د. مخلص الصيادي
مدخل عام
كتاب هذا عنوانه لابد أن يكون لافتا، ولابد أن يدفع كل مهتم لمحاولة التعرف على محتوياته، مؤلف الكتاب ’’محمد بن المختار الشنقيطي، وضع له عنوانا توضيحيا ثانيا ’’رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ’’ ولعل هذا العنوان الإضافي يسلط الضوء على الخلاصة الرئيسة التي أراد الكاتب أن يثبتها من بحثه.
الكاتب من المهتمين بالفكر السياسي الإسلامي ثقافة وانجازا بحثيا معتمدا، وقد أنجز كتابه هذا في العاشر من رمضان عام 1424، وقدمه إلى الشيخ راشد الغنوشي الذي كتب له مقدمته في الخامس عشر من رمضان من ذات العام، لكن طبعته العربية الأولى التي صدرت عن دار الانتشار العربي اللبنانية صدرت في العام 2011، ووقعت بين يدي قبل أيام.
وصفحات الكتاب لا تتجاوز مع فهارسه 235 صفحة من القطع المتوسط، بطباعة مريحة تشجع على التناول، وحين وقع الكتاب في يدي لم أتركه إلا وقد انتهيت منه، ورأيتني متفقا مع الغنوشي في قوله إنه ’’كتاب جدير أن يقرأ وأن تعاد قراءته’’.
ولاشك أن البحث بطبيعته، والباحث بإسلوبه، وبتناوله للقضايا التي يعرضها يدفع القارئ إلى التمتع الفكري بما في الكتاب، والتشوق المتصاعد كلما تقدم في الاطلاع على موضوعاته، لكن ما هو أهم من ذلك كله، أن هذا الكتاب في هذه المرحلة بالذات، أي بعد عشر سنوات من إنجازه يبدو أنه يجيب على احتياجات راهنة، ويسلط الضوء على قضايا تفعل الآن فعلها في حياتنا الثقافية والسياسية بأكثر مما كان الوضع عليه حين أنجز.
مكونات الكتاب
الخلافات السياسية بين الصحابة يتضمن ثلاثة مباحث رئيسية لكل منها أهميته ومكانته في مجمل البحث:
1- مدخل عام: اختار له عنوان ’’التأصيل الشرعي والوعي التاريخي’’، وحين يتحقق الوعي التاريخي الإسلامي عنده، تتوفر ثلاثة حدود جوهرية فارقة، إذ يوضع حد فاصل بين الوحي والتاريخ، وبين المبادئ ووسائل تجسيدها التاريخية، وبين مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ، وتوكيدا على هذه الحدود يضرب الأمثلة عن جدلية المثل والمثال، وعن العبر المأخوذة في هذا الإطار من قصص الأنبياء في القرآن الكريم، ومن حياة الصحابة وبعض ما مروا به من أحداث.
2- المادة الرئيسية في البحث: وحين ينتقل إلى صلب البحث ليطل على الخلافات السياسية بين الصحابة ويرسم منهج التعامل مع هذه الخلافات وقراءتها وفهمها فإنه يجعل محور حديثه، واستشهاداته، وجدله مع ’’أهل الحديث’’ ومع رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية وخصوصا في كتابه منهاج السنة، ومن ثم في مجموع الفتاوى ليكشف لاحقا عن منهج هذا العَلم الإسلامي وقواعده في التعامل في هذه القضية على وجه التحديد ’’الخلافات السياسية بين الصحابة’’، وقد أعطى هذا المنهج وصف: منهج ’’العلم والعدل’’. وهو وصف اقتبسه من كتب ابن تيمية في منهاج السنة وفي غيره من مؤلفاته، إن كتاب ’’الخلافات السياسية بين الصحابة’’ هو في جوهرة استعراض لمنهج ’’العلم والعدل’’ عند ابن تيمية في تناوله لهذا الموضوع.
ومن هذا المنهج، أي من منهج ابن تيمية واستنادا إليه استخلص اثنتين وعشرين قاعدة عامة تضبط تناول موضع الخلافات السياسية بين الصحابة، وتغطي هذه القواعد وتضبط: الأحداث من وجهتي النظر التاريخية والشرعية، كما تضبط النظرة إلى الفاعلين فيها وهم الصحابة بما لهم من مكانة شرعية وتاريخية أيضا، كما أنها تنبه إلى الأخطاء الممكن أن يقع فيها الباحثون في تناول الحدث وفي الحكم على الفاعلين فيه.
وهو في عرضه هذا إذ يعلي شأن منهج العلم والعدل عند ابن تيمية، ويتوقف عند كل قاعدة بالشرح النظري والفقهي، وبالمثال التاريخي، فإنه يرى أن شيخ الاسلام في مواضع معينة، وفي أحداث محددة لم يلتزم هذا المنهج، فخرج عليه، لذلك ختم عرضه لهذه القواعد بملاحظاته على مقدار التزام شيخ الاسلام بمنهجه، ومستعرضا جانبا من البيئة السياسية والفكرية التي عاشها الشيخ، والتي كانت تضج بالصراعات المذهبية، ويرى أنها ساهمت في جعل بعض ما تناوله من أحداث تتسم بالحدة والتجاوز على منهج العلم والعدل، وضرب لذلك أمثلة.
3- مدرسة التشيع السني: وعلى قاعدة ’’بضدها تتمايز الأشياء’’ عرج الباحث في القسم الثالث على مدرسة في التعاطي مع الخلافات السياسية بين الصحابة يعتبرها النقيض لمدرسة ابن تيمية القائمة على منهج ’’العلم والعدل’’ وهي مدرسة أطلق عليها اسم ’’مدرسة التشيع السني’’ ورأس هذه المدرسة، القاضي أبو بكر ابن العربي ’’486 – 543’’ هجري، وكتابه العواصم من القواصم في تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وله في عصرنا الراهن اتباع كثر.
