بسم الله الرحمن الرحيم
ما المشكلة: التغيير ؟
بقلم :عفاف عنيبة
أنتجت العولمة عالما معرّضا لكل موجات التأثير، و ضعف حصانتنا القيمية جعلنا دائما في موقع المتلقّي السلبي الذي لا يقوى إلا على مجاراة الأقوى. إعتقدنا لمدة قصيرة من الزمن أن هبة الشعوب العربية من ثلاث سنوات ضد الاستبداد السياسي ستطيح بالكثير من الحواجز أمام استعادتنا للمبادرة الحضارية، لكن سرعان ما أدركنا أن الشعوب استعجلت التغيير، لدرجة أنها عادت طواعية إلى نظام الحكم الشمولي الدكتاتوري عندما رأت بأن نهاية شقاءها الطويل لازالت بعيدة، فالنهضة بمفهومها الواسع وليدة -قبل كل شيء- سياق تاريخي يستغرق ردحا من الزمن. ففكرة الانتقال الصاروخي من حالة الموت السريري إلى حالة الفعالية الحضارية ليست واقعية، و لا نستطيع تحديد مدة الفترة الانتقالية، فالمجتمع العربي أكثر المجتمعات توقاً إلى تطليق حالة الانحطاط، لكنه في نفس الوقت الأكثر تضررا. فحجم الخسائر التي تكبّدناها منذ انسحاب قوات الاحتلال العسكرية الأجنبية ليس من السهل أن نتجاوزها في بحر عقد أو عقدين من السنين و كما شهد بذلك الشيخ العلامة المفكر المصلح السيد محمد الغزالي رحمه الله :"ما زلت أؤكد أن العمل الصعب هو تغيير الشعوب أما تغيير الحكام فإنه يقع تلقائيا عندما تريد الشعوب ذلك."
ثم إن رؤيتنا مبعثرة، لا نعثر على تصور مشترك للمصير في أدبياتنا، ولا ننظر للاختلاف على أنه عامل قوة، بل نفترق في قضايا جوهرية مثل الحكم، حيث يريد البعض الفصل في السلطات. هذا، و الفصل يتطلب نضج في التعامل مع مبدأ الاستقلالية في ذاته. هذا، و الرقابة التي من المفروض أن تتجسد في السلطة القضائية و التشريعية معا، عليها أن تعوّل على الرقابة الذاتية، أي ثقافة الضمير الحي، فالفرد مطالب بمحاسبة نفسه قبل أن يحاسبه غيره. و مثل هذه الثقافة لا توجد بمجرد التمني، بل هي فعل واع يعمل على ترسيخه في حياتنا اليومية الفرد و الجماعة على السواء، نحن كثيرا ما نتحدث عن قيمة المواطنة، و قليلا ما نراعي شروط المواطنة، فقلما نربط بين احتياجات المواطن و بين مساحة التحرك المتاحة له بموجب المواطنة.
فإن كان التغيير الهدف المرجو، هل نحن مستعدين لتحمل تبعاته؟
على مدى عقود من الزمن، كانت تحدونا قناعة من أن الشر كله آت من الجهة المقابلة، كثيرون منا أحسنوا الظن بأنفسهم حتى أن حيادهم رأوهُ أنسب المواقف، و العجيب أنهم كانوا أول من عبروا عن تشككهم من انتفاضة الغضب التي اجتاحت الأفهام و الشوارع في طول و عرض عالمنا العربي!
كأنه كان يتعين على المظلومين أن يكتموا غيظهم، حابسين أنفاسهم إلى ما شاء الله، حتى تتوفر العوامل المناسبة المؤدية إلى الانقلاب الرّاديكالي، فمصطلح التغيير يتضمن قدر من الإيثار، أعني إيثار الحق على كل شيء آخر. و ليس كل أحد يقدر على ذلك، هذا، و من جانب آخر، أحيانا كثيرة نسمع حديث عن الاستعجال في الذهاب إلى التغيير، أعاب البعض على الرئيس مرسي تباطئه في الحسم، كانت هناك ملفات لا بد من القطع فيها، لكن لا أحد تساءل: هل التغيير لا يفرض نوع من الفوضى التي تحجب الرؤية لمدة من الزمن؟ عندئذ ماذا نتوقع من جماهير متلهفة لطي صفحة الهوان؟
سرعة الانقلاب الشعبي على حكم الرئيس مرسي أظهر لنا نفاذ صبر مريع و جهل بمضامين الصراع، فليس بين عشية و ضحاها تُحل المعضلات، أما المستفيدون من العهد البائد فلهم مصالح كبرى تحمّلهم اللجوء إلى كل الوسائل، بما فيها تضليل الرأي العام بإشاعة حقائق ملتبسة، و هذا ما عشناه –و لا نزال- مع إعلام مصري محسوب على تيار النافذين في مصر و غير مصر.
