دلائل الخالق
بدأتها أبياتًا لقصيدة التأمل، من واقع حال لأنسج سجايا التأمل، وعن تبصُّر البصيرة، فعلى زخّات ماء الشلال انزلقت حلقات الماء بتواتر الاندفاع لتسابق القوة في ضخ خرير الغنى؛ ليشبع الظمأ إلى صفاء النهاية على امتداد واد سيّال.
فعن يميني تسابيح الطيور، بلغة الإقرار بوحدانية الله - عز وجل - وعن يساري انحناء أغصان الشجر بحفيف الورق الهادئ والمداعب لقطرات الندى؛ ليحتوي إشعاع شمس ذهبية، مكنونات تسبح بعظمة الخالق - عز وجل - لكننا لا نفقه تسبيحها.
ومن فوقي تسابق كوكبة الغيوم، في بطن سماء واسعة المجال، ومن تحتي، وبالقرب من قدمي دبيب نمل في عبادة العمل، بقوة الإصرار أن لا أحد يهديها قوت شتاء قارس، فراحت تسابق الثانية من الزمن على دولاب الإرادة، وعلى امتداد بصري طنين النحل هنا وهناك للهبوط في أقرب فرصة على أزهار الربيع برحيق الختام ذهابًا وإيابًا، فكان العطاء مسكًا في عسل مصفى، لذة للشاربين، مختلفًا ألوانه.
وعلى ضفة أخرى، وفي يوم آخر، نظمت بيتًا آخر لقصيدتي، وبالضبط على شاطئ البحر، أين كان لأفول الشمس إشعاع آخر؟ وما أحلاه في أفق الغروب! إعلان عن رحيل آخر، فكان بيتًا ثانيًا لقصيدتي من على صخر الصمود، لأمواج فيها من القوة ما كان امتدادًا لشجوني على صوت هدير البحر، رغبت في ترجمة صمته بتخويف بداية الظلام من أنه قد يكون السكون الذي يسبق هبوب العاصفة، فالحذر واجب حتى مع الطبيعة، لكني غادرته مع آخر غروب في أهبة إلى مكنونات أخرى، وبالضبط إلى غابة تعج بالأشجار لترسم خريطة الكثافة بانتظام قامات الفروع؛ ليصبح اللون الأخضر سيد المكان، فكان في الاخضرار سكينة للمتعبين من كد العيش ونفس المداومة بضغط حياتي طويل، يبدو كل من ينتمي لهذا المكان يشعر بالأمان ولو أن فيه مخلوقات مفترسة، لكنها ألفت الوجودية بضرورة الاستمرارية، أين عقدت صداقات الهدنة في لا اعتداء ولا خديعة، فكانت لحظات ثقة جميلة، بل صادقة تعلمنا نحن البشر أن نصادق بقوة الإيمان في نبل الأخلاق وديمومة الجمال بعقيدة سمحاء... بدوري أنا شعرت بسكينة في روحي، لكني قطعت هذه السكينة لأكمل المشوار، وعلى نسق آخر، ومن فوق أرضية أخرى، بالضبط بمرأى رمال ذهبية، أين كانت للإبل ضيافة على بوابة الصحراء القاسية بتجرد في كل شيء، ما عدا انحناءات الرمال على أمواج الجفاء في أن الماء بالكاد موجود؛ لكن تركيبة الإبل آية أخرى، من أنه - تعالى - خلق كل شيء بقدر، فكان خلقها عجيبًا وتركيبها غريبًا، هي في غاية القوة والشدة والتحمل.
ومع ذلك فهي تلين للحمل الثقيل، وتنقاد للقائد الضعيف بحجم البساطة، فكانت سفينة البر في قوله - تعالى -: ﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ * فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ﴾ [الغاشية: 17 - 22].
فعلاً ففي رموش أعينها سر الحماية من رمال غزيرة عند هبوبها فجأة، وفي عنقها حكمة في تناول الأكل أرضًا، وحتى من ارتفاع الشجر، وهو توازن يساعدها على النهوض بالأثقال، وحتى لو اشتد الحر، فهي لا تلهث من تعب، ولا تتنفس من فمها في استمرارية لحياتها، والحكمة في هذا المنع الإلهي حتى لا يتبخر الماء من هذا السبيل.
أما فينا نحن البشر، فالآيات كثيرة، منها قوله - تعالى -: ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾ [فصلت: 53]، هي آية شاملة لجميل الصنع والإتقان.
فهذه المرة مع الآدمية، لن تكون أبياتًا؛ بل رحلة إيمانية؛ مصداقًا لقوله - تعالى -: ﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ﴾ [الطارق: 5 - 7]، فهذه الآية هي تذكير الإنسان بأصول نشأته، فقد حيّرت ذوي الألباب، لكن لا حيرة أمام ﴿ كُنْ فَيَكُونُ ﴾، وفي كينونة ابن آدم خليفة على الأرض لاستمرار الآدمية بعد خطيئة الإغراء من شيطان القطيعة مع جنة الخلد.
سأقف مطولاً مع حقيقة وجود الإنسان في دنيا العجائب، وغرائب سيرورة الكون بانتظام متناهٍ، كانت لي إجابة في سورة الذاريات مصداقًا لقوله - تعالى -: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [الذاريات: 56 - 58]، إلى غاية هذا الإبداع الإلهي: هل فعلاً أدَّيْنَا واجب العبودية على أكمل وجه؟!
إن كان على المؤمن فهو يدرك أن الحكمة من خلقه هو الابتلاء والامتحان، وأدواته هي كل ما في هذه الدنيا، ومدة الابتلاء هي حياته على الأرض، دار الزوال والفناء، فإذا انتهى زمن الامتحان أخذت منه أدوات الامتحان، وأخرج من قاعة الامتحان؛ قال - تعالى -: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الملك: 2].
فيا بن آدم كفاك تكبرًا وتواضع للإله برفق وتبصَّر، فكم مضت سنون الصِّبا وخلناها في الشباب باقية!
هي رحلة الحياة مددًا لما بعد الموت في الجنة خلودًا، لكن مفاتيح الجنان مكاره فلك الخيار إن كنت لبيبًا؛ فالمرء يقاس بخواتيم أفعاله، وليس بالسيئات إلا سوء المآل!