وقد عرض لهذا المنهج، وما عليه من مآخذ، وكيف أنه في تناوله لمسألة الخلافات لم يلتفت كثيرا الى ثوابت الأحداث التي أكدتها كتب صحاح الحديث، كما أكدتها كتب التاريخ، وذهب إلى منهج التبرير والإعراض عن كل ما ورد بشأن موقف الصحابة في هذه الخلافات اعتقادا منه أنه بذلك ينزه الصحابة ويحفظ لهم مكانتهم في الدين، وبهاءهم كأمثلة ونماذج تقتدي الأمة بها، ويدفع عن الإسلام حملات التشوية التي جعلت من تناول هذا الموضوع مدخلا للطعن في الإسلام ورجالاته.
لكن هذا المنهج بوجود تلك الوقائع الثابتة، لم يفد الأمة في شيء، ولم يقدم خيرا لواقع المسلمين، ولا لفقه تاريخهم، وأضفى صفات من التنزيه على الصحابة تأخذ منهم ولا تضيف اليهم.
مطالعة نقدية
الكتاب بكل الاعتبارات عمل شديد الفائدة، خصوصا في هذه المرحلة، جوهره ومبتغاه أن يؤنسن جيل الصحابة أنفسهم، وبالتالي يؤنسن خلافاتهم ويعقلنها، ويعيد لهذا الجيل العظيم في تاريخ الاسلام والأمة المكانة الطبيعية له، المكانة الإنسانية، فلا يكون الخلاف بين أفراده إخراجا لهم عما أعطاهم الله جل وعلا في قرآنه الكريم، وما أعطاه لهم الرسول الكريم من صفات وخصائص، ولا طعنا في عدالتهم، ’’القاعدة 19 ص 142’’ فلا يكون الخطأ في مواقف البعض من هذا الجيل مثلبة على الجيل كله، ولا يكون تصارع المصالح والدوافع والأهواء طعنا في دين هذا الجيل وإسلامهم أفرادا أو جماعة.
لقد وضع الباحث جهدا مميزا لتبيان منهج ابن تيمية في التفريق بين المقدس وغير المقدس، بين الإيمان ورواسب الجاهلية أو ثقل الموروث الجاهلي ’’القاعدة 6’’، بين العصمة التي لا تكون إلا لنبي - فيما يبلغ عن ربه-، وبين النزوع الانساني بكل ما يؤثر فيه من عوامل ضعف وهوى ومصالح.
إن الباحث فيما يقوم فيه لا يستهدف جيل الصحابة رضوان الله عليهم، ولا أن يقدم لنا ملامح قراءة جديدة لأحداثهم، وإنما هو يستهدف حضور الصحابة وتاريخهم في عصرنا الراهن، حضورهم في فكرنا وحركتنا ورؤيتنا، وبالتالي قضايانا الراهنة ومشاكلنا وصراعاتنا ومثلنا.
القضية هنا ليست التاريخ ورجالاته، وإنما رؤيتنا نحن لهم ولذلك التاريخ، إذ أن هذه الرؤية تمثل جانبا مهما مما يصوغ حاضرنا ومستقبلنا.
إنها ليست ترفا فكريا، وإنما ضرورة منهجية، وحاجة عملية، إنه ينظر إلى راهن الأمة ومستقبلها، راهن فكرها وشبابها وحركتها من خلال إطلالته على ذلك الزمن المؤسس لوجودنا ورجالاته وأحداثه.
وفي عمق هذه ’’الأنسنة والعقلنة’’ تظهر ثلاث حقائق شديدة الأهمية الآن في هذه المرحلة وفي كل مرحلة تصنع في ترابطها مشهدا واحدا لهذا الجيل الفريد في التاريخ:
الحقيقة الأولى: أن الخلافات السياسية، الخلافات في الحكم، وحوله، مهما كانت دامية وعميقة، لا تخرج أي من طرفيها من دائرة الإسلام، لأن القضية السياسية ليست من صلب الدين والعقيدة، رغم أهميتها في حياة المسلمين ومجتمهم، فالعدل، والشورى، سمات في المجتمع الإسلامي، لكنها ليست مكون عقدي فيه، ورغم خطورة التعدي على هذه السمات، فإن ذلك لا يخرج المعتدي من دينه.
لقد حول معاوية رضي الله عنه الخلافة إلى ملك عضود، ما عاد فيه مكانا للشورى، وتحول مال المسلمين الى أداة بيد الحاكم يثبت به سلطانه، ويشبع من خلاله رغباته، ويحقق أغراضه، لكن ذلك كله لا يغير من حقيقة أن هذا الخلاف والصراع والسلوك إنما وقع في جانب غير الجانب العقدي في الاسلام.
وفي هذا يقول الغزالي في كتابه الاقتصاد في الاعتقاد أن الخلافة والإمامة - عند أهل السنة والجماعة- من مسائل الفروع فهي ’’ليست من المهمات، وليست من المعقولات، بل من الفقهيات’’ ويقول الآمدي ’’الكلام في الإمامة ليست من أصول الديانات، ولا من الأمور اللابديات’’، وهذا كله توكيد على حدود ما دار فيه وعليه الخلاف بين الصحابة في ذلك العصر.
الحقيقة الثانية: أن الخلافات السياسية قد تصل إلى مستوى الصراع الدموي العنيف، - وإلى هذا الحد وصل الأمر في عهد الصحابة-، لكن هذا الصراع وما ينجم عنه، لا يجوز أن يدفعنا الى الإسراع نحو منهج التكفير للجماعات والمجتمعات، فنحول أحد طرفي الصراع إلى كافر والآخر إلى مؤمن، وبالتالي يكون لدينا مجتمعين أو فسطاطين أحدهما مستباح والآخر معصوم.
