجذور التاريخية’’ الإسلامية لقيادة الحركة، أو على كونها ’’المنظمة الأصلح’’ وأنه لا مبرر للإسلاميين للهجوم عليها وأن هذا الهجوم سيصب في خانة العدو المشترك، او على الأمل الذي لم ينقطع في أن ’’تعود صياغتها صياغة إسلامية’’، بل أصبحت التصريحات التي كان يطلقها زعماء حركة فتح ومنظمة التحرير بشأن الاعتراف بالكيان الصهيوني والسلام معه وتحتوي على ما يغضب الإخوان، أصبحت ’’تصريحات غامضة... من قبيل المناورة السياسية في الوسط العربي والدولي المضطرب، ومثل هذه التصريحات الغامضة لا يحكم عليها بقدر ما يحكم على التصريح الواضح والإجراء الفعلي’’،[5] ولما ظهر فيما بعد أن هذه ’’التصريحات الغامضة’’ هي نفسها ’’التصريح الواضح والإجراء الفعلي’’، عاد الهجوم على القيادة الفلسطينية مرة أخرى.
وفي الوقت الذي كانت فيه قيادة إخوانية تتخذ هذه المواقف المؤيدة لقيادة منظمة التحرير وحركة فتح، كانت قيادة أخرى تهاجم المنظمة، فقد سئل الأستاذ عمر التلمساني في لقائه مع صحيفة القبس الكويتية:
’’- أفهم من ذلك أنك ترى أن منظمة التحرير الفلسطينية لم تؤد عملاً لحل القضية حتى وقتنا هذا (1985)؟
- حتى الآن لا، ولم أجد لهذه المنظمة أي أثر في الوجود، وكلما تتعرض لأي ضغط فإنها تستجيب، كانوا في جنوب لبنان وقالوا لهم اخرجوا فخرجوا، ثم ذهب بعضهم إلى طرابلس وخرجوا منها، ولم تفعل المنظمة شيئاً، منظمة التحرير الفلسطينية في نظري لم تفعل شيئاً’’.[6]
وكما لا نستطيع أن نحدد رأي الإخوان في الحركة الفدائية غير اليسارية في ذلك الزمن، لا نستطيع كذلك تحديد رأيهم في أمور أخرى تتعلق بالقضية الفلسطينية رغم أنه قد يبدو لأول وهلة أنها قضايا محسومة،[7] وكان من المألوف أن يجيب الإخوان في ذلك الزمان على السؤال الاعتراضي عن التصريحات غير الشعبية التي يطلقها هذا أو ذاك من وجوههم بالقول ’’إن هذا الرجل لا يمثلنا’’.
* ظهور حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في فلسطين
تميزت انتفاضة الحجارة (1987) بظهور حركة المقاومة الإسلامية بصفتها تنظيماً مستقلاً عن بقية المنظمات الفلسطينية المعروفة، بالإضافة إلى كونها فرعاً من حركة الإخوان المسلمين، وقد أعلنت الحركة عن نفسها في بيان وزع في غزة يوم 12-12-1987 وفي الضفة بعد يومين،[8] ويرى كثير من المراقبين أن سلطات الاحتلال الصهيوني شجعت نمو هذا التيار، وأعتقد أن ذلك لم يكن بالاتفاق والتآمر كما يحلو للبعض أن يصوروا الأحداث، وإذا قبلنا بهذا المنطق فعلى أنصاره الإجابة عن أسئلة كثيرة عن دور الولايات المتحدة في التنسيق مع ثورة يوليو/ تموز/ جويلية 1952،[9] وعن صراع الرئيس جمال عبد الناصر ضد الشيوعية[10] والذي استفادت منه الولايات المتحدة،[11] وعن وقوف أمريكا ضد العدوان الثلاثي (1956) لمصلحة مصر،[12] وحين نرفض تفسير الأحداث السياسية على هذا الوجه المجتزأ فإن علينا التقاط صورة كاملة لها وتدبر مآلاتها، فأمريكا قضت أو قبلت بالقضاء على التجربة الناصرية بالقوة المسلحة في النهاية،(1967) والكيان الصهيوني أيضاً قضى على أبرز قادة حماس فيما بعد، ورغم اختلاف الظرفين، لم يكن الطرفان المصري والفلسطيني ’’كالخاتم في الأصبع’’ لدى أمريكا أو الكيان الصهيوني، وتؤكد وثائق المخابرات الأمريكية أنها فوجئت برفض الرئيس ناصر التصرف وكأنه مشترى ولهذا قامت بعمليات إفساد ضده،[13] كما أصدر الرئيس الأمريكي آيزنهاور أوامر خطية لوزير خارجيته جون فوستر دالاس أن ’’حجموا ناصراً’’،[14] وبعد تسوية السويس (1957) ثبت للولايات المتحدة أن تفاؤلها فيما يتعلق ’’بالاتفاق السري’’ مع الحكومة المصرية لم يكن مطابقاً للواقع،[15] وهو ما يؤكده أيضاً واحد من أشد الباحثين نقداً للرئيس جمال عبد الناصر وهو الأستاذ محمد جلال كشك حين يؤرخ لتصاعد الخلاف الذي انتهى بالقطيعة بين الطرفين.[16]
وكذلك فإن كل ما في الأمر في الحالة الفلسطينية أن الصهاينة في ذلك الوقت، ونتيجة لعدوانيتهم وغطرستهم ورفضهم أي حل سلمي يتطلب التنازل عن أي من مسروقاتهم، عملوا على إفشال المبادرات التي مدت يد السلام إليهم، وأعماهم الحقد وأساءوا حساباتهم - ولم تكن تلك هي المرة الوحيدة- فتصوروا إمكان سد الطريق على ذلك الحل السلمي الذي تتبناه منظمة التحرير الفلسطينية بشق الصف الفلسطيني الذي كان ’’يحرج’’ الكيان الصهيوني بهجومه السلمي بهذه المطالب والتنازلات، إذ لم يكن السلام من ضمن البرامج الصهيونية إلا بقبول الطرف الآخر الاستسلام الكامل، ولهذا نبذت جميع الحلول الوسط سواء حل الدولة الديمقراطية العلمانية لجميع سكان فلسطين في البداية أو حل الدولتين فيما بعد، وقد وصف نمو التيار الإسلامي المتشدد تجاه المطالب الفلسطينية الرسمية المنسجمة مع ’’الشرعية الدولية’’ بأنه انقلاب السحر على الساحر بعدما أصبحت مطالب منظمة التحرير الفلسطينية أكثر سلمية تجاه فكرة وجود الكيان الصهيوني مقارنة بمطالب حماس التي كانت تركز آنذاك على إزالة هذا الكيان وهو ما استلزم حملة الضغوط والابتزاز لترويضها كما روض من قبلها.
* كيف نشأت حماس؟
تشير المراجع الإسلامية المؤيدة لحركة حماس إلى ازدهار النشاط الإسلامي منذ احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة سنة 1967، فقد ارتفع عدد مساجد الضفة من 400 إلى 750، ومساجد القطاع من 200 إلى 600، ولعل هذه الأرقام تؤكد قصر نظر سياسة الاحتلال تجاه النشاط الإسلامي الذي ما لبث أن انقلب الصهاينة عليه وحاولوا تصفيته بقوة أكبر من القوة المبذولة في تشجيعه، وهو ما يجب أن نضعه في الحسبان فلا نظن أنه الكيان صاحب القدرات الكلية التي لا تُقهر أو العقول المعصومة التي لا تخطئ، كما تبين الأرقام أن انتشار التيار الإسلامي في غزة كان أسرع من انتشاره في الضفة.
ويشير الشيخ الراحل خليل القوقا (توفي 2005) الذي وصف بأنه كان الرجل الثاني في حماس بعد الشيخ أحمد ياسين رحمه الله، إلى أوجه هذا النشاط فيقول: ’’المسجد هو الثكنة العسكرية التي ربت هذا الجيل المنتظم، وهذا الطفل الذي كان بالأمس في عام 67 قبل أن يعرف المسجد يقول: بيعه وتربح منه، واليوم يقول: خيبر خيبر يا يهود جيش محمد سوف يعود، من أين أتى بهذه العبارة؟ أليس من المسجد وحلقات الدرس ودروس التقوية وتحفيظ القرآن وقيام الليل بالمسجد، والمنبر الذي اعتلاه شباب تربوا في أحضان المسجد’’.[17]
ويمكننا القول في ضوء مجمل السياسات الصهيونية تجاه حركة حماس إلى اليوم أنه سواء شجع الكيان الصهيوني نمو هذا التيار الإسلامي، أو تجاهله ولم يقاومه ابتداء، فإن الثابت أنه تصدى له فيما بعد نموه بكل قوة ليس لمجرد ’’تحجيمه’’ هذه المرة بل للقضاء عليه تماماً ولذلك اغتال قيادات الصف الأول فيه وشن الحرب عليه، ويمكن الاستنتاج من ذلك أنه أخطأ في حساباته الأولى وظن في غمرة عدوانيته ورفضه لأي تنازل أنه سيسد الطريق على الحل السلمي ليحتفظ بكل ما سلبه فإذا بهذا التيار الجديد يطالبه آنذاك بالرحيل كلياً وترك كل المسروقات التي استولى عليها دون أن يحتفظ بأي شيء منها.
* آراء حركة حماس
أصدرت الحركة ميثاقاً اعترفت فيه بصراحة بانتمائها إلى حركة الإخوان المسلمين، وحددت فيه موقفها من القضايا المهمة على الساحة الفلسطينية:
1- تقول المادة 15 من الميثاق: ’’ولا بد من ربط قضية فلسطين في أذهان الأجيال المسلمة على أنها قضية دينية ويجب معالجتها على هذا الأساس، فهي تضم مقدسات إسلامية’’.
