الشيخ القرضاوي والإخوان..
قراءة في جدلية الشيخ والحركة (3/3)
بقلم: حسام تمام *
امتلك الشيخ القرضاوي المفاتيح السابقة ولكنه لم ينفرد بها بل ربما شاركه فيها آخرون بقدر يزيد وينقص، أما المفتاح الذي انفرد به فهو القدرة على صياغة علاقة فريدة مع التنظيم تتجاوزه دون أن تصطدم به. وقد نجح الشيخ القرضاوي في ذلك بسبب توفره على جملة صفات خاصة وبسبب استراتيجيته التي اتبعها في علاقته مع تنظيم الإخوان.
لقد حسم الشيخ القرضاوي أمره مبكرا وطوال علاقته بالحركة بالانتماء للخط العام في الحركة والولاء لقيادتها الشرعية المجمع عليها دون الارتباط في مشروعات جانبية يمكن النظر إليها باعتبارها تمثل ’’ جيوبا ’’ تنظيمية أو تيارات مخالفة للجماعة، التزم الشيخ القرضاوي بهذا الانتماء مهما كان تقديره لكفاءة هذه القيادة مادامت شرعية ومجمعا عليها، ولم يتورط في مشروعات جانبية مهما كان اتفاقه مع أفكارها وتقديره لها.
لقد التزم الشيخ القرضاوي هذا حين وقعت الأزمة الشهيرة عام 1954 واختلفت الجماعة حول شخص المرشد الثاني المستشار حسن الهضيبي، فرغم أن الشيخ القرضاوي كان أقرب إلى منطق وجبهة من عرفوا بتيار المشايخ و الأزهرية المعارض للهضيبي وسياساته ( يمثله الشيوخ محمد الغزإلى وسيد سابق وعبد المعز عبد الستار..) فلم يصل الأمر بالشيخ القرضاوي إلى الانضمام إلى هذه الجبهة حين انشقت على الجماعة أو احتجت على قرار فصلها. بل التزم الشيخ القرضاوي ما انتهت إليه القيادة الممسكة بدفة التنظيم، وعاش معها فترة السجن والتزم بأوامرها وتكليفاتها دون أن يعلن خلافه معها أو رفضه لقيادتها رغم وقع السجن وهول التعذيب وسعي جمال عبد الناصر ونظامه لضرب وحدة الإخوان التنظيمية.
لقد تأثرت جماعة الإخوان بدء من النصف الثاني من عقد الستينيات بأطروحات سيد قطب التي كانت تحمل في داخلها انقلابا على أفكار المؤسس حسن البنا، كانت الأطروحات القطبية أكثر تشددا وانكفاءً على الذات، وأكثر ميلا للمفاصلة مع المجتمع والتصدي لما تراه خروجا على المنهج الإسلامي ، ومن ثم أكثر استعداد للتصادم مع هذا المجتمع.
تكرر الأمر كذلك مع حزب الوسط الذي يمكن النظر إليه كأكبر انشقاق تنظيمي عرفته الجماعة منذ أزمة المرشد الثاني، فرغم أن الشيخ القرضاوي كان متعاطفا مع هذا المشروع وقريبا من أبناء الجيل الذي قاد التجربة – جيل الوسط؛ ورغم أن أصحاب المشروع الحزب أكدوا في ورقته المذهبية تأثرهم باجتهاداته وآرائه في الفقه السياسي (جواز التعددية الحزبية، وفكرة الإسلام الحضاري) إلا أن الشيخ القرضاوي لم يدخل طرفا في هذا المشروع خاصة بعدما انتقل من محاولة تجديدة إلى خصومة تنظيمية مع جماعة الإخوان والقيادة الشرعية لتنظيمها الشرعي. واكتفى بموقع الناصح للجماعة الناقد لسياستها في هذا الملف والداعم فكريا ومعنويا من طريق غير مباشر لهؤلاء الشباب من جيل الوسط .. واستمر الشيخ القرضاوي يلقي سنويا وفي كل إجازة صيف محاضرة في المنتدي الذي يعقده حزب الوسط بمقر المركز الدولي للدراسات في الوقت الذي يحل ضيفا على الفاعليات التي تقيمها الجماعة في بعض النقابات المهنية أو نوادي أعضاء هيئة التدريس.
