قَالَ بعضُ أهل العلم: إنَّ اللَّهَ جَمَعَ الْكُتُبَ الْمُنَزَّلَةَ فِي الْقُرْآنِ وَجَمَعَ عِلْمَ الْقُرْآنِ فِي الْمُفَصَّلِ وَجَمَعَ عِلْمَ الْمُفَصَّلِ فِي فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَجَمَعَ عِلْمَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
آية تتألف من أربع كلمات، يرددها العبد في كل ركعة ضمن فاتحة الكتاب، لتظل هذه التذكرة الربانية حاضرة في الوجدان على مدار اليوم، تلك الآية التي تمثل صميم منهج العبودية لله تعالى، فهي تتضمن العبادة والتوكل معًا، وكثيرا ما يجمع الله بينهما في القرآن الكريم، ويعلل شيخ الإسلام ابن تيمية ذلك بقوله: «قَدْ جَمَعَ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَالتَّوَكُّلِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ ؛ لِأَنَّ هَذَيْنِ يَجْمَعَانِ الدِّينَ كُلَّهُ».
تقرر هذه الآية حقيقة التوحيد وإفراد الله عز وجل بالعبادة، فإذا نظرت إلى تقديم المفعول (إياك) قبل الفعل (نعبد)، لأدركت المغزى، إذ يفيد الخصوصية، فإن قيل (نعبد إياك) فيحتمل أن يكون المعبود هو الله وغيره، أما تقديم (إياك) فلا يحتمل المعنى سوى التوجه بالعبودية لله تبارك وتعالى وحده.
وكعادة المنهج القرآني في التأكيد على وحدة أهل الإيمان الذين هم كالجسد الواحد، يردد الفرد (إياك نعبد) بصيغة الجمع، فهو يعبر عن نفسه وإخوانه من أهل الإيمان، لتظل حقيقة أمة الجسد الواحد باقية ماثلة أمام المسلم، ومن ثم فلا يبقى لديه نزعة لأن يشاقق جماعة المسلمين وخندق أهل الإيمان.
ولما كان القيام بمهمة العبودية محض توفيقٍ من الله تعالى، وأن العبد يحتاج إلى معونة الله في كل شأنه وعبادته، ناسب الجمع بين العبادة والاستعانة، فيستعين العبد بربه على طاعته، ولذا كان دعاء النبي صلى الله عليه وسلم دبر كل صلاة (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) رواه أبو داود.
(إياك نعبد) يخلع العبد على أعتابها كل قبائح الشرك والعمل لغير الله، حين يتجرد لخالقه، فلا يتجه إلا إليه، ويأخذ شهود عظمة الله ذلك العبد إلى توحيد وجهته لربه، فلا يبقى لنفسه حظٌ ولا يُمثل العباد لديه شيئًا حتى يرائي ويفعل العمل لنيل المحمدة منهم.
(وإياك نستعين) تدفع عن العبد داء الكبر، عندما ينكسر لخالقه ويتوكل عليه على علمٍ ويقينٍ بأنه أضعف من أن يسير في دروب الحياة وحده بلا معين، وأنه دائما سيظل محتاجا إلى معية ربه، فلا يبقى مجالٌ لأن يقول (أنا، أنا) ولا أن يقول (بقوتي وحولي)، بل يقول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله في هذا المضمار: «القلب يعرض له مرضان عظيمان إن لم يتداركهما العبد تراميا به إلى التلف ولا بد، وهما الرياء والكبر، فدواء الرياء بـ (إياك نعبد) ودواء الكبر بـ (إياك نستعين)، وكثيرا ما كنت أسمع شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: إياك نعبد تدفع الرياء، وإياك نستعين تدفع الكبرياء».
ولئن كانت الاستعانة جزءًا من العبادة، إلا أن إفرادها يبين عظم أهمية التوكل على الله تعالى، قال عنه التابعي سعيد بن جبير: «التوكل جماع الإيمان»، نسأل الله تعالى أن نكون من أهل (إياك نعبد وإياك نستعين)، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.