2- الحلول السلمية: تعارض حركة حماس الحلول السلمية لأنها تؤدي إلى التفريط بجزء من أرض فلسطين وهذا يعني ’’تفريط في جزء من الدين’’،[18] وتنظر الحركة إلى المسألة من الوجهة الفقهية لأن أرض فلسطين ’’وقف إسلامي على أجيال المسلمين إلى يوم القيامة’’،[19] ولا تملك أي جهة أن تتنازل عنها لأن ذلك يعد من باب التصرف في ما لا تملك، وما دامت الأرض ملكاً للمسلمين إلى يوم القيامة فلا يستطيع التفاوض عليها إلا من يملك التفويض من صاحب الملك، ’’ومن يملك النيابة الحقة عن الأجيال الإسلامية إلى يوم القيامة؟’’، وترى الحركة أن أطراف المؤتمر الدولي لها مواقف معروفة من قضايا المسلمين مما يجعل إمكان إنصافهم لنا معدوماً.[20]
3- الدولة الفلسطينية: ترى حماس أن الدولة التي ستقوم على أرض فلسطين يجب أن تكون إسلامية كما تذكر المادة 19 من الميثاق، ولا مانع من إقامة هذه الدولة على أي جزء يتم تحريره من الأرض ولكن بشرط عدم التنازل عن بقية الأرض وعدم الاعتراف بشرعية وجود العدو عليها، فلا بأس بإقامة دولة على جزء من الأرض ’’مع إصرار على رفض أي اتفاقيات أو التزامات توقف مسيرة الجهاد والتحرير الشامل لكل فلسطين’’، وهذه هي نقطة الفراق بين حماس ومنظمة التحرير الفلسطينية، وهكذا ترفض حماس تبرير ما جرى في المجلس الوطني الفلسطيني (1988) من تنازلات بالاعتراف بالكيان الصهيوني ونبذ العنف والقبول بقرار 242 على أسس المرحلية والواقعية تحت غطاء إعلان الاستقلال الفلسطيني، ’’وهي بذلك تدين الذين يفلسفون منطق التراجع والانهزام بحجة الواقعية ويزينونه للشعب على أنه انتصار سياسي عظيم وتؤكد أنه لا يجوز للحلول المرحلية أن تتناقض مع الخيار الاستراتيجي في التحرير الشامل بل لا بد أن تخدمه وتعمل على تحقيقه’’.[21]
4- حل القضية الفلسطينية: ترفض حركة حماس جميع المبادرات السلمية وترى أنه ’’لا حل للقضية الفلسطينية إلا بالجهاد’’،[22] وتحرير فلسطين ’’فرض عين على كل مسلم حيثما كان’’.[23]
5- منظمة التحرير الفلسطينية: سارت حركة حماس في بداياتها على النهج السلمي تجاه منظمة التحرير، ورغم الخلافات المبدئية بين الطرفين لم تقطع خطوط الاتصال مع المنظمة، وعدتها ’’من أقرب المقربين إلى حركة المقاومة الإسلامية، ففيها الأب أو الأخ أو القريب أو الصديق، وهل يجفو المسلم أباه أو أخاه أو صديقه؟’’، ثم واصلت الأمل بعودة المنظمة للخط الإسلامي، وهو أمر طالما حلم به الإخوان، وحينئذ، أي عندما يحدث هذا التحول المنشود، يصبح أعضاء الحركة الإسلامية جنود المنظمة ووقود نارها التي تحرق الأعداء، وإلى أن يحدث هذا الأمل المرتجى يبقى موقف حماس من المنظمة ’’موقف الابن من أبيه والأخ من أخيه والقريب من قريبه، يتألم لألمه إن أصابته شوكة، ويشد أزره في مواجهة الأعداء ويتمنى له الهداية والرشاد’’.[24]
* تعقيب على الموقف المرحلي لحركة حماس
يجب التنويه ابتداء أن توجيه أي نقد لحركة مقاومة لا يعني بخس حقها أو التقليل من شأن تضحياتها الكبيرة وهو ليس سوى تناصح من باب تلمس الطرق الأفضل لاستعادة حقوقنا، كما لا يعني هذا النقد مطلقاً أنه موجه لفكرة المقاومة بل هو بحث عن أفضل الطرق لتطبيقها والحصول على أفضل النتائج منها.
وافقت حركة حماس على فكرة إقامة الدولة الفلسطينية على أي جزء يتم تحريره من أرض فلسطين، ولكنها اشترطت ألا يؤدي ذلك إلى أي التزامات بالاعتراف بالكيان الصهيوني، وربما كان هذا الوضع الذي تخيلت فيه إمكان حدوث هذه المعادلة أبعد ما يكون عن ظروف العالم العربي والإسلامي التي نشأت الحركة في ظل موازين القوى فيها، فالصراع ليس بين طرفين متكافئين يؤمل أن يحدث التحرير الجزئي فيه بالقوة المسلحة بعيداً عن هيمنة الطرف الآخر ومن ثم يمكننا أن نقبل بدولة جزئية إلى جولة أخرى من القتال، ليس هذا هو حالنا بل هو حال أقرب إلى صراع العصور الوسطى بين المسلمين وممالك الفرنجة حين ساد التكافؤ إلى حد ما بين الطرفين، أما في عصرنا فالميزان يميل بشكل كامل لناحية الأعداء ولا يمكن أن ينضم أي جزء يتم تحريره إلى مركز قوة يرعاه بعيداً عن الهيمنة الغربية الصهيونية، فإذا تحرر أي جزء ظل في مرمى نيران الأعداء الأقوى منا بلا أي رادع مكافئ يمكّن من مواصلة عملية التحرير التدريجي لصلب الأراضي المغتصبة التي يحرص الصهاينة على استبقائها تحت حكمهم، وكل ما يمكن تحقيقه رغم كل بطولات المقاومة هو الحفاظ على الوضع القائم دون العبور إلى عمق فلسطين المحتلة، وإلا وقف ’’المجتمع الدولي’’لنا بالمرصاد بالقوة المسلحة، ولن يكون الكيان الصهيوني بأرخص عنده من نفط الكويت الذي دُمر بلد عربي لأجله تدميراً شاملاً منذ 1990 إلى هذا اليوم
ومن هنا كانت كل عمليات التطهير السابقة من الوجود الصهيوني (جنوب لبنان وقطاع غزة) هي الحد الأعلى الذي يمكن الوصول إليه في الوقت الحاضر والذي لا يخترق معادلة ’’الشرعية الدولية’’ التي تقر وجود الكيان الصهيوني على حدود 1949 وما يمكن نهبه من حدود 1967، ولهذا تحول جميع الأطراف المعنية من جانبنا بما فيها المقاومة بعد تحقيق الانتصارات السابقة إلى الاهتمام بحراسة الحدود من الاختراق حتى لا يتسبب في صراع جديد لن يكون مداه كالسابق، ولهذا فإن التحرير الجزئي التدريجي غير وارد الآن ولن يكون أي انسحاب إلا في ظل شروط والتزامات ومواثيق تؤبد وجود الكيان الصهيوني ما دام الغرب هو الطرف الأقوى في العالم، أي أن ما تخيله ميثاق حماس لا موضع له حالياً وكان من سبق إلى طريق الحل السلمي قد بدأ بتخيل نفس التسلسل السابق عن إقامة الدولة على أي شبر يتم تحريره فكانت النتيجة النهائية هي كل التنازلات التي قدمت منذ ذلك التاريخ (1974) سواء الاعتراف بحق الكيان وليس بمجرد وجوده بعدما كان يقال إن هذا الاعتراف لم يرد في الأدبيات الفلسطينية قط، أو بنبذ المقاومة التي أصبحت إرهاباً في نظر القائمين عليها، والإقرار بما تلقيه إلينا الشرعية الدولية من فتات بعد قضم ما شاء لها من حقوقنا وذلك بالقبول بالقرارات الدولية التي تؤكد شرعية الكيان الصهيوني والتي كان يقال فيها إنه لم يُخلق بعد، القائد الفلسطيني الذي يقبل بها، أما انقلاب الظروف وتغير موازين القوى جذرياً فهو حديث يطلق العنان لجميع الاحتمالات.
۞ ب- حركة الجهاد الإسلامي
تعرضت حركة الجهاد الإسلامي في بداية انتفاضة الحجارة إلى كثير من سوء الفهم والتشهير والافتراء من جهات تدعو إلى وقف هذه التجاوزات بين المسلمين لتتوحد صفوفهم، وانتشرت الأقاويل عن الحركة في محاولة لإلغاء دورها الفاعل في الانتفاضة بالادعاء أن زعماءها عملاء للسفارات، وأنها تحمل فكراً غريباً، وليس لها أثر في الانتفاضة، وعندما أصبحت هذه الانتفاضة وسيلة للصعود الإعلامي حتى لصغار الفنانين، لم يمانع البعض في سرقة إنجازات حركة الجهاد ونسبتها إلى السجلات الخاصة بهم، ربما باسم وحدة العمل الإسلامي، وقد ساعد على استفحال هذه الظاهرة عاملان مهمان هما أن حركة الجهاد لم تكن باتساع غيرها وليس لها من الإمكانات الإعلامية ما يملكه غيرها، وهذا ما يحجم انتشار وجهة نظرها آنذاك، كما أنها لم تكن تهتم بالجوانب الإعلامية قدر اهتمامها بتنفيذ أهدافها على الساحة الفلسطينية، ويتضح هذا من تواضع ادعاءاتها وعدم اهتمامها باحتكار الساحة فتضيف الآخرين إلى سجلات الإنجازات كما سيأتي.
* نشأة الحركة
نشأت حركة الجهاد الإسلامي في نهاية السبعينيات من القرن العشرين، ويبدو أنها كانت تستهدف طرح تصور إسلامي في عملية المواجهة المباشرة مع الاحتلال الصهيوني، وذلك لأن بقية التيارات الإسلامية لم تكن في ذلك الوقت تدعو لهذه المجابهة ﻓ’’أعيت تساؤلات السنوات العديد من أبناء الإسلام في فلسطين حول دور الحركة الإسلامية بكل قواها تجاه القضية الفلسطينية’’،[25] فرفعت الحركة شعار: القضية الفلسطينية قضية مركزية للحركة الإسلامية، في محاولة ’’لزج’’ التيار الإسلامي في المواجهة.
’’كان تصورنا في نهاية السبعينات أن قوى الحركة الإسلامية تحتاج إلى رأس رمح يشعل المواجهة مع العدو في فلسطين ويعيد للإسلام رايته في مقدمة الجبهة، وكان خيارنا أن نكون رأس الرمح ذلك’’،[26] وبهذا يمكننا تحديد نقطتين رئيستين تميز حركة الجهاد عن بقية الحركات الإسلامية المعاصرة
1- مركزية القضية الفلسطينية: فبينما كانت الحركات الإسلامية تنظر إلى هذه القضية بصفتها إحدى قضايا المسلمين، قد يكون لها خصوصية أيضاً، جعلتها حركة الجهاد قضية مركزية.
2- توقيت المواجهة مع الاحتلال: ففي الوقت الذي لم تكن فيه بقية التيارات على استعداد للمواجهة مع الاحتلال في نهاية السبعينيات، ولكل منها أسبابه الخاصة، اتخذت حركة الجهاد قرارها بالمواجهة المباشرة وعدم تأجيل ذلك، مما عرضها لملاحقة سلطات الاحتلال مبكراً، ووضع عدد من أعضائها في السجون، الأمر الذي اتخذه بعض المنافسين دليلاً على عدم مشاركة الحركة في انتفاضة الحجارة فيما بعد وذلك لأن أعضاءها كانوا في السجون قبل اندلاعها، وكأن وجود بعض العناصر في السجن يمنع وجود غيرهم في الخارج، أو حتى يمنع السجناء أنفسهم من المشاركة في التخطيط لأعمال في الخارج، وقد تكون هذه المشاركة مما أدى إلى إشعال الانتفاضة ذاتها فيما بعد كما سيأتي.
* متى بدأت انتفاضة الحجارة؟
المشهور بين الناس أن الانتفاضة بدأت في الثامن من ديسمبر سنة 1987، بعد قتل العمال الأربعة في قطاع غزة، ولكن الجذر المباشر للحدث والذي يعلمه كل أهل غزة في ذلك الوقت أن البداية كانت قبل ذلك بشهرين، وبالتحديد في السادس من أكتوبر، وفي حي الشجاعية في المدينة، عندما قام كل من محمد الجمل وسامي الشيخ خليل، وهما هاربان من سجن غزة المركزي، بالإضافة إلى أحمد حلس وفايز قريقع، بعملية بطولية أدت إلى استشهادهم جميعا، فنتج عن ذلك حداد عام في الحي ونشبت اضطرابات متفرقة في القطاع حتى قُتل المستوطن في غزة في السادس من ديسمبر وانتقم أخوه بقتل العمال الأربعة مما أدى إلى اشتعال الانتفاضة في جباليا فبقية أنحاء القطاع فالضفة الغربية.
