منتصف ثمانينات القرن الماضي، كنت احد طلاب مدرسة "محمد طه ناجي" في أطراف جبل صبر، كان أغلب ان لم يكن كل مدرسينا من دول عربية مختلفة، السودان مصر الاردن، ومطلع السنة الاعدادية الثانية وقف أمامنا أول استاذ من المنطقة نفسها، بسيط لايكترث لشيء من مظاهر المعلمين، لكن بساطته منحته تميز وتأثير لايملكه أحد منهم.
مبتسم، يتحدث بلهجة البلاد، ولايقول الا ذكرا وعلما، دونما تكلف ولا تظاهر، وسريعا ماانتقلت علاقاتنا كطلاب واستاذ، الى اصدقاء لم تلاحظ صداقتهم فوارق العمر.
نكن لاشقائنا الذين علمونا كل الاجلال، لكنهم كانوا معلمين، يشعرونا بالفارق بين الطالب والاستاذ، ولذا لم تتعدى علاقاتنا بهم جدران الفصول، ولم يفتحوا لنا تطلعات شخصية للتغيير، ندرس لندرس وكفى، حتى جاء "محمد عبده علي" هكذا كنا ندعيه باسمه الثلاثي كأنه اسم واحد، بسيط كحال ابائنا، مهذب كأفضل مدرسينا، يشعرنا بقيمة "العلم" كمصدر مهيب للتغيير الذاتي والجمعي.
غير منطقتنا بأكملها، غير اشخاصنا، اغلب من عرفه وتأثر به لم يعد كما كان قبل معرفته أبدا.
منذ سمعت خبر اختطافه بجلطة الاسبوع الماضي، وانا احدثه يوميا، كأنه لم يغب.. عاجز عن نعيه، تتناثر الافكار حتى أعجز عن استيعابها.
ماكانت لنا من وسائل اتصالات.. الكتب والمجلات لاتصلنا الا بشق الانفس، اما عالم المرئيات فماكان التلفزيون اصلا قد انتشر ولا الكهرباء عمرت حياتنا.
بدأت حركات الاسلام السياسي تنتشر، السلفيون ايضا لحقوا عن قريب، وقبلهم كان اهل الدعوة والتبليغ، وبيئتنا التقليدية صوفية ضعيفة، زادها ضعفا الامكانيات التي انفتحت على مجتمعاتنا من ديار الاغتراب في الجوار.
حزبيا، ماسوى الاشتراكي والناصري، ولكنها تنظيمات مقيدة.
ووسط كل هذا التلاطم، كان "محمد عبده علي" متفردا يدير علاقاته كرجل علم متصوف لم يخض معاركا مع أحد، ولا قاطع أحد، ولا انخرط في أي صراعات ابدا.
لم أشعر بتعبير "كنهر جار" الذي قرأته عن كثير، كما شعرت به وصفا لهذا الانسان، بعد رحيله.
نهر جاري.. لايتسخ، لا يرد مغتسل، ولا يبقي وسخا، ولا يغير حتى صوت جريانه.
شرقنا وغربنا، وبقي هو "محمد عبده علي"، وبقي استاذنا بكل انتمائاتنا.. شيخنا بكل زياداتنا ونقصاننا.
تعلم بجهد ذاتي.. وعلم بجهد ذاتي.
الله كم شعرت بفقد الرحيل يا استاذ.. كم أشعر اليوم بغضب الفقد، عاجز عن نعيك كما تستحق، وفي اعماقي صوتك الرزين الهادئ الممتلئ تواضعا وثقة.
الا رحمة الله عليك يا أخي