شاركتُ اليوم في مراسم الافتتاح الرسمي للقمة السابعة والأربعين لرابطة دول جنوب شرق آسيا (الآسيان) التي استضافتها العاصمة الماليزية كوالالمبور، في لحظةٍ آسيويةٍ مفعمةٍ بالمعاني والدلالات، وحدثٍ دوليٍّ يليق بماليزيا وبريادتها وهي تقود الآسيان خلال العام 2025م.
وأجدني ملزمًا في بداية مقالي، أن أتقدّم بخالص التهاني لماليزيا حكومةً وشعبًا على نجاح هذا الحدث الكبير، الذي أثبت مجددًا أنّها لا تزال نموذجًا مضيئًا في إدارة الفعاليات الدولية، وفي تعزيز روح الوحدة الإقليمية والمسؤولية الجماعية.
ما زالت ماليزيا ودول الآسيان تعطينا، نحن العرب واليمنيين على وجه الخصوص، الدرس تلو الآخر في أهمية التوحّد ونبذ الفرقة والانقسامات، في عالمٍ لم يعد يعترف بالصغار ولا يرحم الضعفاء، عالمٍ لا مكان فيه إلاّ للكبار المتماسكين، الذين يختارون الشراكة على الصراع، والعمل المشترك على الانغلاق.
وقد استوقفتني في هذه القمة عدد من المحطات التي تستحق التأمل، أولها، الإعلان الرسمي عن انضمام تيمور الشرقية كعضوٍ حادي عشر في رابطة الآسيان، بعد سنواتٍ من التحضير والإعداد والجهود المتواصلة لتلبية المعايير والمتطلبات التي تؤهلها للعضوية الكاملة. كانت لحظة رفع علم تيمور الشرقية إلى جانب أعلام دول الآسيان لحظة مؤثرة بامتياز؛ وقف رئيس وزرائها وعيناه تفيض بدموع الفخر والاعتزاز، يتحدث بلغة المستقبل لا بلغة الماضي، عن التنمية والاقتصاد والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والاقتصاد الأزرق، متجاوزًا الخطابات المناطقية والمشاريع الضيقة نحو آفاقٍ أرحب من التكامل والتعاون.
أما المحطة الثانية، فهي توقيع اتفاقية السلام بين كمبوديا وتايلند بعد مواجهاتٍ عسكريةٍ مؤسفة بين البلدين. لقد اختار الطرفان لغة العقل والحوار على لغة المدافع، وآثرا مصلحة شعبيهما على نوازع الكراهية والخلاف، في مشهدٍ يجسد النضج السياسي والإدراك العميق لمعنى السلم كخيارٍ استراتيجيٍّ لا ترفٍ عابر.
لقد غصّت أروقة القمة باتفاقيات التعاون الثنائي والمتعدد، وكلها تدور حول حياة الناس ورفاههم وتنمية مجتمعاتهم، وتأمين مستقبلها، فالكل خرج رابحًا مستفيدًا شيئًا لشعبه ودولته، لا مكان هنا للشعارات الجوفاء أو العسكرة أو الملشنة أو الشعبوية أو المزايدات، أو اللعب على عواطف الجماهير، بل هي لغة الأرقام والمكاسب الحقيقية، غابت أسماء الزعماء، وبرزت أسماء الدول، فغابت الأنا وحضرت المصلحة العامة، وغابت الشخصنة وبرزت الدولة.
وإلى جانب دروس الوحدة والتماسك، تقدّم الآسيان درسًا آخر لا يقل عمقًا وأهمية، هو الانفتاح على العالم والبحث الدائم عن الشراكات العابرة للمحيطات والقارات. لقد تجسّد ذلك بوضوح في استضافة قمة الآسيان الحالية لاجتماعاتٍ موازيةٍ مع الولايات المتحدة الأمريكية وكندا والبرازيل وجنوب أفريقيا واليابان وكوريا الجنوبية واستراليا والصين وروسيا ونيوزلندا، مثلما انفتحت القمة الماضية على الصين ودول مجلس التعاون الخليجي. إنه فكر الشراكة لا التبعية، وعقلية العمل المشترك لتحقيق مصالح الجميع، حيث تُبنى العلاقات على الاحترام والتكامل لا على الصدام أو العزلة.
ولعلّ أحد أكثر المشاهد تعبيرًا عن روح هذه الرابطة هو النشيد الموحد لدول الآسيان الذي يُفتتح به كل اجتماع رسمي. يصدح الحضور جميعًا بلحنٍ واحدٍ من إحدى عشرة دولةٍ ولغةٍ ودينٍ وعرقٍ وثقافةٍ مختلفة، لكنهم يجتمعون على كلماتٍ تعبّر عن وجدانٍ مشتركٍ يقول:
We dare to dream; we care to share together for ASEAN we dare
نجرؤ على الحلم، ونحرص على المشاركة — معًا، من أجل الآسيان، نجرؤ ونسير بثقة.
وفي مقطعٍ آخر يلخص النشيد فلسفة الآسيان كلها في ثلاث كلمات أصبحت شعارًا للمنطقة بأسرها:
One vision, one identity, one community. (رؤية واحدة، وهوية واحدة، ومجتمع واحد)
إنه أكثر من مجرد نشيد؛ إنه إعلان هوية ومشروع حضاري مشترك، يجمع بين التنوع والانسجام، ويجسّد معنى أن تكون مختلفًا دون أن تكون متنافرًا، وأن تكون متعدد الألوان لكنك جزء من لوحةٍ واحدةٍ متناسقة.
ومن الرموز الجميلة التي تعبّر عن هذه الروح، التقليد الراسخ الذي يحرص عليه قادة الآسيان في كل قمةٍ أو اجتماعٍ عند التقاط الصورة الرسمية، حيث يقف الجميع متشابكين بالأيدي في صفٍ واحدٍ، تتقاطع فيه الأذرع لتشكل حلقةً بشريةً متماسكة، تُعلن بصمتٍ بليغ أن هذه الشعوب اختارت أن تمسك بأيدي بعضها، وأن تواجه المستقبل كجسدٍ واحدٍ ومصيرٍ واحد.
تلك هي روح الآسيان التي جعلت منها اليوم واحدة من أنجح التجارب الإقليمية في العالم، روح العمل الجماعي، والانفتاح الذكي، واحترام السيادة، وتغليب المصالح المشتركة على الخلافات. فكم نحتاج – في حالتنا اليمنية والعربية الراهنة – إلى أن نتأمل هذه الدروس بعمق، لندرك أن طريق النهوض لا يُعبَّد بالشعارات ولا تُبنى الدول بالانقسامات، بل بالوحدة، والانفتاح، والرؤية المشتركة، وإرادة السلام والتنمية.