كانت حركة الجهاد الإسلامي وراء عملية الأربعة في السادس من أكتوبر ثم عملية قتل المستوطن في السادس من ديسمبر، وقد صدر بعد العملية الأولى قرار صهيوني بإبعاد الشيخ عبد العزيز عودة أحد القيادات البارزة في الحركة، ومع ذلك نسب آخرون العملية إلى أنفسهم واتخذوا من هذا الإبعاد دليلاً على عدم مشاركة الشيخ في انتفاضة ديسمبر لأنه كان خارج الساحة،[27] وبذلك يُنكر دور الرائد في القافلة لأنه لا يسير معها بل يسبقها بمسافة، واستمر هذا المسلسل فيما بعد ويمكننا أن نضع أكثر من حدث بعد ذلك ضمن محاولة نزع البطولات عن حركة الجهاد الإسلامي ونسبتها إلى غيرهم كعملية عبسان (3-2010) حين تلقت الحركة الأمر برحابة صدر كالعادة ومالت إلى جعل الادعاء مجرد التباس حسن النية،[28] وتكرر الادعاء أيضاً مؤخراً في استشهاد البطل محمد عاصي قرب رام الله (22-10-2013)، ولهذه الظاهرة جذور منذ اندلاع انتفاضة الحجارة.
* سباق الادعاءات
حرصت عدة أطراف فلسطينية على الادعاء أنها، وحدها، فجرت الانتفاضة ثم قادت تحريكها، وأن الآخرين الذين يدعون غير هذا كاذبون، ولما كان حديثنا مقتصراً على التيارات الإسلامية، فمن المهم استطلاع آرائهم في هذا الموضوع.
1- رأي الجهاد: حددت حركة الجهاد الإسلامي دورها في الانتفاضة بكونها رأس الرمح الذي ساهم في إشعال شرارة الانتفاضة التي أصبحت حركة جماهيرية لكل الشعب الفلسطيني، وأن حركة الجهاد ليست كل الحركة الإسلامية التي تضم تيارات أخرى أيضاً، كما أنها لا تدعي قيادة الانتفاضة إذ أن قيادتها في يد الجماهير.
’’إننا لا نمثل كل قوى الاتجاه الإسلامي في فلسطين، وإن مشاركتنا في الانتفاضة يجاورها مشاركة الإخوان المسلمين ومجموعات تحريرية (أي تنتمي لحزب التحرير) وسلفية’’.[29]
’’قد جاء الوقت - ربما- الذي يدرك فيه بعضنا أن التعدد ميراث تجبرنا عليه سنة الله في التاريخ والناس وأن واجبنا هو العمل من أجل الوحدة لا من أجل العزل وإصدار قرارات الحرمان’’، وأنه ليس من الصواب أن يحتكر تنظيم معين مصطلح ’’الحركة الإسلامية’’ لنفسه لأن ’’أكبر التنظيمات الإسلامية لا يتعدى بضعة عشرات من الآلاف، فيما الأمة تعج بعشرات التيارات وبملايين المسلمين من رجال يربطهم بهذا الدين ولاء العقيدة والتاريخ والحضارة... وآلاف العلماء المسلمين غير المنظمين، وملايين المحافظين على دينهم المتطلعين إلى عزة الإسلام ونهضته، جميعهم حركة إسلامية’’.[30]
’’إن الانتفاضة في شمولها واستمرارها هي فعلاً انتفاضة كل جماهير شعبنا، ولو كانت انتفاضة تنظيم أو حزب أو منظمة لانتهت منذ شهور طويلة، وهي أيضاً نتاج العديد من الأسباب السياسية والعقائدية والاجتماعية’’.
وترفض الحركة أن تعزو اندلاع الانتفاضة إلى نفسها وترد على من ينسبون اندلاعها إليها بالقول إنها ’’كانت انتفاضة تلقائية قام بها الشعب كله بكل فئاته’’، أما دور الحركة فيشرحه قولها: ’’إن كان لا بد لكل حركة سياسية جماهيرية من شرارة تشعلها فليس لأحد أن ينكر الشجاعة الفذة والتضحيات لمجاهدي حركتنا من سرايا الجهاد الإسلامي في فلسطين (ثم يسرد قصة العمليتين السابقتين)’’، ’’ونحن لا ندعي قيادة الانتفاضة لأن القيادة هي في يد الجماهير’’.[31]
وترفض الحركة رغم مساهمتها ’’أن تتحول الانتفاضة إلى جدل فارغ: من تحرك ومن المستفيد’’ فالمهم هو ’’أن ننطلق ابتداء منها’’.[32]
2- رأي حماس: يقول الشيخ خليل القوقا: ’’ليس هناك أدنى شك بأن الحركة الإسلامية، والتي شعارها حماس، هي التي فجرت الانتفاضة وهي التي قادتها منذ اليوم الأول’’.[33]
ويقول أيضاً: ’’وبكل فخر، ودون أن نبخس الناس حقهم أو نتجنى على دور الآخرين، أو نحاول تهميشهم أو إقصاءهم، فللحركة الإسلامية (التي شعارها حماس كما يقول) الفخر في أنها فجرت الانتفاضة في ليلة 8 ديسمبر صبيحة الأربعاء وأذكر ذلك بالتحديد’’.[34]
ورغم ذلك فإن القول بالتخطيط للانتفاضة في ليلتها كما يقول الشيخ لصحيفة الأنباء كان أكثر تواضعاً من ادعاء فصائل فلسطينية أخرى أنها خططت لاندلاعها منذ زمن وأنها تسير حسب الخطة المرسومة وأنها الآن في مرحلة كذا وستدخل مرحلة كذا.
* طبيعة الصراع مع الكيان الصهيوني
ترى حركة الجهاد الإسلامي أن صراعنا مع الكيان الصهيوني يتجاوز قضية احتلال الأرض وما ترتب عليه، وتنظر إليه من الزاوية التاريخية والحضارية لترى فيه حلقة من حلقات الصراع مع الغرب الذي نجح أولاً في تحويل مجموعة كبيرة من نخبة المسلمين عن ثقافتهم الأصلية وربطهم بمرجعيته الثقافية والحضارية، ثم تمكن ثانياً من تمزيق العالم الإسلامي بالقوة إلى وحدات مفككة، وبعد ذلك زرع الكيان الصهيوني في قلب العالم العربي والإسلامي ليضمن استمرار التجزئة والتبعية والإلحاق والهيمنة.
فالكيان الصهيوني من منظور الحركة يمثل ركيزة الهجمة الغربية على المنطقة، ومن العبث أن نفصل بين الهيمنة الاستعمارية والتبعية للغرب وبين هذا الكيان الذي يكوّن أداة تحقيق ذلك.[35]
* مركزية القضية الفلسطينية للحركة الإسلامية المعاصرة
انطلاقاً من الرؤية السابقة لحقيقة الكيان الصهيوني، رأت حركة الجهاد أن تحقيق أهداف الأمة الإسلامية الكبرى، وهي الاستقلال والوحدة والنهضة، يستلزم خوض المعركة حتى النهاية ضد التغريب وضد مركز الهجمة الغربية وهو هذا الكيان، ولهذا رفعت الحركة شعارها الاستراتيجي: فلسطين: القضية المركزية للحركة الإسلامية المعاصرة، وترى الحركة أن هذا الشعار يعبر عن وعي تاريخي عميق لأبعاد القضية، وليس نتاجاً لانتقائية اعتباطية، أي أن اختيار الحركة لخوض المعركة ضد الكيان الصهيوني لا يماثل القتال ضد مجرد احتلال عسكري لقطعة من أرض الإسلام كما يحدث في بعض البلدان، بل هو كفاح من أجل تحقيق الأهداف الكبرى للأمة الإسلامية كلها.[36]
* الحلول السلمية
يلاحظ المتتبع لمواقف حركة الجهاد أنها تحاول أن تفهم واقع موازين القوى كما هو وتنطلق من هذا الفهم لمعالجته في نطاق الإمكانات الموجودة، بلا مزايدة طنانة أو شعارات رنانة، وبلا استعجال قد يؤدي إلى الاستسلام باسم الواقعية، ومن هنا كانت عملية فهم مواقف الحركة تحتاج إلى الدقة.