إن ’’الابتعاد عن التكفير وعن الاتهام بالنفاق’’، وهي القاعدة الحادية عشرة من الضروريات في صحة النظر وفي صحة الوقوف على ما جرى من صراعات في عهد الصحابة، وقد ثبت في الصحاح أن صحابة أجلاء مبشرين بالجنة والغفران، شهد لهم الرسول الكريم بقوله وعمله كانوا موزعين بين طرفي الصراع.
نعم في هذا الصراع هناك حق وهناك باطل، هناك من يجب على كل مسلم القتال معه وهناك من يجب مقاتلته، لكن ليس على الكفر والإيمان، وإنما على الظلم والبغي والعدوان، والفارق بين الوجهين عميق وحاسم، وقد وقع بعض الصحابة في مثل هذه المواقف.
الحقيقة الثالثة: أن إعطاء هذا الخلاف صبغة عقدية تستباح معها الأموال، والدماء والأعراض، لم يقدم تاريخيا أي حل لمعضلة التعدي على سمتي العدل والشورى، وفتح شروخا في حياة الأمة ما زالت نازفة حتى الآن، فكان هذا السلوك، الوجه الآخر لسلبية غياب العدل والشورى وليس الحل لهذه السلبية.
وقدم الباحث في غير مكان أدلة وشواهد على هذه الحقائق بتنوع تجلياتها منبها إلى ضرورة اجتناب الصياغة الاعتقادية للخلافات الفرعية ’’القاعدة رقم 15’’ ليخلص قائلا: ’’وإذا كان الصحابة رضي الله عنهم وهم يتقاتلون لم يصوغوا خلافاتهم السياسية بلغة الكفر والإيمان فحري بالباحثين اليوم أن يتقيدوا بذلك، ولا يخلطوا بين الوحي والتاريخ’’.
ملاحظتان ختاميتان
لا شك أن من حق الباحث أن يبسط القواعد التي يستخلصها من بحثه، يفصلها أو يجملها، وقد جعلها الباحث اثنتين وعشرين قاعدة، وهي جميعها مهمة، وإن تفاوتت في الأهمية أو تداخلت فيما بينها بحيث يمكن أن نجعلها أقل من ذلك أو أكثر، فمثل هذا التبويب حق للباحث لا جدال فيه.
** لكن قوة عرضه لهذه القواعد لم يتحقق فيها التماسك والمتانة نفسها، وقد وضح هذا الخلل في ضربه للأمثال التي أراد منها أن يوضح القاعدة نفسها، وكمثال على ذلك قاعدة تقول ﺑ’’ضرورة التفريق بين الخطأ والخطيئة، بين القصور والتقصير’’ وهي القاعدة العشرون، وهذه قاعدة صحيحة بقدر ما نربط الخطأ والخطيئة بالعلم، والنية، وبالأثر أي النتيجة.
فلا يؤخذ خطأ العالم بمثل ما يؤخذ الخطأ نفسه إن صدر عن جاهل أو ضعيف العلم، ولا يؤخذ خطأ لمن نيته مكاسب لنفسه وقومه، بمثل ما يؤخذ خطأ وقع فيه من نيته نصر الدين والأمة وقيم الخير والحق، ولا يؤخذ خطأ أصاب فردا بمثل ما يؤخذ خطأ أصاب أمة ما زالت تنزف من أثره.
وفي التدليل على قاعدة التفريق بين الخطأ والخطيئة، يذهب الباحث إلى أن عليا رضي الله عنه أخطأ حينما لم يتألف معاوية بإبقائه أميرا على الشام مقابل بيعته لأمير المؤمنين، ثم له بعد ذلك، وبعد تمكنه أي يعزله، ويقول إنه لو فعل ذلك لجب عن الأمة عظم ما تخلف عن الصراع بين الرجلين ومعسكريهما، معترفا بأن موقف معاوية رضي الله عنه هو من قبيل الخطيئة، وموقف علي من قبيل الخطأ، ويطلب من الدارسين أن لا يضعوا خطيئة معاوية موازية لخطأ علي (ص 146).
إن المدقق في هذا المثل قد لا يجد صلة بينه وبين هذه القاعدة.!
إنه يطلب من علي أن يداهن معاوية مؤقتا، حتى إذا تمكن أمير المؤمنين قلب له ظهر المجن.
والسؤال هنا وما الذي يبقى من علي رضي الله عنه إن هو فعل ذلك؟!
يجمع المؤرخون على أنه في كل مراحل الصراع بين علي ومعاوية، وفي كل المواقف والحالات، كان الحق يدور مع علي حيثما دار، وكان الباطل مع خصمه أيا ما كان ودون استثناء، فإذا تنحى علي عن موقفه هذا، وأخذ بما نصح به الباحث من ’’براغماتية/ نفعية’’ ما الذي يبقى من علي، ومن صفات علي، وما الذي يضمن أن لا يصبح هذا نهجا دائما لمن يمتطيه في علاقاته واتفاقياته، فيتحول بذلك الى ’’معاوية لكن باسم آخر’’.
