بين العلمانيتين (الجزئية والشاملة): مفارقات التصنيف ...؟أم ازدواج المعيار؟
بعد التأكيد على كل ما سبق لا مناص من الإشارة إلى جوهر المفارقة في فكر المسيري، إذ كيف يستقيم الجمع بين ذلك الموقف شبه الواضح للرجل، في مفهومه الخاص لدلالة العلمانية الجزئية، ومقولة فصل الدين عن الدولة، من جانب، وبين تلمّسه المبرّرات والتأويلات (المتعسّفة) لبعض رموز المدرسة العلمانية المتطرّفة، أو ما يسميّها بالعلمانية الكليّة الشاملة، من جانب آخر. وسأركز على اثنين منهم فقط، هما : فؤاد زكريا، ومحمود أمين العالم، بوصف هذين الرمزين على نحو أو آخر لا يزالان في إطار العلمانية الجزئية عند المسيري، على حين استقر تصنيف العلمانية الكلية عنده على شخصية واحدة هي الدكتور مراد وهبه[1].
لقد أورد المسيري أسماء أخرى ربما انطبق على بعضها وصف العلماني الجزئي، لكن أنّى ذلك في حق أمثال الأستاذين: فؤاد زكريا ومحمود أمين العالم، وهما يُعلنان انتماءهما الصريح للفكر الماركسي القائم بداهة على مسلمات إلحادية، وتنكّر بيّن للمعتقدات الإسلامية الكلية والقيم الكبرى، مالم فما معنى ماركسيتهما جوهرياً؟! وإذا لم يكن الإلحاد الصريح للإله والرسول والآخرة والقيم الإسلامية الكلّية من مستلزمات الفكر الماركسي، فلا معنى لهذه التسمية أو الوصف من الأساس؟!
ذلك التصنيف الذي ذهب إليه الدكتور المسيري – في ظني- ضرب من الأمنيات البعيدة أو الخيال العجيب! وإذا كنت أدرك سرّ قسوته على فيلسوف عدمي مجدِّف ، شديد الخصومة مع الفكر الإسلامي، قلما يوجد له نظير في هذا الباب، وهو الدكتور مراد وهبه؛ فإنني أخشى إن أعمل منهج التلمّس الذي أعمله في حق زكريا والعالم – وهو ما لا ندري ضابطاً موضوعياً له- لألفى مقولة ما تدرأ عنه ذلك الوصم بـ(العلمانية الكليّة)، لكنني أزعم بأنني أدركت جانباً من السرّ – وأرجو أن تحاول معي إدراك ذلك قارئي العزيز- فبعد إخراج المسيري وهبه من دائرة (العلمانيين الجزئيين) بسبب مقولته عن العلمانية ووصفها بأنها ” هي المسار الإنساني في حضارتنا”؛ يعلّق المسيري: ” أيْ حضارة كل البشر، في كل زمان ومكان،( هل العولمة والعلمانية هما الشيء نفسه؟) ومن هذا المنظور قام [ أي مراد وهبه]بالدّفاع عن التطبيع مع إسرائيل، ( ألسنا حضارة مادية واحدة؟) كما قام بتأييد تحالف كوبنهاجن بقوله: “إن ما دفعه هذا إيمانه بفلسفة التنوير القائلة إنّه:” لا سلطان على العقل إلا العقل وحده”،( وهذا هو أحد تعريفاته للعلمانية) “[2].
هل أدركت معي جانباً من ذلك السرّ المتمثّل في الموقف السياسي لوهبه من الكيان الصهيوني قبل أي عامل آخر؟ أمّا أن ذلك انعكاس مباشر بالضرورة لمفهومه للعلمانية (الكليّة) المتمثّلة في افتراض العولمة والعلمانية شيئاً مترادفاً أو واحداً؟ أو في كون وهبة يعتقد بناء على مفهومه للعلمانية أننا والصهاينة المحتّلين حضارة مادية واحدة؟ ناهيك عن المقولة التي أخذها على وهبه ” لا سلطان على العقل إلا العقل وحده”، إذ لو تأمّل المسيري فيها لألفى هذه المقولة الأخيرة بالذات تجمع عدداً ممن يعدّهم المسيري من ذوي العلمانية الجزئية؛ ومن ثمّ فذلك آخر ما قد يؤخذ على وهبه؟
رحمك الله – أيها المفكّر العظيم- : هل كنت جادّا في جعل هذه المقولة “لا سلطان على العقل إلا العقل” السبب الحقيقي في إخراج الدكتور وهبه من الدائرة الجزئية إلى الكلّية؟ دون أن ينطبق الشيء نفسه على الدكتورين الآخرين: محمود أمين العالم وفؤاد زكريا- على سبيل المثال- وهما اللذان اشتهرا بمناهضة التطبيع مع الكيان الصهيوني، بكل قوّة وصلابة وثبات، ولكن- مع كل التقدير لهما على ذلك الموقف- فليس ذلك مؤهلاً وحده للبقاء في دائرة العلمانية الجزئية، تماماً كما أنّ الموقف المغاير لا يستأهل أن يكون سبباً وحيداً أو كافياً أو حتى سبباً رئيساً كذلك في الزجّ بصاحب الموقف في أتون العلمانية الشاملة، وإقصائه من الأولى، إذ لن تعدم شيخاً أو واعظاً أو منتمياً إلى دائرة الفقه والثقافة الإسلامية والوعظ، وخاصة ممن يتسابقون اليوم إلى إثبات تغييرهم للخطاب الديني أو زعم “تطويره”، يؤمن بـ”التطبيع “مع الصهاينة، ويتهافت ربما أكثر من مراد وهبه في ذلك، وقد لا يرى- في الوقت ذاته- تعارضاً بين الدين والعلمانية، وقد يردّد – بوعي أو بلا وعي – مقولة مراد وهبه سالفة الذكر عن العلمانية وأنها : ” هي المسار الإنساني في حضارتنا” مع كون هذا الشيخ لا يتبنى القيم العلمانية الكلية الشاملة قطعاً، فهل سيتمكن المسيري – في حالة كهذه- أن يصمه بالعلمانية الكليّة؟.