وتعترف حركة الجهاد أن الغرب تمكن في هذه الجولة من الصراع من الفوز بواسطة المشروع الصهيوني، ولا تنازع في هذه الحقيقة البادية للعيان بوضوح، كما تسلم بأن الواقع العربي والإسلامي غير مؤهل الآن للمواجهة المنشودة، وهي حقيقة أخرى لا نزاع حولها، ولكنها لا ترى مشكلة في هاتين الحقيقتين، إذ المشكلة الحقيقية في نظرها هي في فكرة القبول بمشروعية الإنجاز الصهيوني، وتستحضر في هذا المجال التجربة الفرنجية الصليبية التي تمكنت من الانتصار على الإرادة العربية والإسلامية فيما سبق، وقامت ممالكها في نفس المنطقة وعمرت قروناً ولكنها مع ذلك لم تتمكن من اكتساب أي نوع من الشرعية، وظل وجودها احتلالاً واغتصاباً وغزواً، لم تغير السنين وضعها رغم استمرار العجز في الأمة عن مواجهتها، فلماذا لا يستمر الحال اليوم على ما هو عليه بلا اعتراف وتظل صفة الاحتلال والاغتصاب عالقة بالمشروع الصهيوني حتى تبرز القيادة التاريخية وتقوم بدورها المرتقب؟ لماذا لا نتعامل مع القضية من الزاوية الحضارية التاريخية التي يعلم الصهاينة أنفسهم أنها محسومة لصالحنا؟ وترى الحركة أن الاعتراف بشرعية المحتل يؤلف بداية للتخلي عن الموقف التاريخي الذي يرفض الهزيمة.[37]
* إعلان الدولة الفلسطينية المستقلة
وانطلاقاً من هذا الموقف الرافض للاعتراف بشرعية الكيان الصهيوني، رفضت حركة الجهاد إعلان الاستقلال الفلسطيني وقيام الدولة المستقلة الذي أصدره المجلس الوطني الفلسطيني (1988)، ولم تر الحركة في هذا الإعلان سوى ’’حملة خداع وتمويه كبيرة’’، هدفها ’’تغطية الخطوة الكارثة بالاعتراف بالكيان الصهيوني أمام أعين شعبنا، ولكن ذلك لن يدوم طويلاً’’ لأن الجماهير ’’ستدرك شيئاً فشيئاً، بعد أن صمتت طبول المهرجان التاسع عشر (أي دورة المجلس الوطني)، أي هاوية انحدر إليها المشروع الوطني الفلسطيني’’.[38]
أما عن إمكان الحصول على هذه الدولة المستقلة على أرض الواقع فإن حركة الجهاد لا ترى ما يشير إلى اتجاه لدى الكيان الصهيوني لتقديم هذا التنازل، فموازين القوى راجحة لصالحه، واتجاهات الفكر داخله تدفعه للمزيد من التطرف وهذا ما أثبتت الانتخابات الأخيرة (1988)، وأما الولايات المتحدة فهي حليف لإسرائيل التي تمثل أداة المشروع الاستعماري الغربي في المنطقة، بالإضافة إلى انشغالها في الوقت الحاضر (1988) بترتيبات الرئاسة الجديدة، وأما الاتحاد السوفياتي فأصبح أكثر مرونة تجاه الوجود الصهيوني ويدعو إلى إنهاء الصراع بأي شكل يمثل الحد الأدنى، ونتيجة لكل ذلك فإن ’’العطاء المرتقب’’ من الكيان الصهيوني سيكون محدوداً، وستكون الدولة الفلسطينية خارج موضوع البحث حتى لو ارتبطت كونفدرالياً مع الأردن لأن إسرائيل لن تقبل بإيجاد وضع قد يصبح لغماً ينفجر ولو بعد حين (ثبتت صحة هذا التحليل بعدم قيام الدولة الفلسطينية رغم كثرة الوعود الأمريكية منذ ذلك الوقت إلى يومنا هذا في سنة 2013)، ولو تزايد الضغط عليها فقد تلجأ للحرب، وترى حركة الجهاد أن ما تقوم به الأوساط العربية والدولية من دفع منظمة التحرير لمواصلة التحرك في مشروع الدولة لا يهدف إلا إلى القضاء على نهضة الشعب الفلسطيني وتمزيق نضاله.[39]
وتعتقد حركة الجهاد أن هذه الدولة لو قامت فعلاً فستؤدي إلى مجموعة من الكوارث: التخلي عن معظم فلسطين، تمزيق الساحة الفلسطينية بين مؤيد ومعارض لهذه الخطوة الخطيرة، وبذلك ’’ستنتقل المعركة من معركة ضد العدو إلى معركة على الساحة الفلسطينية نفسها’’ (وقد وقعت هذه الكوارث فعلاً حتى دون قيام الدولة)، رفع حدة التوتر في بلاد الشام وخاصة مع الأردن وذلك لوجود الظروف المعقدة المحيطة بالبلدين، وتؤكد الحركة أن هذه الدولة لن تكون لكل الشعب الفلسطيني لأنها لن تتمكن من استيعابه، كما أنها لن تكون قادرة على الصمود إلا بالخضوع والتبعية للقوى الكبرى ’’بل وللصغرى أيضاً’’، أما الكارثة الكبرى فهي أن هذه الدولة ستكون جسراً للتوسع الصهيوني، حضارياً واقتصادياً، في العالم الإسلامي كله، فإذا كان الفلسطينيون قد ركعوا، فمن سيصمد بعدهم؟
* حل القضية الفلسطينية
ترى حركة الجهاد الإسلامي أنه من العبث أن يستند المشروع الوطني الفلسطيني إلى موازين القوى المحلية والدولية للوصول إلى إحقاق الحق، أو بعض الحق، لأن القوى الدولية ليست مستعدة للتخلي عن مشروعها الصهيوني الذي أقامته لضمان استمرار التجزئة والتبعية، أما القوى المحلية في المنطقة فليست قادرة على تحقيق شيء، لأن وجودها - بانقسامها وتبعيتها- كان شرطاً لقيام الكيان الصهيوني، فكيف يمكن أن تتحول ضده؟
وتعتقد الحركة أن التنازل عن معظم فلسطين مقابل القبول بالعيش في جزء منها في ظل الهيمنة الاستعمارية، مساومة خاسرة، لأن وضع التجزئة الذي نعيشه وضع طارئ على تاريخنا، فلماذا نقبل به مقابل التخلي عن فلسطين؟
ولا تقبل حركة الجهاد بأقل من كل فلسطين، من نهر الأردن إلى البحر المتوسط، لأن تحريرها واستقلالها يعني تدمير المشروع الصهيوني، وتزيد على ذلك بالمطالبة بجعلها إسلامية لضمان الاستقلال عن مشروع الهيمنة الغربية، وضمان التحرك نحو الوحدة أيضاً.
أما إذا سارت الرياح بغير ما تشتهي السفن، ووجدت الحركة نفسها أمام الاعتراف بالكيان الصهيوني، ودويلة فلسطينية، فستعد أن شيئاً لم يتغير وأن باب الصراع ضد الكيان الدخيل ما زال مفتوحاً، عسكرياً وسياسياً وثقافياً، إلى أن يتم قذفه في البحر المتوسط، وستظل الحركة ترفع لواء الجهاد مهما كان حجم العقبات التي ستعترض سبيلها حينئذ، وستطرح نظام الإسلام في الكيان الفلسطيني لضمان استمرار الصراع ضد العدو.
هذا ما ستفعله الحركة في حال تطبيق التسوية السلمية، أما قبل ذلك فللحركة دعوة مرحلية، وهدف استراتيجي، أما الدعوة المرحلية فهي مناسبة لظروف المنطقة العربية والإسلامية العاجزة عن التحرك الشامل، وتتلخص في ’’حشد منظم وجاد وحقيقي لكل القوى السياسية ولكل قوى وقواعد شعبنا على كل المستويات لمواصلة الصراع ضد العدو الصهيوني حتى النهاية ودحره عن أرضنا شبراً شبراً وقرية قرية، ومدينة مدينة حتى ساحل المتوسط’’، ولا تفاوض ’’إلا إذا تقدم العدو للتفاوض على تفكيك مشروعه والرحيل إلى الأبد من بلادنا’’، أما المشروع الاستراتيجي للحركة فهو أن يستمر شعبنا ومجاهدونا في مواجهة العدو سياسياً وعسكرياً وبكل الوسائل حتى تتفجر طاقات الأمة نحو النهضة والوحدة والاستقلال تحت راية الإسلام العظيم، وتحشد طاقات أمتنا أو حتى جزء منها نحو المعركة الفاصلة في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس’’.[40]
* منظمة التحرير الفلسطينية
تحرص حركة الجهاد على تنفيذ أهدافها أكثر من تفجير الخلافات مع الأطراف التي لا تتفق معها، ورغم الخلافات العميقة التي تفصل بينها وبين منظمة التحرير الفلسطينية، فإنها تؤثر أن تلتزم بمواقفها بهدوء دون تفجير صراعات جانبية، فعلى سبيل المثال قدمت الحركة إلى رئيس منظمة التحرير الفلسطينية الزعيم الراحل ياسر عرفات بياناً أثناء انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني التاسع عشر في الجزائر اعترضت فيه على مسيرة التسوية السياسية ’’ثم انصرفت بعد ذلك لتواصل دورها الذي قامت من أجله’’،[41] وتؤكد الحركة أنه حتى لو وافقت المنظمة على الاعتراف بالكيان الصهيوني واكتفت بإقامة دويلة فلسطينية على جزء من أرض فلسطين، فإن الحركة ستواصل جهادها ضد إسرائيل ’’مع التأكيد على أن معركتنا هي مع العدو الصهيوني ومشروعه ولن تكون يوماً مع أي جزء من أجزاء شعبنا أو أمتنا’’،[42] ولكن الظروف وضعت الحركة بعد ذلك ضد فصائل فلسطينية اختارت التنسيق مع العدو الصهيوني والدفاع عن أمنه بحجج مختلفة وإن كانت متهاوية، وأصبح تجنب الصدام مع هؤلاء يعني عدم الدفاع عن النفس وعن مشروع المقاومة ضد الإجراءات التي ستنتهي بمجاهدي الحركة في يد الصهاينة أو الموت، ومن ثم نهاية المقاومة كما يريد مشروع التسوية وأنصاره الفلسطينيون.
* حركة الجهاد الإسلامي والطائفية
ترى حركة الجهاد أن حضارة الإسلام ليست حضارة إحراق الآخرين، وإنما هي حضارة قانونية تعترف بالتعدد البشري العقائدي وتتعايش معه وتقنن له، وعلى هذا الأساس تنظر إلى المسيحيين الفلسطينيين بصفتهم ’’شركاء وطن وتاريخ وحضارة ومعركة واحدة ضد المشروع الغربي الصهيوني’’، وترفض محاولات إثارة النعرات الطائفية ’’اليوم وغداً وفي كل وقت’’،[43] وقد اعترفت بمشاركة المسيحيين في الانتفاضة مثل مشاركات بقية فئات الشعب الفلسطيني ولا تحاول طمس هذا الدور أو التعتيم عليه، وبالإضافة إلى ذلك لا تثير الحركة قضايا الخلافات المذهبية بين المسلمين ولا توزع تهم الكفر والزندقة هنا وهناك ولا تدين أصحاب المذاهب الأخرى.
* تعقيب على موقف حركة الجهاد من النموذج الإيراني
كانت حركة الجهاد من الذين تحمسوا بشدة للثورة الإسلامية في إيران، وألف مؤسسها الشهيد فتحي الشقاقي في هذا الموضوع كتابه الشهير ’’الخميني: الحل الإسلامي والبديل’’، كما كتب أن ’’الإمام الخميني ثورة احتضنت فلسطين’’، ورأت الحركة في النموذج الإيراني بديلاً جامعاً يصلح لقيادة الأمة نحو آمالها العريضة في كسر القطبية الأمريكية وتأسيس شرق إسلامي تكون فيه إيران قوة عظمى بديلة،[44] ومازال هذا الحماس مستمراً إلى اليوم وهو أمر جر على الحركة تهماً بالتشيع وحمل الأفكار الغريبة وغير ذلك من اتهامات لم تخل من الطائفية، والنقد الآتي ليس بأي حال من الأحوال انتقاصاً من بطولات الحركة وتضحياتها بل هو من باب التناصح ليس إلا، كما أن نقد النموذج الإيراني لا ينطلق من حزازات مذهبية وليس دعوة للتخندق القومي ولا للحشد الطائفي الذي تتلاعب بواسطته الولايات المتحدة ببلادنا، وكما لا نستطيع أن نلوم العرب على ممارسات أنظمة عربية كثيرة، أو إلزام أهل السنة بممارسات أنظمة تحاول استخدام الألوية الدينية، أو محاسبة جميع المدارس السلفية اليوم بالنموذج السعودي الذي تعارضه كثير منها، فكذلك لا نستطيع مطابقة السياسة الإيرانية بالتشيع، إنما هي سياسات يطبقها بشر غير معصومين وتخضع للتصويب أو التخطئة حسب اجتهاد الباحث لاسيما إذا كان همه مصلحة جميع المسلمين وليس مصلحة أية فئة على حساب أخرى ولا يقبل في نفس الوقت الوقوف مع أية سياسة استعمارية ضد أمته.
