استنهاض أمةٍ قد استغرقت في نومها، واسْتأْنَسَتْ بأحلامها ، و انقطعت آمالها ، وكثرت آلامها، وأحاط سرادق المتربصين بها، ليس بالأمر الهيِّن، ولا بالعمل اليسير . إنه بالفعل عملٌ صعبٌ، تكتنفه الكثير من المشاق، وتعترض طريقه ما لا حصر لها من العوائق.
إن الأنبياء ، والمصلحين ورُوّاد مشاريع النهضة والحضارة لم تُفرش طريقهم بالورود، ولم يبتسم في وجوههم فرعون، ولا النمرود . لقد دفع الكثيرون حياتهم ثمناً لأفكارهم النهضوية ، وتحمّلوا ألواناً من العذاب وصنوفاً من المعاناة ، وقَضَى أعداد من المصلحين، ولمَّا يقطفوا ثمار دعواتهم الإصلاحية، وفي قراءة نهضة الأمم وانحطاطها خِلفةً لمن أراد أن ينهض بالأُمة أو أراد حضارة .
لا بد من رؤية واضحةٍ لمعالمِ النهضة المنشودة، إذْ إن مشروعاً كهذا لا ينبغي أن يكون استجابة لحالة عاطفية سرعان ما تنطفيء جذوتها، أو ردودَ أفعال وقْتيَّة، ما تلبث أن تبدأ حتى تنتهي غلواؤها .
إن النهضة المنشودة ليست انتقاماً لأحد من أحد، ولا ثورةَ طائفةٍ ضد أخرى ، كما أنها لا تهدف إلى إحلال مذهبٍ محل مذهب آخر ، أو إسقاط حكومة وتنصيب أخرى ، إنها – باختصار – نهضة أمة، نهضةٌ تُعيد العافية إلى جسد الأمة المثخن بالحراح المفتوحة، وتتجاوز حالة اليأس والإحباط الجاثم على صدر العامل والعالم والفَلاح.
ما الجديد الذي أتيتم به يا أصحاب النهضة ؟ ومن السؤال ينتقل صديقي إلى الحكاية فيقول ساخراً : إن الفشل هو النتيجة الوحيدة المتوقعة في مشاريع النهضة العربية الوهمية. يضحك ملء شدقيه، ويُقرر مزهواً: أليس ما تدعون إليه من مشروع النهضة أقرب شَبَهاً بمشاريع المُخزنين ؟!! ألا ترى كيف تتقافز الأفكار في دواوين القات ؟ إننا أثناء نشوة (التخزينة) والساعة (السليمانية ) نُعلن بأننا سَنُبلِّط البحر، ونسقُفُ الجوَّ ، وندوس باقدامنا الطاهرة على الصهيونية الحاقدة، ونقضي على أمريكا!! ألا تنتهي تلك المشاريع فور انتهاء جلسة التخزينة يا صديقي؟! ألا تتحول تلك المشاريع إلى (رازِمٍ) يتخطف صاحبه ذات اليمين وذات الشمال ، فيعود القَهقَرى ليُحَطم كل ما بناه، ويُرَدُّ على عقِبيهِ إلى سالف عهده حَيْران، وفي غَمرة تلك الحَيْرة فإنه ينسى شِعر البردوني والزبيرى، وكذا لَامِيَّة الشَّنفَرى وأبيات عبدالله عبدالوهاب نعمان !!
لسنا بِدعاً من أمم الأرض يا صديقي. إن قوانين الحياة ونواميس الكون لا تستثني أحداً ، كما أنها لا تقيم وزناً لغير اعتبارات الجد والمثابرة، والكفاح والعمل. مشروع النهضة المنشودة ليس وليدَ جلسة (تخزينة) بل هو مولودٌ من رحم المعاناة، وناتج عن تفكيرٍ عميقٍ في أحوال الأمة، وهكذا تُولَد المشاريع، وتنمو وتُكتب لها الحياة. لك أن تُقهقِهَ ما شئت، ولقافلة النهضة أن تجدَّ في الطلب، وأن تَحُثَّ الخُطى نحو الغاية المنشودة دون كلل أو مَلل. حَرقُ المراحل، وتعجُّل النتائج ليس من صفات رواد النهضة، وقد قيل :" من تَعَجَّل شيئاً قبل أوانه عُوقبَ بحرمانه "، وستؤتي النهضة أكُلها في حِينه بإذن ربها، وما علينا إلا أن نمضي قُدُماً.
المعلم مع طلابه، والسياسي في عمله، والخطيب في منبره، والإعلامي من موقعه ، وأصحاب الأقلام الحرة ، والرجال والنساء، والشباب والشيوخ ، يجب على الجميع أن يجعلوا من مشروع النهضة همَّاً لا يغادر تفكيرهم، ونغمة تصاحب حديثهم، وموضوعاً يزين مجالسهم.
لا ينبغي أن تأسرنا أوضاع الحاضر، ولا ترهبنا مآلات الأمور في المستقبل القريب. إننا ننشد نهضة ينعم في ظلها أبناؤنا، ونتذوق طعم ثمارها في أفواههم غداً، ولربما امتد بنا العمر فتذوقناها معاً، فالحياة ليست صفحة في كتاب، بل كتابٌ من صفحات .
يجب على أبناء الأمة أن يُحطموا أغلال الإحباط ، وأن ينطلقوا لإحداث النهضة بجدٍ وصبرٍ ومصابرة. يحدوهم الأمل، وتغمر نفوسهم الثقة المطلقة بأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، وإن مسافة الألف ميل تبدأ بخطوة.