ليعذرني القارئ المنهجي إن كنت هنا على غير عادتي في عملية التوثيق -أعرضت عن ذكر الأدلة والشواهد على مصداق زعمي في كون الأمر لا يختلف –جوهريًّا- لدى العالم وزكريا، في مسألة مرجعية العقل (المطلقة) بوجهٍ أخص. وأزعم أن كل من درس وإن مقرّراً على أيدي أيّ من الشخصيتين، أو قرأ ولو مقالة ذات علاقة مباشرة لأيّ منهما يدرك بلا لبس أن مقولة أن المرجعية النهائية للعقل ( وليس للوحي) قاسم مشترك بين ثلاثتهم بوجه خاص. بل إني أذهب إلى أبعد من ذلك، إذا ما ذكّرت بأنه حتى كثير ممن يردّد مقولة (فصل الدّين عن الدولة)، على نحو من الفصل التام بين السياسة والدّين، وليس الفصل الإجرائي ( الجزئي العلماني) الذي لايكاد يوجد – ربما-إلا في أمنية الفيلسوف المسيري وخياله لا يعدّ الوحي المرجع النّهائي الحاكم للفكر، وتلك أبرز السمات الأبجدية في الاتجاه العلماني بكلّ مكوّناته ومدارسه، ومن أبرزها مدرسة اليسار الماركسي، الذي يعدّ العالم وزكريا من أبرز رموزها في المنطقة – وليس في مصر وحدها-. ومن أبجديات المعرفة في هذه المدرسة بصورة عامة، أن العقل هو الحاكم وليس ثمة سلطان عليه إلا هو!!
وفي الأخير استوقفني – مرة أخرى- حديث المسيري عن الموقف من (العلمانية الجزئية)، حيث يؤكّد في معرض مناداته بها، وتفهمه لمنطقها، ودعاتها – وكل هذا مما لم يعد جديداً بعد كل ما تقدّم- أن يستشهد ببعض رموز مدرسة الوسطية الإسلامية أمثال: يوسف القرضاوي، وأحمد العسّال، ومحمّد سليم العوّا، وفهمي هويدي، وعبد الغفار عزيز، وسيف عبد الفتّاح، وراشد الغنوشي، وطه العلواني، وعبد الحميد أبو سلمان، ومدرسة المعهد العالمي للفكر الإسلامي، وسواهم على موقفهم من العلمانيين الجزئيين حسب وصفه، من حيث قبول التعايش معهم، وعدّهم جزءاً أساساً من أبناء الوطن الواحد[3]. ولم أدرك حتى اللحظة وجه العلاقة العضوي بين الاختلاف مع مفهوم العلمانية واتجاه المؤمنين بها بشقيها -وهو المشكل الحقيقي في أطروحة المسيري- لدى كل من جاء على ذكر أسمائهم، حسب متابعتي لأطاريحهم، وفي مقّدمتهم رمز الوسطية المعاصرة ورائدها العلامة الراحل الدكتور يوسف القرضاوي- وبين الموقف الشخصي أو الجماعي في مسألة التعايش والالتقاء في القضايا المشتركة – ولا سيما المواقف الوطنية والقومية الكبرى- مع من يحملون تلك الآراء بشقيها الجزئي والكلّي.
بتعبير أكثر وضوحاً: لا مناص – في تصوّر صاحب هذه الدراسة- من ضرورة الفصل بين مسألتين لا تلازم بينهما:
الأولى: مفهوم العلمانية بشقيه الكلي والجزئي، ودلالاته وانعكاساته الفكرية والسلوكية، والأخرى: الموقف من المؤمنين بالعلمانية بقسميها، من حيث التعايش والالتقاء على بعض القضايا الكليّة المشتركة، فعلى حين يزعم صاحب هذه الدراسة أن موقفه لا يخرج عن موقف أساتذته الكبار ممن وردت أسماؤهم آنفاً – على سبيل المثال- وذلكم الموقف هو الرافض للمفهومين، وما ينبني عليهما من دلالات فكرية وانعكاسات سلوكية؛ فإن ذلك لا يستلزم موقفاً مماثلاً، من حيث مبدأ القبول بالتعايش مع المؤمنين بالعلمانية، بقسميها- حسب المسيري- وعدّهم جزءاً من النسيج الاجتماعي والمكوّن الوطني. فذاك موقف مستقل، والآخر موقف مستقلّ كذلك، ولا يستلزم أيّ منهما الإيمان بالآخر، لا ضرورة ولا تبعاً؟!
الفيلسوف التوحيدي والسلفي الحضاري: المسيري:
والواقع أن مما يُعقدّ الأمر أكثر في تحليل موقف المسيري من ” العلمانية الجزئية” أن رؤاه الإجمالية والتفصيلية وأطاريحه، في أكثر من دراسة وكتاب وحوار ومحاضرة، وموقفه الحاد من مظاهر ” التقاليع ” والتهافت على ” الموضات”؛ تجعله أبعد ما يكون عن فكر يقصي الإسلام عن الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والتربوية والإعلامية، زد على ذلك أن أطاريحه الأخرى، فيما يتصل بالمرأة والطفولة وأصالة المعرفة وهويتها، ووقوع التحيّز العلماني فيها ، كما فلسفته تجاه الإنسان والقيم والكون ونحو ذلك، مما برز بعضها في تحريره لكتاب ( إشكالية التحيّز) -على سبيل المثال- ومقدّمته الضافية له، تلك التي احتلت الجزء الأول بكامله، علاوة على بحثه الخاص في الكتاب، الذي ضمنّه بعض صفحات الجزء الخاص بالتحيّز في الأدب والنقد؛ تجعل منه فيلسوفاً توحيدياً، مؤمناً بشمول الفكر الإسلامي لكل قضايا الإنسان والكون والمعرفة والقيم ونظم المجتمع. بل بوسعي القول الآن: إن من يتتبع جملة الأحاديث المتضافرة للدكتور المسيري في المسألة العلمانية والتحسّس الشديد من غزوها مجتمعاتنا، سواء في جانبي الفكر أم السلوك؛ يكاد يصنّفه أقرب إلى (السلفي) ولكن بمنزع فلسفي توحيدي حضاري، منه