وقد يكون مفيدا أن نشير هنا إلى أن معاوية أخذ هذا النهج في تعامله مع الحسن رضي الله عنه، خامس الخلفاء الراشدين، الذي أتم الله به الأعوام الثلاثين للخلافة الراشدة، وتروي كل التاريخ أن معاوية في اتفاقه مع الحسن وهو الاتفاق الذي أنهى الحرب بين الجانبين وأعطى للمسلمين ’’عام الجماعة’’ أعطى العهد للحسن في أن يكون الحكم له بعد معاوية، لكن هذا الاتفاق لم يلبث كثيرا، إذ بدأت علائم الردة عليه، وانتقل الحسن رضي الله عنه إلى جوار ربه في ظروف غامضة، قال فيها المؤرخون الكثير، وتحول الحكم بعد ذلك إلى يزيد بقوة السلطان وجبروته.
إن المثل الصحيح على الخطأ والخطيئة يمكن أن نجده حينما نقابل بين خطأ عائشة رضي الله عنها، ومعها الزبير وطلحة في الخروج على أمير المؤمنين علي، وما حدث في موقعة الجمل، وبين خطيئة معاوية في الخروج على أمير المؤمنين علي والمطالبة بدم عثمان، هنا الفرق واضح بين الخطأ والخطيئة، واضح في النية والعلم والأثر وفي السلوك المتبادل. الفرق واضح بين من أراد الحق فأخطأه أو أصابه، وبين من أراد الباطل فأخطأه أو أصابه.
أما النقد الموجه لعلي رضي الله عنه في تتبعه لأهل الجمل، وفي مواجهته للخوارج، فإنه نقد يحتاج إلى تدقيق شديد، لأنه يبدو نقدا من الخارج، أي من خارج الحدث لا يأخذ في الاعتبار حرارة الصراع في حينه، ولا يأخذ في الاعتبار وضوح المواقف، ويجب أن نذكر هنا كيف أنه - رضي الله عنه- سلك مع الخوارج كل مسلك ممكن للحوار، ونفع هذا المسلك، والجهد الذي بذله عبد لله بن عباس - رضي الله عنه- في عودة الكثير منه إلى جادة الصواب، لكن روح الفرقة حينما تنتشر تكون القدرة على لملمتها محدودة، خصوصا إذا كان هناك أطرافا تجد في هذه الروح مصلحة لها.
** كذلك فإن جميع القواعد الاثنتين والعشرين التي أوردها استخلصها من فكر ابن تيمية، وهذه من نقاط القوة في البحث، وقوتها في أنها باتت موجهة إلى قطاع محدد من تيارات الأمة، القطاع السلفي الذي يتخذ من ابن تيمية مثالا ونبراسا، وهو فيما ذهب إليه يريد أن يكشف عن موقف منهجي لابن تيمية يبدو مناقضا لما آلت اليه أمور هذا التيار في المرحلة الراهنة، إنه يريد أن يعقلن الموقف الراهن لرجالات هذا التيار استنادا إلى موقف شيخ التيار وعلمه، وأظن أنه حينما وضع منهج ’’التشيع السني عند ابن عربي كنقيض لمنج العلم والعدل، واستخرج الشواهد على النقائض من كتائب العواصم من القواصم فإنه أراد الاستهداف الذي أشرت اليه، ’’عقلنة رجالات هذا التيار في عصرنا الراهن’’، لكن هذا الاستهداف المهم والذي يجب أن يبذل فيه كل جهد لا يمثل سببا كافيا أو مجديا لاقتصار الاستشهاد والمقابلة على الطرفين: ابن تيمية، وابن عربي، واعتبارهما على طرفي نقيض، إن صح أنهما على طرفي نقيض.
وبغض النظر عن التدقيق العلمي فيما قاله وكتبه ابن تيمية، أو فيما قاله وكتبه ابن عربي، فإن موقف رجالات التيار السلفي في الوقت الراهن فيما يتصل بالخلاف السياسي بين الصحابة لا يفرق كثيرا بين النهجين، بل إنك تسمع وتتابع لهؤلاء أقوالا ومحاضرات وخطبا هي أقرب لمنهج ابن عربي منها لمنهج العلم واالعدل الذي أراد الباحث أن يثبته لابن تيمية.
لقد كان أكثر فائدة لو أن الباحث وضع جهدا إضافيا ليكشف لنا عن موضع علماء المسلمين من هذين المنهجين، علماء السير والطبقات والتاريخ والفقه والحديث، ولا شك أن جميع هؤلاء تعرضوا لهذه الإشكالية، وكتبوا فيها، وكان لهم فيها رأي ونظر، والأغلب الأعم من هؤلاء كانوا سابقين لعصر ابن تيمية وابن عربي.
واخيرا
فإننا أمام كتاب يضيف للمكتبة العربية إضافة قيمة، ويقدم لأجيال الشباب المسلم وغير المسلم في هذه الأمة ما يساعدهم على رؤية صحيحة متوازنة وعلمية لمرحلة التأسيس في وجود أمتنا.
إنه يسلط الضوء على الفكر والرجال والمرحلة، ليجعل ذلك كله أكثر عقلانية وإنسانية وبالتالي أكثر بهاء وتأثيرا إيجابيا في وقتنا الراهن.
ليس في جيل الصحابة الأول جيل التأسيس ملائكة، ولا يوجد بينهم أو فيهم شياطين، وإنما رجال عظماء استطاعوا بالتربية التي تلقوها، وبالرسالة التي حملوها، وبالجيل الذي انتموا إليه، أن يصنعوا تاريخا وحضارة وأمة، بكل ما في عملية الصنع هذه بذل وتضحية ومبادئ ومصالح، وصواب وخطأ وخطايا وفتح واقتتال، ولأن المسألة لم تكن رجالا وأبطالا فحسب، وإنما جيل ورسالة فقد استطاعوا أن يصمدوا لكل المحن، وكانت خطيرة وجوهرية، وأن يواجهوا كل تلك الأخطاء والخطايا، وأن يقدموا للإنسانية هذا الوجه المشرق من حضارة الأمة.