ليس المهم هو الاختيار العقائدي الذاتي لحركة الجهاد بقدر أهمية فاعلية الخيار الإيراني الذي اختارته للأمة والذي يحكم واقعه منطق التجزئة الذي فُرض على الأمة الإسلامية والذي فرّق ما سماه التشبيه النبوي البليغ الجسد الإسلامي الواحد، ذا المصلحة الواحدة والشعور الواحد، فجعلته التجزئة الاستعمارية عدة أجساد لها مصالح متفرقة: كيانات متنابذة تفصل مصالح الأخ عن مصالح أخيه وتضع الشقيق في مواجهة شقيقه، وأصبح على أي خيار وحدوي جامع أن ينتهج سياسة لم تتفق حتى الآن مع أية سياسة انتهجها أي كيان دعا إلى الوحدة نظرياً، وبعدما كانت المصلحة واحدة في الكيان العثماني الكبير والموحد، مهما تباعدت المسافات بين الأجزاء، والخليفة في اسطنبول يدافع عن مسئوليته المباشرة على أرض فلسطين البعيدة لحمايتها من الأطماع الصهيونية، وعن أرض مصر لحمايتها من الاحتلال البريطاني، ويصر على هذه المسئولية عن أراض أبعد في أعماق إفريقيا في مواجهة أطماع أوروبا، أصبحت المصالح متضاربة في عهد الأجساد المتعددة حتى بين الأقرباء المباشرين كالمصري والفلسطيني، وأصبح ’’الاستقلال’’ يعني نفي مسئولية أحدهما عن الآخر، فما وراء الحدود ليس لي ولا أهمية له، ومن لا يحمل الجنسية الوطنية مطرود من رحمتي حتى لو كان أصله عندي، بل لعله أصبح عدواً، فانقسمت المدينة الواحدة إلى شطرين، وتشتت الإخوة، وتباعدت العائلة، وصار المصري يرى أن الفلسطيني يهدد معيشته وأمنه القومي، والفلسطيني يرى أن المصري يحاصره ويخنقه، وفي الحقيقة أن هذه إملاءات الدول الكبرى التي بيدها خبز وسلاح كياناتنا العاجزة والتي أصبحت الخيانة جزءاً من صلب بنيتها، وليست من المصلحة الحقيقية لأي من أفراد الشعب الواحد على طرفي الحدود واللذين تحكمهما حتمية الجوار الجغرافي.
ومن المنطقي أن ينطبق التنافر على وضع دولة أبعد من ذلك أي سياسة الجمهورية الإيرانية تجاه ما تراه حركة الجهاد قضية مركزية للمسلمين وهي قضية فلسطين، إذ حكم منطق التجزئة هذه السياسة وفرض على إيران أن تحصر منافعها في ’’أن تصبح قوة إقليمية بلا منازع’’[45] وأن يكون هذا الطموح هو سر تناقضها مع الكيان الصهيوني المنافس على نفس الهدف، ولهذا ظهر التنافر بين البلدين منذ زمن الشاه،[46] أي أن هذا الطموح أقوى من الحرص على حقوق المسلمين والفلسطينيين[47] الذين هم بمنطق التقسيمات السياسية والقومية السائدة خارج دائرة مسئولياتها رغم الأحاديث المنمقة،[48] وهذا هو الذي يفسر شعور إيران في مرحلة، زمن خاتمي، أن فلسطين البعيدة عبء عليها وليست من مسئوليتها لأن القرار وطني وليس دينياً، أي أن القضية لا ’’تخصنا’’ بقدر ما ’’تخصهم’’، وليس من الحكمة المزايدة على آراء الفلسطينيين أنفسهم،[49] وأن عملية التسوية لا تتعارض مع المصالح الإيرانية،[50] بل منذ البداية أجرت إيران اتصالات بالغرب والكيان الصهيوني[51] تتنافى مع منطق تحرير فلسطين الذي نادت الثورة به واتبعت سياسات تخالف نفس المنطق لاسيما رفض وقف الحرب العراقية الإيرانية سنة 1982 حينما عرض الرئيس العراقي الراحل صدام حسين على إيران وقف الحرب والسماح للجيش الإيراني بعبور العراق للتصدي معاً للغزو الصهيوني للبنان، وهو عرض لا يمكن تبرير رفضه، لاسيما بعدما عرض العراق دفع تعويضات عن خسائر الحرب لإيران،[52] ومهما حاولنا شيطنة صاحب العرض فإن صده كان كارثة على الجميع، لاسيما لمن يتبنى مركزية القضية الفلسطينية، ويعلق أحد المراقبين الأمريكيين البارزين على ذلك بالقول إنه ’’من دواعي السخرية أن إيران حققت من خلال الحرب أهداف إسرائيل كدولة محيطة عبر شل قدرة العراق، وتحييد الجبهة الشرقية’’،[53] وقد أدى موقف الرئيس صدام هذا إلى أن يضمره الصهاينة في نفوسهم إلى حين قيامهم عندما سنحت الفرصة بالتأليب عليه حين فتح اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة ’’إيباك’’ ملفاته وأصبح هدفاً للحملات الإعلامية التحريضية الصهيونية والغربية قبل قضية الكويت بزمن.[54]
ولم تنفع كل محاولات الرئيس العراقي بعد اندلاع أزمة الخليج (1990) للتقرب من إيران بإيفاد مبعوثين رفيعي المستوى (نائب رئيس مجلس قيادة الثورة آنذاك السيد عزة إبراهيم الدوري ونائب رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية السيد طارق عزيز) لطهران وتقديم تنازلات سخية لها لتوحيد الجهود ضد الهجمة الغربية[55] وقام الرئيس هاشمي رافسنجاني بتأليب الجماهير المحتشدة في صلاة الجمعة (25-1-1991) على العراق من منطلق قومي فارسي، وذلك بعد اندلاع الحرب وأثناء مجزرة القصف إذ قال إن مساعدة العراق تعني تحول الخليج الفارسي إلى خليج عربي، وسأل الحضور مستنكراً: ’’أليس هذا انتحاراً في نظركم؟’’(!!)،[56] وقد تكون هذه الخطبة رداً على توجهات إيرانية قوية ولكنها غير رسمية مع الأسف طالب فيها أصحابها بحماس آنذاك بمساندة العراق ضد الشيطان الأكبر الذي طالما بنت الثورة شرعيتها على معاداته، ولكن القيادة المتنفذة رفضت ذلك بوضوح، وفضلت موقف ’’الحياد الإيجابي’’ الذي وصفه مراقب أمريكي بأنه ’’كان مؤيداً من حيث الجوهر للسياسة الموالية لأميركا’’ وينقل عن نائب وزير الخارجية الإيراني في زمن العدوان على العراق قوله إن سياسة الحياد كانت في الواقع ’’سياسة معادية للعراق’’، وقد أدت تصرفات إيران، ومنها رفض المناشدات العراقية للحصول على الدعم الإيراني بل السماح لسلاح الجو الأمريكي باستخدام الأجواء الإيرانية، إلى الحصول على ثناء وزير الخارجية الأمريكي آنذاك جيمس بيكر[57] ووزير الدفاع الأمريكي ريتشارد تشيني الذي عد إيران من ضمن دول التحالف ويجب أن تبقى كذلك.[58]
واستمرت السياسة المعادية للعراق برفض إعادة أكثر من مائة طائرة من طائراته الحربية والمدنية التي ائتمن إيران عليها بموجب اتفاق شرف لإنقاذها من قصف المعتدين في الحرب،[59] وذلك رغم الأحاديث الصارمة لأئمة أهل البيت عليهم السلام عن ضرورة أداء الأمانة مهما كان المؤتمِن شريراً، كما جاء عن الإمام علي بن الحسين (ع): ’’عليكم بأداء الأمانة، فوالذي بعث محمداً نبياً لو أن قاتل أبي الحسين بن علي ائتمنني على السيف الذي قتله به لأديته إليه’’، وقال حفيده الإمام جعفر الصادق (ع): ’’أد الأمانة ولو إلى قاتل الحسين بن علي’’، ’’اتقوا الله وعليكم بأداء الأمانة إلى من ائتمنكم، فلو أن قاتل أمير المؤمنين (علي بن أبي طالب) ائتمنني على أمانة لأديتها إليه’’،[60] كل هذا يؤكد بُعد الدوافع السياسية في المواقف الإيرانية - التي حرصت على الانتقام من العراق آنذاك- عن الأحكام الإسلامية التي استندت شرعية الثورة الإسلامية إلى المناداة بتطبيقها والتي كان تطبيقها عملياً كفيلاً بترطيب الأجواء بين الطرفين اللذين يفترض معاداتهما للمشروع الأمريكي بدلاً من استفراده بكل منهما على حدة، ولم تتمكن إيران بعد ذلك من إقامة نظام معاد للمشروع الأمريكي حتى عندما سيطرت على مجريات الأمور في العراق في ظل الاحتلال الأمريكي وكانت الخسارة من نصيب أمتنا.
هذا بالإضافة إلى الاتصالات الإيرانية التي أسفرت عن التزود بالأسلحة الأمريكية عبر الكيان الصهيوني مقابل إطلاق الرهائن فيما اختصر بفضيحة إيران- كونترا أو إيران- غيت (1985) وهي حوادث لم تكن فريدة ولا يمكن إنكارها بعدما تم توثيقها بدقة[61] وتدل على أن معارضة الغرب، والجهاد ضده كان سياسة نفعية (براغماتية) لجذب الغرب إلى طاولة المفاوضات للحصول على منافع سياسية إقليمية منه وذلك حين تصبح إيران ’’أكثر قدرة على إفساد الأمور’’ التي يرتبها الغربيون ومن هذا الموقع تعرض المغريات الاقتصادية على الغرب وهو ما يعكس ’’تشوق طهران لتحسين علاقاتها مع الولايات المتحدة’’[62] وحرصها على عدم إفشال التقارب الأمريكي الإيراني،[63] ولم تكن المعارضة تستهدف تحطيم النفوذ الأمريكي وبناء النموذج الإسلامي الموحد والجامع، كما أن السياسة الإيرانية لم تكن مطابقة لخطابها الإعلامي حتى في زمن ’’التطرف’’ فضلاً عن الاعتدال،[64] وأن المصالح الاستراتيجية تفوقت على المصالح العقائدية،[65] وهذا هو على كل حال أقصى ما تمنحه إمكانات التجزئة وليس لمن يعمل وفق إطارها أن يخرج عن قيود محدودية إمكاناتها[66] واضطراره للمساومة وتقديم التنازلات للحصول على حاجاته التي لا يستطيع الاستقلال بإنتاجها، وهذا هو المنطق الذي جعل الكيان الصهيوني أقل خطراً على إيران من العراق من وجهة النظر الإيرانية،[67] وهو منطق يناقض مركزية القضية الفلسطينية وفق رؤية حركة الجهاد الإسلامي.
