لئن كان المنهج الرباني أرقى وأسمى من أن يوضع مع غيره من قوانين البشر موضع المقارنة، إلا أنّ تزاحم المرجعيات النهائية في هذا العصر وكثرة أنصارها، تحتم بيان أوجه تميز هذا المنهج عن دساتير البشر التي بنيت على العقود الاجتماعية وأعراف البلاد وأهواء الرجال.
ومما امتاز به التشريع في المنهج الإسلامي عن المناهج الأرضية، هو تكوين الوازع الديني والضمير الإيماني، ففي القوانين الوضعية يكون الهدف هو حفظ النظام الظاهر ومراعاة الصالح العام، والقضاء على مظاهر الانحراف المعلنة، ولا علاقة له بوأد الانحراف في نفوس البشر.
وأما التشريع الإسلامي الذي يراعي مصلحة الفرد في إطار مصلحة المجموع، فإنه مع العقوبات الرادعة يخلص النفوس من سيطرة النزوات والشهوات والمادة، بربطها بالجزاء الأخروي الذي لن ينفع معه التدليس والتزوير وإخفاء الحقائق وطمسها، وهو ما لا يتوافر في القوانين البشرية التي تكتفي بالجزاء الظاهر فقط لردع الجاني عن الانحراف، دون أن تشمل منظومة قيمية تعزز من الرقابة الذاتية لدى الإنسان. عناية الإسلام بتنمية الوازع الديني إلى جانب القضاء الذي يحكم على الظاهر والدلائل والقرائن ويدع السرائر لخالقها، كان له أثر قوي في استجابة الناس إلى العمل بأوامر الله تعالى واجتناب ما نهى عنه، وذلك عندما ينتقل خوف العقاب في حس المؤمن من مجرد أذى مالي أو جسدي، إلى الخشية من عذاب أشد وأبقى في نار جهنم. القاعدة الأساسية في القضاء هي (البينة على من ادعى واليمين على من أنكر)، فإن المدعي تلزمه البينة وإلا ادّعى كل الحقَّ من ليس له الحق، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم (لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بدَعْوَاهُمْ لَذَهَبَ دِمَاءُ قَوْمٍ وَأَمْوَالُهُمْ) رواه البخاري.
ولكن قد يفقد المدعي البينة وهو صاحب حق، فيؤول الأمر إلى يمين المنكر، فهناك جزء في القضاء يتعلق بالضمير الإنساني. لذلك عندما يقف أهل الإيمان أمام القضاء في الخصومات، فإنهم لا تحكمهم كلمة القاضي فحسب، بل ضميرهم الإيماني ووازعهم الديني، فكما تقول القاعدة (قضاء القاضي لا يحل حرامًا ولا يحرم حلالًا)، وهو ما أُخذ من حديث النبي صلى الله عليه وسلم «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذَنَّهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّار» متفق عليه. وفي هذا تحذير لكل إنسان ألا يأخذ ما ليس له بحق ولو كان حكم القاضي لصالحه، لأن القاضي يحكم بحسب الظاهر لديه، ويبقى الخوف من جناب الله وتعظيمه وإجلاله وإيثار نعيم الآخرة الخالد على متاع الدنيا الزائف والعقاب الأخروي هو الرادع الأعظم لتجنب المخالفة. ومن جهة أخرى، يغرس المنهج الإسلامي أسمى المبادئ والقيم والأخلاق الحسنة في نفوس البشر، إذ جعل لها منزلة عظيمة، ورتّب على التخلق والتحلي بها مثوبة عظيمة تتوق لها النفس البشرية، فمن ثم يتحرك الإنسان في الحياة عبر منظومة قيمية وأخلاقية، تضبط سلوكياته مع الآخرين، وتجنبه أن يقع في موقع الظالم الجائر، حتى في غياب سيطرة القانون والعقاب، وهو ما امتاز به التشريع الإسلامي عن غيره، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.