المراهنة على التفاعل الشعبي فيه تجاوز لحقيقة السخط، فهناك من الناس من هم مستعدون للتنفيس عن غضبهم بأي شكل، بما فيه الطعن و التشكيك في نوايا الخيّرين، و كما قال بعضهم: "نحن لا نعيش عل النوايا"، فنحن نرى في تونس و مصر و اليمن عدم قدرة البعض على تغليب منطق الصواب على الخلافات الإيديولوجية. لا يعد حلا اليأس، فالكف عن مساعدة غيرنا للتوصل إلى حل، و سحب ثقتنا من أطراف لمجرد أننا نختلف حول منهجية التغيير، و تأويل أفعال البعض على غير حقيقتها، هذا كله يصب في مصلحة أنصار الثورة المضادة. جلّ من لا يخطأ و التعلم من الفشل و الأخطاء تحصين لنا من الوقوع في فخ الغرور. هذا، و نحن في حاجة إلى أعمال بسيطة لنبدأ فعليا في التأريخ للتغيير مثل: الصدق في المعاملات، وضع قيد التنفيذ حملات لنظافة المحيط و اللسان، التزام قواعد العمل السلمي و النضال اليومي. ليس هناك وصفة جاهزة، و إنما ممارسة فعالة تتجاوب مع كل الظروف. فاعتماد سنة التدرج في إصلاح الأوضاع، هذا هو المطلوب الآن و غدا، و أما التخوف من الآت فلا معنى له.
في مصر البارحة اليوم و غدا، مئات الآلاف من الناس المهددين بالسجن، و المتابعة، و الملاحقة القضائية، و الإعدام و سائر أنواع التحرش الظالم لم يثنهم من مواصلة التظاهر، فكيف ننحني للعاصفة لمجرد المآل الغير المتوقع؟
شئنا أم أبينا، من يرث الأرض هم الصالحون، و تستوجب رحلة الحق التحضير لكل الاحتمالات الواقعية والغير الواقعية منها، و ليست مثالية منا أن نجعل من التغيير مشروع الأمة برمتها، فلا أحد بمعزل عن صراع الحق و الباطل.
ما المشكلة: التغيير ؟
بقلم :عفاف عنيبة
أنتجت العولمة عالما معرّضا لكل موجات التأثير، و ضعف حصانتنا القيمية جعلنا دائما في موقع المتلقّي السلبي الذي لا يقوى إلا على مجاراة الأقوى. إعتقدنا لمدة قصيرة من الزمن أن هبة الشعوب العربية من ثلاث سنوات ضد الاستبداد السياسي ستطيح بالكثير من الحواجز أمام استعادتنا للمبادرة الحضارية، لكن سرعان ما أدركنا أن الشعوب استعجلت التغيير، لدرجة أنها عادت طواعية إلى نظام الحكم الشمولي الدكتاتوري عندما رأت بأن نهاية شقاءها الطويل لازالت بعيدة، فالنهضة بمفهومها الواسع وليدة -قبل كل شيء- سياق تاريخي يستغرق ردحا من الزمن. ففكرة الانتقال الصاروخي من حالة الموت السريري إلى حالة الفعالية الحضارية ليست واقعية، و لا نستطيع تحديد مدة الفترة الانتقالية، فالمجتمع العربي أكثر المجتمعات توقاً إلى تطليق حالة الانحطاط، لكنه في نفس الوقت الأكثر تضررا. فحجم الخسائر التي تكبّدناها منذ انسحاب قوات الاحتلال العسكرية الأجنبية ليس من السهل أن نتجاوزها في بحر عقد أو عقدين من السنين و كما شهد بذلك الشيخ العلامة المفكر المصلح السيد محمد الغزالي رحمه الله :"ما زلت أؤكد أن العمل الصعب هو تغيير الشعوب أما تغيير الحكام فإنه يقع تلقائيا عندما تريد الشعوب ذلك."
