بعد عشر سنوات من سيطرة الحركة الحوثية على العاصمة صنعاء؛ أي في 21سبتمبر/أيلول 2014م تحديداً؛ بدأ مسلسل التداعيات التربوية والنفسية والأكاديمية في مجال التعليم العام (الأساسي والثانوي) والعالي (الجامعي)؛ يزداد حدّة في التراجع والانحدار، على نحو غير مسبوق، منذ قيام ثورة السادس والعشرين من سبتمبر في 1962م، وبدأت تلك التداعيات تصدر في صورة ردود فعل علنية تارة وخفيّة تارة أخرى، من قِبل أولئك التلاميذ والطلبة الذين تعرّضت مدارسهم وجامعاتهم ومؤسساتهم التربوية على اختلاف عناوينها ومراحلها وتخصصاتها للتفجير أو التدمير أو النهب والمصادرة، أو الابتزاز المستمر، في أحسن الأحوال، ناهيك عن من لقي من زملائهم حتفه على أيدي الحوثيين، في إطار ثاراتهم، مع كل مختلف معهم، ممن يحلوا لهم وصفهم عادة بـ(الداعشيين) و(التكفيريين) و(القاعدة)؛ ولئن وجد في أولئك الطلبة أو التلاميذ من قد يتحمل الصدمة، فيصبر ويحتسب، ويعمل على تجاوز المحنة ما أمكن؛ فإن المتوقع في بعضهم- وهم الأكثر- خلاف ذلك، حيث وجد الطالب الجامعي-على سبيل المثال- نفسه خارج مؤسسته فجأة، كحال طلبة جامعة الإيمان – مثلاً وهي النموذج الأبرز في التداعي النفسي الأكاديمي- بعد أن اجتثت من جذورها تماماً، وبعد أن كان يضع فيها طلبتها آمال مستقبلهم.
وما يعنيه ذلك الإجراء الحوثي المتمثّل في السيطرة على الجامعة بكل مرافقها، ومصادرة كل شيء فيها، بما في ذلك وثائق الطلبة التي أتلفت، بما يعنيه ذلك من تدمير لمستقبلهم وآمالهم، لاسيما أن بعضهم كاد أن يتخرّج، علاوة على منازل الساكنين منهم في حرم الجامعة، ومصير عائلات بعضهم، وهنا فإن المتوقع أن طابور البطالة والتسول والجريمة المباشرة قد ازداد، بما لا يمكن مقارنته مع الوضع السيء قبل ذلك، وبرزت مظاهر لحالات من اليأس والتمرّد، وبذلك فإن نفسية الثأر ستتأجج، وسيتحوّل ذلك الحلم الوردي، والأمل العريض بمستقبل شخصي واجتماعي أفضل؛ كابوساً ثقيلاً مرعباً، يتهدد كثيراً ممن حوله، إذ إن مصير صاحب الأمل العريض أصبح ضياع مستقبله في التعليم، وما كان يبني عليه من آمال بعيدة، وأحلام وردية في تأسيس ذاته وأسرته، والإسهام في الارتقاء بمجتمعه وتنميته، بل إن بعضهم قد يرتد إلى الطرف الآخر المعاكس لتلك الأمنيات، فيغدو لقمة سائغة للجماعات المسلّحة، أو لأيّ اتجاه أو جهة معادية للبلاد، ليعمل في إطارها، حيث ينظر إلى نفسه وواقعه ومستقبله ومجتمعه بمنظور " سيكوباتي"، بعد ذلك الأمل العريض الذي تبخّر أمامه فجأة، فيخلص إلى نتيجة مفادها أنه لم يعد أمامه ما يخسره، وليس ثمّة ما يستحق الحفاظ عليه أو الدفاع عنه!
