كل ماكتب عنه لايقول شيئا..
لايبدو أن الناس تعرفه الا جملة عامة.
يكتب الناس عن مبادئ أحبوها ويجعلون "شيخ الاسلام" رمزية لها، لكن لاشيء عنه هو شخصيا.
نعي "الشيخ" كان احتفاء بـ"قيمه" التي حتى لم تعرف لكن الناس استشعروها، هكذا، كل منهم خطها من روحه وعقله الجمعي.
بحثت عن مقال صغير، كنت كتبته عنه.. ولم أجده، كتبته عن "العمراني كمؤسسة معرفية عابرة للزمان والمكان"..
فهذا الرجل عارك انغلاق "الهادوية" وهو شاب يكافح في حلق العلم بالجامع الكبير، "كنا نتعب من حمل الكتب"، كما سمعتها منه.. ففي ذلك الزمن كانت الكتب ضخمة.. مجلدات من ورق ثقيل.. وبدون وسيلة مواصلات.
ثم حين سقطت دولة "الامامة" تدافع الناس لاعتقاد انهم جمهوريين، عارك الرجل انغلاق "الجمهورية" فتمسك بعلمه وهيئته كواحد من "ابناء جوامع العلم، الكبير والبليلي" وغيرهما.
مدهش هذا الرجل البسيط، كيف كان يسرد المصادر المعرفية للفتوى.. يسرد اراء الشوكاني وابن الامير والمقبلي، وهو بذلك يثبت احترامه للفقه والعلم في مواجهة من اراد دفن موروثهم بتصورات انهم "نسخ وهابية" يمنية.
وفي نفس الفتوى يختمها بالقول: أما الهادوية.. أو وعند الهادوية، او يفصل: وفي شرح الازهار.. ويسرد ماقسم للمستمع من رزق معرفي.
في الوقت الذي كانت حركات الاسلام السياسي تدفن جهد "الزيدية" او حتى "الهادوية" بشكل أدق، كان القاضي يتمسك بالمعرفة، فعدم التسيس هو التزام عميق بـ"الانفتاح" أمام الفكرة أيا كان مصدرها.
له مبحث صغير جدا عن "الزيدية أقرب المذاهب الى السنة".
وكان يذهب للمدى الأكبر، فيستحضر الامام محمد عبده والافغاني.. ويمنح "رشيد" رضا مكانة أعلى.
ويرفض مأسسة الخطاب الديني كلية، وسأسرد جانبين من هذه الفكرة "العمرانية" الخالصة يمنيا.
الأولى عن موضوع "الفتوى" نفسها.. كان يتجنب "الفتوى المطلقة حول الافكار"..
منه تعلمت "الفتوى حال من قائلها"، فحين يقول المفتي فتوى فهو يقولها ردا على سائل محدد يبحث عن مايخصه من وقائع، لا أن يأتي الناس فيفترضون مايستفتون عنه، ان أصبح المستفتى لديه القدرة على استعراض الافكار فهو اذا "مفتي نفسه".
ولهذا كان يرفض "البيانات الموقعة" التي صارت موضة ذات زمن، يمر شخص بورقة يدور توقيعات، مع أنه في مرات وقع تحت ضغط التحريض أو الاحراج.
وكان ضد "جمعية علماء اليمن"، ولطالما حكى لنا، ونحن نتحلق حوله كطلاب علم، انه قال للمرحوم "الشيخ حمود هاشم الذارحي": "حقروك"، مع الاشارة باصبع القائل.. وهذه كلمة وحركة صنعانية خالصة تعني انتقادا لاذعا بالطريقة الشعبية، وذلك وقت نقاش تأسيس الجمعية.. كان العمراني يقول: قدي سلطة دولة وعادك تعمل جمعية تمكن هذه السلطة من التحكم بالعلماء وبالفتوى عبر "جمعية لها مرتبات وادارة وختم"..
موقف عملاق ضد رغبة الجماعة السياسية التي تستخدم الدين ومراكز قوته بمسار تنظيمي.
وللأسف أني لم أحضر له حلقاته في "جامعة الايمان"، التي درس فيها لسنوات، لأرى كيف كان يخدم العلم في قلب مؤسسة شديدة الاستقطاب يتناقس فيها "الاخوان" الذين كانوا مضطهدين كتنظيم داخل الجامعة من قبل شيخهم الذي كان يميل لـ"السلفية الجهادية" الشيخ عبدالمجيد الزنداني.
كان "القاضي محمد بن اسماعيل" في لحظات شديد المحافظة والتقليدية، وفي أخرى نموذج مدهش من الانفتاح والحداثة الفكرية.
