هل من لقاء بين الفقهاء والمتصوفة؟ محاولة للتقريب من الغرب الأفريقي
حسام تمام
صحفي وباحث مصري
[email protected]
في أقصي بقاع بلاد الغرب الأفريقي وفي قرية نائية أقرب إلي واحة في الصحراء الموريتانية وقريبا من حوض نهر السنغال الحد الفاصل بين البلدين: موريتانيا والسنغال جرت وقائع هذه الندوة التي تأخرت في الكتابة عنها لظروف سفر طويل وتنقلات لا يستقر معها المقام، ثم عدت إليها بعدما صرت علي قناعة بأن موضوعها والسياق التي عقدت فيه بل وأجواء الندوة عموما من الأهمية بما يفرض التوقف كثيرا عندها.
أكتب عن ندوة ’’ الفقهاء والصوفية في الغرب الإسلامي ودلالات التقريب’’ التي نظمتها منظمة آل البيت بالتعاون مع المركز الأفريقي للدراسات والأبحاث الصوفية والتي استغرقت أعمالها يومين كاملين من المناقشات.
دعيت للمشاركة في أعمال الندوة بمحاضرة عن الصوفية والحركات الإسلامية المعاصرة، وكنت المشرقي الوحيد في الندوة التي ضمت باحثين ومفكرين وعلماء وفقهاء وشيوخ طرق صوفية ومريدين من كل بلاد الغرب الأفريقي تقريبا: المغرب والسنغال والنيجر ومالي و..وموريتانيا التي تقع فيها القرية النائية والفريدة التي استضافت الندوة: تيكماطين.
ندوة في قلب الصحراء
لا يمكن التطرق إلي فكرة الندوة ولا أعمالها دون التوقف والتأمل في طبيعة المكان الذي عقدت فيه والناس الذين قاموا علي هذا العمل الإسلامي الفريد من نوعه.
علي العكس من أي فاعلية يمكن أن يحضرها الباحث كانت هذه الندوة؛ فاللقاء ليس- كما جرت العادة- في صالات الفنادق التي تتنافس في عدد نجماتها ولا في مدرجات الجامعات أو قاعات مراكز الأبحاث بل في قرية صغيرة في قلب الصحراء المترامية علي الحدود الموريتانية السنغالية، وفي مشارف القرية وعلي الرمال قريبا من بيوتها المتواضعة عقدت فاعليات الندوة وكان مشهدا نادرا.
الوجوه السمراء التي يعلوها البشر ويختلط فيها اللباس الأبيض والعمامات الخضراء التي يعرف بها الصوفية مع الألوان الأفريقية الزاهية اصطفت بالمئات وربما الآلاف في جلسة أبعد ما تكون عن التكلف والتصنع. لم يكن هناك من مظاهر الحداثة إلا السيارات التي جاءت بالضيوف من كل دول الجوار الأفريقي تقريبا، والمولّد الذي يمد الندوة والقرية بالكهرباء والميكروفونات التي تنقل وقائع النقاش لأهل القرية من حضر منهم النقاش أو من فضل الاستماع لها من البيت حيث لم يكن بإمكان أحد من أهل القرية رجالا ونساء إلا المشاركة ولو بالترحيب بالضيوف والقيام علي خدمتهم..
افترش الجميع الرمال ما عدانا نحن الضيوف الذين لم نغادر مقاعدنا التي بدت غريبة فوق تلال الرمال إلا إلي بيوت أهالي القرية وقلوبهم التي كانت أكثر رحابة من صحراء لا تبلغ العين مداها.
برنامج متنوع
الندوة هي السابعة في سلسلة الندوات التي تنظمها منظمة آل البيت التي تأسست حديثا، وقد أطلق عليها اسم المرحوم الشريف محمد الأمين الشيخ، وكانت هناك رعاية ومباركة لها من الشيخ صالح امباكي ابن شيخ السنغال الأشهر أحمدو بمبا ساكن مدينة طوبا ذات الأهمية الدينية بالسنغال وحضور مشايخ الطرق والزوايا الصوفية.
