أكثر من ستة آلاف قنبلة سقطت على قطاع غزة، استشهاد ما لا يقل عن 2370 فلسطينيا بينهم 721 طفلا و390 امرأة، تدمير أحياء سكنية بكاملها، إبادة ما لا يقل عن 82 عائلة، تدمير 2650 مبنى سكنيا، تضرر حوالي 70 ألف وحدة سكنية، تدمير 65 مقرا حكوميا، تدمير أكثر من 70 مدرسة و145 منشأة صناعية، و61 مقرا إعلاميا، وهدم 18 مسجدا، مقتل 14 فلسطينيا كل ساعة أثناء الهجوم الإسرائيلي على القطاع، وفقا لتقرير للمرصد الأورومتوسطي.
عجيب أمر غزة، كأنهم خلقوا من صمود، ليس هناك من شعب أشد من شعب غزة جلدا، أجيالها تنشأ على أزيز الطائرات وصوت الدمار ورائحة الموت، هذا الشعب الذي يتجاوز تعداد سكانه مليوني نسمة بقليل، يواجه وحده أعتى قوة عسكرية في المنطقة، يتم دعمها بقوة من قبل أمريكا والغرب، رغم أنه محاصر بين العدو والصديق يواجه الجوع وأزمات طاحنة في الحياة المعيشية، ومع ذلك تراهم يسخرون من الموت، وأصبح انتظار سقوط الضحايا طقسا ثابتا في حياة أهل غزة.
لكن شعب غزة لا يضرب مثلا فريدا في الصمود فحسب، بل هو صمام الأمان لبقاء فلسطين، بل لا نبالغ إن قلنا إنه صمام الأمان بالنسبة للأمة بأسرها، وينوب عنها في صراع طويل الأمد مع العدو الصهيوني.
غزة هي العقبة الكؤود أمام ابتلاع الكيان الإسرائيلي لسائر فلسطين، فهي الصداع المزمن الذي لا ينفك عن رأسه، لم يستطع إخضاعها لا بالحل العسكري ولا بالحصار، وانخرط شعبها مبكرا في الانتفاضة الأولى، وفيها نشأت حركات المقاومة الإسلامية، التي مثلت رعبا للكيان الإسرائيلي، تفاجئه كل حين بتطورات هائلة في قدراتها التسليحية وتخطيطاتها العسكرية، وتثير صواريخها الرعب في الاحتلال، وبعد تخلي منظمة التحرير الفلسطينية عن خيار المقاومة بعد اتفاقية أوسلو، التزمته حركات المقاومة في غزة كخيار استراتيجي لها. ورغم حصارها إلا أنها تمتلك قدرة عسكرية فعالة ترد بها على تنفيذ مخططات السيطرة على الأقصى من قبل العدو الإسرائيلي. تنوب غزة عن الشعب الفلسطيني في مواجهة هذه القوة الإسرائيلية الغاشمة، فلا يستطيع الاحتلال تصفية القضية الفلسطينية إلا من خلال السيطرة على قطاع غزة.
ونحن نشهد في هذه الآونة ـ بعد انطلاق عملية طوفان الأقصى التي مرغت أنف الصهاينة في التراب وكشفت سوءاتهم العسكرية والاستخباراتية ـ اتجاها إسرائيليا لإجبار سكان غزة على الهجرة والدفع بهم إلى إخلائها باتباع سياسة الأرض المحروقة، ليتسنى للعدو الصهيوني تصفية القضية، بوطن بديل لأهل غزة خارج فلسطين، لكن شعب غزة ذو وعي، ويفطن لهذا المخطط، ويؤثر السكنى بين الأطلال وتحت القصف، على الهجرة وترك الوطن، لعلمه أن ذلك ما يصبو إليه الاحتلال الإسرائيلي. غزة وحدها بسلاحها المقاوم، هي التي تكشف للأمة العربية والإسلامية أكذوبة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر، فعندما يقف هذا القطاع في مواجهة هذا الكيان الوحشي بندية، يعبئ الأمة بحقيقة أن هذا الكيان هش. وأتخيل كيف تكون انطباعات الشعوب الإسلامية والعربية عن قدرات الصهاينة، لو لم تختبر في الصراع مع غزة، الجهة الوحيدة التي تنازل هذا الكيان، علما بقدرة الآلة الإعلامية لدى العدو الصهيوني، التي برعت في بث الشائعات واستخدام أساليب الحرب النفسية والتضخيم من قدراتها وقوتها، فغزة هي النموذج الملهم لشعوب الأمة، ونستطيع القول إن هذه المدينة الباسلة تجيش مشاعر الجماهير وتحيي في نفوسهم مركزية القضية الفلسطينية مع كل محنة تمر بها وهي صامدة.
غزة بشعبها وحركاتها المقاومة تنوب عن الأمة في التصدي للمخطط الصهيوني الذي يتضمن إقامة دولة إسرائيل الكبرى ، فتلك هي الخطوة الإسرائيلية التي تعقب تصفية القضية الفلسطينية وبسط السيطرة الكاملة على أرض فلسطين.
إقامة دولة إسرائيل الكبرى ينطلق من تفاسير قديمة، تتكىء على عبارة «لما تجلى الرب على إبراهام، منحه الأرض المقدسة من النيل إلى الفرات»، وقطعا هو استدلال مضلل، لأنهم يتعاملون مع نبي الله إبراهيم باعتبار أنه من بني إسرائيل، رغم أنه لم يكون يهوديا ولا نصرانيا، وكان أبا إسماعيل كما كان أبا إسحاق.
هذا المخطط أعلن عنه صراحة مؤسس الصهيونية العالمية تيودور هرتزل ، لذلك لم نتجاوز الحقيقة إن قلنا إن غزة بشعبها وسلاحها المقاوم تنوب عن الأمة بأسرها في التصدي لهذا المشروع، لأنها أكبر العقبات أمام العدوان الإسرائيلي في السيطرة على فلسطين وتصفية القضية الفلسطينية، التي ينطلق منها الاحتلال لتحقيق حلمه الإمبريالي المعروف. وعلى الرغم من هذا الدور المحوري الذي تؤديه غزة لصالح الأمة، تقف اليوم وحدها أمام الوحشية الإسرائيلية التي تتمتع بغطاء دولي، في ظل صمت عربي يشبه صمت القبور، لا يتجاوز الشجب والاستنكار والتحذيرات من العواقب، التي تطلق على استحياء، جاهلين أو متجاهلين لحكمة الثور الأبيض، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.