كثير ما نرى اليوم أو نسمع في حياتنا اليومية مرارا و تكرارا عن تلك المشاكل التي ليس لها أول من آخر في الكثير و الكثير من البيوت، التي تؤدي بها و العياذ بالله إلى الانفصال اللا رجعي، و يذهب ضحيتها المرأة أولا و الرجل ثانيا، و طبعا إذا كان هناك أطفالا فهم الخاسر الأكبر... مما يجعل المرء يحاول أن يفهم ما سبب هذه المشاكل التي تؤدي إلى تدهور الأسرة بهذه السرعة، و بهذه الطريقة، و تهدر الميثاق الغليظ بين الزوجين، الذين كانوا يوما ما يتصفان بالحب و الطمأنينة لبعضهم بعضا...و هل هي مشاكل طفيفة، أم مشاكل عويصة، أم مشاكل ليس لها حل.. لا نجزم اليوم بأن الأقرباء هم وحدهم من جعلوا هذا البيت جحيما، و لكن قد يكون ذلك لكون الزوجين يجهلان هذا الميثاق الغليظ الذي حباهم به الله سبحانه و تعالى، و لعلهما يفتقران لأدنى القيم في المعاملة الزوجية، فالكل يحتكم إلى نفسه و أنانيته التي تجعله يرى بأنه على حق تام فيما يرى، و قد ترى الزوجة أنها لا تخطئ و هي صاحبة الرأي السديد، و يرى الزوج بدوره بأنه صاحب السلطة و القرار، في حين لو تتبعنا التشريع الإسلامي و ما جاء به في هذه النقطة بالذات، لزالت تلكم الخلافات التافهة في معناها، و التي حطمت الكثير من الأسر، و لعل المسؤول الأول الخاطئ إنما هي التربية الخاطئة ... يصوِّر القرآن الكريم ارتباط الغريزة و العاطفة بين الزوجين، و يشير إلى أنه آية من آيات الله، و نعمة من نعمه التي لا تُعد و لا تُحصى، يقول - تعالى - : ((وَ مِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)) (الروم: 21). يقول السيد قطب رحمه الله في "الظلال:" التعبير القرآني اللطيف الرفيق يصوّر هذه العلاقة تصويراً موحيا و كأنّما يلتقط الصورة من أعماق القلب و أغوار الحسّ: " لِتَسْكُنُوا إِلَيْها " .. " .. وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً .. " .. " إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون " فيدركون حكمة الخالق في خلق كلّ من الجنسين على نحو يجعله موافقاً للآخر، ملبياً لحاجته الفطريّة: نفسيّا و عقليّا و جسديّا، بحيث يجد عنده الراحة و الطمأنينة و الاستقرار، و يجدان في اجتماعهما السكن و الاكتفاء، و المودّة و الرحمة، لأنّ تركيبهما النفسيّ و العصبيّ و العضويّ ملحوظ فيه تلبية رغائب كلّ منهما في الآخر، و ائتلافهما و امتزاجهما في النهاية لإنشاء حياة جديدة تتمثّل في جيل جديد (في ظلال القرآن ( (5) (2763). و نذهب إلى ما يقوله الشيخ الشعراوي رحمه الله في تحليله للآية الكريمة، بأن القرآن الكريم دقيق غاية الدقّة في تعبيره، إذ هو يفصل بين حاجة الرجل خاصّة، و بين أمرين مشتركين بين كلا الزوجين؛ فالسكن خصّه القرآن بالرجل، فقال تعالى: " لِتَسْكُنُوا إِلَيْها "، و أمّا المَوَدَّةُ وَ الرَّحْمَةُ فقد جعلهما أمراً مشتركاً بينهما، و ذلك لحاجة كلّ منهما الفطريّة إلى ذلك، فقال تعالى: " وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً" . و هنا يأتي دور الأم المربية لطفل اليوم، و أب المستقبل في تحضيره نفسيا و عقليا و جسديا لهذه المهمة، التي إن نجحت فيها، تكون قد نجحت في تكوين أسرة متشبعة بتلك الثلاثية القرآنية العظيمة، السكن، و المودة و الرحمة، و نركز على كلمة المودة و الرحمة التي تخص كلا من الزوجين معا، فإن التعاون النفسي و الجسدي بينهما، يكون كمثل تلك الخلية التي تزداد يوما بعد يوما انتعاشا. فعلى سبيل المثال و ليس الحصر، بإمكان الأم المربية أن تربي الأنثى و الذكر لكل له مسؤوليته، و كل له واجباته و له حقوقه، و لا تجعل من الأنثى خادمة، و لا تجعل من الرجل السيد، فالاحترام واجب، و الطاعة واجبة، فالرجل الكيس لا يستطيع أن يرى نفسه أحسن من خير البشرية الرسول الكريم صلوات ربي و سلامه عليه، الذي كان رحيما بزوجاته أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، يساعد، و يرأف، و يسامح... أما إذا كانت نظرة كل واحد منهما محصورة في الحدود الضيقة لما يسمى بالحقوق و الواجبات، فهنا يعرضان نفسيهما للكثير من الاصطدامات، التي تأخذ بعدا أكثر حدة في كل مرة، إلى أن يجدا نفسيهما قد اتسع بينهما الخرق و تعسر على الإصلاح... على الزوجة أن تسعى جاهدة؛ لكسب ودِّ زوجها، و على الزوج التحبب إلى زوجته بحسن المعاملة، و طيب المعاشرة، فالمرأة المحبوبة، هي التي تعطي الرجل ما نقص من معاني الحياة، و الرجل الكيس هو الذي يصنع المسرات لعائلته ككل...