إلى الناقد الاجتماعي، أو المثقف العضوي، أو الفيلسوف المتأمّل، ناهيك عن عالم الشريعة، إذ يصنّف جلّ الأفكار والسلوكات التي تغشى واقع المسلمين اليوم في مختلف مناحي الحياة تصنيفاً علمانياً لا شعورياً غالباً، يقع في شركها كثيرون، حتى من طبقة علماء الدّين، والمنخرطين العضويين في الأطر الإسلامية الحزبية والمذهبية، ويورد ذلك التوصيف في معرض النقد والتحذير والازدراء من مخاطر الاستمراء في ذلك، سواء على المستوى المعرفي – وهو الأخطر- أم على المستوى العملي السلوكي، لما لذلك من نتائج كارثية على الهوية والشخصية الحضارية والانتماء الوطني والقومي والإسلامي في آن[4]. وهل يصدّق المرء أن هذا الفيلسوف الذي جعله بعض دعاة العلمانية العرب أشبه بالمشجب الذي يحاولون من خلاله تسويق دعوتهم يذهب في نقمته على هذه التقاليع، خاصة حين تصبح أشبه بقواعد السلوك الاجتماعي؛ إلى درجة أن يصنّفها ضمن العلمانية الكليّة الشاملة، فسلوك مثل الوجبات السفرية السريعة ( التيك أواي)، حين تصبح نمطاً عاماً وغالباً في المجتمع، وتتحول ” إلى المركز، وتصبح هي القاعدة والمعيار، نكون قد سقطنا في العلمانية الشاملة”[5] بما تعنيه من ” التخلي عن مجموعة ضخمة من القيم الإنسانية المهمة، مثل أن يُصبح المرء مع أعضاء أسرته أو أصدقائه، في شكل حلقة، ليتناول الطعام معهم….” [6]، مشيراً إلى أنه غير غافل عمّا تعنيه من ضرورة وحتمية أحياناً، لذا فهو لا يحرّمها أو يجرّمها، كما قد يتبادر إلى أذهان بعض المتعجّلين، لكنّه يعود ليشدّد أن الخطورة فيها، حين تتحول من مسلك فردي له حكم الضرورة إلى نظام مجتمعي عام أو غالب، يأتي على حساب، التقاليد الاجتماعية الحميدة، بما فيها من اجتماع عائلي أو علاقات دافئة، تنعكس على التماسك والرحمة بين أعضاء الأسرة والمجتمع[7]، ولذلك فـ”العلمانية ليست أقوالاً ولا أفعالاً واضحة أو فاضحة، إنما هي منظومة فلسفية كاملة، تتبدى في مجموعة تفاصيل وعمليات وإجراءات وسلوكيات، قد لا ندرك بشكل مباشر، أثرها علينا وعلى رؤيتنا لأنفسنا ولغيرنا”[8].
المفكّر إبراهيم السكران يتفق مع وجهة هذه الدراسة:
أخيرا سرّني – صراحة- توافق رأيي حول المسيري ومفهومه للعلمانية الجزئية بما توصّل إليه المفكّر السعودي الدكتور إبراهيم السكران، حيث يعدّ السكران واحداً من أبرز المشتغلين بالقضايا الفكرية الشائكة، ومنها العلمانية، على نحو من الاستيعاب والعمق، بمعزل عن درجة الاتفاق او الاختلاف معه، في مجمل ما يخلص إليه، من نتائج وأحكام. واستحسنت الإشارة إلى وجهته أكثر، إثراء للدراسة من جانب، بوصف تلك الوجهة صدرت عن مفكّر وازن، يصنّف على المدرسة السلفية ” الإصلاحية”، في العربية السعودية، ومن جانب آخر فإن فكرة الدراسة الحالية تسبق كتاب السكران ( الماجريات) المتضمن لرأيه في جوهر الدراسة بـ 4 سنوات، حيث صدر الكتاب في 2015م، على حين صدرت الفكرة الأساس للدراسة الحالية في 2011م[9]، قبل أن تصبح بهذا التوسّع والاستيعاب الذي يُنشر لأول مرّة.
بعد أن أشار السكران إلى تمييز المسيري بين العلمانية الكليّة والجزئية ؛ لفت نظره تلك المفارقة بين تفاصيل أطروحة المسيري عن العلمانية، ثم تقسيمه لها إلى كليّة شاملة وجزئية، فخَلُص إلى أن موقفه هذا يثير التعارض ويدفع نحو الاستشكال، فقال:” لكن يتعارض مع هذا التصريح مواقف ومفاهيم أخرى يتبناها المسيري ، منها طرحه لمفهوم متتالية العلمانية، وهو مفهوم يشير له كثيراً، ووضعه عنواناً لبعض فقرات كتبه…”[10].
ولعل ذلك ما دفع بالدكتور السكران ليلتقط باندهاش ضَرْبَ الدكتور المسيري الأمثلة على العلمانية الكلية الكامنة بنماذج تبدو في ظاهرها من جنس العلمانية الجزئية، مثل ارتداء لباس (التيشيرت) T. Shirt ” الذي يرتديه أيّ طفل أو رجل، وقد كتب عليه ” اشرب كوكا كولا”…وهي عملية تفقد المرء هويته وتحيّده، بحيث يُصبح منتجاً بائعاً ( الصدر كمساحة)، ومستهلكاً للكوكا كولا…وقل الشيء نفسه عن المنزل فهو ليس أمراً محايداً أو بريئاً، كما قد يتراءى للمرء لأول وهلة، فهو عادة ما يجسّد رؤية للكون تؤثر في سلوك من يعيش فيه، شاء أم أبى”[11] ، فلا يجد الدكتور السكران من تعليق على ذلك سوى قوله:” فرجل يبلغ به التحسس من التيشيرت والبرجر وتوم وجيري، إلى هذا المبلغ، ويراها نماذج لآليات العلمانية الشاملة، التي هي في غاية الفضاعة عنده، فكيف يمكن أن يقبل العلمانية الجزئية، بمعنى رفض الأحكام الشرعية في السياسة؟! فلا شك أن مفهوم ” العلمنة البنيوبة الكامنة “يتعارض بشكل واضح مع الفهم الأولى لمعنى قبول المسيري بالعلمانية الجزئية”[12].