مثلما حسم الشيخ القرضاوي انتماءه وولاءه للخط العام الحركي للإخوان فقد وضح حسم انتمائه أيضا للتيار العام الفكري الوسطي للحركة والذي أسسه مؤسس الجماعة، وهو التيار الذي يعرف بالتيار البناوي ( نسبة للشيخ حسن البنا ). ولم يعرف عن الشيخ القرضاوي ارتباطه بأي اتجاهات فكرية أخرى فرعية تخرج به عن هذا التيار، بل لقد خاض مبكرا مواجهات ’’ فكرية ’’ ضد التيارات وكان من أبرز من تصدّوا لها خاصة المتشدد منها.
حدث ذلك مبكرا حين اختلف الشيخ القرضاوي مع شيخه وأستاذه البهي الخولي مسئول الدعوة في المكتب الإداري للإخوان في مديرية الغربية التي كان يتبع لها، فقد جمع الخولي عددا من أبناء الإخوان النابهين وكوّن منهم ما أسماه بـ ( كتيبة الذبيح ) بغرض تربيتهم تربية روحية خاصة على المنهج الصوفي الذي يرى أن من لا شيخ له فالشيطان شيخه ويبالغ في طاعة المريد لشيخه، وقد دعا الخولي تلميذه الشيخ القرضاوي مع عدد من أقرانه النابهين ( منهم أحمد العسال وعبد العظيم الديب من الأزهر )، فرفض الشيخ القرضاوي الشاب دعوة أستاذه بسبب ما رآه من تربية تخالف المنهج البناوي حيث تقوم على السمع والطاعة المطلقة وتستحضر الطرقية الصوفية التي تنعدم فيها شخصية المريد لتذوب في إرادة شيخه. وكان هذا وعيا مبكرا من القرضاوي- ولم يزل شابا في المرحلة الثانوية- بالتيار الفكري والتربوي الذي ينتمي إليه ويتمثله بحيث يمكن أن يدافع عنه أمام من كان وقتها يقف منه موقف التلميذ.
تكرر ذلك في خروج آخر ولكنه أكبر وأشد تأثيرا على التيار البناوي في الجماعة، وهو التيار القطبي ( نسبة إلى الشهيد سيد قطب ). لقد تأثرت جماعة الإخوان بدء من النصف الثاني من عقد الستينيات بأطروحات سيد قطب التي كانت تحمل في داخلها انقلابا على أفكار المؤسس حسن البنا، كانت الأطروحات القطبية أكثر تشددا وانكفاءً على الذات، وأكثر ميلا للمفاصلة مع المجتمع والتصدي لما تراه خروجا على المنهج الإسلامي ، ومن ثم أكثر استعداد للتصادم مع هذا المجتمع.
ربما وباستثناء رسالة ( دعاة لا قضاة ) التي تنسب للمرشد الثاني القاضي حسن الهضيبي لم تقدم الجماعة نقدا جديا مؤسسيا لأفكار سيد قطب، بل كان الغالب أنها استحضرت أفكاره وكتاباته في بنيتها الفكرية والتربوية في مراحل مختلفة، خاصة بعد إعدامه وتحوله رمزا للحركة الإسلامية في كل أنحاء العالم وأكاد أجزم بأن الشيخ الشيخ القرضاوي كان من أوائل من تجرؤا على نقد سيد قطب وسعوا إلى استعادة الإخوان للمنهج البناوي.
في الثمانينيات من القرن الفائت وأثناء علو الخطاب القطبي وسطوته كتب الشيخ القرضاوي مقالة في جريدة الشعب المصرية القريبة من الحركة الإسلامية كانت الأولى في نقد بعض أفكار سيد قطب. ثم خصص فيما بعد مساحات كبيرة في الجزء الثالث من مذكراته لاستكمال هذا النقد بما أثار عليه ثائرة عدد كبير من الكتاب والقيادات الحركية الإسلامية حتى من داخل جماعة الإخوان نفسها.. فكانت واحدة من المعارك الفكرية الإسلامية المهمة في الأعوام الأخيرة.
استطاع الشيخ القرضاوي الانتقال في علاقته بالتنظيم من موقع التبعية أو الانضباط التنظيمي إلى لعب دور الإلكترون الحر الذي ينتمي إلى الحركة ولكن دون أن يقع أسير منطقها التنظيمي.. ومع الزمن صار مثل هذا التساؤل يقابل بسخرية إما لأن الإجابة عنه تبدو بدهية أو لأنه صعبة..لذلك تحول الشيخ القرضاوي إلى مرشد لأبناء الجماعة وجمهورها دون سؤال منهم عن موقعه التنظيمي داخلها.