وكان عنوان الندوة بليغا في التعبير عن أهدافها فقد علت أشغالها لافتة كبيرة كتب عليها:’’ القائمون علي الدين إذا اجتمعوا علي إقامته ولم يتفرقوا فيه لم يقهرهم عدو’’
فقد كان هناك محور للتصوف كان من أهم موضوعاته: دلالات التقريب بين المسلمين في المنهج المريدي وأثر الطريقة القادرية الفاضلية علي مجتمع حوض نهر السنغال والصحراء الكبرى
وفي محورالفكر الإسلامي ناقشت الندوة قضايا مثل: الإمامة في بلاد السودان الغربي بين الفقهاء والمتصوفةـ وأثر الفقه والتصوف الأندلسي علي المجتمع الصحراي المغربي، والمهدوية في الأديان السماوية ودورها في صراع الحضارات، والأثر الصوفي علي الحركات الإسلامية المعاصرة، والمرأة في الغرب الإسلامي وتفعيل التقريب..
وفي المحور التاريخي نوقشت قضايا مثل المرابطون وقراءة جديدة في التاريخ وحركة الهجرة، والتبادل التاريخي بين الشمال والجنوب وانعكاسه علي تشكل الهوية في الغرب الإسلامي.
وكان هناك محور عن المحظرة الموريتانية التي هي مدارس القرآن التقليدية والتي ينظر إليها كجامعات مفتوحة.
كما كان هناكة محور قانوني عالج قضايا مثل الرقيق والتبيعة والحدود السياسية وعوائق التقارب في الغرب الإسلامي.
إضافة إلي المحور الأدبي الذي ركز علي الأدب الصوفي بشكل خاص.
لقد شارك في أعمال الندوة فقهاء ومتصوفة من جميع المدارس الفقهية والطرق والزوايا الصوفية في الغرب الأفريقي تقريبا.
التقريب ضرورة اللحظة
انطلقت الندوة من الإحساس بخطورة أن ألف سنة مرت علي هذه المنطقة والصراع فيها محتدم بين مدرسة الإحسان التصوفية والمدارس الفقهية والسلفية منها خاصة، وأن هذا الصراع والمواجهات بل والمناظرات التي تخللته ولدت شرخا كبيرا بين الناس بل وكثيرا ما وصلت إلي حد التكفير وإراقة الدماء بما عرقل جهود الدعوة إلي الله في أدغال افريقيا القارة الني كان ينظر إليها باعتبارها قارة الإسلام قبل أن تجتاحها جيوش التنصير، ..وهو ما استدعي البحث عن إمكانية اللقاء بين الصوفية والفقهاء من أجل استئناف الدعوة الإسلامية لمسيرتها مجددا.
وكان واضحا في الندوة كذلك الإحساس بالخطر من أن هذا الصراع بين الفقهاء والمتصوفة فتح الباب لاختراق التشيع للفضاء السني المالكي الذي ظل مهيمنا علي هذه المنطقة المهمة من العالم الإسلامي، إذ بدا أن قطاعا كبيرا من بلدات الغرب الأفريقي الإسلامية السنية تتشيع عبر قنطرة التصوف والحديث عن فضل آل البيت؛ فالديبلوماسية الإيرانية هي الأكثر نشاطا، والحضور الإيراني يتعاظم ويحاول اختراق التجمعات الدينية التقليدية وعلي رأسها الطرق الصوفية. حتى استطاعت إيرات فتح أقسام لدراسة الفقه الشيعي والتشيع في بعض جامعات دولة مثل غانا المعروفة تاريخيا بكونها سنية مالكية.
لقد أثار المد الشيعي في المنطقة الإحساس بالخطر لدي الفقهاء والمتصوفة الذين جمعتهم الندوة التي سعت للتقريب بينهم ولكن من واقع فهم مختلف لفكرة التقريب أساسه أن التقريب يفترض أن يكون بين المدارس السنية والتي تنتمي إلي مذهب واحد ( أهل السنة ) وليس بين المذاهب المختلفة.
كما فرقت الندوة بين تجليات مختلفة للتصوف وتحاول الكشف عن خصوصية التصوف في هذه المنطقة من العالم الإسلامي، فالصوفية في الغرب الأفريقي كانت دائما رائدة الجهاد ضد المستعمر في عموم أفريقيا، وأعلام الجهاد في هذه المنطقة هم علي الإجمال متصوفة مثل الشيخ عبد القادر الجزائري والشيخ عبد الكريم الخطابي والشيخ ماء العينين في صحراء المغرب والشيخ عمر الفوتي والشيخ عثمان دا فوديو في غرب أفريقيا الشيخ أحمدو بمبا والشيخ مابا خوباه في السنغال ومالك سيسي في بوندو وفولتا العليا.. وكانت أعمال الندوة حاسمة في التأكيد علي أن التصوف في الغرب الافريقي ظل جهاديا مناضلا ولم يعرف ما عرفته بعض بلاد المشرق من تقاعس للطرقية الصوفية في مواجهة المستعمر.