ومما لفت نظر السكران- في هذا السياق- كذلك كثرة ذمّ المسيري للعلمانية، ووصفه لها بالمصطلح المضلل الملتبس إلى حدّ ان المسيري تمنّى لو كان الأمر بيده، إذن لاستغنى عن المصطلح تماماً[13]، فيعود السكران ليخلص إلى ما خلصت إليه دراستنا الحالية من كون المسيري لا يهدف في مؤدّى فكرته وجوهرها إلى التساهل في إحلال العلمانية الجزئية بمعنى تنحية الشريعة وشمولها ، فقال السكران تعليقاً على ماسبق :” حسناً كون المسيري يتبنى ” متتالية العلمانية”، وأن العلمانية الجزئية أفضت إلى العلمانية الشاملة، في التطوّر التاريخي، وأن العلمنة الشاملة ” بنية كامنة” في المنتجات الحضارية كالتيشبرت والبرجر والكوكا كولا والبيوت مسبقة الصنع إلخ، التي يعدّها الناس مجرّد وجبات وأزياء وعمارة عادية جدّاً، وكونه يتمنّى الخلاص من مصطلح علمانية، كل ذلك يجعل معنى قوله بقبول “العلمانية الجزئية” مُشكلاً ، وأنه لا يمكن أن يكون مقصوده موافقاً للفهم الأولي لهذه العبارة، أعني رفض سلطة الاحكام الشرعية في باب السياسة، فما مقصوده إذن ياتُرى؟”[14].
يجيب على ذلك السكران بقوله:” الحقيقة أن المسيري ذكر في مواضع عدّة من كتبه كلمات يفسِّر بها ” العلمانية الجزئية” تكشف أنه قد أسيء فهم عبارته، بقبول العلمانية الجزئية، وانه قد ذُهِبَ بها إلى أبعد من مداها، فقد فسّر المسيري “العلمانية الجزئية”، لا بمعنى رفض هيمنة الأحكام الشرعية على باب السياسة، وإنما بمعنى أن ” المسائل الإجرائية والفنية تُحال إلى أهل الخبرة، لا إلى الفقهاء، بشرط ألا تعارض” المرجعية الشرعية”[15]. ثمّ راح السكران يستشهد على سلامة استنتاجه ببعض مفردات المسيري وعباراته التي سقت جملة منها فيما سبق بالخصوص، ليقرّر في نهاية المطاف أن هذا ” التفسير والمضمون الذي يذكره المسيري لا إشكال فيه شرعاً، بل هو معنى يقرّره أهل العلم، ويذكرون فيه أصلين شرعيين، الأصل الأول هو مرجعية أهل الخبرة، والأصل الثاني التمييز بين دائرة الاجتهاد البشري ودائرة الأحكام التوفيقية”[16]. وراح يحشد بعد ذلك بعضاً من الدلائل الشرعية التأصيلية الدالة على سلامة وجهة المسيري في هاتين الدائرتين[17]، ليختتم السكران نقاشه بهذا الشأن قائلاً: “ونحن وإن كنا نرفض مصطلح العلمانية كلّه بقضه وقضيضه، إلا أن مقصود المسيري وتفسيره يبيّن أن هفوته لفظية إن شاء الله، وأن من نقل عن المسيري أنه يقبل بالعلمانية على المعنى الشائع عند العلمانيين، فالذي يظهر لي أنه قد غلط عليه، وأضاف له ما يتعارض مع مراده، ومورد غلط الإضافة الاشتراك المصطلحي”[18].
ختامًا:
في ضوء المحاور السابقة لعلّه بات من البيّن أمام القارئ الكريم أن سيكولوجيا بعض الفلاسفة أو المفكّرين– والمسيري واحد منهم- تستبطن الإفادة من كل الطاقات في المجتمع، وتسعى جُهدها لتقف على مسافة واحدة من فرقاء الفكر والدّين والسياسة كآفة، في المجتمعات ذات الطابع التعدّدي، ومع أننا رأينا المسيري يُعلنها غير مرّة بوضوح لا لبس فيه أن المرجعية الإسلامية في المجتمعات الإسلامية حتمية لا تقبل المساومة أو النزاع؛ بيد أن ذلك لم يحُل دون أن يبدي بعض الصيغ المقاربة، كي تصبح محلّ قول كل أولئك الفرقاء، وهنا قدّم صيغة ” العلمانية الجزئية”، الهادفة إلى جمع الكلمة وتوحيد الصف، وهي صيغة توحي في ظاهرها لأول وهلة أن المسيري ينادي بفصل الدّين عن الدولة، لكنّه تأكد لنا بمختلف الشواهد أن الهدف الحقيقي منها؛ لم يكن ليتجاوز منظومة الإسلام الشاملة ونظامه المتكامل المستوعب لمختلف مجالات الحياة، وأن غاية ما عناه لا يزيد عن القيام بعملية فصل تخصصي تمايزي، وإجراء تقني تنفيذي بين علماء الشريعة وبين المواقع المختلفة في السلطة التنفيذية تحديداً، لكنه لا ينازع في الوقت ذاته في حال امتلك علماء الشريعة أنفسهم المؤهلات اللازمة لقيادة تلك المواقع، بل نحسب أنه – وفق تشديده على قضية المرجعية الكليّة الحاكمة لنظام الدولة في الإسلام- سيكون أكثر ترحيباً وتفاعلاً معهم، لأنهم سيكونون – ساعتئذ- قد حازوا المؤهلين الأساسين وهما: مؤهل الإحاطة بالمرجعية الإسلامية من جهة، ومؤهّل لمعرفة العلمية المتصلة بتحدّيات العصر وواقع المرحلة، مع الخبرة اللازمة لشغل تلك المواقع. من جهة أخرى.
بعد التأكيد على كل ما سبق لا مناص من الإشارة إلى جوهر المفارقة في فكر المسيري، إذ كيف يستقيم الجمع بين ذلك الموقف شبه الواضح للرجل، في مفهومه الخاص لدلالة العلمانية الجزئية، ومقولة فصل الدين عن الدولة، من جانب، وبين تلمّسه المبرّرات والتأويلات (المتعسّفة) لبعض رموز المدرسة العلمانية المتطرّفة، أو ما يسميّها بالعلمانية الكليّة الشاملة، من جانب آخر. وسأركز على اثنين منهم فقط، هما : فؤاد زكريا، ومحمود أمين العالم، بوصف هذين الرمزين على نحو أو آخر لا يزالان في إطار العلمانية الجزئية عند المسيري، على حين استقر تصنيف العلمانية الكلية عنده على شخصية واحدة هي الدكتور مراد وهبه[1].
