على الصعيد الشخصي، كانت المظاهرة الكبيرة التي شهدتها ساحة الجامع الأزهر في مصر الجمعة الماضية دعما لفلسطين وتنديدا بالاحتلال، بمثابة مفاجأة كبيرة، لأنها حدثت في أجواء من الصمت الشعبي ترقّبا لما يؤول إليه الموقف الرسمي، كما أنها سبقت جميع القوى السياسية والمؤسسات المدنية، التي تحركت بعدها بأيام.
لكن هذه المظاهرة لم تكن هي الشكل الأوحد المعبر عن موقف الأزهر، فقد صدر بيان عن هذه المؤسسة الدينية العريقة، هو الأقوى منذ عقود، وجاءت مضامينه فيما يبدو متجاوزة للحدود السياسية، بما يستلزم أن نقف مع هذا البيان تفكيكًا.
أولا: مطالبة الأزهر “الأمة العربية والإسلامية بإعادة النظر جذريا في الاعتماد على الغرب الأوروبي الأمريكي المتغطرس”، وهو منحى جديد لهذه المؤسسة في التعامل مع الغرب، وفيه دعوة صريحة لنبذ التبعية للغرب، علما بأن مصر تربطها منذ عقود علاقات استراتيجية بالولايات المتحدة الأمريكية.
ثانيًا: وضع العدو الإسرائيلي وداعميه ورعاته من الغرب الأمريكي والأوروبي، في خانة واحدة، معتبرا أن الغرب بهذا الدعم يقاتل مع الاحتلال في أرض فلسطين، ويظهر ذلك من خلال قوله: “على الفلسطينيين أن يثقوا في أنَّ الغرب بكل ما يملك من طاقاتٍ عسكريةٍ وآلاتٍ تدميريةٍ ضعيف وخائف حين يلقاكم أو تلقونه، فهو يقاتلُ على أرضٍ غير أرضه ويدافع عن عقائد وأيديولوجيات بالية عفا عليها الزمن”.
وبالفعل، العدو الصهيوني يحظى منذ انطلاق هذه المعركة بدعم ضخم من أمريكا، التي أبطلت مع بريطانيا وفرنسا واليابان، مشروعا في مجلس الأمن يقضي بوقف إطلاق النار، وأعلنت موقفها صراحة بتقديم كل سبل الدعم لجيش الاحتلال، كما أنها جرّمت المقاومة، وتبنت الروايات الإسرائيلية الكاذبة حول قطع رؤوس الأطفال الإسرائيليين واتهام المقاومة بتنفيذ مجزرة مستشفى المعمداني، وهي التهم التي تبين زيفها، مما أوقع الولايات المتحدة في الحرج.
كما يتأكد ذلك المنحى الأزهري في تذكير الفلسطينيين بضعف الغرب وآلته العسكرية، وساق مثالا على كسر الغطرسة الأمريكية، الإخفاق الذي منيت به الولايات المتحدة في غزوها الصومال وأفغانستان، حيث جاء في البيان: “وما مقدار الغرب في ميزان الصومال وأفغانستان منكم ببعيدٍ”.
ثالثا: عدم اقتصار بيان الأزهر كما جرت العادة على دعم الفلسطينيين بالتبرعات والأموال، بل تعدى ذلك إلى العدة والعتاد، حيث جاء في البيان: ” على الأمة الإسلامية أن تستثمر ما حباها الله به من قوة وأموال وثروات وما تملكه من عُدةٍ وعتادٍ، وأن تقف به خلف فلسطين وشعبها المظلوم الذي يواجه عدوًّا فقد الضَّمير والشعور والإحساس”.
وهذا بلا شك تحول كبير في خطاب الأزهر عما كان عليه في السابق، وتحمل دعوة للدول العربية بالدعم العسكري للفلسطينيين.
هذه المضامين هي أبرز ما جاء في بيان الأزهر، لكن ثمة شكل آخر يعبر عن قوة موقف الأزهر في هذا الظرف التاريخي، إلا أنه ورد من خلال بيان لمركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية، بعنوان “فلسطين قضية عادلة.. وعالم لا يرى ولا يسمع”، جاء فيه: “إن “مستوطني الأرض المُحتلة من الصهاينة لا ينطبق عليهم وصف المدنيين، بل هم محتلون للأرض، مغتصبون للحق، مُتنَكِّبُون لطريق الأنبياء، معتدون على مقدسات مدينة القدس التّاريخية بما فيها من تراث إسلاميّ ومسيحيّ”.
وهو بلا شك مضمون قوي، في توصيفه وتكييفه الفقهي لمسألة لطالما أثارت الجدل، حول المستوطنين واعتبارهم محاربين أم مدنيين.
كما تضمن هذا البيان لمركز الفتوى، دعما صريحا للمقاومة في الوقت الذي يتجه البعض لشيطنتها، حيث جاء في البيان: “إن عمليات المقاومة الحالية حلقةٌ جديدة من سلسلة نضال شعب فلسطين ضد إرهاب الكيان الصهيوني المحتل الغاصب، وجزءٌ صغير من رد عدوانه التاريخي البشع على المقدسات والأرض والشعب الفلسطيني، بلغة القوة التي لا يفهم الصهاينة غيرها”.
وهو كما يتضح سباحة عكس التيار، إذ أن الخطاب العربي السائد في هذه الآونة، هو التفريق بين عمل المقاومة وبين القضية الفلسطينية.
بصرف النظر عن مدى توافق موقف الأزهر مع الإرادة السياسية أو تجاوزها، يتحتم القول إنه موقف تاريخي يبشر بعودة هذه المؤسسة العريقة إلى دورها البارز في أحداث الأمة، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.