وربما كانت هذه الروح التي دفعت بمنظمي الندوة لتخصيص بعض محاورها لقضية الصراع العربي الصهيوني (مثل: باب المغاربة في القدس الشريف والحضور المغاربي في الصراع العربي الصهيوني، ودور آل البيت التاريخي في الصراع الفلطسيني الصهيوني) إضافة إلي دعوة سفير فلسطين ليكون في مقدمة الحضور إضافة إلي توصيات الندوة بضرورة قطع العلاقات الموريتانية مع الكيان الصهيوني والتي رأت أنها غريبة علي الشعب الموريتاني.
لقد حددت الندوة هدفها بتقريب الخطاب الفقهي من المتصوفة وإعادة التفاهم وأعلنت أنها أقرب إلي محاولة للصلح أو التقارب بين التصوف والفقه، وكان هناك تركيز علي رفع التناقض بين التصوف والفقه وتأكيد مستمر علي أنه تناقض طارئ إذ لم يكن في القرون الأولي أي تعارض
فالصوفية الأوائل اتبعوا السلف، والخلاف جاء في عصر التخصص والمصطلح، فمطلب الصوفي ما هو الأفضل ومطلب الفقيه هو ما يسقط به الحرج ومن ثم فهما متكاملان وليسا متناقضان.
نموذج لقرية من الغرب الإفريقي الإسلامي
و’’تيكماطين’’ قرية عريقة جدا ومعظم سكانها ينتسبون إلي ’’ آل البيت ’’ رغم ملامح أفريقية تبدو ظاهرة علي وجوهم بفعل التصاهر مع قبائل أفريقية علي مدار القرون
تقول كتب التاريخ أن القرية تأسست عام 927 هجريا في الفترة الزمنية نفسها التي تأسست فيها مدينة مراشك الشهيرة عاصمة دولة المرابطين بالمغرب ..كانت القرية من القري التي أسسها المرابطون الذين امتدت دولتهم في الغرب الأفريقي، وكانت إحدى أهم نقاط التواصل بين المجتمع الأفريقي ( السودان الغربي ) والمجتمع العربي المهاجر من السلالة الإدريسية التي تنحدر من ذرية المولي إدريس مؤسس أول دولة في المغرب بعد الإسلام.
ولكن أهالي القرية يقولون أن بها آثارا تعود لألف عام مضت، ربما كان الاسم يطلق علي كامل المنطقة التي تقع فيها القرية، ويؤكد ذلك ما يقوله المرخ الموريتاني حسن ولد محنض من أن الملك حنّون الروماني القادم من قرطاج رست سفنه في حوض ’’ تيكماطين ’’ بحثا عن الذهب.
لأهالي تيكماطين اعتزاز غريب بقريتهم ويروون مأثوراتها ومآثرها بشكل يصعب معه علي المرء أن يتصور أنها مجرد قرية لا يزيد سكانها علي الألف نسمة تقريبا..ولكنهم دائما ما يستحضرون في حكاياتهم ما لها من مكانة ترجع إلي ما ساهمت به تاريخيا وسياسيا علي مستوي الغرب الإسلامي كله وليس موريتانيا من أيام انطلاقة دولة المرابطين.
لقد كانت تيككاطين معبرا مرت عليه قبائل المجتمع الوولفي الأفريقي استجابة لنداء الجهاد الذي أطلقه المرابطون لنجدة مسلمي الاندلس قبل خمسة قرون.
ما بين الجلسات وأثناء تناول الطعام والراحة كان أهالي القرية يروون لي بعضا من تاريخها..أشاروا إلي ما ذكره عنهم الوزير الفوشتالي الوزير في دولة السعديين في كتابه ’’ مناهل الصفا ’’ من أن الشريف إبراهيم رضوان جد أهالي تيكماطين قابل صحبة ملوك بلاد السودان قوات المنصور السعدي بعدما هدمت مدينة تمبكتو التاريخية..وأنه شارك في صد عداون السعديين ورد توغلهم في منقطة حوض النهر.
كما شاركوا في حروب ( شربّبا ) التي جرت في القرن السادس عشر بين طلبة المحاضر القرانية وحملة العلم من جهة وبين السلطة الجائرة التي حاولت إلغاء التشريعات الإسلامية المعمول بها بين القبائل..وهي حروب تعد من أشهر الحروب التي عرفتها المنطقة منذ مجيء المرابطين..ويذكر كتاب شيم الزوايا للشيخ اليدالي أن أهالي تيكماطين كان لهم فيها دور مؤثر.