ومثلما جسد الشيخ القرضاوي للحركة خط الدفاع عن تيارها العام في مواجهة أفكار وافدة تمددت في فراغ غياب المؤسس مثلما حدث مع سيد قطب، فقد جسد القدرة على تمثيل الخط العام للحركة فكريا وفقهيا ولكن من دون الجمود عليه بل مع إعطائه طاقة تجديدية، فرغم أنه صار يمثل امتدادا فقهيا وفكريا وتربويا للإمام المؤسس للبنا إلا أنه لم يكن امتداد المقلد المتبع بل المجدد القادر على مخالفة إمامه ولكن خلاف التلميذ مع شيخه وليس خروجا عليه تماما كما فعل في رفضه لما ذهب إليه البنا من منع المرأة من حقوقها السياسية، أو رفضه لموقف البنا الرافض للأحزاب والحزبية، أو خلافه مع ما ذهب إلىه البنا من إمكان تلبس الجن بجسد الإنسان. والشيخ القرضاوي يسوق اجتهاداته في هذا الصدد في سياق المجتهد الذي يكمل على خطى شيخه ولكنه يخالفه في بعض اجتهاداته دون أن يمنعه ذلك من الإقرار له بالفضل والتقدمة.
أما أكثر ما تميز الشيخ القرضاوي به في سياق صياغته لعلاقته مع الإخوان فهو قدرته المذهلة على تحديد موقعه المناسب له في الحركة وتطوير هذا الموقع وفق تطوره الشخصي وبحيث يتناسب مشروعه الخاص مع مشروع الحركة العام. مبكرا حدد الشيخ القرضاوي موقعه في الحركة واختار أن يكون عمله فيما يتصل بتخصصه ومجال اهتمامه ونبوغه، فعمل في قسم نشر الدعوة الذي يتناسب واهتماماته وملكاته الذاتية، وحين التحق بقسم الاتصال بالعالم الإسلامي ظل عمله داخل القسم منصبا على نشر الدعوة خارج القطر المصري ولم يكن عملا تنظيميا. بل إن الشيخ القرضاوي لم يتردد دائما ومبكرا في رفض العمل التنظيمي إلا ما يتصل منه بمشروعه الدعوي الشرعي لذلك فلم يرحب بتولي المهام التنظيمية وكان أول موقع تنظيمي قبله هو مسئولية الإشراف على الأزهر الشريف.
ثم للرجل قدرة تثير الإعجاب على أن يحدد وبدقة متى يبدأ التنظيم والعمل التنظيمي ومتى ينتهي في حياته وأين يلتقي معه وأين يبتعد عنه، وهو قادر على استشعار التغيرات التي تطرأ أو التي يجب أن تتم على علاقته بالتنظيم حضورا وغيابا قربا وبعدا.
لذا لم يتردد الرجل الذي بدأ حياته في جماعة الإخوان واعتقل بسببها مرتين أن يرفض منصب المرشد العام مرتين إحداها وهو في مقتبل حياته الدعوية وقبل أن يسطع نجمه. لقد رفض القرضاوي- حتى قبل أن يملأ الدنيا ويشغل الناس- منصب المرشد حين عرض عليه عام 1976 الذي كان قد خلا بعد وفاة المرشد الثاني القاضي حسن الهضيبي وبقت الجماعة مدة عامين من دون مرشد..لقد أدرك الشيخ القرضاوي مبكرا أن موقعه الصحيح لخدمة دعوته وفكرته ليس في العمل التنظيمي بالجماعة حتى وإن في قمة هرمه؛منصب المرشد فكتب رسالته إلى الدكتور محمود أبي السعود عضو الهيئة التأسيسية الذي تولى عرض المنصب عليه قائلا:
إني أعتقد أن من مصلحة الدعوة التي أنتمي إليها، ومصلحة الإسلام عامة، الذي نذرت نفسي لخدمته: أن أظل مشتغلا بالعلم وبالبحث، لإتمام ما عندي من مشروعات علمية أراها مهمة ونافعة إن شاء الله. وقد أتيح لي الآن - من خلال موقعي ومعرفة الناس بي - أن أتصل بالجمعيات العلمية في مؤتمرات عربية وإسلامية وعالمية شتى. ومن الخير أن يستمر هذا الاتصال بعد أن فرضت على العزلة مدة طويلة في مكان قصي منعزل. إن جماعتنا لم تخل - ولن تخلو إن شاء الله - من الكفايات القادرة على قيادة السفينة بقوة وأمانة، ولن تعدموا (القوي الأمين) أو (الحفيظ العليم) في صفوف الحركة، بعون الله
’’إني أعتقد أن من مصلحة الدعوة التي أنتمي إليها، ومصلحة الإسلام عامة، الذي نذرت نفسي لخدمته: أن أظل مشتغلا بالعلم وبالبحث، لإتمام ما عندي من مشروعات علمية أراها مهمة ونافعة إن شاء الله.
