ر الوالدين بين التطبيق والتهميش
لا أحد يستطيع أن يَنفي حقيقةَ التوازن النفسي الذي نعيشه، بغضِّ النظر عن الفطرة الإيمانية التي وجَّهَنَا إليها آباؤنا وأمهاتنا؛ فوجود الوالدين في الحياة ضرورة لا يمكِنُ الاستغناء عنها، مهما حصَلْنا على بديل لشغْل مكانتهم في قلوبنا، أو حتى في عقولنا؛ لأننا نفكِّر في أن وجود هذين العنصرين هو سبب كينونة ذاك الاستقرار العاطفي، حتى لو بلغْنا من العمر ما يجعلنا نكبر في فَهم كِيانهما الحيوي؛ حيث إن التقدُّمَ في السن لا يُعتبر ذريعة للانفصال أو الفِطام العاطفي، بل بالعكس نبقى دائمًا نستمدُّ ذاك الحنان والحب والاهتمام والخوفَ منهما على طول مشوار حياتنا؛ لذلك ونظرًا لهذا الفضل الكبير الذي خصَّه الله تعالى لهما كانت لهما المكانة العالية؛حيث إن رضا الله من رضا الوالدين؛ مِصداقًا لقوله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ﴾ [الإسراء: 23].
لا شكَّ أنها مكانة مقرونة بمدى فَهمنا لهاتين الآيتين الكريمتين؛ لأن برَّ الوالدين يختلف من شخص لآخر، حتى طريقة هذا البر بأوصافه الجميلة ليست بالموحَّدة، على الرغم من أن القرآن الكريم أجمع في ألا نقول لهما: أفٍّ ولا ننهرهما، هذا الأف هو نقطة البداية للعقوق، فما بالك بالحركات والسلوكيات الأخرى؟
إذًا تطبيق هذا البرِّ يحتاج إلى التدقيق وَفْق حسابات معمَّقة، وردود أفعال مدروسة مسبقًا، وبإحكام عقائدي مضبوط بمعايير الاحترام والخوف والتبجيل لهما.
أي فن هذا؟ ثم أي وصال حميمي منقطِع النظير لو لم يَحُث عليه الإسلام، ويُزيِّنه القرآن الكريم؟
أظنُّه موضوعًا لا تكفي الصفحات لشرح أبعاده وَفْق ما يريده الله - سبحانه وتعالى - ووَفْق إدراكنا للمعنى الحقيقي للبر.
بالأمس كان جيل الإيمان القوي يعي جيدًا خطورة العقوق؛ فحرَصَ كل الحرصِ على التروي، ورَزانة العقل، وضبْط النَّفس في ألا يَبدُر أي فِعل قد يُسيء إلى الوالدين أحدهما أو كليهما، فكانت الخدمة المتواصِلة والطاعة الهادئة عنوانين رئيسين لمصطلح بر الوالدين، وإن صدَرت هفوةٌ، تأتي المبادرة السريعة لطلب الصفحِ والعفو.
أما جيل اليوم، فسرعة الحركة الحياتية وضغْطها على عقل الابن أو البنت، تجعل منهما فردًا عصبيًّا، سريع الانفعال والرد على الوالدين، إذ لم تَعُد الضوابط الأخلاقية ميكانيزما لكبْح جِماح النفس حتى لا تفتح عليها باب العقوق، أضِف إلى ذلك غزو الإنترنت في عقول شبابنا وليس في البيوت فقط؛ مما جعل العلاقات غير المشروعة بديلاً لذاك الصدر الحاني للأم، وذاك الاحتواء العميق والرزين للأب، فأضحى التهميش سائدًا؛ بل متغلغلاً بقوة في فِكر شبابنا، حتى إن البر لم يجد له مكانتَه الحقيقية وسط كوم من مفارَقات العصر، أينما تَهافتت العولمة بمطارِق التكنولوجيا السريعة، وما أخشاه أن يتحوَّل الود للوالدين من فِطرة كائنة بداخل الروح إلى سلوك غير مترجَم بل دخيل على قِيم ديننا الحنيف.
ترى أين بر الوالدين في هذا الزمن، بين التطبيق الفعلي له والتهميش؟
أم أن التهميش فرَض نفسه في قاموس الهُويَّة والأصالة، لكن يبقى التمسك بقيم العقيدة الإسلامية حصنًا منيعًا من اندِثار المفهوم الحقيقي والتطبيق الفِعلي لبر الوالدين.