لطالما كانت القرية في مفترق طرق القوافل ما بين مدينة الصويرة بالمغرب وياكل في السنغال وهي الطرق التي كانت تمر بها قوافل تجارة الصمغ العربي وريش النعام..وهو ما ساعدها أيضا علي أن تظل مزارا وموطنا أو ملجأ لغالب العارفين بالله الذين لجئوا إلي الغرب الأفريقي
ذكروا لي أن ممن زار القرية من الأولياء الشيخ سيدي محمد الكنتي والشيخ أحمد بازيد الباركللي المعروف بولد الرازقة وسيدي عبد الكريم المعيلي..وغيرهم من الأعلام الذين نشروا الإسلام في أفريقيا والأخير هو أبرز من نشر الطريقة القادرية في افريقيا السوداء..كما أشاروا إلي أن الشيخ ابراهيم الاموي مفتي المرابطين دفن وله قبر في ضواحي قريتهم.
ولأنني من مصر فقد حدثوني عن الشريف سيدي محمد الصعيدي الولي الصوفي الذي جاء لزيارتهم من مصر.
أما أبرز شيوخ القرية وأعلامها الذين تفتخر بهم القرية فهو الشيخ ’’ بوبزّولة’’، وهو رحالة اسمه الاصلي محمد بن شمس الدين بوبزولة الإدريسي، نشر الدين الاسلامي في هذه المنطقة حتي نيجيريا وتزوج من قبائل الهوسا الأفريقية، وقد عرف بهذا اللقب اشارة الي ما يشاع عنه بين العوام من كرامة ..فهو بعد أن انفصل عن زوجته الهوساوية سافر بمولوده الرضيع ولما جاع الرضيع في الصحراء أرضعه الشيخ بثديه حتى شبع فسمي ’’بوبزّولة’’ والثدي عند الحسانية يسمي بزّول.
وأحفاد بوبزّولة هم أمراء صوكوتو في نيجيريا ومن أشهرهم الأمير أحمد لديت الذي كان من أبرز من قاوموا الاستعمار الفرنسي في المنطقة.
ولأهالي قرية تيكماطين صلات قوية بالفضاء الإسلامي المحيط بهم خاصة السنغال، ويروي أهل القرية باعتزاز أن أكبر المدارس القرآنية في السنغال هي التي أسسها أجداد تيكماطين مثل المختار ولد مبا. كما كان لهم تأثير كبير في مسلمي السنغال وخاصة الشيخ أحمد بمبا شيخ الطريقة المريدية في طوبا بالسنغال وهي طريقة قادرية الأصل هي الأكثر حضورا وتأثيرا في الغرب الأفريقي..وقد كانت لهم به صلة روحية فكانوا يمدونه بالمصاحف وساعدوه أثناء مقاومته للاستعمار الفرنسي عام 1927، وعلي اسمه تسمي أحمدو بمبا العالم الصوفي الشاب الذي أشرف علي تنظيم الملتقي، وابن شيخ القرية الإمام محمد سعيد صيار.
الجيل الجديد من المتصوفة
بقي أن نقول أن منظمة آل البيت التي نشأت في قرية نائية بالصحراء هي نموذج للعمل الأهلي الشعبي القادر علي الاستغناء عن أموال التمويل الغربي والرسمي فهو ذاتي النفقة ولا يأخذ تبرعات وإنما يعتمد علي دعم المريدين.
وقد تأسست لتقوم بمهمة حفظ للنسل الشريف حيث تسعي لجمع سلاسل ومشجرات الأنساب الشريفة في موريتانيا والغرب الأفريقي ودراستها علي ضوء الهجرات ومعطيات التاريخ، وكذلك التأريخ للمدارس الصوفية في أفريقيا ومعرفة نظرتها إلي آل البيت، وأخيرا غربلة الموروت الأفريقي الصامت وتحديد موقع أل البيت فيه.
والحق أن القائمين علي هذه المؤسسة يمثلون الجيل الجديد من المتصوفة والذي يسعي إلي تجديد التصوف وتنقيته وإعطائه دينامية حركية أولا عبر التحاور مع أبناء المدارس الإسلامية الأخرى السنية بشكل خاص، والانفتاح علي وجهات النظر المختلفة حتى ولو كان لها ما تأخذه علي التصوف، ثم إن هذا الجيل علي درجة كبيرة من الوعي بخطر انغلاق التصوف أو عدم إدراكه للمخاطر التي تتهدده وعلي رأسها التشيع.