وقد أتيح لي الآن - من خلال موقعي ومعرفة الناس بي - أن أتصل بالجمعيات العلمية في مؤتمرات عربية وإسلامية وعالمية شتى. ومن الخير أن يستمر هذا الاتصال بعد أن فرضت على العزلة مدة طويلة في مكان قصي منعزل.
إن جماعتنا لم تخل - ولن تخلو إن شاء الله - من الكفايات القادرة على قيادة السفينة بقوة وأمانة، ولن تعدموا (القوي الأمين) أو (الحفيظ العليم) في صفوف الحركة، بعون الله’’
ثم عاد وجدد الرفض مرة ثانية عام بعد وفاة المرشد الخامس مصطفى مشهور حين عرض عليه المأمون الهضيبي التنازل عن المنصب له إذا ما قبل قيادة الجماعة، واعتبر الشيخ القرضاوي وقتها أنه قد صار ملكا للأمة كلها بما يمنعه من أن يحصر نفسه في جماعة أو تنظيم ولو كان بحجم وانتشار وتأثير الإخوان المسلمين...ولم يكن الشيخ القرضاوي يقارب الأمر من منطق برجماتي بقدر ما كان يقدر بدقة موقعه المفترض من الجماعة ويستشعر التغيرات التي تطرأ عليه وتلزمه.
وقد استطاع الشيخ القرضاوي الانتقال في علاقته بالتنظيم من موقع التبعية أو الانضباط التنظيمي إلى لعب دور الإلكترون الحر الذي ينتمي إلى الحركة ولكن دون أن يقع أسير منطقها التنظيمي، لذا فقد ظل الجميع يعرفون الشيخ القرضاوي كواحد من جماعة الإخوان دون أن يسألوا عن موقعه التنظيمي أو وضعيته قبولا ورفضا من قيادة التنظيم..ومع الزمن صار مثل هذا التساؤل يقابل بسخرية إما لأن الإجابة عنه تبدو بدهية أو لأنه صعبة..لذلك تحول الشيخ القرضاوي إلى مرشد لأبناء الجماعة وجمهورها دون سؤال منهم عن موقعه التنظيمي داخلها.
كما امتلك الشيخ القرضاوي كذلك القدرة على تجاوز الإطار التنظيمي وعقباته ولكن دون الوقوع في مأزق الاضطرار للخروج عليه ومن ثم الاصطدام به، فهو استطاع انجاز انتقال هادئ من المركز إلى التخوم ومن التخوم إلى خارج التنظيم بتدرج ودون صدام، لذلك لم يعرف عنه خروج تنظيمي رغم أنه حدث، ولم يتطرق جمهور الإخوان إلى السؤال عن علاقته بالتنظيم رغم أنه خارج التنظيم فعلا، بل وربما اكتشف الإخوان- فيما بعد- أنه من الأفضل عدم إثارة هذا السؤال الذي يسيء لمن يطرحه ولن يترتب عليه أي فعل أو موقف من الرجل إيجابا ولا سلبا.
لقد أدى امتلاك الشيخ القرضاوي لهذه القدرة في صياغة علاقة خاصة مع التنظيم إلى تجاوزه الإطار الإخواني تنظيما وحركة إلى مواقع أخرى لم تكن مفتوحة فيما قبل أمام المدرسة الإخوانية مثلما هو الحال مع تيار السلفية الإصلاحية، فصار الشيخ القرضاوي مقبولا بل وأحيانا مرجعا معتمدا لدى تيار السلفية الإصلاحية في السعودية ودول الخليج، وصارت بينه وبين رموزها صلات قوية كما هو الحال مع الشيخ سلمان بن فهد العودة وسفر الحوإلى وعائض القرني...ربما لم يحدث هذا مع شيخ ’’ إخواني ’’ غير القرضاوي، وهو عكس ما جرى - مثلا- مع الشيخ محمد الغزإلى رغم وحدة الفكر التي تجمعهما حتى التطابق. ولم يكن مرد الأمر إلى حدة الغزالى وقسوته في نقد السلفية بما جر عليه خصومات وأشعل بينه وبينها المعارك، بل لقدرة خاصة لدى الشيخ القرضاوي في إدارة العلاقة مع الفاعلين الإسلاميين بما يجعله قادرا ليس فقط على تجاوز الانتماء التنظيمي وما قد يترتب عليه من إشكالات بل وتجاوز الانتماء الفكري والمذهبي بما يسمح له بتجاوز مظلته التنظيمية والحركية لمخاطبة آخرين من خارجها.