ومع أن إحصاءات دقيقة شاملة لم تظهر بعد عن حجم المأساة التربوية والأكاديمية، خاصة على التلاميذ وطلبة الجامعات من النواحي المختلفة؛ لكن يمكن القول بصورة عامة: لقد جرّ ذلك المسلك في مآلاته في التعامل مع المؤسسات التعليمية والأكاديمية إلى إضافة أعداد كبيرة مهولة في معدلات الفقر والبطالة والجهل والتسوّل والدفع ببعضهم نحو الجريمة، وجريمة السرقة بوجه أخص، وتعاطي بعض العقاقير والمواد المخدّرة، للهرب من مواجهة الواقع المرّ، وإلى مزيد من غرس أمراض نفسية واجتماعية قاتلة، مثل فشو الضغائن، وزراعة الأحقاد، وإذكاء العنف الاجتماعي، وتعميم النقمة -لدى كثيرين -على الشريحة الهاشمية، لتشملهم جميعاً - بمن في ذلك الأحرار والأبرياء وضحايا الحوثيين مثل غيرهم- بل صنعت مسالك الحوثيين في التعامل مع خصومهم ردود أفعال غريبة طائشة، ونزعات فكرية واجتماعية وسياسية سلبية شاذة، حيث بدأ بعضها يفاخر بتبنيه اتجاهاً مضاداً للعنصرية السلالية التي اشتهر بها الحوثيون، حين انطلقوا من قاعدة الحكم المحصور في البطنين، ولكن تلك النزعات الجديدة بدلاً من أن ترفض فكرة الحوثيين ومنطلقهم من الجذور؛ راحت تجاريهم- وإن في اتجاه مضاد، لكنه عنصري كذلك- بحيث تكاد تتطابق مع ذلك المنزع الحوثي في مآله، على نحو أغرب، وكأنها تبرّر للحوثي مسالكه- من حيث لا تدري- وذلك حين تاهت في إدراك حقيقة المشكلة وأسبابها الفعلية، فافتقدت البوصلة، ولم تجد مثلها الأعلى في الإسلام بقيمه المطلقة السامية، ممثلة في قيم العدالة والمساواة والحرية والكرامة، ورفض عنصرية النسب والسلالة!
وبذلك أسهم الطرفان الحوثي بهاشميته السياسية المتطرّفة من طرف، وذوو تلك النزعات "القومية" المتطرّفة كذلك ولكن من الطرف الآخر، في تكريس حالة التخلّف، وتعميق التنابذ الاجتماعي، وتعزيز روح الكراهية، والحرص على الانتقام المتبادل، مع تنامٍ متزايد لنزعات العنف الاجتماعي، وتجديد دوراتها، لينعكس ذلك على نحو مباشر على نفسيات الجيل الصاعد واتجاهاتهم الفكرية والسلوكية، فيتعزّز لديهم التيهان، لاسيما مع ما يشهده واقعهم من اضطراب فكري، وأزمات اقتصادية ومعاناة معيشية، بلغت حدّ المجاعة، وأمراض قاتلة متفشيّة، تجاوزها العصر، في الوقت الذي برزت فيه طبقات من الحوثيين- بالخصوص- في وضع ثراء فاحش، متعدّد الجوانب، ومناصب عليا، ووضع رفاهية غير معهودة عليهم وأسرهم من قبل، لينتهي ذلك عند فئة أخرى من الشباب – وقد تكون من ضمن الفئة المشار إليها آنفاً- إلى نزعات إلحادية وأفكار عدمية، والدفع ببعض الشباب والمثقفين لتبرير تبني الخيار(العلماني) في الحكم وفي السلوك العام، بغية التخلّص – في اعتقادهم- من صراع المذاهب (الدينية) و(الطوائف) و(الجماعات)، إذ هي -في نظرهم جميعاً- سواء، فكلها يدّعي أحقيته ومشروعيته باسم السماء، وهنا لم يَعُد يدري المرء من يمثّل حقيقة الإسلام؟!([1])! لاسيما بعد أن دشّن الحوثيون في اليمن عصر الطوائف "الجديد"، باسم الاصطفاء الإلهي، والمظلومية التاريخية لـ "آل البيت"، وبعد أن سبقهم روّادهم في كل من طهران وبغداد وبيروت ودمشق إلى صناعة الكارثة نفسها، بعناوين أخرى، وإن شهدت بعد ذلك سقوطا مدويّاً إلى حد كبير، في كل من لبنان، في شهر سبتمبر/أيلول 2024م وسوريا، في شهر كانون الأول/ديسمبر 2024م، وزلزالاً عنيفاً كاد أن يقضي على نظام "الملالي" في طهران في شهر يونيو/حزيران 2025م، ولكن بعد أن سادت تلك الآفات التربوية والنفسية والفكرية والمجتمعية البلاد، وتأكّدت المشكلة أكثر، بأبعادها المختلفة.
([1]) راجع لتفنيد هذه الشبهة ومناقشتها: أحمد محمد الدغشي، من يمثّل الإسلام: تعددية قراءة النص هل تعني عدميته؟ كتاب البيانhttp://islamport.com/w/amm/Web/135/5022.htm (شوهد في 3/5/2020م).
*نقلاً عن المصدر اون لاين