مدخل عام
كتاب هذا عنوانه لابد أن يكون لافتا، ولابد أن يدفع كل مهتم لمحاولة التعرف على محتوياته، مؤلف الكتاب ’’محمد بن المختار الشنقيطي، وضع له عنوانا توضيحيا ثانيا ’’رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ’’ ولعل هذا العنوان الإضافي يسلط الضوء على الخلاصة الرئيسة التي أراد الكاتب أن يثبتها من بحثه.
الكاتب من المهتمين بالفكر السياسي الإسلامي ثقافة وانجازا بحثيا معتمدا، وقد أنجز كتابه هذا في العاشر من رمضان عام 1424، وقدمه إلى الشيخ راشد الغنوشي الذي كتب له مقدمته في الخامس عشر من رمضان من ذات العام، لكن طبعته العربية الأولى التي صدرت عن دار الانتشار العربي اللبنانية صدرت في العام 2011، ووقعت بين يدي قبل أيام.
وصفحات الكتاب لا تتجاوز مع فهارسه 235 صفحة من القطع المتوسط، بطباعة مريحة تشجع على التناول، وحين وقع الكتاب في يدي لم أتركه إلا وقد انتهيت منه، ورأيتني متفقا مع الغنوشي في قوله إنه ’’كتاب جدير أن يقرأ وأن تعاد قراءته’’.
ولاشك أن البحث بطبيعته، والباحث بإسلوبه، وبتناوله للقضايا التي يعرضها يدفع القارئ إلى التمتع الفكري بما في الكتاب، والتشوق المتصاعد كلما تقدم في الاطلاع على موضوعاته، لكن ما هو أهم من ذلك كله، أن هذا الكتاب في هذه المرحلة بالذات، أي بعد عشر سنوات من إنجازه يبدو أنه يجيب على احتياجات راهنة، ويسلط الضوء على قضايا تفعل الآن فعلها في حياتنا الثقافية والسياسية بأكثر مما كان الوضع عليه حين أنجز.
مكونات الكتاب
الخلافات السياسية بين الصحابة يتضمن ثلاثة مباحث رئيسية لكل منها أهميته ومكانته في مجمل البحث:
1- مدخل عام: اختار له عنوان ’’التأصيل الشرعي والوعي التاريخي’’، وحين يتحقق الوعي التاريخي الإسلامي عنده، تتوفر ثلاثة حدود جوهرية فارقة، إذ يوضع حد فاصل بين الوحي والتاريخ، وبين المبادئ ووسائل تجسيدها التاريخية، وبين مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ، وتوكيدا على هذه الحدود يضرب الأمثلة عن جدلية المثل والمثال، وعن العبر المأخوذة في هذا الإطار من قصص الأنبياء في القرآن الكريم، ومن حياة الصحابة وبعض ما مروا به من أحداث.
2- المادة الرئيسية في البحث: وحين ينتقل إلى صلب البحث ليطل على الخلافات السياسية بين الصحابة ويرسم منهج التعامل مع هذه الخلافات وقراءتها وفهمها فإنه يجعل محور حديثه، واستشهاداته، وجدله مع ’’أهل الحديث’’ ومع رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية وخصوصا في كتابه منهاج السنة، ومن ثم في مجموع الفتاوى ليكشف لاحقا عن منهج هذا العَلم الإسلامي وقواعده في التعامل في هذه القضية على وجه التحديد ’’الخلافات السياسية بين الصحابة’’، وقد أعطى هذا المنهج وصف: منهج ’’العلم والعدل’’. وهو وصف اقتبسه من كتب ابن تيمية في منهاج السنة وفي غيره من مؤلفاته، إن كتاب ’’الخلافات السياسية بين الصحابة’’ هو في جوهرة استعراض لمنهج ’’العلم والعدل’’ عند ابن تيمية في تناوله لهذا الموضوع.
ومن هذا المنهج، أي من منهج ابن تيمية واستنادا إليه استخلص اثنتين وعشرين قاعدة عامة تضبط تناول موضع الخلافات السياسية بين الصحابة، وتغطي هذه القواعد وتضبط: الأحداث من وجهتي النظر التاريخية والشرعية، كما تضبط النظرة إلى الفاعلين فيها وهم الصحابة بما لهم من مكانة شرعية وتاريخية أيضا، كما أنها تنبه إلى الأخطاء الممكن أن يقع فيها الباحثون في تناول الحدث وفي الحكم على الفاعلين فيه.
وهو في عرضه هذا إذ يعلي شأن منهج العلم والعدل عند ابن تيمية، ويتوقف عند كل قاعدة بالشرح النظري والفقهي، وبالمثال التاريخي، فإنه يرى أن شيخ الاسلام في مواضع معينة، وفي أحداث محددة لم يلتزم هذا المنهج، فخرج عليه، لذلك ختم عرضه لهذه القواعد بملاحظاته على مقدار التزام شيخ الاسلام بمنهجه، ومستعرضا جانبا من البيئة السياسية والفكرية التي عاشها الشيخ، والتي كانت تضج بالصراعات المذهبية، ويرى أنها ساهمت في جعل بعض ما تناوله من أحداث تتسم بالحدة والتجاوز على منهج العلم والعدل، وضرب لذلك أمثلة.
3- مدرسة التشيع السني: وعلى قاعدة ’’بضدها تتمايز الأشياء’’ عرج الباحث في القسم الثالث على مدرسة في التعاطي مع الخلافات السياسية بين الصحابة يعتبرها النقيض لمدرسة ابن تيمية القائمة على منهج ’’العلم والعدل’’ وهي مدرسة أطلق عليها اسم ’’مدرسة التشيع السني’’ ورأس هذه المدرسة، القاضي أبو بكر ابن العربي ’’486 – 543’’ هجري، وكتابه العواصم من القواصم في تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وله في عصرنا الراهن اتباع كثر.