ويبدو أن هذا المنطق ظل هو السائد في السياسة الإيرانية وجعلها تقف موقفاً مسانداً للمشروع الأمريكي في كل من أفغانستان (2001) والعراق (2003) حيث شن الحكم العميل الذي جلبته الدبابة الأمريكية وأيدته إيران حرباً دموية على الوجود الفلسطيني،[68] وهي سياسة لا يمكن أن يقبل بها تنظيم فلسطيني وطني فضلاً عن صاحب مشروع نهضوي للأمة الإسلامية كلها ومقاوم للهيمنة الغربية برمتها حتى لو كان معادياً لنظامي الحكم في العراق وأفغانستان لأي سبب كان، لأن العداء الخارجي مقدم على الخلافات الداخلية كما تعلمنا من سيرة أهل البيت عليهم السلام لاسيما الإمام الحسين الذي قاتل الراية الأموية الظالمة داخل المجتمع الإسلامي دون طلب مساعدة خارجية رغم حرج موقفه البطولي، بل إنه لم يمانع أن يقاتل مع هذه الراية نفسها وتحت قيادتها ضد العدو الرومي الخارجي عند أسوار القسطنطينية، وكان ولده الإمام السجاد عليه السلام يلهج بالدعاء للجيوش الأموية عندما تقاتل أعداء الإسلام الخارجيين كما توثق ذلك الصحيفة السجادية، رغم أن هذه الجيوش هي التي قتلت أباه أيضاً.
وإن مسايرة إيران للسياسة الأمريكية ضد العراق وأفغانستان تذكر بطموحات الشاه في زمنه حين تطلع إلى أن يكون دولة ’’عظمى’’ في الظل الأمريكي في المنطقة بموافقة ودعم من الولايات المتحدة،[69] وليس كياناً مستقلاً عن الهيمنة الغربية، ولم تمكنه إمكاناته المحدودة إلا من البقاء معتمداً على الغرب في تكديس الأسلحة وعدم الاستقلال بصناعتها وإبقاء شعبه فقيراً معوزاً نتيجة الخلل في الإنفاق،[70] فلم يجن العظمة السياسية ولم يحقق الازدهار الاقتصادي، وقد استمرت السياسة الإيرانية في العهد الجمهوري تتطلع للقيام بهذا الدور القيادي في المنطقة والاعتراف بأهميتها ومنحها فرصة لرسم وتخطيط الأوضاع فيها[71] وإن بالاتفاق مع الولايات المتحدة كما تبين في الهجوم الأمريكي على أفغانستان حيث كانت المساعدة الإيرانية ’’حاسمة’’ في التمهيد للاحتلال الأمريكي بل والإنفاق عليه ومع ذلك لم يرد الأمريكيون إلا بالصد وتصنيف إيران ضمن محور الشر، ولم يأبهوا بالموقف الإيراني من بلادهم بل بالموقف من الكيان الصهيوني[72] الذي كانت إيران تنافسه على القبول الأمريكي،[73] ولذلك ’’لم تنقلب طهران على أمريكا في أفغانستان قط’’ رغم كل الجهود الصهيونية لعزلها وتصنيفها ضمن الأشرار،[74] ثم تعاون الإيرانيون مع أمريكا ضد العراق حيث كان الدور الإيراني ’’مفيداً جداً’’ رغم أن احتلال العراق أحكم الطوق الأمريكي حول إيران فاضطرت إلى وضع كل خطوطها الحمر، بما فيها علاقتها بحركة الجهاد الإسلامي ومقاطعة الكيان الصهيوني، على طاولة المفاوضات لتقابل برفض وعجرفة من الجانب الأمريكي الذي اغتر بقوته واعتقد أنه في موقع الإملاء لا التفاوض ليندم فيما بعد على إضاعة هذه الفرصة الهامة،[75] وعلى كل حال فإن كل هذا لا يتفق مع ما بشرت به حركة الجهاد الإسلامي، أي الاندفاع الثوري الذي يسعى لإزالة الهيمنة الأجنبية والاستقلال الكامل عنها ونزع سيادتها عن الأمة وإحلال سيادة المسلمين على بلادهم مكانها، وليس مجرد الطلب إلى الدول الكبرى أن تعترف بحضورنا وتشركنا في هيمنتها علينا.
كما لم تكن السياسة التي اتبعتها إيران في العراق بعد تمكن أتباعها من الحكم تدل على تحقيق برنامج الثورة الإسلامية لقيادة العالم الإسلامي[76] في تحقيق الوحدة والنهضة والقضاء على الانقسامات الطائفية والقومية والمذهبية والهيمنة الأجنبية، بل وجدنا تنسيقاً مع المحتل الأمريكي (أي الشيطان الأكبر) واقتساماً لغنائم الاحتلال وتفكيكاً للمشروع العلمي العراقي - الذي هو مكسب للأمة كلها- وصل حد اغتيال العشرات من الكوادر العسكرية الجوية (أكثر من 180 طياراً وفقاً لوثائق ويكيليكس)، هذا فضلاً عن التغلغل الصهيوني الذي لا ندري ما موقف حركة الجهاد الإسلامي منه، وهو الذي تمكن من اغتيال الكوادر العلمية في ظل حكم يتمسح بآل البيت، بالإضافة إلى إحياء نعرات دفينة لم تكن حتى في ظل الحكم القومي العربي، ومع ذلك كانت هذه المأساة العراقية أفضل وضع يمكن تصوره بالنسبة لإيران، وذلك وفقاً لمرجعية سياسية عليا[77] ووفقاً كذلك للانسجام السياسي الظاهر بين الحكمين في البلدين، بما يصور مصير المنضوين تحت حكم المشروع الإيراني وأنه لن يكون التمتع بثمار وحدة إسلامية تضم شتات الأمة وتعيد إليها عزتها وتحقق نهضتها، بل سيكون المصير هو الوقوع تحت احتلال أجنبي يستغل الموارد لذاته، ويفضل التعاون مع الأمريكي على التعاون عليه (وهذا ما يثبته المشهد الأفغاني أيضاً)، ولست أدري كيف يتفق ذلك مع رسالة الجمهورية الإسلامية وجيشها العقائدي في القيام بتحمل أعباء الجهاد في سبيل الله والنضال من أجل بسط حاكمية القانون الإلهي - وليس الحاكمية الأمريكية- في العالم، كما تؤكد على ذلك مقدمة الدستور الإيراني،[78] أو كيف يتفق ذلك مع ارتكاز السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية (وفقاً للدستور) على رفض كل أنواع الهيمنة والخضوع وعدم الانحياز لقوى التسلط والتوسع، والدفاع عن حقوق جميع المسلمين،[79] فهل حققت السياسة الإيرانية في كل من العراق وأفغانستان هذه الأهداف الدستورية فعلاً؟
وإن في المشهد العراقي الحالي لرد على حجة من يرى أن إيران تعرضت للنبذ العربي حينما تبنت في بداية ثورتها موقفاً إسلامياً أممياً يطمح لتصدير الثورة وإسقاط حكم العملاء فكان جزاء التصاقها بطموحات الشعوب أن تألبت عليها دول المنطقة وشنت عليها حرباً ضروساً، ولم تفلح سياستها الفلسطينية في حشد التأييد لها ضد الهجوم العراقي، ولم تستجب الشعوب العربية لنداءاتها، ومن ثم دفعها ذلك للبحث عن مصالحها الذاتية،[80] وأقول إن المشهد العراقي الحالي رد على هذا الادعاء لأننا رأينا أن مصير الوقوع تحت الحكم الإيراني في زمن رئيس ’’سائر على خط الإمام’’، أي ليس من المعتدلين السائرين على خطى الغرب، وبعد أن تحقق أمل إيران بإسقاط الرئيس العراقي صدام حسين، لم يكن مصيراً وردياً ومطابقاً لما بشرت به ’’ثورة المستضعفين’’ وهو لا يسير نحو الوحدة والنهضة ورفع الهيمنة كما حلمت الجماهير ابتداء، أي أن الجمهورية الإسلامية الكبرى التي كانت ستقلب موازين المنطقة[81] لم تتحقق وقام بدلاً منها نظام عميل وضعيف جاء به احتلال غاشم دمر به الجوانب الإيجابية للعراق السابق، كالصحة والتعليم والتصنيع والتكامل الإقليمي والاندماج المذهبي وتحدي الصهيونية واستقلال القرار، وفي نفس الوقت زاد من سلبيات الماضي، لاسيما الاستبداد والدموية، وأتى بسلبيات جديدة لم تكن معروفة أشهرها الطائفية المقيتة، فهل تحلم حركة الجهاد بالمصير العراقي للمسلمين أو حتى للفلسطينيين الذين ذاقوا الأمرّين منه؟
ولهذا كان رهان الصهاينة على منطق التجزئة الذي جعل المصلحة الإيرانية مناقضة للمصالح العربية ويمكن أن يوحد الصهاينة والإيرانيين ضد المحيط العربي الخطر على الطرفين كما يزعمون،[82] وهو منطق اعتنقه شاه إيران زمناً ولم تتحرر من قيوده الثورة الإسلامية أو القيادة المتنفذة فيها بعد نجاحها رغم وجود تيارات قوية حاولت نبذ هذا المنطق واتباع سياسة إسلامية جامعة، ولكن الرهان الصهيوني كان دائماً بعيد المدى ومتجهاً نحو الجناح الإصلاحي ومتطلعاً لتجاوز العقدة الخمينية التي لم ير الصهاينة أنها عقبة أبدية،[83] وظلت السياسة الإيرانية تنويعاً ’’إسلامياً’’ على اللحن الذي عزفه الشاه فيما سبق فيما يتعلق بالطموحات الإقليمية[84] التي جنحت نحو المبالغة أحياناً، تحفزها إمكانات إيران الواسعة، فتطلعت نحو القيام بدور يتجاوز ’’الشرق الأوسط’’ إلى المحيط الهندي في عهد الشاه ثم إلى قيادة العالم الإسلامي كله في بداية الثورة ولكن ما لبثت طهران أن خفضت مستوى الطموح لتحصره في منطقة الخليج وبحر قزوين[85] وقبلت بتحجيم نفسها وفق مصالح الدول الكبرى ولم تعد تتطلع لإيجاد بديل إسلامي حقيقي للهيمنة الغربية كما أثبتت الوقائع في أفغانستان والعراق.
* فشل النموذج الأفغاني الذي عارضت به حركة حماس النموذج الإيراني لحركة الجهاد
وإذا كان النموذج الإيراني قاصراً عن أداء الدور الذي يؤمل منه قيادة نهضة إسلامية كبرى فإن النموذج الأفغاني الذي طرحته حركة حماس في مواجهة الرأي الإيراني لحركة الجهاد[86] قد فشل أيضاً، ويبدو أن هذا الطرح لم يكن إلا من باب المعارضة إذ أثبتت الأيام عدم فاعليته أيضاً بعدما استند الجهاد الأفغاني ضد السوفييت إلى الدعم الأمريكي ودعم الأنظمة العربية الرجعية التي لم تكن نهضة المسلمين من اهتماماتها ثم دخلت أفغانستان بعد انسحاب السوفييت في أتون حرب أهلية طاحنة أشعلها قادة الجهاد السابق سنوات طويلة في سبيل الصراع على الحكم لتدخل البلاد بعدها بقليل في محنة الاحتلال الأمريكي.
وخلاصة الأمر أن النموذج الحضاري الإسلامي الجامع لم يتحقق حتى الآن منذ سقوط الخلافة العثمانية ومازالت الأنظمة منذ ذلك الوقت أسيرة الأطر القومية والوطنية مما يمنعها من قيادة التحدي الإسلامي للهيمنة الغربية وهو ما أكدته الأيام.