>مرصدالظاهرة
حسام تمام
صحفي وباحث مصري
[email protected]
في أقصي بقاع بلاد الغرب الأفريقي وفي قرية نائية أقرب إلي واحة في الصحراء الموريتانية وقريبا من حوض نهر السنغال الحد الفاصل بين البلدين: موريتانيا والسنغال جرت وقائع هذه الندوة التي تأخرت في الكتابة عنها لظروف سفر طويل وتنقلات لا يستقر معها المقام، ثم عدت إليها بعدما صرت علي قناعة بأن موضوعها والسياق التي عقدت فيه بل وأجواء الندوة عموما من الأهمية بما يفرض التوقف كثيرا عندها.
أكتب عن ندوة ’’ الفقهاء والصوفية في الغرب الإسلامي ودلالات التقريب’’ التي نظمتها منظمة آل البيت بالتعاون مع المركز الأفريقي للدراسات والأبحاث الصوفية والتي استغرقت أعمالها يومين كاملين من المناقشات.
دعيت للمشاركة في أعمال الندوة بمحاضرة عن الصوفية والحركات الإسلامية المعاصرة، وكنت المشرقي الوحيد في الندوة التي ضمت باحثين ومفكرين وعلماء وفقهاء وشيوخ طرق صوفية ومريدين من كل بلاد الغرب الأفريقي تقريبا: المغرب والسنغال والنيجر ومالي و..وموريتانيا التي تقع فيها القرية النائية والفريدة التي استضافت الندوة: تيكماطين.
ندوة في قلب الصحراء
لا يمكن التطرق إلي فكرة الندوة ولا أعمالها دون التوقف والتأمل في طبيعة المكان الذي عقدت فيه والناس الذين قاموا علي هذا العمل الإسلامي الفريد من نوعه.
علي العكس من أي فاعلية يمكن أن يحضرها الباحث كانت هذه الندوة؛ فاللقاء ليس- كما جرت العادة- في صالات الفنادق التي تتنافس في عدد نجماتها ولا في مدرجات الجامعات أو قاعات مراكز الأبحاث بل في قرية صغيرة في قلب الصحراء المترامية علي الحدود الموريتانية السنغالية، وفي مشارف القرية وعلي الرمال قريبا من بيوتها المتواضعة عقدت فاعليات الندوة وكان مشهدا نادرا.
الوجوه السمراء التي يعلوها البشر ويختلط فيها اللباس الأبيض والعمامات الخضراء التي يعرف بها الصوفية مع الألوان الأفريقية الزاهية اصطفت بالمئات وربما الآلاف في جلسة أبعد ما تكون عن التكلف والتصنع. لم يكن هناك من مظاهر الحداثة إلا السيارات التي جاءت بالضيوف من كل دول الجوار الأفريقي تقريبا، والمولّد الذي يمد الندوة والقرية بالكهرباء والميكروفونات التي تنقل وقائع النقاش لأهل القرية من حضر منهم النقاش أو من فضل الاستماع لها من البيت حيث لم يكن بإمكان أحد من أهل القرية رجالا ونساء إلا المشاركة ولو بالترحيب بالضيوف والقيام علي خدمتهم..
افترش الجميع الرمال ما عدانا نحن الضيوف الذين لم نغادر مقاعدنا التي بدت غريبة فوق تلال الرمال إلا إلي بيوت أهالي القرية وقلوبهم التي كانت أكثر رحابة من صحراء لا تبلغ العين مداها.
برنامج متنوع
الندوة هي السابعة في سلسلة الندوات التي تنظمها منظمة آل البيت التي تأسست حديثا، وقد أطلق عليها اسم المرحوم الشريف محمد الأمين الشيخ، وكانت هناك رعاية ومباركة لها من الشيخ صالح امباكي ابن شيخ السنغال الأشهر أحمدو بمبا ساكن مدينة طوبا ذات الأهمية الدينية بالسنغال وحضور مشايخ الطرق والزوايا الصوفية.
وكان عنوان الندوة بليغا في التعبير عن أهدافها فقد علت أشغالها لافتة كبيرة كتب عليها:’’ القائمون علي الدين إذا اجتمعوا علي إقامته ولم يتفرقوا فيه لم يقهرهم عدو’’
فقد كان هناك محور للتصوف كان من أهم موضوعاته: دلالات التقريب بين المسلمين في المنهج المريدي وأثر الطريقة القادرية الفاضلية علي مجتمع حوض نهر السنغال والصحراء الكبرى
وفي محورالفكر الإسلامي ناقشت الندوة قضايا مثل: الإمامة في بلاد السودان الغربي بين الفقهاء والمتصوفةـ وأثر الفقه والتصوف الأندلسي علي المجتمع الصحراي المغربي، والمهدوية في الأديان السماوية ودورها في صراع الحضارات، والأثر الصوفي علي الحركات الإسلامية المعاصرة، والمرأة في الغرب الإسلامي وتفعيل التقريب..