وقد عرض لهذا المنهج، وما عليه من مآخذ، وكيف أنه في تناوله لمسألة الخلافات لم يلتفت كثيرا الى ثوابت الأحداث التي أكدتها كتب صحاح الحديث، كما أكدتها كتب التاريخ، وذهب إلى منهج التبرير والإعراض عن كل ما ورد بشأن موقف الصحابة في هذه الخلافات اعتقادا منه أنه بذلك ينزه الصحابة ويحفظ لهم مكانتهم في الدين، وبهاءهم كأمثلة ونماذج تقتدي الأمة بها، ويدفع عن الإسلام حملات التشوية التي جعلت من تناول هذا الموضوع مدخلا للطعن في الإسلام ورجالاته.
لكن هذا المنهج بوجود تلك الوقائع الثابتة، لم يفد الأمة في شيء، ولم يقدم خيرا لواقع المسلمين، ولا لفقه تاريخهم، وأضفى صفات من التنزيه على الصحابة تأخذ منهم ولا تضيف اليهم.
مطالعة نقدية
الكتاب بكل الاعتبارات عمل شديد الفائدة، خصوصا في هذه المرحلة، جوهره ومبتغاه أن يؤنسن جيل الصحابة أنفسهم، وبالتالي يؤنسن خلافاتهم ويعقلنها، ويعيد لهذا الجيل العظيم في تاريخ الاسلام والأمة المكانة الطبيعية له، المكانة الإنسانية، فلا يكون الخلاف بين أفراده إخراجا لهم عما أعطاهم الله جل وعلا في قرآنه الكريم، وما أعطاه لهم الرسول الكريم من صفات وخصائص، ولا طعنا في عدالتهم، ’’القاعدة 19 ص 142’’ فلا يكون الخطأ في مواقف البعض من هذا الجيل مثلبة على الجيل كله، ولا يكون تصارع المصالح والدوافع والأهواء طعنا في دين هذا الجيل وإسلامهم أفرادا أو جماعة.
لقد وضع الباحث جهدا مميزا لتبيان منهج ابن تيمية في التفريق بين المقدس وغير المقدس، بين الإيمان ورواسب الجاهلية أو ثقل الموروث الجاهلي ’’القاعدة 6’’، بين العصمة التي لا تكون إلا لنبي - فيما يبلغ عن ربه-، وبين النزوع الانساني بكل ما يؤثر فيه من عوامل ضعف وهوى ومصالح.
إن الباحث فيما يقوم فيه لا يستهدف جيل الصحابة رضوان الله عليهم، ولا أن يقدم لنا ملامح قراءة جديدة لأحداثهم، وإنما هو يستهدف حضور الصحابة وتاريخهم في عصرنا الراهن، حضورهم في فكرنا وحركتنا ورؤيتنا، وبالتالي قضايانا الراهنة ومشاكلنا وصراعاتنا ومثلنا.
القضية هنا ليست التاريخ ورجالاته، وإنما رؤيتنا نحن لهم ولذلك التاريخ، إذ أن هذه الرؤية تمثل جانبا مهما مما يصوغ حاضرنا ومستقبلنا.
إنها ليست ترفا فكريا، وإنما ضرورة منهجية، وحاجة عملية، إنه ينظر إلى راهن الأمة ومستقبلها، راهن فكرها وشبابها وحركتها من خلال إطلالته على ذلك الزمن المؤسس لوجودنا ورجالاته وأحداثه.
وفي عمق هذه ’’الأنسنة والعقلنة’’ تظهر ثلاث حقائق شديدة الأهمية الآن في هذه المرحلة وفي كل مرحلة تصنع في ترابطها مشهدا واحدا لهذا الجيل الفريد في التاريخ:
الحقيقة الأولى: أن الخلافات السياسية، الخلافات في الحكم، وحوله، مهما كانت دامية وعميقة، لا تخرج أي من طرفيها من دائرة الإسلام، لأن القضية السياسية ليست من صلب الدين والعقيدة، رغم أهميتها في حياة المسلمين ومجتمهم، فالعدل، والشورى، سمات في المجتمع الإسلامي، لكنها ليست مكون عقدي فيه، ورغم خطورة التعدي على هذه السمات، فإن ذلك لا يخرج المعتدي من دينه.
لقد حول معاوية رضي الله عنه الخلافة إلى ملك عضود، ما عاد فيه مكانا للشورى، وتحول مال المسلمين الى أداة بيد الحاكم يثبت به سلطانه، ويشبع من خلاله رغباته، ويحقق أغراضه، لكن ذلك كله لا يغير من حقيقة أن هذا الخلاف والصراع والسلوك إنما وقع في جانب غير الجانب العقدي في الاسلام.
وفي هذا يقول الغزالي في كتابه الاقتصاد في الاعتقاد أن الخلافة والإمامة - عند أهل السنة والجماعة- من مسائل الفروع فهي ’’ليست من المهمات، وليست من المعقولات، بل من الفقهيات’’ ويقول الآمدي ’’الكلام في الإمامة ليست من أصول الديانات، ولا من الأمور اللابديات’’، وهذا كله توكيد على حدود ما دار فيه وعليه الخلاف بين الصحابة في ذلك العصر.
الحقيقة الثانية: أن الخلافات السياسية قد تصل إلى مستوى الصراع الدموي العنيف، - وإلى هذا الحد وصل الأمر في عهد الصحابة-، لكن هذا الصراع وما ينجم عنه، لا يجوز أن يدفعنا الى الإسراع نحو منهج التكفير للجماعات والمجتمعات، فنحول أحد طرفي الصراع إلى كافر والآخر إلى مؤمن، وبالتالي يكون لدينا مجتمعين أو فسطاطين أحدهما مستباح والآخر معصوم.