لقد أورد المسيري أسماء أخرى ربما انطبق على بعضها وصف العلماني الجزئي، لكن أنّى ذلك في حق أمثال الأستاذين: فؤاد زكريا ومحمود أمين العالم، وهما يُعلنان انتماءهما الصريح للفكر الماركسي القائم بداهة على مسلمات إلحادية، وتنكّر بيّن للمعتقدات الإسلامية الكلية والقيم الكبرى، مالم فما معنى ماركسيتهما جوهرياً؟! وإذا لم يكن الإلحاد الصريح للإله والرسول والآخرة والقيم الإسلامية الكلّية من مستلزمات الفكر الماركسي، فلا معنى لهذه التسمية أو الوصف من الأساس؟!
ذلك التصنيف الذي ذهب إليه الدكتور المسيري – في ظني- ضرب من الأمنيات البعيدة أو الخيال العجيب! وإذا كنت أدرك سرّ قسوته على فيلسوف عدمي مجدِّف ، شديد الخصومة مع الفكر الإسلامي، قلما يوجد له نظير في هذا الباب، وهو الدكتور مراد وهبه؛ فإنني أخشى إن أعمل منهج التلمّس الذي أعمله في حق زكريا والعالم – وهو ما لا ندري ضابطاً موضوعياً له- لألفى مقولة ما تدرأ عنه ذلك الوصم بـ(العلمانية الكليّة)، لكنني أزعم بأنني أدركت جانباً من السرّ – وأرجو أن تحاول معي إدراك ذلك قارئي العزيز- فبعد إخراج المسيري وهبه من دائرة (العلمانيين الجزئيين) بسبب مقولته عن العلمانية ووصفها بأنها ” هي المسار الإنساني في حضارتنا”؛ يعلّق المسيري: ” أيْ حضارة كل البشر، في كل زمان ومكان،( هل العولمة والعلمانية هما الشيء نفسه؟) ومن هذا المنظور قام [ أي مراد وهبه]بالدّفاع عن التطبيع مع إسرائيل، ( ألسنا حضارة مادية واحدة؟) كما قام بتأييد تحالف كوبنهاجن بقوله: “إن ما دفعه هذا إيمانه بفلسفة التنوير القائلة إنّه:” لا سلطان على العقل إلا العقل وحده”،( وهذا هو أحد تعريفاته للعلمانية) “[2].
هل أدركت معي جانباً من ذلك السرّ المتمثّل في الموقف السياسي لوهبه من الكيان الصهيوني قبل أي عامل آخر؟ أمّا أن ذلك انعكاس مباشر بالضرورة لمفهومه للعلمانية (الكليّة) المتمثّلة في افتراض العولمة والعلمانية شيئاً مترادفاً أو واحداً؟ أو في كون وهبة يعتقد بناء على مفهومه للعلمانية أننا والصهاينة المحتّلين حضارة مادية واحدة؟ ناهيك عن المقولة التي أخذها على وهبه ” لا سلطان على العقل إلا العقل وحده”، إذ لو تأمّل المسيري فيها لألفى هذه المقولة الأخيرة بالذات تجمع عدداً ممن يعدّهم المسيري من ذوي العلمانية الجزئية؛ ومن ثمّ فذلك آخر ما قد يؤخذ على وهبه؟
رحمك الله – أيها المفكّر العظيم- : هل كنت جادّا في جعل هذه المقولة “لا سلطان على العقل إلا العقل” السبب الحقيقي في إخراج الدكتور وهبه من الدائرة الجزئية إلى الكلّية؟ دون أن ينطبق الشيء نفسه على الدكتورين الآخرين: محمود أمين العالم وفؤاد زكريا- على سبيل المثال- وهما اللذان اشتهرا بمناهضة التطبيع مع الكيان الصهيوني، بكل قوّة وصلابة وثبات، ولكن- مع كل التقدير لهما على ذلك الموقف- فليس ذلك مؤهلاً وحده للبقاء في دائرة العلمانية الجزئية، تماماً كما أنّ الموقف المغاير لا يستأهل أن يكون سبباً وحيداً أو كافياً أو حتى سبباً رئيساً كذلك في الزجّ بصاحب الموقف في أتون العلمانية الشاملة، وإقصائه من الأولى، إذ لن تعدم شيخاً أو واعظاً أو منتمياً إلى دائرة الفقه والثقافة الإسلامية والوعظ، وخاصة ممن يتسابقون اليوم إلى إثبات تغييرهم للخطاب الديني أو زعم “تطويره”، يؤمن بـ”التطبيع “مع الصهاينة، ويتهافت ربما أكثر من مراد وهبه في ذلك، وقد لا يرى- في الوقت ذاته- تعارضاً بين الدين والعلمانية، وقد يردّد – بوعي أو بلا وعي – مقولة مراد وهبه سالفة الذكر عن العلمانية وأنها : ” هي المسار الإنساني في حضارتنا” مع كون هذا الشيخ لا يتبنى القيم العلمانية الكلية الشاملة قطعاً، فهل سيتمكن المسيري – في حالة كهذه- أن يصمه بالعلمانية الكليّة؟.
ليعذرني القارئ المنهجي إن كنت هنا على غير عادتي في عملية التوثيق -أعرضت عن ذكر الأدلة والشواهد على مصداق زعمي في كون الأمر لا يختلف –جوهريًّا- لدى العالم وزكريا، في مسألة مرجعية العقل (المطلقة) بوجهٍ أخص. وأزعم أن كل من درس وإن مقرّراً على أيدي أيّ من الشخصيتين، أو قرأ ولو مقالة ذات علاقة مباشرة لأيّ منهما يدرك بلا لبس أن مقولة أن المرجعية النهائية للعقل ( وليس للوحي) قاسم مشترك بين ثلاثتهم بوجه خاص. بل إني أذهب إلى أبعد من ذلك، إذا ما ذكّرت بأنه حتى كثير ممن يردّد مقولة (فصل الدّين عن الدولة)، على نحو من الفصل التام بين السياسة والدّين، وليس الفصل الإجرائي ( الجزئي العلماني) الذي لايكاد يوجد – ربما-إلا في أمنية الفيلسوف المسيري وخياله لا يعدّ الوحي المرجع النّهائي الحاكم للفكر، وتلك أبرز السمات الأبجدية في الاتجاه العلماني بكلّ مكوّناته ومدارسه، ومن أبرزها مدرسة اليسار الماركسي، الذي يعدّ العالم وزكريا من أبرز رموزها في المنطقة – وليس في مصر وحدها-. ومن أبجديات المعرفة في هذه المدرسة بصورة عامة، أن العقل هو الحاكم وليس ثمة سلطان عليه إلا هو!!