وفي المحور التاريخي نوقشت قضايا مثل المرابطون وقراءة جديدة في التاريخ وحركة الهجرة، والتبادل التاريخي بين الشمال والجنوب وانعكاسه علي تشكل الهوية في الغرب الإسلامي.
وكان هناك محور عن المحظرة الموريتانية التي هي مدارس القرآن التقليدية والتي ينظر إليها كجامعات مفتوحة.
كما كان هناكة محور قانوني عالج قضايا مثل الرقيق والتبيعة والحدود السياسية وعوائق التقارب في الغرب الإسلامي.
إضافة إلي المحور الأدبي الذي ركز علي الأدب الصوفي بشكل خاص.
لقد شارك في أعمال الندوة فقهاء ومتصوفة من جميع المدارس الفقهية والطرق والزوايا الصوفية في الغرب الأفريقي تقريبا.
التقريب ضرورة اللحظة
انطلقت الندوة من الإحساس بخطورة أن ألف سنة مرت علي هذه المنطقة والصراع فيها محتدم بين مدرسة الإحسان التصوفية والمدارس الفقهية والسلفية منها خاصة، وأن هذا الصراع والمواجهات بل والمناظرات التي تخللته ولدت شرخا كبيرا بين الناس بل وكثيرا ما وصلت إلي حد التكفير وإراقة الدماء بما عرقل جهود الدعوة إلي الله في أدغال افريقيا القارة الني كان ينظر إليها باعتبارها قارة الإسلام قبل أن تجتاحها جيوش التنصير، ..وهو ما استدعي البحث عن إمكانية اللقاء بين الصوفية والفقهاء من أجل استئناف الدعوة الإسلامية لمسيرتها مجددا.
وكان واضحا في الندوة كذلك الإحساس بالخطر من أن هذا الصراع بين الفقهاء والمتصوفة فتح الباب لاختراق التشيع للفضاء السني المالكي الذي ظل مهيمنا علي هذه المنطقة المهمة من العالم الإسلامي، إذ بدا أن قطاعا كبيرا من بلدات الغرب الأفريقي الإسلامية السنية تتشيع عبر قنطرة التصوف والحديث عن فضل آل البيت؛ فالديبلوماسية الإيرانية هي الأكثر نشاطا، والحضور الإيراني يتعاظم ويحاول اختراق التجمعات الدينية التقليدية وعلي رأسها الطرق الصوفية. حتى استطاعت إيرات فتح أقسام لدراسة الفقه الشيعي والتشيع في بعض جامعات دولة مثل غانا المعروفة تاريخيا بكونها سنية مالكية.
لقد أثار المد الشيعي في المنطقة الإحساس بالخطر لدي الفقهاء والمتصوفة الذين جمعتهم الندوة التي سعت للتقريب بينهم ولكن من واقع فهم مختلف لفكرة التقريب أساسه أن التقريب يفترض أن يكون بين المدارس السنية والتي تنتمي إلي مذهب واحد ( أهل السنة ) وليس بين المذاهب المختلفة.
كما فرقت الندوة بين تجليات مختلفة للتصوف وتحاول الكشف عن خصوصية التصوف في هذه المنطقة من العالم الإسلامي، فالصوفية في الغرب الأفريقي كانت دائما رائدة الجهاد ضد المستعمر في عموم أفريقيا، وأعلام الجهاد في هذه المنطقة هم علي الإجمال متصوفة مثل الشيخ عبد القادر الجزائري والشيخ عبد الكريم الخطابي والشيخ ماء العينين في صحراء المغرب والشيخ عمر الفوتي والشيخ عثمان دا فوديو في غرب أفريقيا الشيخ أحمدو بمبا والشيخ مابا خوباه في السنغال ومالك سيسي في بوندو وفولتا العليا.. وكانت أعمال الندوة حاسمة في التأكيد علي أن التصوف في الغرب الافريقي ظل جهاديا مناضلا ولم يعرف ما عرفته بعض بلاد المشرق من تقاعس للطرقية الصوفية في مواجهة المستعمر.