إن ’’الابتعاد عن التكفير وعن الاتهام بالنفاق’’، وهي القاعدة الحادية عشرة من الضروريات في صحة النظر وفي صحة الوقوف على ما جرى من صراعات في عهد الصحابة، وقد ثبت في الصحاح أن صحابة أجلاء مبشرين بالجنة والغفران، شهد لهم الرسول الكريم بقوله وعمله كانوا موزعين بين طرفي الصراع.
نعم في هذا الصراع هناك حق وهناك باطل، هناك من يجب على كل مسلم القتال معه وهناك من يجب مقاتلته، لكن ليس على الكفر والإيمان، وإنما على الظلم والبغي والعدوان، والفارق بين الوجهين عميق وحاسم، وقد وقع بعض الصحابة في مثل هذه المواقف.
الحقيقة الثالثة: أن إعطاء هذا الخلاف صبغة عقدية تستباح معها الأموال، والدماء والأعراض، لم يقدم تاريخيا أي حل لمعضلة التعدي على سمتي العدل والشورى، وفتح شروخا في حياة الأمة ما زالت نازفة حتى الآن، فكان هذا السلوك، الوجه الآخر لسلبية غياب العدل والشورى وليس الحل لهذه السلبية.
وقدم الباحث في غير مكان أدلة وشواهد على هذه الحقائق بتنوع تجلياتها منبها إلى ضرورة اجتناب الصياغة الاعتقادية للخلافات الفرعية ’’القاعدة رقم 15’’ ليخلص قائلا: ’’وإذا كان الصحابة رضي الله عنهم وهم يتقاتلون لم يصوغوا خلافاتهم السياسية بلغة الكفر والإيمان فحري بالباحثين اليوم أن يتقيدوا بذلك، ولا يخلطوا بين الوحي والتاريخ’’.
ملاحظتان ختاميتان
لا شك أن من حق الباحث أن يبسط القواعد التي يستخلصها من بحثه، يفصلها أو يجملها، وقد جعلها الباحث اثنتين وعشرين قاعدة، وهي جميعها مهمة، وإن تفاوتت في الأهمية أو تداخلت فيما بينها بحيث يمكن أن نجعلها أقل من ذلك أو أكثر، فمثل هذا التبويب حق للباحث لا جدال فيه.
** لكن قوة عرضه لهذه القواعد لم يتحقق فيها التماسك والمتانة نفسها، وقد وضح هذا الخلل في ضربه للأمثال التي أراد منها أن يوضح القاعدة نفسها، وكمثال على ذلك قاعدة تقول ﺑ’’ضرورة التفريق بين الخطأ والخطيئة، بين القصور والتقصير’’ وهي القاعدة العشرون، وهذه قاعدة صحيحة بقدر ما نربط الخطأ والخطيئة بالعلم، والنية، وبالأثر أي النتيجة.
فلا يؤخذ خطأ العالم بمثل ما يؤخذ الخطأ نفسه إن صدر عن جاهل أو ضعيف العلم، ولا يؤخذ خطأ لمن نيته مكاسب لنفسه وقومه، بمثل ما يؤخذ خطأ وقع فيه من نيته نصر الدين والأمة وقيم الخير والحق، ولا يؤخذ خطأ أصاب فردا بمثل ما يؤخذ خطأ أصاب أمة ما زالت تنزف من أثره.
وفي التدليل على قاعدة التفريق بين الخطأ والخطيئة، يذهب الباحث إلى أن عليا رضي الله عنه أخطأ حينما لم يتألف معاوية بإبقائه أميرا على الشام مقابل بيعته لأمير المؤمنين، ثم له بعد ذلك، وبعد تمكنه أي يعزله، ويقول إنه لو فعل ذلك لجب عن الأمة عظم ما تخلف عن الصراع بين الرجلين ومعسكريهما، معترفا بأن موقف معاوية رضي الله عنه هو من قبيل الخطيئة، وموقف علي من قبيل الخطأ، ويطلب من الدارسين أن لا يضعوا خطيئة معاوية موازية لخطأ علي (ص 146).
إن المدقق في هذا المثل قد لا يجد صلة بينه وبين هذه القاعدة.!
إنه يطلب من علي أن يداهن معاوية مؤقتا، حتى إذا تمكن أمير المؤمنين قلب له ظهر المجن.
والسؤال هنا وما الذي يبقى من علي رضي الله عنه إن هو فعل ذلك؟!
يجمع المؤرخون على أنه في كل مراحل الصراع بين علي ومعاوية، وفي كل المواقف والحالات، كان الحق يدور مع علي حيثما دار، وكان الباطل مع خصمه أيا ما كان ودون استثناء، فإذا تنحى علي عن موقفه هذا، وأخذ بما نصح به الباحث من ’’براغماتية/ نفعية’’ ما الذي يبقى من علي، ومن صفات علي، وما الذي يضمن أن لا يصبح هذا نهجا دائما لمن يمتطيه في علاقاته واتفاقياته، فيتحول بذلك الى ’’معاوية لكن باسم آخر’’.