للتواصل: [email protected]
.الشهاب
قراءة في جدلية الشيخ والحركة (3/3)
بقلم: حسام تمام *
امتلك الشيخ القرضاوي المفاتيح السابقة ولكنه لم ينفرد بها بل ربما شاركه فيها آخرون بقدر يزيد وينقص، أما المفتاح الذي انفرد به فهو القدرة على صياغة علاقة فريدة مع التنظيم تتجاوزه دون أن تصطدم به. وقد نجح الشيخ القرضاوي في ذلك بسبب توفره على جملة صفات خاصة وبسبب استراتيجيته التي اتبعها في علاقته مع تنظيم الإخوان.
لقد حسم الشيخ القرضاوي أمره مبكرا وطوال علاقته بالحركة بالانتماء للخط العام في الحركة والولاء لقيادتها الشرعية المجمع عليها دون الارتباط في مشروعات جانبية يمكن النظر إليها باعتبارها تمثل ’’ جيوبا ’’ تنظيمية أو تيارات مخالفة للجماعة، التزم الشيخ القرضاوي بهذا الانتماء مهما كان تقديره لكفاءة هذه القيادة مادامت شرعية ومجمعا عليها، ولم يتورط في مشروعات جانبية مهما كان اتفاقه مع أفكارها وتقديره لها.
لقد التزم الشيخ القرضاوي هذا حين وقعت الأزمة الشهيرة عام 1954 واختلفت الجماعة حول شخص المرشد الثاني المستشار حسن الهضيبي، فرغم أن الشيخ القرضاوي كان أقرب إلى منطق وجبهة من عرفوا بتيار المشايخ و الأزهرية المعارض للهضيبي وسياساته ( يمثله الشيوخ محمد الغزإلى وسيد سابق وعبد المعز عبد الستار..) فلم يصل الأمر بالشيخ القرضاوي إلى الانضمام إلى هذه الجبهة حين انشقت على الجماعة أو احتجت على قرار فصلها. بل التزم الشيخ القرضاوي ما انتهت إليه القيادة الممسكة بدفة التنظيم، وعاش معها فترة السجن والتزم بأوامرها وتكليفاتها دون أن يعلن خلافه معها أو رفضه لقيادتها رغم وقع السجن وهول التعذيب وسعي جمال عبد الناصر ونظامه لضرب وحدة الإخوان التنظيمية.
لقد تأثرت جماعة الإخوان بدء من النصف الثاني من عقد الستينيات بأطروحات سيد قطب التي كانت تحمل في داخلها انقلابا على أفكار المؤسس حسن البنا، كانت الأطروحات القطبية أكثر تشددا وانكفاءً على الذات، وأكثر ميلا للمفاصلة مع المجتمع والتصدي لما تراه خروجا على المنهج الإسلامي ، ومن ثم أكثر استعداد للتصادم مع هذا المجتمع.
تكرر الأمر كذلك مع حزب الوسط الذي يمكن النظر إليه كأكبر انشقاق تنظيمي عرفته الجماعة منذ أزمة المرشد الثاني، فرغم أن الشيخ القرضاوي كان متعاطفا مع هذا المشروع وقريبا من أبناء الجيل الذي قاد التجربة – جيل الوسط؛ ورغم أن أصحاب المشروع الحزب أكدوا في ورقته المذهبية تأثرهم باجتهاداته وآرائه في الفقه السياسي (جواز التعددية الحزبية، وفكرة الإسلام الحضاري) إلا أن الشيخ القرضاوي لم يدخل طرفا في هذا المشروع خاصة بعدما انتقل من محاولة تجديدة إلى خصومة تنظيمية مع جماعة الإخوان والقيادة الشرعية لتنظيمها الشرعي. واكتفى بموقع الناصح للجماعة الناقد لسياستها في هذا الملف والداعم فكريا ومعنويا من طريق غير مباشر لهؤلاء الشباب من جيل الوسط .. واستمر الشيخ القرضاوي يلقي سنويا وفي كل إجازة صيف محاضرة في المنتدي الذي يعقده حزب الوسط بمقر المركز الدولي للدراسات في الوقت الذي يحل ضيفا على الفاعليات التي تقيمها الجماعة في بعض النقابات المهنية أو نوادي أعضاء هيئة التدريس.
مثلما حسم الشيخ القرضاوي انتماءه وولاءه للخط العام الحركي للإخوان فقد وضح حسم انتمائه أيضا للتيار العام الفكري الوسطي للحركة والذي أسسه مؤسس الجماعة، وهو التيار الذي يعرف بالتيار البناوي ( نسبة للشيخ حسن البنا ). ولم يعرف عن الشيخ القرضاوي ارتباطه بأي اتجاهات فكرية أخرى فرعية تخرج به عن هذا التيار، بل لقد خاض مبكرا مواجهات ’’ فكرية ’’ ضد التيارات وكان من أبرز من تصدّوا لها خاصة المتشدد منها.