ثم إن رؤيتنا مبعثرة، لا نعثر على تصور مشترك للمصير في أدبياتنا، ولا ننظر للاختلاف على أنه عامل قوة، بل نفترق في قضايا جوهرية مثل الحكم، حيث يريد البعض الفصل في السلطات. هذا، و الفصل يتطلب نضج في التعامل مع مبدأ الاستقلالية في ذاته. هذا، و الرقابة التي من المفروض أن تتجسد في السلطة القضائية و التشريعية معا، عليها أن تعوّل على الرقابة الذاتية، أي ثقافة الضمير الحي، فالفرد مطالب بمحاسبة نفسه قبل أن يحاسبه غيره. و مثل هذه الثقافة لا توجد بمجرد التمني، بل هي فعل واع يعمل على ترسيخه في حياتنا اليومية الفرد و الجماعة على السواء، نحن كثيرا ما نتحدث عن قيمة المواطنة، و قليلا ما نراعي شروط المواطنة، فقلما نربط بين احتياجات المواطن و بين مساحة التحرك المتاحة له بموجب المواطنة.
فإن كان التغيير الهدف المرجو، هل نحن مستعدين لتحمل تبعاته؟
على مدى عقود من الزمن، كانت تحدونا قناعة من أن الشر كله آت من الجهة المقابلة، كثيرون منا أحسنوا الظن بأنفسهم حتى أن حيادهم رأوهُ أنسب المواقف، و العجيب أنهم كانوا أول من عبروا عن تشككهم من انتفاضة الغضب التي اجتاحت الأفهام و الشوارع في طول و عرض عالمنا العربي!
كأنه كان يتعين على المظلومين أن يكتموا غيظهم، حابسين أنفاسهم إلى ما شاء الله، حتى تتوفر العوامل المناسبة المؤدية إلى الانقلاب الرّاديكالي، فمصطلح التغيير يتضمن قدر من الإيثار، أعني إيثار الحق على كل شيء آخر. و ليس كل أحد يقدر على ذلك، هذا، و من جانب آخر، أحيانا كثيرة نسمع حديث عن الاستعجال في الذهاب إلى التغيير، أعاب البعض على الرئيس مرسي تباطئه في الحسم، كانت هناك ملفات لا بد من القطع فيها، لكن لا أحد تساءل: هل التغيير لا يفرض نوع من الفوضى التي تحجب الرؤية لمدة من الزمن؟ عندئذ ماذا نتوقع من جماهير متلهفة لطي صفحة الهوان؟
سرعة الانقلاب الشعبي على حكم الرئيس مرسي أظهر لنا نفاذ صبر مريع و جهل بمضامين الصراع، فليس بين عشية و ضحاها تُحل المعضلات، أما المستفيدون من العهد البائد فلهم مصالح كبرى تحمّلهم اللجوء إلى كل الوسائل، بما فيها تضليل الرأي العام بإشاعة حقائق ملتبسة، و هذا ما عشناه –و لا نزال- مع إعلام مصري محسوب على تيار النافذين في مصر و غير مصر.
المراهنة على التفاعل الشعبي فيه تجاوز لحقيقة السخط، فهناك من الناس من هم مستعدون للتنفيس عن غضبهم بأي شكل، بما فيه الطعن و التشكيك في نوايا الخيّرين، و كما قال بعضهم: "نحن لا نعيش عل النوايا"، فنحن نرى في تونس و مصر و اليمن عدم قدرة البعض على تغليب منطق الصواب على الخلافات الإيديولوجية. لا يعد حلا اليأس، فالكف عن مساعدة غيرنا للتوصل إلى حل، و سحب ثقتنا من أطراف لمجرد أننا نختلف حول منهجية التغيير، و تأويل أفعال البعض على غير حقيقتها، هذا كله يصب في مصلحة أنصار الثورة المضادة. جلّ من لا يخطأ و التعلم من الفشل و الأخطاء تحصين لنا من الوقوع في فخ الغرور. هذا، و نحن في حاجة إلى أعمال بسيطة لنبدأ فعليا في التأريخ للتغيير مثل: الصدق في المعاملات، وضع قيد التنفيذ حملات لنظافة المحيط و اللسان، التزام قواعد العمل السلمي و النضال اليومي. ليس هناك وصفة جاهزة، و إنما ممارسة فعالة تتجاوب مع كل الظروف. فاعتماد سنة التدرج في إصلاح الأوضاع، هذا هو المطلوب الآن و غدا، و أما التخوف من الآت فلا معنى له.
في مصر البارحة اليوم و غدا، مئات الآلاف من الناس المهددين بالسجن، و المتابعة، و الملاحقة القضائية، و الإعدام و سائر أنواع التحرش الظالم لم يثنهم من مواصلة التظاهر، فكيف ننحني للعاصفة لمجرد المآل الغير المتوقع؟
شئنا أم أبينا، من يرث الأرض هم الصالحون، و تستوجب رحلة الحق التحضير لكل الاحتمالات الواقعية والغير الواقعية منها، و ليست مثالية منا أن نجعل من التغيير مشروع الأمة برمتها، فلا أحد بمعزل عن صراع الحق و الباطل.