درست على يديه بعضا من "فقه السنة" و"سبل السلام" ولكن أعظم ما عرفني بدهشة "التفكير" كانت حلقاته الصباحية في جامع "الزبيري" في "أصول الفقه".. اليوم وانا أكتب هذه المقالة "اطعم" لذة "العلم" التي كانت تسحرنا بالدراسة بين حضرة عالم يحتقر "الفخامة" فتنصاع لكلماته البسيطة وهيئة الأليفة مستسلمة برهبة لاحدود لها.. ماعرف العمراني التكلف يوما، يتحدث كأنه يبيع في سوق الخضار.. وبذات الوقت لايقول الا فكرا تراه كجار القمر علوا، وكموج البحر تدفقا.. يقول مالايسع ذاتك الا "تذوق" تباهي العلم وبرهانيته.
لم أهب في عمري الكتابة عن أحد كما أهابها الان في حضرتك يا أبى العلم وسيد العلماء.
لاتكفيك حقك كلمة.. لايمنحك قدرك الكلام.
"خلوهم يصلوا مثل مايشتوا، قد دخلوا الجامع مادخلكم".
هكذا كان يعترض على وظيفة تعليم الناس الدين والتدين، دعهم بين يدي الله وسيتعلمون.
تعلمت الخطابة على يديه، ثم صرت مثله لا استطيع الخطابة، فذات جمعة لم يحضر الخطيب، تلفتنا كمصليين وكان "حجة الاسلام" في زاوية جامع الزبيري.. ذهبنا اليه وقبل أن نصل كان قد وقف يريد الخروج.
"العمراني" بكله لايقبل أن يخطب في الناس بالعموميات، هو لم يتدرب على الخطابة فكل عمره يتحلق مستمعا منقبا قارئا.
قلت له: مالحل، قال: قوموا روحوا.. مسجد اخر او صلوا ظهر.
يقف بحسم في حدود مايحسن، ولايزيده تواضعه هذا الا ادهاشا.
فقلت له: سأخطب الجمعة، طالب في الثانوية، مراهق يرى كل شيء مهمة ممكنة، ابتسم وجلس مباشرة وقال: هيا اطلع المنبر، فاختطبت، حين انتهت الصلاة ولم أكن توفقت في شيء اصلا، لكنه قام بجلالته كلها وجاء جهتي، باشا كأني قلت خطبة عصماء وهي لاشيء ابدا.
قال لي: "عنكون نجي بعد العصر.. اطلع اخطب وانا حقك المستمعين"، قال لي: "حين كنت تسكت ابسرك لاتكون قد ادربت".. فانا كنت افقد ما سأقول.. ماكنت أعرف اصلا ان للخطابة هيبة تفر منها الكلمات، وكان يرفع رأسه فعلا للاطمئنان اني بخير..
... وللحديث بقية.
لايبدو أن الناس تعرفه الا جملة عامة.
يكتب الناس عن مبادئ أحبوها ويجعلون "شيخ الاسلام" رمزية لها، لكن لاشيء عنه هو شخصيا.
نعي "الشيخ" كان احتفاء بـ"قيمه" التي حتى لم تعرف لكن الناس استشعروها، هكذا، كل منهم خطها من روحه وعقله الجمعي.
بحثت عن مقال صغير، كنت كتبته عنه.. ولم أجده، كتبته عن "العمراني كمؤسسة معرفية عابرة للزمان والمكان"..
فهذا الرجل عارك انغلاق "الهادوية" وهو شاب يكافح في حلق العلم بالجامع الكبير، "كنا نتعب من حمل الكتب"، كما سمعتها منه.. ففي ذلك الزمن كانت الكتب ضخمة.. مجلدات من ورق ثقيل.. وبدون وسيلة مواصلات.
ثم حين سقطت دولة "الامامة" تدافع الناس لاعتقاد انهم جمهوريين، عارك الرجل انغلاق "الجمهورية" فتمسك بعلمه وهيئته كواحد من "ابناء جوامع العلم، الكبير والبليلي" وغيرهما.
مدهش هذا الرجل البسيط، كيف كان يسرد المصادر المعرفية للفتوى.. يسرد اراء الشوكاني وابن الامير والمقبلي، وهو بذلك يثبت احترامه للفقه والعلم في مواجهة من اراد دفن موروثهم بتصورات انهم "نسخ وهابية" يمنية.
وفي نفس الفتوى يختمها بالقول: أما الهادوية.. أو وعند الهادوية، او يفصل: وفي شرح الازهار.. ويسرد ماقسم للمستمع من رزق معرفي.
في الوقت الذي كانت حركات الاسلام السياسي تدفن جهد "الزيدية" او حتى "الهادوية" بشكل أدق، كان القاضي يتمسك بالمعرفة، فعدم التسيس هو التزام عميق بـ"الانفتاح" أمام الفكرة أيا كان مصدرها.
له مبحث صغير جدا عن "الزيدية أقرب المذاهب الى السنة".
وكان يذهب للمدى الأكبر، فيستحضر الامام محمد عبده والافغاني.. ويمنح "رشيد" رضا مكانة أعلى.
ويرفض مأسسة الخطاب الديني كلية، وسأسرد جانبين من هذه الفكرة "العمرانية" الخالصة يمنيا.