۞ ج- الاتجاه الإسلامي داخل المجلس الوطني الفلسطيني
(معظم معلومات هذا الفصل الخاصة بالتيار الإسلامي داخل المجلس الوطني الفلسطيني، وليس آراء الكاتب الشخصية كالتعقيب، تستند إلى تصريحات أدلى بها أحد رموز هذا التيار وهو الأستاذ جمال عايش، وكان ذلك في لقاء تم في يوم الأربعاء22-2-1989 في مدينة الكويت حيث كان يقيم).
في عام 1987 قُبل عناصر من الحزب الشيوعي الفلسطيني لدخول المجلس الوطني الفلسطيني، ومن أجل إيجاد التوازن اتصلت منظمة التحرير الفلسطينية بالإخوان المسلمين، قبل ظهور حركة حماس، لدخول المجلس الوطني، ولكن الإخوان رفضوا الاستجابة، فطلب إليهم ترشيح أشخاص قريبين منهم، فلم يرشحوا أحداً بطريقة مباشرة، وأشاروا من طرف خفي إلى بعض العناصر، وبحثت المنظمة بدورها عن عناصر لها توجه إسلامي وماض وطني نضالي، وأسفرت عملية البحث عن توجيه الدعوة إلى ثلاثة هم: جمال عايش وعبد الرحمن الحوراني وعبد الله أبو عزة، لدخول المجلس الوطني، وعين الحوراني وأبو عزة في المجلس المركزي، ولم يطل المقام بأحدهما وهو عبد الله أبو عزة، الذي ما إن أحس أن الأجواء العامة تتجه نحو الاعتراف بالكيان الصهيوني حتى آثر الابتعاد وعدم المشاركة في إقرار ذلك، فأصبح التيار الإسلامي مقتصراً على عنصرين انضم إليهما أحد العناصر القديمة في المجلس فعاد التيار ممثلاً بثلاثة أعضاء.
والإسلاميون في المجلس الوطني لم يدخلوه آنذاك ممثلين لفصائل إسلامية بل دخلوا بصفتهم إسلاميين فقط، وبعضهم كان داخل المجلس منذ فترة طويلة وكان لهم علاقات بالإخوان المسلمين ثم ابتعدوا عنهم لسبب أو لآخر، وبعضهم انتظم في حركة فتح وظل على خلفيته الإسلامية، وهناك من التزم بفتح وبالتصويت إلى جانبها رغم قناعته بعكس ما يصوت له اعتقاداً منه أنه يستطيع بواسطة فتح أن يقدم خدمات للفكرة الإسلامية والتيار الإسلامي وأن اعتراضه قد يؤدي إلى فصله ومن ثم ابتعاده عن مجال التأثير والفعل.
ويمكن القول إنه كان هناك في ذلك الزمن (1989) اثنان من هذا التيار يمثلان حركة حماس، وإن لم يكن ذلك بشكل رسمي، (وقد أكد ذلك العضو الراحل في المجلس الوطني الفلسطيني عن الجبهة الديمقراطية والقيادي الفلسطيني ثم مستشار الرئيس الراحل عرفات، ممدوح نوفل في كتابه البحث عن الدولة “صدر سنة 2000” حين ذكر مخاطبة أبي عمار في اجتماع المجلس لعبد الرحمن الحوراني بصفته ممثلاً لحركة حماس)،[87] أما الثالث فكان مستقلاً، وهم لا يكوّنون تياراً له وزن عند التصويت، ولكن صوتهم كان مسموعاً ويمكن أن يلتقي عليه بعض المستقلين وبعض العناصر من التنظيمات الأخرى في بعض القضايا التي تتعلق بموضوع الاعتراف بالكيان الصهيوني أو بالتنازل عن أي جزء من أرض فلسطين، ويوجد كذلك أعضاء من حركة فتح يؤمنون بطرح الإسلاميين ويعملون حسب قناعاتهم وربما امتنعوا عن التصويت في القضايا الحساسة كما حدث في عملية التصويت على قبول القرار 242 في دورة الجزائر (1988) حيث امتنع عدد من كوادر فتح وقيادييها عن التصويت.
* علاقة التيار الإسلامي بالمنظمات الفلسطينية داخل المجلس الوطني
كانت التيارات ’’اليسارية’’ تنسق مع الإسلاميين فيما يتعلق ببعض القضايا، مثل قضية القبول بالقرار 242، ولكن هذه التيارات لا تعترض على المؤتمر الدولي ومبدأ المفاوضات في حين يعترض الإسلاميون عليها بصفتها ستؤدي في النهاية إلى الاعتراف بالكيان الصهيوني.
* علاقة التيار الإسلامي بالمنظمات الفلسطينية خارج المجلس الوطني
رأى أحد رموز هذا التيار الإسلامي إن المنظمات الفلسطينية خارج المجلس الوطني كانت آنذاك تنضوي تحت لواء هيمنة دول إقليمية ومحكومة لقرارها، ومهما كان لدى هذه المنظمات من عناصر وطنية فإن ثقلها في الأرض المحتلة لا يكاد يذكر، كما أن فاعليتها في لبنان ضد العدو الصهيوني ضعيفة، وقوتها في الهجوم على المخيمات تستمدها من دعم إقليمي، وما دامت قد ارتضت لأنفسها أن تكون أداة في يد غيرها لضرب إخوتها الفلسطينيين، فإن موقف التيار الإسلامي رافض لتصرفاتها، ويرى أنه كان من الأجدر بهذه المنظمات توجيه بنادقها إلى العدو الصهيوني وهذا ما لم يحدث، لأنها كما يقول لم تنشأ لذلك أو لأنها عاجزة عن القيام بما لا يريده القرار الإقليمي.
(للتذكير فقط أن هذا الكلام قيل سنة 1989 وينطبق على فترة تميزت بالخلاف بين قيادات فلسطينية والقيادة السورية في ذلك الوقت وربما تغيرت كثير من الظروف منذئذ).
* إعلان قيام الدولة الفلسطينية المستقلة
لم يعترض التيار الإسلامي داخل المجلس الوطني على قيام دولة فلسطينية مستقلة من حيث المبدأ، أما الدولة التي تريدها الولايات المتحدة بواسطة انعقاد المؤتمر الدولي فهي لتكريس وجود الكيان الإسرائيلي على ثلاثة أرباع فلسطين، وهذا مرفوض، ويعمل التيار الإسلامي على ألا يقع ذلك، ولكن إذا حدث ذلك رغماً عنه وتحققت الدولة بشروط المؤتمر الدولي، فسيعدها الإسلاميون مرحلة في طريق التحرير الشامل، ومثلما تجاوز الصهاينة قرارات الأمم المتحدة، يمكن للإسلاميين أن يقهروا المؤامرات الدولية، ويمكن للشعب الفلسطيني أن يخترق الضمانات الدولية التي سيضعها المؤتمر الدولي لحماية وجود الكيان الصهيوني، ورأى أحد رموز التيار الإسلامي أن الضمانات الدولية ليست حاجزاً في وجه إرادة الشعوب، فلو كان الشعب الألماني مثلاً (زمن انقسام ألمانيا) يريد الوحدة فعلاً بين شطري وطنه لحققها ولما تمكنت الإرادة الدولية التي تفرض عليه التقسيم من الوقوف في وجه إرادة الوحدة، والشعب الفلسطيني في رأيه لا يمكن أن يقبل طائعاً تجزئة وطنه والقبول بجزء منه، كما أن الحركة الإسلامية التي تتحرك الآن (1989) لتسلم زمام المبادرة، ليس على أرض فلسطين وحدها بل في كثير من البلاد العربية والإسلامية أيضاً، ملتزمة بالإسلام نصاً وروحاً ومن ثم فإن إمكانات عودة الإسلام لواقع الحياة، كبيرة، وعند ذلك سيفرض المسلمون إرادتهم التي هي أمر الله لهم بالجهاد والتحرير.
* الحوار الفلسطيني الأمريكي
عندما فتحت الولايات المتحدة حواراً مع منظمة التحرير الفلسطينية بعد تلبية الشروط الأمريكية في دورة المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر (1988) بشأن الاعتراف بحق الكيان الصهيوني في الوجود ونبذ ’’الإرهاب’’ والاعتراف بقرار 242، رأى التيار الإسلامي في المجلس أن أمريكا تريد من هذا الحوار تطويع الفلسطينيين للاعتراف بالكيان الإسرائيلي وقبول سيادة الدولة اليهودية على المنطقة، أما الجانب الفلسطيني المتمثل في منظمة التحرير الفلسطينية فقد أدرك المتغيرات الدولية التي تجسدت في الوفاق الدولي والتراجع السوفييتي أمام الولايات المتحدة وتراجعه داخلياً وفكرياً وانفتاحه على العالم اقتصادياً وتخليه تدريجياً عن الماركسية اللينينية فيما يسمى بعملية إعادة البناء، وأدرك الجانب الفلسطيني كذلك أن الولايات المتحدة أصبحت صاحبة الأمر والنهي في المنطقة، فأراد أن يحصل بعد هذا الصراع الطويل ولو على بعض الحقوق بدلاً من فقدان الأمل بالحصول على كل شيء.
* الحلول السلمية والمؤتمر الدولي
عارض التيار الإسلامي داخل المجلس الوطني الحلول السلمية والمشاركة في المؤتمر الدولي، ولكنه رأى أنه سواء نجحت المساعي السلمية أو لم تنجح فهي في صالح القضية الفلسطينية، فنجاحها يجعلها مرحلة وخطوة نحو تحرير فلسطين كلها إذا اتجهت إرادة الشعب الفلسطيني لذلك، وإن لم تنجح فسيدرك الساعون خلفها عدم جدواها ويصبح موقفهم حرجاً مما سيعطي دفعة للخط الجهادي الإسلامي الذي سيكسب بذلك أنصاراً جدداً داخل الشعب الفلسطيني وداخل منظمة التحرير نفسها ومن جميع أنحاء العالم الإسلامي.
* طبيعة الصراع مع الكيان الصهيوني
اعتقد التيار الإسلامي، مثل بقية الاتجاهات الإسلامية خارج المجلس الوطني، أن صراعنا مع الكيان الصهيوني هو صراع عقيدة وليس صراعاً طبقياً، صراع حضاري وليس خلافاً سياسياً أو اقتصادياً، صراع وجود وليس نزاع حدود.
* الخلاف مع بقية الجماعات الإسلامية
اختلف التيار الإسلامي داخل المجلس الوطني مع الجماعات الإسلامية التي لا ترى جدوى من العمل مع منظمة التحرير الفلسطينية، سواء بصفة فردية مستقلة أو بصفة حركية رسمية، وقد رأى أحد رموز هذا التيار أنه يجب أن يكون للإسلاميين صوت مسموع حتى لو لم يتمكن هذا الصوت من إحداث تغييرات جذرية، وأخذ على التنظيمات الإسلامية أنها أسيرة النظريات والجهل بالعمل السياسي والعجز عن طرح أنفسها بصفتها بديلاً جهادياً على الساحة الفلسطينية، ولهذا ظل عملهم إما نظرياً أو متعثراً أو منشغلاً بالجزئيات والثانويات والخلافات المذهبية ومن ثم ظل تأثيرهم ضعيفاً (كان هذا الحديث في 1989 وقد تغيرت كثير من الأحوال منذ ذلك الوقت).