وفي الأخير استوقفني – مرة أخرى- حديث المسيري عن الموقف من (العلمانية الجزئية)، حيث يؤكّد في معرض مناداته بها، وتفهمه لمنطقها، ودعاتها – وكل هذا مما لم يعد جديداً بعد كل ما تقدّم- أن يستشهد ببعض رموز مدرسة الوسطية الإسلامية أمثال: يوسف القرضاوي، وأحمد العسّال، ومحمّد سليم العوّا، وفهمي هويدي، وعبد الغفار عزيز، وسيف عبد الفتّاح، وراشد الغنوشي، وطه العلواني، وعبد الحميد أبو سلمان، ومدرسة المعهد العالمي للفكر الإسلامي، وسواهم على موقفهم من العلمانيين الجزئيين حسب وصفه، من حيث قبول التعايش معهم، وعدّهم جزءاً أساساً من أبناء الوطن الواحد[3]. ولم أدرك حتى اللحظة وجه العلاقة العضوي بين الاختلاف مع مفهوم العلمانية واتجاه المؤمنين بها بشقيها -وهو المشكل الحقيقي في أطروحة المسيري- لدى كل من جاء على ذكر أسمائهم، حسب متابعتي لأطاريحهم، وفي مقّدمتهم رمز الوسطية المعاصرة ورائدها العلامة الراحل الدكتور يوسف القرضاوي- وبين الموقف الشخصي أو الجماعي في مسألة التعايش والالتقاء في القضايا المشتركة – ولا سيما المواقف الوطنية والقومية الكبرى- مع من يحملون تلك الآراء بشقيها الجزئي والكلّي.
بتعبير أكثر وضوحاً: لا مناص – في تصوّر صاحب هذه الدراسة- من ضرورة الفصل بين مسألتين لا تلازم بينهما:
الأولى: مفهوم العلمانية بشقيه الكلي والجزئي، ودلالاته وانعكاساته الفكرية والسلوكية، والأخرى: الموقف من المؤمنين بالعلمانية بقسميها، من حيث التعايش والالتقاء على بعض القضايا الكليّة المشتركة، فعلى حين يزعم صاحب هذه الدراسة أن موقفه لا يخرج عن موقف أساتذته الكبار ممن وردت أسماؤهم آنفاً – على سبيل المثال- وذلكم الموقف هو الرافض للمفهومين، وما ينبني عليهما من دلالات فكرية وانعكاسات سلوكية؛ فإن ذلك لا يستلزم موقفاً مماثلاً، من حيث مبدأ القبول بالتعايش مع المؤمنين بالعلمانية، بقسميها- حسب المسيري- وعدّهم جزءاً من النسيج الاجتماعي والمكوّن الوطني. فذاك موقف مستقل، والآخر موقف مستقلّ كذلك، ولا يستلزم أيّ منهما الإيمان بالآخر، لا ضرورة ولا تبعاً؟!
الفيلسوف التوحيدي والسلفي الحضاري: المسيري:
والواقع أن مما يُعقدّ الأمر أكثر في تحليل موقف المسيري من ” العلمانية الجزئية” أن رؤاه الإجمالية والتفصيلية وأطاريحه، في أكثر من دراسة وكتاب وحوار ومحاضرة، وموقفه الحاد من مظاهر ” التقاليع ” والتهافت على ” الموضات”؛ تجعله أبعد ما يكون عن فكر يقصي الإسلام عن الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والتربوية والإعلامية، زد على ذلك أن أطاريحه الأخرى، فيما يتصل بالمرأة والطفولة وأصالة المعرفة وهويتها، ووقوع التحيّز العلماني فيها ، كما فلسفته تجاه الإنسان والقيم والكون ونحو ذلك، مما برز بعضها في تحريره لكتاب ( إشكالية التحيّز) -على سبيل المثال- ومقدّمته الضافية له، تلك التي احتلت الجزء الأول بكامله، علاوة على بحثه الخاص في الكتاب، الذي ضمنّه بعض صفحات الجزء الخاص بالتحيّز في الأدب والنقد؛ تجعل منه فيلسوفاً توحيدياً، مؤمناً بشمول الفكر الإسلامي لكل قضايا الإنسان والكون والمعرفة والقيم ونظم المجتمع. بل بوسعي القول الآن: إن من يتتبع جملة الأحاديث المتضافرة للدكتور المسيري في المسألة العلمانية والتحسّس الشديد من غزوها مجتمعاتنا، سواء في جانبي الفكر أم السلوك؛ يكاد يصنّفه أقرب إلى (السلفي) ولكن بمنزع فلسفي توحيدي حضاري، منه إلى الناقد الاجتماعي، أو المثقف العضوي، أو الفيلسوف المتأمّل، ناهيك عن عالم الشريعة، إذ يصنّف جلّ الأفكار والسلوكات التي تغشى واقع المسلمين اليوم في مختلف مناحي الحياة تصنيفاً علمانياً لا شعورياً غالباً، يقع في شركها كثيرون، حتى من طبقة علماء الدّين، والمنخرطين العضويين في الأطر الإسلامية الحزبية والمذهبية، ويورد ذلك التوصيف في معرض النقد والتحذير والازدراء من مخاطر الاستمراء في ذلك، سواء على المستوى المعرفي – وهو الأخطر- أم على المستوى العملي السلوكي، لما لذلك من نتائج كارثية على الهوية والشخصية الحضارية والانتماء الوطني والقومي والإسلامي في آن[4]. وهل يصدّق المرء أن هذا الفيلسوف الذي جعله بعض دعاة العلمانية العرب أشبه بالمشجب الذي يحاولون من خلاله تسويق دعوتهم يذهب في نقمته على هذه التقاليع، خاصة حين تصبح أشبه بقواعد السلوك الاجتماعي؛ إلى درجة أن يصنّفها ضمن العلمانية الكليّة الشاملة، فسلوك مثل الوجبات السفرية السريعة ( التيك أواي)، حين تصبح نمطاً عاماً وغالباً في المجتمع، وتتحول ” إلى المركز، وتصبح هي القاعدة والمعيار، نكون قد سقطنا في العلمانية الشاملة”[5] بما تعنيه من ” التخلي عن مجموعة ضخمة من القيم الإنسانية المهمة، مثل أن يُصبح المرء مع أعضاء أسرته أو أصدقائه، في شكل حلقة، ليتناول الطعام معهم….” [6]، مشيراً إلى أنه غير غافل عمّا تعنيه من ضرورة وحتمية أحياناً، لذا فهو لا يحرّمها أو يجرّمها، كما قد يتبادر إلى أذهان بعض المتعجّلين، لكنّه يعود ليشدّد أن الخطورة فيها، حين تتحول من مسلك فردي له حكم الضرورة إلى نظام مجتمعي عام أو غالب، يأتي على حساب، التقاليد الاجتماعية الحميدة، بما فيها من اجتماع عائلي أو علاقات دافئة، تنعكس على التماسك والرحمة بين أعضاء الأسرة والمجتمع[7]، ولذلك فـ”العلمانية ليست أقوالاً ولا أفعالاً واضحة أو فاضحة، إنما هي منظومة فلسفية كاملة، تتبدى في مجموعة تفاصيل وعمليات وإجراءات وسلوكيات، قد لا ندرك بشكل مباشر، أثرها علينا وعلى رؤيتنا لأنفسنا ولغيرنا”[8].