وربما كانت هذه الروح التي دفعت بمنظمي الندوة لتخصيص بعض محاورها لقضية الصراع العربي الصهيوني (مثل: باب المغاربة في القدس الشريف والحضور المغاربي في الصراع العربي الصهيوني، ودور آل البيت التاريخي في الصراع الفلطسيني الصهيوني) إضافة إلي دعوة سفير فلسطين ليكون في مقدمة الحضور إضافة إلي توصيات الندوة بضرورة قطع العلاقات الموريتانية مع الكيان الصهيوني والتي رأت أنها غريبة علي الشعب الموريتاني.
لقد حددت الندوة هدفها بتقريب الخطاب الفقهي من المتصوفة وإعادة التفاهم وأعلنت أنها أقرب إلي محاولة للصلح أو التقارب بين التصوف والفقه، وكان هناك تركيز علي رفع التناقض بين التصوف والفقه وتأكيد مستمر علي أنه تناقض طارئ إذ لم يكن في القرون الأولي أي تعارض
فالصوفية الأوائل اتبعوا السلف، والخلاف جاء في عصر التخصص والمصطلح، فمطلب الصوفي ما هو الأفضل ومطلب الفقيه هو ما يسقط به الحرج ومن ثم فهما متكاملان وليسا متناقضان.
نموذج لقرية من الغرب الإفريقي الإسلامي
و’’تيكماطين’’ قرية عريقة جدا ومعظم سكانها ينتسبون إلي ’’ آل البيت ’’ رغم ملامح أفريقية تبدو ظاهرة علي وجوهم بفعل التصاهر مع قبائل أفريقية علي مدار القرون
تقول كتب التاريخ أن القرية تأسست عام 927 هجريا في الفترة الزمنية نفسها التي تأسست فيها مدينة مراشك الشهيرة عاصمة دولة المرابطين بالمغرب ..كانت القرية من القري التي أسسها المرابطون الذين امتدت دولتهم في الغرب الأفريقي، وكانت إحدى أهم نقاط التواصل بين المجتمع الأفريقي ( السودان الغربي ) والمجتمع العربي المهاجر من السلالة الإدريسية التي تنحدر من ذرية المولي إدريس مؤسس أول دولة في المغرب بعد الإسلام.
ولكن أهالي القرية يقولون أن بها آثارا تعود لألف عام مضت، ربما كان الاسم يطلق علي كامل المنطقة التي تقع فيها القرية، ويؤكد ذلك ما يقوله المرخ الموريتاني حسن ولد محنض من أن الملك حنّون الروماني القادم من قرطاج رست سفنه في حوض ’’ تيكماطين ’’ بحثا عن الذهب.
لأهالي تيكماطين اعتزاز غريب بقريتهم ويروون مأثوراتها ومآثرها بشكل يصعب معه علي المرء أن يتصور أنها مجرد قرية لا يزيد سكانها علي الألف نسمة تقريبا..ولكنهم دائما ما يستحضرون في حكاياتهم ما لها من مكانة ترجع إلي ما ساهمت به تاريخيا وسياسيا علي مستوي الغرب الإسلامي كله وليس موريتانيا من أيام انطلاقة دولة المرابطين.
لقد كانت تيككاطين معبرا مرت عليه قبائل المجتمع الوولفي الأفريقي استجابة لنداء الجهاد الذي أطلقه المرابطون لنجدة مسلمي الاندلس قبل خمسة قرون.
ما بين الجلسات وأثناء تناول الطعام والراحة كان أهالي القرية يروون لي بعضا من تاريخها..أشاروا إلي ما ذكره عنهم الوزير الفوشتالي الوزير في دولة السعديين في كتابه ’’ مناهل الصفا ’’ من أن الشريف إبراهيم رضوان جد أهالي تيكماطين قابل صحبة ملوك بلاد السودان قوات المنصور السعدي بعدما هدمت مدينة تمبكتو التاريخية..وأنه شارك في صد عداون السعديين ورد توغلهم في منقطة حوض النهر.
كما شاركوا في حروب ( شربّبا ) التي جرت في القرن السادس عشر بين طلبة المحاضر القرانية وحملة العلم من جهة وبين السلطة الجائرة التي حاولت إلغاء التشريعات الإسلامية المعمول بها بين القبائل..وهي حروب تعد من أشهر الحروب التي عرفتها المنطقة منذ مجيء المرابطين..ويذكر كتاب شيم الزوايا للشيخ اليدالي أن أهالي تيكماطين كان لهم فيها دور مؤثر.