حدث ذلك مبكرا حين اختلف الشيخ القرضاوي مع شيخه وأستاذه البهي الخولي مسئول الدعوة في المكتب الإداري للإخوان في مديرية الغربية التي كان يتبع لها، فقد جمع الخولي عددا من أبناء الإخوان النابهين وكوّن منهم ما أسماه بـ ( كتيبة الذبيح ) بغرض تربيتهم تربية روحية خاصة على المنهج الصوفي الذي يرى أن من لا شيخ له فالشيطان شيخه ويبالغ في طاعة المريد لشيخه، وقد دعا الخولي تلميذه الشيخ القرضاوي مع عدد من أقرانه النابهين ( منهم أحمد العسال وعبد العظيم الديب من الأزهر )، فرفض الشيخ القرضاوي الشاب دعوة أستاذه بسبب ما رآه من تربية تخالف المنهج البناوي حيث تقوم على السمع والطاعة المطلقة وتستحضر الطرقية الصوفية التي تنعدم فيها شخصية المريد لتذوب في إرادة شيخه. وكان هذا وعيا مبكرا من القرضاوي- ولم يزل شابا في المرحلة الثانوية- بالتيار الفكري والتربوي الذي ينتمي إليه ويتمثله بحيث يمكن أن يدافع عنه أمام من كان وقتها يقف منه موقف التلميذ.
تكرر ذلك في خروج آخر ولكنه أكبر وأشد تأثيرا على التيار البناوي في الجماعة، وهو التيار القطبي ( نسبة إلى الشهيد سيد قطب ). لقد تأثرت جماعة الإخوان بدء من النصف الثاني من عقد الستينيات بأطروحات سيد قطب التي كانت تحمل في داخلها انقلابا على أفكار المؤسس حسن البنا، كانت الأطروحات القطبية أكثر تشددا وانكفاءً على الذات، وأكثر ميلا للمفاصلة مع المجتمع والتصدي لما تراه خروجا على المنهج الإسلامي ، ومن ثم أكثر استعداد للتصادم مع هذا المجتمع.
ربما وباستثناء رسالة ( دعاة لا قضاة ) التي تنسب للمرشد الثاني القاضي حسن الهضيبي لم تقدم الجماعة نقدا جديا مؤسسيا لأفكار سيد قطب، بل كان الغالب أنها استحضرت أفكاره وكتاباته في بنيتها الفكرية والتربوية في مراحل مختلفة، خاصة بعد إعدامه وتحوله رمزا للحركة الإسلامية في كل أنحاء العالم وأكاد أجزم بأن الشيخ الشيخ القرضاوي كان من أوائل من تجرؤا على نقد سيد قطب وسعوا إلى استعادة الإخوان للمنهج البناوي.
في الثمانينيات من القرن الفائت وأثناء علو الخطاب القطبي وسطوته كتب الشيخ القرضاوي مقالة في جريدة الشعب المصرية القريبة من الحركة الإسلامية كانت الأولى في نقد بعض أفكار سيد قطب. ثم خصص فيما بعد مساحات كبيرة في الجزء الثالث من مذكراته لاستكمال هذا النقد بما أثار عليه ثائرة عدد كبير من الكتاب والقيادات الحركية الإسلامية حتى من داخل جماعة الإخوان نفسها.. فكانت واحدة من المعارك الفكرية الإسلامية المهمة في الأعوام الأخيرة.
استطاع الشيخ القرضاوي الانتقال في علاقته بالتنظيم من موقع التبعية أو الانضباط التنظيمي إلى لعب دور الإلكترون الحر الذي ينتمي إلى الحركة ولكن دون أن يقع أسير منطقها التنظيمي.. ومع الزمن صار مثل هذا التساؤل يقابل بسخرية إما لأن الإجابة عنه تبدو بدهية أو لأنه صعبة..لذلك تحول الشيخ القرضاوي إلى مرشد لأبناء الجماعة وجمهورها دون سؤال منهم عن موقعه التنظيمي داخلها.