المفكّر إبراهيم السكران يتفق مع وجهة هذه الدراسة:
أخيرا سرّني – صراحة- توافق رأيي حول المسيري ومفهومه للعلمانية الجزئية بما توصّل إليه المفكّر السعودي الدكتور إبراهيم السكران، حيث يعدّ السكران واحداً من أبرز المشتغلين بالقضايا الفكرية الشائكة، ومنها العلمانية، على نحو من الاستيعاب والعمق، بمعزل عن درجة الاتفاق او الاختلاف معه، في مجمل ما يخلص إليه، من نتائج وأحكام. واستحسنت الإشارة إلى وجهته أكثر، إثراء للدراسة من جانب، بوصف تلك الوجهة صدرت عن مفكّر وازن، يصنّف على المدرسة السلفية ” الإصلاحية”، في العربية السعودية، ومن جانب آخر فإن فكرة الدراسة الحالية تسبق كتاب السكران ( الماجريات) المتضمن لرأيه في جوهر الدراسة بـ 4 سنوات، حيث صدر الكتاب في 2015م، على حين صدرت الفكرة الأساس للدراسة الحالية في 2011م[9]، قبل أن تصبح بهذا التوسّع والاستيعاب الذي يُنشر لأول مرّة.
بعد أن أشار السكران إلى تمييز المسيري بين العلمانية الكليّة والجزئية ؛ لفت نظره تلك المفارقة بين تفاصيل أطروحة المسيري عن العلمانية، ثم تقسيمه لها إلى كليّة شاملة وجزئية، فخَلُص إلى أن موقفه هذا يثير التعارض ويدفع نحو الاستشكال، فقال:” لكن يتعارض مع هذا التصريح مواقف ومفاهيم أخرى يتبناها المسيري ، منها طرحه لمفهوم متتالية العلمانية، وهو مفهوم يشير له كثيراً، ووضعه عنواناً لبعض فقرات كتبه…”[10].
ولعل ذلك ما دفع بالدكتور السكران ليلتقط باندهاش ضَرْبَ الدكتور المسيري الأمثلة على العلمانية الكلية الكامنة بنماذج تبدو في ظاهرها من جنس العلمانية الجزئية، مثل ارتداء لباس (التيشيرت) T. Shirt ” الذي يرتديه أيّ طفل أو رجل، وقد كتب عليه ” اشرب كوكا كولا”…وهي عملية تفقد المرء هويته وتحيّده، بحيث يُصبح منتجاً بائعاً ( الصدر كمساحة)، ومستهلكاً للكوكا كولا…وقل الشيء نفسه عن المنزل فهو ليس أمراً محايداً أو بريئاً، كما قد يتراءى للمرء لأول وهلة، فهو عادة ما يجسّد رؤية للكون تؤثر في سلوك من يعيش فيه، شاء أم أبى”[11] ، فلا يجد الدكتور السكران من تعليق على ذلك سوى قوله:” فرجل يبلغ به التحسس من التيشيرت والبرجر وتوم وجيري، إلى هذا المبلغ، ويراها نماذج لآليات العلمانية الشاملة، التي هي في غاية الفضاعة عنده، فكيف يمكن أن يقبل العلمانية الجزئية، بمعنى رفض الأحكام الشرعية في السياسة؟! فلا شك أن مفهوم ” العلمنة البنيوبة الكامنة “يتعارض بشكل واضح مع الفهم الأولى لمعنى قبول المسيري بالعلمانية الجزئية”[12].
ومما لفت نظر السكران- في هذا السياق- كذلك كثرة ذمّ المسيري للعلمانية، ووصفه لها بالمصطلح المضلل الملتبس إلى حدّ ان المسيري تمنّى لو كان الأمر بيده، إذن لاستغنى عن المصطلح تماماً[13]، فيعود السكران ليخلص إلى ما خلصت إليه دراستنا الحالية من كون المسيري لا يهدف في مؤدّى فكرته وجوهرها إلى التساهل في إحلال العلمانية الجزئية بمعنى تنحية الشريعة وشمولها ، فقال السكران تعليقاً على ماسبق :” حسناً كون المسيري يتبنى ” متتالية العلمانية”، وأن العلمانية الجزئية أفضت إلى العلمانية الشاملة، في التطوّر التاريخي، وأن العلمنة الشاملة ” بنية كامنة” في المنتجات الحضارية كالتيشبرت والبرجر والكوكا كولا والبيوت مسبقة الصنع إلخ، التي يعدّها الناس مجرّد وجبات وأزياء وعمارة عادية جدّاً، وكونه يتمنّى الخلاص من مصطلح علمانية، كل ذلك يجعل معنى قوله بقبول “العلمانية الجزئية” مُشكلاً ، وأنه لا يمكن أن يكون مقصوده موافقاً للفهم الأولي لهذه العبارة، أعني رفض سلطة الاحكام الشرعية في باب السياسة، فما مقصوده إذن ياتُرى؟”[14].