الأولى عن موضوع "الفتوى" نفسها.. كان يتجنب "الفتوى المطلقة حول الافكار"..
منه تعلمت "الفتوى حال من قائلها"، فحين يقول المفتي فتوى فهو يقولها ردا على سائل محدد يبحث عن مايخصه من وقائع، لا أن يأتي الناس فيفترضون مايستفتون عنه، ان أصبح المستفتى لديه القدرة على استعراض الافكار فهو اذا "مفتي نفسه".
ولهذا كان يرفض "البيانات الموقعة" التي صارت موضة ذات زمن، يمر شخص بورقة يدور توقيعات، مع أنه في مرات وقع تحت ضغط التحريض أو الاحراج.
وكان ضد "جمعية علماء اليمن"، ولطالما حكى لنا، ونحن نتحلق حوله كطلاب علم، انه قال للمرحوم "الشيخ حمود هاشم الذارحي": "حقروك"، مع الاشارة باصبع القائل.. وهذه كلمة وحركة صنعانية خالصة تعني انتقادا لاذعا بالطريقة الشعبية، وذلك وقت نقاش تأسيس الجمعية.. كان العمراني يقول: قدي سلطة دولة وعادك تعمل جمعية تمكن هذه السلطة من التحكم بالعلماء وبالفتوى عبر "جمعية لها مرتبات وادارة وختم"..
موقف عملاق ضد رغبة الجماعة السياسية التي تستخدم الدين ومراكز قوته بمسار تنظيمي.
وللأسف أني لم أحضر له حلقاته في "جامعة الايمان"، التي درس فيها لسنوات، لأرى كيف كان يخدم العلم في قلب مؤسسة شديدة الاستقطاب يتناقس فيها "الاخوان" الذين كانوا مضطهدين كتنظيم داخل الجامعة من قبل شيخهم الذي كان يميل لـ"السلفية الجهادية" الشيخ عبدالمجيد الزنداني.
كان "القاضي محمد بن اسماعيل" في لحظات شديد المحافظة والتقليدية، وفي أخرى نموذج مدهش من الانفتاح والحداثة الفكرية.
درست على يديه بعضا من "فقه السنة" و"سبل السلام" ولكن أعظم ما عرفني بدهشة "التفكير" كانت حلقاته الصباحية في جامع "الزبيري" في "أصول الفقه".. اليوم وانا أكتب هذه المقالة "اطعم" لذة "العلم" التي كانت تسحرنا بالدراسة بين حضرة عالم يحتقر "الفخامة" فتنصاع لكلماته البسيطة وهيئة الأليفة مستسلمة برهبة لاحدود لها.. ماعرف العمراني التكلف يوما، يتحدث كأنه يبيع في سوق الخضار.. وبذات الوقت لايقول الا فكرا تراه كجار القمر علوا، وكموج البحر تدفقا.. يقول مالايسع ذاتك الا "تذوق" تباهي العلم وبرهانيته.
لم أهب في عمري الكتابة عن أحد كما أهابها الان في حضرتك يا أبى العلم وسيد العلماء.
لاتكفيك حقك كلمة.. لايمنحك قدرك الكلام.
"خلوهم يصلوا مثل مايشتوا، قد دخلوا الجامع مادخلكم".
هكذا كان يعترض على وظيفة تعليم الناس الدين والتدين، دعهم بين يدي الله وسيتعلمون.
تعلمت الخطابة على يديه، ثم صرت مثله لا استطيع الخطابة، فذات جمعة لم يحضر الخطيب، تلفتنا كمصليين وكان "حجة الاسلام" في زاوية جامع الزبيري.. ذهبنا اليه وقبل أن نصل كان قد وقف يريد الخروج.
"العمراني" بكله لايقبل أن يخطب في الناس بالعموميات، هو لم يتدرب على الخطابة فكل عمره يتحلق مستمعا منقبا قارئا.
قلت له: مالحل، قال: قوموا روحوا.. مسجد اخر او صلوا ظهر.
يقف بحسم في حدود مايحسن، ولايزيده تواضعه هذا الا ادهاشا.
فقلت له: سأخطب الجمعة، طالب في الثانوية، مراهق يرى كل شيء مهمة ممكنة، ابتسم وجلس مباشرة وقال: هيا اطلع المنبر، فاختطبت، حين انتهت الصلاة ولم أكن توفقت في شيء اصلا، لكنه قام بجلالته كلها وجاء جهتي، باشا كأني قلت خطبة عصماء وهي لاشيء ابدا.
قال لي: "عنكون نجي بعد العصر.. اطلع اخطب وانا حقك المستمعين"، قال لي: "حين كنت تسكت ابسرك لاتكون قد ادربت".. فانا كنت افقد ما سأقول.. ماكنت أعرف اصلا ان للخطابة هيبة تفر منها الكلمات، وكان يرفع رأسه فعلا للاطمئنان اني بخير..
... وللحديث بقية.