ومثلما جسد الشيخ القرضاوي للحركة خط الدفاع عن تيارها العام في مواجهة أفكار وافدة تمددت في فراغ غياب المؤسس مثلما حدث مع سيد قطب، فقد جسد القدرة على تمثيل الخط العام للحركة فكريا وفقهيا ولكن من دون الجمود عليه بل مع إعطائه طاقة تجديدية، فرغم أنه صار يمثل امتدادا فقهيا وفكريا وتربويا للإمام المؤسس للبنا إلا أنه لم يكن امتداد المقلد المتبع بل المجدد القادر على مخالفة إمامه ولكن خلاف التلميذ مع شيخه وليس خروجا عليه تماما كما فعل في رفضه لما ذهب إليه البنا من منع المرأة من حقوقها السياسية، أو رفضه لموقف البنا الرافض للأحزاب والحزبية، أو خلافه مع ما ذهب إلىه البنا من إمكان تلبس الجن بجسد الإنسان. والشيخ القرضاوي يسوق اجتهاداته في هذا الصدد في سياق المجتهد الذي يكمل على خطى شيخه ولكنه يخالفه في بعض اجتهاداته دون أن يمنعه ذلك من الإقرار له بالفضل والتقدمة.
أما أكثر ما تميز الشيخ القرضاوي به في سياق صياغته لعلاقته مع الإخوان فهو قدرته المذهلة على تحديد موقعه المناسب له في الحركة وتطوير هذا الموقع وفق تطوره الشخصي وبحيث يتناسب مشروعه الخاص مع مشروع الحركة العام. مبكرا حدد الشيخ القرضاوي موقعه في الحركة واختار أن يكون عمله فيما يتصل بتخصصه ومجال اهتمامه ونبوغه، فعمل في قسم نشر الدعوة الذي يتناسب واهتماماته وملكاته الذاتية، وحين التحق بقسم الاتصال بالعالم الإسلامي ظل عمله داخل القسم منصبا على نشر الدعوة خارج القطر المصري ولم يكن عملا تنظيميا. بل إن الشيخ القرضاوي لم يتردد دائما ومبكرا في رفض العمل التنظيمي إلا ما يتصل منه بمشروعه الدعوي الشرعي لذلك فلم يرحب بتولي المهام التنظيمية وكان أول موقع تنظيمي قبله هو مسئولية الإشراف على الأزهر الشريف.
ثم للرجل قدرة تثير الإعجاب على أن يحدد وبدقة متى يبدأ التنظيم والعمل التنظيمي ومتى ينتهي في حياته وأين يلتقي معه وأين يبتعد عنه، وهو قادر على استشعار التغيرات التي تطرأ أو التي يجب أن تتم على علاقته بالتنظيم حضورا وغيابا قربا وبعدا.
لذا لم يتردد الرجل الذي بدأ حياته في جماعة الإخوان واعتقل بسببها مرتين أن يرفض منصب المرشد العام مرتين إحداها وهو في مقتبل حياته الدعوية وقبل أن يسطع نجمه. لقد رفض القرضاوي- حتى قبل أن يملأ الدنيا ويشغل الناس- منصب المرشد حين عرض عليه عام 1976 الذي كان قد خلا بعد وفاة المرشد الثاني القاضي حسن الهضيبي وبقت الجماعة مدة عامين من دون مرشد..لقد أدرك الشيخ القرضاوي مبكرا أن موقعه الصحيح لخدمة دعوته وفكرته ليس في العمل التنظيمي بالجماعة حتى وإن في قمة هرمه؛منصب المرشد فكتب رسالته إلى الدكتور محمود أبي السعود عضو الهيئة التأسيسية الذي تولى عرض المنصب عليه قائلا:
إني أعتقد أن من مصلحة الدعوة التي أنتمي إليها، ومصلحة الإسلام عامة، الذي نذرت نفسي لخدمته: أن أظل مشتغلا بالعلم وبالبحث، لإتمام ما عندي من مشروعات علمية أراها مهمة ونافعة إن شاء الله. وقد أتيح لي الآن - من خلال موقعي ومعرفة الناس بي - أن أتصل بالجمعيات العلمية في مؤتمرات عربية وإسلامية وعالمية شتى. ومن الخير أن يستمر هذا الاتصال بعد أن فرضت على العزلة مدة طويلة في مكان قصي منعزل. إن جماعتنا لم تخل - ولن تخلو إن شاء الله - من الكفايات القادرة على قيادة السفينة بقوة وأمانة، ولن تعدموا (القوي الأمين) أو (الحفيظ العليم) في صفوف الحركة، بعون الله
’’إني أعتقد أن من مصلحة الدعوة التي أنتمي إليها، ومصلحة الإسلام عامة، الذي نذرت نفسي لخدمته: أن أظل مشتغلا بالعلم وبالبحث، لإتمام ما عندي من مشروعات علمية أراها مهمة ونافعة إن شاء الله.