يجيب على ذلك السكران بقوله:” الحقيقة أن المسيري ذكر في مواضع عدّة من كتبه كلمات يفسِّر بها ” العلمانية الجزئية” تكشف أنه قد أسيء فهم عبارته، بقبول العلمانية الجزئية، وانه قد ذُهِبَ بها إلى أبعد من مداها، فقد فسّر المسيري “العلمانية الجزئية”، لا بمعنى رفض هيمنة الأحكام الشرعية على باب السياسة، وإنما بمعنى أن ” المسائل الإجرائية والفنية تُحال إلى أهل الخبرة، لا إلى الفقهاء، بشرط ألا تعارض” المرجعية الشرعية”[15]. ثمّ راح السكران يستشهد على سلامة استنتاجه ببعض مفردات المسيري وعباراته التي سقت جملة منها فيما سبق بالخصوص، ليقرّر في نهاية المطاف أن هذا ” التفسير والمضمون الذي يذكره المسيري لا إشكال فيه شرعاً، بل هو معنى يقرّره أهل العلم، ويذكرون فيه أصلين شرعيين، الأصل الأول هو مرجعية أهل الخبرة، والأصل الثاني التمييز بين دائرة الاجتهاد البشري ودائرة الأحكام التوفيقية”[16]. وراح يحشد بعد ذلك بعضاً من الدلائل الشرعية التأصيلية الدالة على سلامة وجهة المسيري في هاتين الدائرتين[17]، ليختتم السكران نقاشه بهذا الشأن قائلاً: “ونحن وإن كنا نرفض مصطلح العلمانية كلّه بقضه وقضيضه، إلا أن مقصود المسيري وتفسيره يبيّن أن هفوته لفظية إن شاء الله، وأن من نقل عن المسيري أنه يقبل بالعلمانية على المعنى الشائع عند العلمانيين، فالذي يظهر لي أنه قد غلط عليه، وأضاف له ما يتعارض مع مراده، ومورد غلط الإضافة الاشتراك المصطلحي”[18].
ختامًا:
في ضوء المحاور السابقة لعلّه بات من البيّن أمام القارئ الكريم أن سيكولوجيا بعض الفلاسفة أو المفكّرين– والمسيري واحد منهم- تستبطن الإفادة من كل الطاقات في المجتمع، وتسعى جُهدها لتقف على مسافة واحدة من فرقاء الفكر والدّين والسياسة كآفة، في المجتمعات ذات الطابع التعدّدي، ومع أننا رأينا المسيري يُعلنها غير مرّة بوضوح لا لبس فيه أن المرجعية الإسلامية في المجتمعات الإسلامية حتمية لا تقبل المساومة أو النزاع؛ بيد أن ذلك لم يحُل دون أن يبدي بعض الصيغ المقاربة، كي تصبح محلّ قول كل أولئك الفرقاء، وهنا قدّم صيغة ” العلمانية الجزئية”، الهادفة إلى جمع الكلمة وتوحيد الصف، وهي صيغة توحي في ظاهرها لأول وهلة أن المسيري ينادي بفصل الدّين عن الدولة، لكنّه تأكد لنا بمختلف الشواهد أن الهدف الحقيقي منها؛ لم يكن ليتجاوز منظومة الإسلام الشاملة ونظامه المتكامل المستوعب لمختلف مجالات الحياة، وأن غاية ما عناه لا يزيد عن القيام بعملية فصل تخصصي تمايزي، وإجراء تقني تنفيذي بين علماء الشريعة وبين المواقع المختلفة في السلطة التنفيذية تحديداً، لكنه لا ينازع في الوقت ذاته في حال امتلك علماء الشريعة أنفسهم المؤهلات اللازمة لقيادة تلك المواقع، بل نحسب أنه – وفق تشديده على قضية المرجعية الكليّة الحاكمة لنظام الدولة في الإسلام- سيكون أكثر ترحيباً وتفاعلاً معهم، لأنهم سيكونون – ساعتئذ- قد حازوا المؤهلين الأساسين وهما: مؤهل الإحاطة بالمرجعية الإسلامية من جهة، ومؤهّل لمعرفة العلمية المتصلة بتحدّيات العصر وواقع المرحلة، مع الخبرة اللازمة لشغل تلك المواقع. من جهة أخرى.
[1] المسيري، العلمانية تحت المجهر، مرجع سابق، ص 64-69.
[2] المسيري، العلمانية تحت المجهر، المرجع السابق، 69-70.
[3] المسيري، العلمانية تحت المجهر، المرجع نفسه، ص 146-149
[4] راجع-على سبيل المثال:- المسيري، دورة منهجية في التعامل مع الفكر الغربي، جـ1، مرجع سابق.
[5] المسيري، العلمانية والحداثة والعولمة، مرجع سابق، جـ2، ص107.
[6] المسيري، العلمانية والحداثة والعولمة، المرجع السابق، جـ2، ص107
[7] المسيري، العلمانية والحداثة والعولمة، المرجع نفسه، جـ2، ص107.
[8] المسيري، العلمانية والحداثة والعولمة، نفسه، جـ2، ص107.
[9] راجع: أحمد محمد الدغشي، إشكال العلمانية في فكر المسيري: رؤية أخرى، مجلة البيان (الشهرية) 6/3/2011م، العدد (284)، الرياض: السعودية.
[10] إبراهيم السكران، الماجريات، 1436هـ- 2015م،ط الثانية، الرياض: دار الحضارة للنشر والتوزيع، ص 206.
[11] المسيري، العلمانية العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة والعلمانية الشاملة، جـ1، مرجع سابق، ص 26-27، والعلمانية والحداثة والعولمة، مرجع سابق، جـ2، ص102.
[12] السكران، الماجريات، مرجع سابق، ص 208.
[13] يشير السكران إلى قول المسيري:” إن مصطلح ” علمانية” شأنه شأن مفهوم ” علمانية” مُبْهَم ومختَلط وخِلافي لأقصى درجة، ولو كان الأمر بيدنا لاستغنينا عنه تماماً، واستخدمنا بعض المصطلحات الأخرى،( وخصوصا مصطلح ” نزع القداسة”، أو ” الواحدية المادية”)، لا نها مصطلحات أكثر شمولاً وأكثر عمقاً ودقة، من لفظ ” العلمانية” كما أنها مصطلحات جديدة، غير محمّلة بخلافات أو أعباء أيديولوجية وعقائدية حادة، كما هو مع الحال مع لفظ ” علمانية” ” المسيري، العلمانية العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة والشاملة، مرجع سابق، جـ1، ص 50.
[14] السكران، الماجريات، مرجع سابق، ص 208.
[15] السكران، الماجريات، المرجع السابق، 209.
[16] السكران، الماجريات، المرجع نفسه، ص 210.
[17] السكران، الماجريات، نفسه ، ص210.
[18] السكران، الماجريات نفسه، ص 208.