وقد يكون مفيدا أن نشير هنا إلى أن معاوية أخذ هذا النهج في تعامله مع الحسن رضي الله عنه، خامس الخلفاء الراشدين، الذي أتم الله به الأعوام الثلاثين للخلافة الراشدة، وتروي كل التاريخ أن معاوية في اتفاقه مع الحسن وهو الاتفاق الذي أنهى الحرب بين الجانبين وأعطى للمسلمين ’’عام الجماعة’’ أعطى العهد للحسن في أن يكون الحكم له بعد معاوية، لكن هذا الاتفاق لم يلبث كثيرا، إذ بدأت علائم الردة عليه، وانتقل الحسن رضي الله عنه إلى جوار ربه في ظروف غامضة، قال فيها المؤرخون الكثير، وتحول الحكم بعد ذلك إلى يزيد بقوة السلطان وجبروته.
إن المثل الصحيح على الخطأ والخطيئة يمكن أن نجده حينما نقابل بين خطأ عائشة رضي الله عنها، ومعها الزبير وطلحة في الخروج على أمير المؤمنين علي، وما حدث في موقعة الجمل، وبين خطيئة معاوية في الخروج على أمير المؤمنين علي والمطالبة بدم عثمان، هنا الفرق واضح بين الخطأ والخطيئة، واضح في النية والعلم والأثر وفي السلوك المتبادل. الفرق واضح بين من أراد الحق فأخطأه أو أصابه، وبين من أراد الباطل فأخطأه أو أصابه.
أما النقد الموجه لعلي رضي الله عنه في تتبعه لأهل الجمل، وفي مواجهته للخوارج، فإنه نقد يحتاج إلى تدقيق شديد، لأنه يبدو نقدا من الخارج، أي من خارج الحدث لا يأخذ في الاعتبار حرارة الصراع في حينه، ولا يأخذ في الاعتبار وضوح المواقف، ويجب أن نذكر هنا كيف أنه - رضي الله عنه- سلك مع الخوارج كل مسلك ممكن للحوار، ونفع هذا المسلك، والجهد الذي بذله عبد لله بن عباس - رضي الله عنه- في عودة الكثير منه إلى جادة الصواب، لكن روح الفرقة حينما تنتشر تكون القدرة على لملمتها محدودة، خصوصا إذا كان هناك أطرافا تجد في هذه الروح مصلحة لها.
** كذلك فإن جميع القواعد الاثنتين والعشرين التي أوردها استخلصها من فكر ابن تيمية، وهذه من نقاط القوة في البحث، وقوتها في أنها باتت موجهة إلى قطاع محدد من تيارات الأمة، القطاع السلفي الذي يتخذ من ابن تيمية مثالا ونبراسا، وهو فيما ذهب إليه يريد أن يكشف عن موقف منهجي لابن تيمية يبدو مناقضا لما آلت اليه أمور هذا التيار في المرحلة الراهنة، إنه يريد أن يعقلن الموقف الراهن لرجالات هذا التيار استنادا إلى موقف شيخ التيار وعلمه، وأظن أنه حينما وضع منهج ’’التشيع السني عند ابن عربي كنقيض لمنج العلم والعدل، واستخرج الشواهد على النقائض من كتائب العواصم من القواصم فإنه أراد الاستهداف الذي أشرت اليه، ’’عقلنة رجالات هذا التيار في عصرنا الراهن’’، لكن هذا الاستهداف المهم والذي يجب أن يبذل فيه كل جهد لا يمثل سببا كافيا أو مجديا لاقتصار الاستشهاد والمقابلة على الطرفين: ابن تيمية، وابن عربي، واعتبارهما على طرفي نقيض، إن صح أنهما على طرفي نقيض.
وبغض النظر عن التدقيق العلمي فيما قاله وكتبه ابن تيمية، أو فيما قاله وكتبه ابن عربي، فإن موقف رجالات التيار السلفي في الوقت الراهن فيما يتصل بالخلاف السياسي بين الصحابة لا يفرق كثيرا بين النهجين، بل إنك تسمع وتتابع لهؤلاء أقوالا ومحاضرات وخطبا هي أقرب لمنهج ابن عربي منها لمنهج العلم واالعدل الذي أراد الباحث أن يثبته لابن تيمية.
لقد كان أكثر فائدة لو أن الباحث وضع جهدا إضافيا ليكشف لنا عن موضع علماء المسلمين من هذين المنهجين، علماء السير والطبقات والتاريخ والفقه والحديث، ولا شك أن جميع هؤلاء تعرضوا لهذه الإشكالية، وكتبوا فيها، وكان لهم فيها رأي ونظر، والأغلب الأعم من هؤلاء كانوا سابقين لعصر ابن تيمية وابن عربي.
واخيرا
فإننا أمام كتاب يضيف للمكتبة العربية إضافة قيمة، ويقدم لأجيال الشباب المسلم وغير المسلم في هذه الأمة ما يساعدهم على رؤية صحيحة متوازنة وعلمية لمرحلة التأسيس في وجود أمتنا.
إنه يسلط الضوء على الفكر والرجال والمرحلة، ليجعل ذلك كله أكثر عقلانية وإنسانية وبالتالي أكثر بهاء وتأثيرا إيجابيا في وقتنا الراهن.
ليس في جيل الصحابة الأول جيل التأسيس ملائكة، ولا يوجد بينهم أو فيهم شياطين، وإنما رجال عظماء استطاعوا بالتربية التي تلقوها، وبالرسالة التي حملوها، وبالجيل الذي انتموا إليه، أن يصنعوا تاريخا وحضارة وأمة، بكل ما في عملية الصنع هذه بذل وتضحية ومبادئ ومصالح، وصواب وخطأ وخطايا وفتح واقتتال، ولأن المسألة لم تكن رجالا وأبطالا فحسب، وإنما جيل ورسالة فقد استطاعوا أن يصمدوا لكل المحن، وكانت خطيرة وجوهرية، وأن يواجهوا كل تلك الأخطاء والخطايا، وأن يقدموا للإنسانية هذا الوجه المشرق من حضارة الأمة.