وقد أتيح لي الآن - من خلال موقعي ومعرفة الناس بي - أن أتصل بالجمعيات العلمية في مؤتمرات عربية وإسلامية وعالمية شتى. ومن الخير أن يستمر هذا الاتصال بعد أن فرضت على العزلة مدة طويلة في مكان قصي منعزل.
إن جماعتنا لم تخل - ولن تخلو إن شاء الله - من الكفايات القادرة على قيادة السفينة بقوة وأمانة، ولن تعدموا (القوي الأمين) أو (الحفيظ العليم) في صفوف الحركة، بعون الله’’
ثم عاد وجدد الرفض مرة ثانية عام بعد وفاة المرشد الخامس مصطفى مشهور حين عرض عليه المأمون الهضيبي التنازل عن المنصب له إذا ما قبل قيادة الجماعة، واعتبر الشيخ القرضاوي وقتها أنه قد صار ملكا للأمة كلها بما يمنعه من أن يحصر نفسه في جماعة أو تنظيم ولو كان بحجم وانتشار وتأثير الإخوان المسلمين...ولم يكن الشيخ القرضاوي يقارب الأمر من منطق برجماتي بقدر ما كان يقدر بدقة موقعه المفترض من الجماعة ويستشعر التغيرات التي تطرأ عليه وتلزمه.
وقد استطاع الشيخ القرضاوي الانتقال في علاقته بالتنظيم من موقع التبعية أو الانضباط التنظيمي إلى لعب دور الإلكترون الحر الذي ينتمي إلى الحركة ولكن دون أن يقع أسير منطقها التنظيمي، لذا فقد ظل الجميع يعرفون الشيخ القرضاوي كواحد من جماعة الإخوان دون أن يسألوا عن موقعه التنظيمي أو وضعيته قبولا ورفضا من قيادة التنظيم..ومع الزمن صار مثل هذا التساؤل يقابل بسخرية إما لأن الإجابة عنه تبدو بدهية أو لأنه صعبة..لذلك تحول الشيخ القرضاوي إلى مرشد لأبناء الجماعة وجمهورها دون سؤال منهم عن موقعه التنظيمي داخلها.
كما امتلك الشيخ القرضاوي كذلك القدرة على تجاوز الإطار التنظيمي وعقباته ولكن دون الوقوع في مأزق الاضطرار للخروج عليه ومن ثم الاصطدام به، فهو استطاع انجاز انتقال هادئ من المركز إلى التخوم ومن التخوم إلى خارج التنظيم بتدرج ودون صدام، لذلك لم يعرف عنه خروج تنظيمي رغم أنه حدث، ولم يتطرق جمهور الإخوان إلى السؤال عن علاقته بالتنظيم رغم أنه خارج التنظيم فعلا، بل وربما اكتشف الإخوان- فيما بعد- أنه من الأفضل عدم إثارة هذا السؤال الذي يسيء لمن يطرحه ولن يترتب عليه أي فعل أو موقف من الرجل إيجابا ولا سلبا.
لقد أدى امتلاك الشيخ القرضاوي لهذه القدرة في صياغة علاقة خاصة مع التنظيم إلى تجاوزه الإطار الإخواني تنظيما وحركة إلى مواقع أخرى لم تكن مفتوحة فيما قبل أمام المدرسة الإخوانية مثلما هو الحال مع تيار السلفية الإصلاحية، فصار الشيخ القرضاوي مقبولا بل وأحيانا مرجعا معتمدا لدى تيار السلفية الإصلاحية في السعودية ودول الخليج، وصارت بينه وبين رموزها صلات قوية كما هو الحال مع الشيخ سلمان بن فهد العودة وسفر الحوإلى وعائض القرني...ربما لم يحدث هذا مع شيخ ’’ إخواني ’’ غير القرضاوي، وهو عكس ما جرى - مثلا- مع الشيخ محمد الغزإلى رغم وحدة الفكر التي تجمعهما حتى التطابق. ولم يكن مرد الأمر إلى حدة الغزالى وقسوته في نقد السلفية بما جر عليه خصومات وأشعل بينه وبينها المعارك، بل لقدرة خاصة لدى الشيخ القرضاوي في إدارة العلاقة مع الفاعلين الإسلاميين بما يجعله قادرا ليس فقط على تجاوز الانتماء التنظيمي وما قد يترتب عليه من إشكالات بل وتجاوز الانتماء الفكري والمذهبي بما يسمح له بتجاوز مظلته التنظيمية والحركية لمخاطبة آخرين من خارجها.
للتواصل: [email protected]
.الشهاب