* إنجازات التيار الإسلامي داخل المجلس الوطني كما يقومها بنفسه
كما سبق الذكر، لم يكن للتيار الإسلامي داخل المجلس وزن كبير، لأن عدد أعضائه كان صغيراً بالنسبة لمجموع أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني، ولكنه تمكن من استغلال بعض المواقع داخل المجلس، مثل وجود أحد رموزه ضمن اللجنة السياسية التي صاغت البيان السياسي في الدورة التاسعة عشرة التي انعقدت في الجزائر (1988)، وقد تمكن هذا العضو، وهو الأستاذ جمال عايش، من تغيير صياغة بعض عبارات البيان بشكل اعتقد أنه يفتح الباب أمام الأجيال القادمة في مواصلة العمل لتحرير بقية فلسطين، بحيث لا يؤلف هذا البيان عقبة في وجهها.
كما حاول التيار الإسلامي أن يجمع حوله كل من يمكن أن يلتقي معه في بعض القضايا الحساسة لتكوين معارضة ذات وزن داخل المجلس الوطني كما حدث عند التصويت على الموافقة على القرار 242 في دورة الجزائر.
(وقد واصل أعضاء التيار الإسلامي فيما بعد اتفاقية أوسلو سباحتهم ضد التيار المتنفذ في منظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح ومن ذلك الاعتراض على إلغاء الميثاق الوطني الفلسطيني إذ شارك الأستاذ عبد الرحمن الحوراني في فعاليات المعارضة كمؤتمر دمشق في ديسمبر 1998، ووصف الأستاذ جمال عايش اجتماع المجلس الوطني الذي قام بمهمة إلغائه بأنه ’’مهرجان’’ وليس اجتماعاً لمجلس وطني، وأنكر عملية التغيير من أساسها، كما قام بتوجيه انتقادات شديدة أخرى أيضاً، وقد أصبح عضواً في المجلس المركزي لحركة فتح فضلاً عن عضويته في المجلس الوطني عن الحركة، عندما قال إن منظمة التحرير وحركة فتح ’’مخطوفتان’’ على يد تيار مدعوم إقليمياً ودولياً لاسيما من الولايات المتحدة والكيان الصهيوني بهدف الحصول على تنازلات عن الحقوق الفلسطينية وهو ما يعارضه تيار قوي حتى داخل فتح نفسها خلافاً للقيادة المتنفذة، وإن منظمتي الجهاد وحماس يجب أن تدخلا ضمن منظمة التحرير ويكون لهما صوت بدلاً من المنظمات المجهرية التي يعلو صوتها دون أن يكون لها وزن على الأرض ودون أن يكون لها شرعية المقاومة، كما أكد بأن حكومة اسماعيل هنية هي الشرعية وليست حكومة فياض في وقته، وذلك في أكثر من حديث مع قناة الجزيرة: 6-11-2007 و9-5-2008).
* تعقيب على رؤية التيار الإسلامي في المجلس الوطني لفعالية الإرادة الشعبية
أثبتت الأحداث منذ الحديث السابق أن تجاوز الإرادة الدولية السياسية يحتاج تحدياً ما زال بظهر الغيب وأكبر من الإمكانات المتوفرة، وحتى الوحدة الألمانية تحققت بعد انهيار الإرادة السوفييتية التي كانت قطباً في تقسيم ألمانيا ولم تخرج هذه العملية عن الإرادة السياسية الغربية، وعندما تحدت شعوب العالم قرار العدوان على العراق سنة 2003 لم تأبه الإرادة السياسية الأمريكية بذلك، كما أن التجارب التي حملت لواء الإسلام في كل من أفغانستان المجاهدين وإيران الثورة الإسلامية ثم في ثورات الربيع العربي أثبتت أن الإرادة الشعبية وحدها ليست كافية لتحدي القرارات الدولية كما أنها لم تبلور خياراً مجمعاً عليه داخلياً أو قيادات مسئولة لتواجه بهمة الشعوب تلك القرارات، ومثل هذه الحوادث يدل على أن التحدي المطلوب ما زال أكبر من إمكاناتنا المتفرقة والمتنابذة ولهذا يجب أن نلتفت جيداً إلى ما نمنحه من صكوك تمليك فلسطين اعتماداً على قوة الأجيال لإلغائها.
۞ د- حزب التحرير
تأسس حزب التحرير في سنة 1952، مؤسسه هو الشيخ تقي الدين النبهاني من أسرة علمية في قرية إجزم في قضاء حيفا، وكان من أشهر علمائها جده لأمه الشيخ يوسف النبهاني (1849- 1932) الذي عرف بتأييده الشديد للخلافة العثمانية، وقد ولد الشيخ تقي الدين سنة 1909 ودرس المرحلة الابتدائية في مدرسة القرية ثم التحق بالأزهر وحصل على شهادة العالمية، انتسب بعدها إلى دار العلوم وعاد بعد ذلك ليعمل مدرساً في فلسطين، ثم تدرج في سلك القضاء الشرعي ليصبح قاضياً شرعياً في محكمة بيسان ويتنقل بعدها بين عدة مدن فلسطينية حتى وقعت نكبة 1948، فاستقر بعدها في بيروت ليعين بعد ذلك عضواً في محكمة الاستئناف الشرعية في القدس، ثم استقال ليعمل في الكلية الإسلامية في عمّان.[88]
ولما أسس حزب التحرير استقال من عمله ليتفرغ لقيادة الحزب، وتنقل بين بلاد الشام حاملاً دعوته التي تركزت على وجوب استئناف الحياة الإسلامية بإقامة الدولة الإسلامية ومبايعة خليفة للمسلمين، وشرح أفكاره في كتب كثيرة منها: نظام الإسلام، التكتل الحزبي، الشخصية الإسلامية، نظام الحكم في الإسلام، النظام الاقتصادي في الإسلام، النظام الاجتماعي في الإسلام، مفاهيم حزب التحرير، الدولة الإسلامية، التفكير، سرعة البديهة، نظرات سياسية، مقدمة الدستور والأسباب الموجبة له.
وقد تميز فكر الحزب بالدقة الشديدة، وعلى عكس كثير من التنظيمات الإسلامية الأخرى، حدد الحزب بوضوح أهدافه والخطوات التي سيسلكها لتحقيق هذه الأهداف والمؤشرات التي سينتقل على أساسها من خطوة إلى أخرى، ولم يتبن الإسلام بشكل مفتوح، فإذا سئل عن النظام الذي سيحكم به دولة الخلافة التي ينوي إقامتها لا يكتفي بالإجابات العامة كالقول إن دستورنا القرآن أو أن الإسلام هو الحل، بل يعطي السائل دستوراً كاملاً تمت كتابته منذ البداية مع أدلة كل مادة من مواده، وهذا ما عرضه لانتقادات من الجماعات الإسلامية الأخرى التي اتهمته بالمركزية والحجر على الثقافة الإسلامية وتضييق سبلها، ولكنه لا يرى أن تبنيه أحكاماً معينة من الإسلام يلغي الآراء الإسلامية الأخرى في نفس المجالات، ويردد دائماً مقولة إن رأينا صواب قابل للخطأ ورأي غيرنا خطأ قابل للصواب، وذلك تبعاً للدليل، أما عدم التبني مطلقاً فإنه يوقع الحركات في هلامية فكرية وتخبط في الآراء.
وقد حاول الحزب الوصول إلى السلطة، بعد اجتيازه المراحل التمهيدية كما قومها، وذلك في عدة بلاد إسلامية استناداً إلى مفهوم طلب النصرة من مراكز القوى في هذه البلاد لاسيما من جيوشها، إذ يعتمد في ذلك على اقتناع أي طرف قوي في بلد مسلم بمنحه تأييده والقيام بانقلاب يطيح السلطة القائمة ويسلم الحكم للحزب، وهذا المفهوم تعرض لنقد من مفكرين إسلاميين رأوا خطأ عدم الاعتماد على القوة الذاتية للحركة في تحقيق أهدافها، وقد فشلت حتى الآن جميع محاولات الحزب لتسلم الحكم في بلاد عربية وإسلامية عديدة يشترط فيها أن تكون قواعد مناسبة لانطلاق الخلافة بإمكاناتها الذاتية وألا تكون إمكانات الدولة الأولى ضعيفة كدول الخليج الصغيرة مثلاً، وتركزت محاولاته في الأردن والعراق ومصر، وأكسبته عداء الحكومات في البلاد التي يعمل بها سواء في البلاد العربية أو دول وسط آسيا السوفييتية سابقاً أو تركيا، وكان موضع ملاحقة واعتقال في زمن كانت فيه حركات إسلامية أخرى تحظى بدعم السلطات الحاكمة.
* الشيخ النبهاني قبل تأسيس حزب التحرير: كتاب إنقاذ فلسطين[89]
كتب الشيخ النبهاني هذا الكتاب سنة 1949 ورسم فيه تصوره لقضية فلسطين وطريقة حلها، فنسب قيام الدولة اليهودية إلى الأطماع الأجنبية في الشرق العربي منذ نهاية القرن السابع عشر ثم إلى الأطماع البريطانية بعد جلاء محمد علي عن بلاد الشام سنة 1840 وسرد التطورات التي انتهت بقيام هذه الدولة سنة 1948 وكان هدف الاستعمار من ذلك ضرب الشرق العربي بشعوبه ودوله في بقعة مقدسة ومهمة اقتصادياً واستراتيجياً لتسهيل استعماره والقضاء على مقاومته وإشغال دوله كي لا تحقق استقلالها الكامل.
وقال إن الدول العربية آنذاك، لاسيما مصر والعراق، قادرة على القضاء على هذا الكيان في مهده وقبل استفحال أمره لأنه خطر على هذه الدول وكرامتها واستقلالها وحياتها وبقائها، وإذا لم تفعل وسمح لهذه الدولة الأوروبية بالبقاء في قلب العرب وطال عليها الوقت ’’ستكون لها أكبر قوة جوية في الشرق، وسيكون لها أسطول بحري في البحر الأبيض والبحر الأحمر، قد يسيطر على شواطئها بكاملها، وسيكون لها جيش ميكانيكي منظم، مزود بالعتاد والمعدات والمخترعات الجهنمية، وستفتح أبوابها باسم الهجرة اليهودية لمئات الألوف بل الملايين من الأوروبيين، الذين سيشتركون بهذه الدولة، لاستغلال ثروة الشرق العربي، ولإخماد أنفاس الدول العربية إذا حاولت أن تحول دون الاستعمار والمستعمرين، وستنصب فيها ملايين الدولارات والجنيهات لإقامة المصانع والمعامل..’’.[90]
وإن الواجب الأكبر في تلك المرحلة هو إنقاذ فلسطين بطريقين: طريق قصير المدى وآخر طويل المدى، أما الطريق القصير فتتولاه الحكومات العربية لتنقذ نفسها من هذا الخطر الذي لا يقتصر على فلسطين، وذلك بعدم السماح للقوى الدولية بالبت في شأنها، وإبقاء قضيتها معلقة واتخ