د/محمد إبراهيم العشماوي
الأستاذ في جامعة الأزهر
لا أدري كيف تسللت هذه البدعة الحقيقية إلى عبادة المسلمين في دعاء ليلة القدر!
وهي طول الدعاء المفرط، والتزام السجع المتكلف فيه!
ورغم تحرُّجي الشديد من التساهل في إطلاق وصف البدعة لأدنى ملابسة، كما يفعل بعض المتساهلين؛ إلا أنني أطلقه هنا راضيا مطمئنا!
إذ لم يردْ عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من السلف شيء من هذا ألبتة، بل استحب بعضهم إحياء ليلة القدر، بل ليالي رمضان كلها في البيوت، وهو المناسب لكونها نوافل، والمستحب أداؤها في البيت، كما جاءت به الأحاديث، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: " اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم، ولا تتخذوها قبورا".
ولئن ترخصنا، وقلنا بجواز إحيائها في المسجد؛ فلتكن على الوجه المشروع.
وقد صار إحياء ليلة القدر مهرجانا للتنافس بين المساجد، ودخلها من البدع والأهواء ما دخلها؛ من إقامة السرادقات حول المساجد، وتضييق الطرق على المارَّة، والمبالغة في مكبرات الصوت، والإسراف في الإضاءة، وتقذير المسجد بفضلات الطعام والشراب، والتفنن في جذب الجماهير بوسائل شتى؛ كإحضار أكثر من قارئ ومتحدث ومبتهل، ممن يرغب الناس في سماعهم!
وقد تغالى القراء في أجورهم في تلك الليلة؛ حتى وصلت إلى عشرات الألوف من الجنيهات، ولعلها تدفع من صندوقٍ وقف ماله على مصالح المسجد، أو مصالح المسلمين! والله ورسوله غنيان عن مثل هذا!
وما أن يدعوَ القارئ دعاء القنوت، ويبدي براعته فيه لفظا وصوتا وأداء؛ حتى تسمع أصوات البكاء والعويل والصراخ والولولة من الرجال والنساء على السواء، داخل المسجد؛ حتى يخرج الجميع عن حد الخشوع في الصلاة، ويصير المسجد كأنه جنازة يبكيها أهلها، وقد كان بكاء السلف ـ رضي الله عنهم ـ على خلاف هذا ، فقد كانوا يخرِّون للأذقان يبكون، ويذرفون الدمع، فتسيل دموعهم على خدودهم بلا صوت، ولا يزيدهم البكاء إلا خشوعا، وحتى في مجالس الوعظ المؤثرة المبكية كانوا يغطون وجوههم ولهم خنين أو حنين!
لأن ارتفاع الصوت بالبكاء ربما يصير حروفا، فتبطل الصلاة، لأنه يصير كلاما، كما يقول فقهاؤنا ـ رضي الله عنهم ـ ومثله الضحك والقهقهة.
وأما إطالة القنوت على هذا النحو الذي نراه ونسمعه؛ فلا والله ما هو بهدْي النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شبيهٌ بهديه!
وربما بطلت به الصلاة نظرا وفقها؛ لإطالته عن الحدِّ المعتاد في مثله، والقنوت الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم معروف، وأطول دعاء في القرآن ما جاء في آخر البقرة، وهو لا يزيد عن سبع جمل!
وفي السنة النبوية عن المعصوم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ من جوامع الدعاء وفواضله وكوامله؛ ما يغني عن ألفاظ غيره من المتكلفين!
وأما تكلف السجع في الدعاء؛ فإن الدعاء حالة قلبية، لا حالة لسانية، وقد قيل في تفسير قوله تعالى( ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين): المتجاوزين في الدعاء بالسجع وغيره، ويكفي قوله تعالى على لسان نبيه(وما أنا من المتكلفين)؛ قاطعا لأعذار هؤلاء المتكلفين، المجافين هدْيه، المتنكبين طريقه!
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل التزم السجع في كلامه: أسجعٌ كسجع الكهان؟!
لا بأس أن نجمع الناس على الله، وأن نقف بهم على بابه، لكن من الطريق الذي شرعه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الطرق كلها مسدودة إلا على من اقتفى أثره، ومن أحدث في أمره ما ليس منه فهو ردٌّ!!