لطالما كانت القرية في مفترق طرق القوافل ما بين مدينة الصويرة بالمغرب وياكل في السنغال وهي الطرق التي كانت تمر بها قوافل تجارة الصمغ العربي وريش النعام..وهو ما ساعدها أيضا علي أن تظل مزارا وموطنا أو ملجأ لغالب العارفين بالله الذين لجئوا إلي الغرب الأفريقي
ذكروا لي أن ممن زار القرية من الأولياء الشيخ سيدي محمد الكنتي والشيخ أحمد بازيد الباركللي المعروف بولد الرازقة وسيدي عبد الكريم المعيلي..وغيرهم من الأعلام الذين نشروا الإسلام في أفريقيا والأخير هو أبرز من نشر الطريقة القادرية في افريقيا السوداء..كما أشاروا إلي أن الشيخ ابراهيم الاموي مفتي المرابطين دفن وله قبر في ضواحي قريتهم.
ولأنني من مصر فقد حدثوني عن الشريف سيدي محمد الصعيدي الولي الصوفي الذي جاء لزيارتهم من مصر.
أما أبرز شيوخ القرية وأعلامها الذين تفتخر بهم القرية فهو الشيخ ’’ بوبزّولة’’، وهو رحالة اسمه الاصلي محمد بن شمس الدين بوبزولة الإدريسي، نشر الدين الاسلامي في هذه المنطقة حتي نيجيريا وتزوج من قبائل الهوسا الأفريقية، وقد عرف بهذا اللقب اشارة الي ما يشاع عنه بين العوام من كرامة ..فهو بعد أن انفصل عن زوجته الهوساوية سافر بمولوده الرضيع ولما جاع الرضيع في الصحراء أرضعه الشيخ بثديه حتى شبع فسمي ’’بوبزّولة’’ والثدي عند الحسانية يسمي بزّول.
وأحفاد بوبزّولة هم أمراء صوكوتو في نيجيريا ومن أشهرهم الأمير أحمد لديت الذي كان من أبرز من قاوموا الاستعمار الفرنسي في المنطقة.
ولأهالي قرية تيكماطين صلات قوية بالفضاء الإسلامي المحيط بهم خاصة السنغال، ويروي أهل القرية باعتزاز أن أكبر المدارس القرآنية في السنغال هي التي أسسها أجداد تيكماطين مثل المختار ولد مبا. كما كان لهم تأثير كبير في مسلمي السنغال وخاصة الشيخ أحمد بمبا شيخ الطريقة المريدية في طوبا بالسنغال وهي طريقة قادرية الأصل هي الأكثر حضورا وتأثيرا في الغرب الأفريقي..وقد كانت لهم به صلة روحية فكانوا يمدونه بالمصاحف وساعدوه أثناء مقاومته للاستعمار الفرنسي عام 1927، وعلي اسمه تسمي أحمدو بمبا العالم الصوفي الشاب الذي أشرف علي تنظيم الملتقي، وابن شيخ القرية الإمام محمد سعيد صيار.
الجيل الجديد من المتصوفة
بقي أن نقول أن منظمة آل البيت التي نشأت في قرية نائية بالصحراء هي نموذج للعمل الأهلي الشعبي القادر علي الاستغناء عن أموال التمويل الغربي والرسمي فهو ذاتي النفقة ولا يأخذ تبرعات وإنما يعتمد علي دعم المريدين.
وقد تأسست لتقوم بمهمة حفظ للنسل الشريف حيث تسعي لجمع سلاسل ومشجرات الأنساب الشريفة في موريتانيا والغرب الأفريقي ودراستها علي ضوء الهجرات ومعطيات التاريخ، وكذلك التأريخ للمدارس الصوفية في أفريقيا ومعرفة نظرتها إلي آل البيت، وأخيرا غربلة الموروت الأفريقي الصامت وتحديد موقع أل البيت فيه.
والحق أن القائمين علي هذه المؤسسة يمثلون الجيل الجديد من المتصوفة والذي يسعي إلي تجديد التصوف وتنقيته وإعطائه دينامية حركية أولا عبر التحاور مع أبناء المدارس الإسلامية الأخرى السنية بشكل خاص، والانفتاح علي وجهات النظر المختلفة حتى ولو كان لها ما تأخذه علي التصوف، ثم إن هذا الجيل علي درجة كبيرة من الوعي بخطر انغلاق التصوف أو عدم إدراكه للمخاطر التي تتهدده وعلي رأسها التشيع.
>مرصدالظاهرة