السفير د. عبدالله الأشعل
احتفلت وزارة الثقافة منذ أيام بالذكرى الخامسة والعشرين بعد المائة على ميلاد عملاق العقل العربي عباس محمود العقاد، بمؤتمر دولي ضم الباحثين والمتخصصين في مختلف الجوانب التي طرقها العقاد، وكانت دار الكتب والوثائق القومية قد نظمت ندوة في شهر أبريل الماضي حول العقاد أديباً وشاعراً وتربوياً ومفكراً سياسياً.
والحق أننا بحاجة ماسة إلى إعادة قراءة قضايانا على ضوء الخصائص الأساسية للفكر السياسي للعقاد، وأهمها قضية الحرية، وقيمة العقل والاحتكام إليه، والعناية باللغة العربية.. هذه المجالات الثلاثة هي التي يجب أن تكون أساساً لإستراتيجية ثقافية، خصوصاً وأن العقاد كان يتمتع بعقلية صلبة تنفذ إلى صلب الأشياء، ولا تضيع في تضاعيف الموضوع الذي يتصدى له، فكان باحثاً محققاً دؤوباً مستقصياً، حتى إذا كتب كان قد هضم موضوعه هضماً كاملاً فقدَّمه إلى قرائه ببصيرة وبلغة تستطيع حمل المعاني مهما كان ثقلها، ولكنها لغة تحررت من النفور والأحاجي، فضلاً عن استقلاله في الرأي ووطنيته وشموخه، وتلك صفات ناجمة عن فتى من أقاصي الصعيد حصل على العلم خارج أسوار المدرسة؛ فأصبح الكتاب هو معلمه؛ ولذلك سئل ذات مرة عن عمره فقال: إن عمره هو مجموع أعمال من قرأ لهم، وكانوا ألوفاً.
ولست بحاجة إلى الإفاضة في جوانب شخصية العقاد وخدمته للثقافة العربية في جميع المجالات، ولذلك سنركز في هذا المقال على الجانب السياسي في حياة العقاد الثقافية، ومدى إدراكه للمفاهيم السياسية التي تعامل معها في كتبه ودراساته التي يتعين علينا أن نستمتع بهذه الدراسات دفعة واحدة؛ حتى نرى العقاد بكامل قامته، ونستخلص الدروس من فتى جاء من أقصى الأرض لكي يحفر لنفسه مكاناً علياً في دنيا القاهرة في ذلك الزمان المبكر من بدايات القرن العشرين، والذي تصور سيرته صفحة مضيئة في تاريخ مصر الحديث.
في مجال السياسة، كان العقاد من الشخصيات السياسية اللامعة عندما كان عضواً في البرلمان لصيقاً بزعيم الأمة سعد زغول باشاً الذي اقترب منه وصوَّره في كتبه أبلغ تصوير، وسجن تسعة أشهر؛ بسبب حماسه الوطني ودفاعه عن الدستور ضد طغيان الملك فؤاد، ولكن التصاقه بحزب ’’الوفد’’ في عهد سعد زغلول لم يمنعه من التصدي بموضوعية كاملة لإبرام حزب الوفد ’’المعاهدة’’ مع بريطانيا العظمى عام 1936م، ووصفها بأقذع الألفاظ، وقدَّم لها تحليلاً علمياً وطنياً رائعاً، وكشف نفاق الساسة ورجال الصحافة الذين لبَّسوا على الشعب بأنها معاهدة ’’الصداقة والاستقلال’’، وأشد ما نعاه عليها هو أنها الحقت مصر بخدمة المجهود الحربي البريطاني، ومنحت بريطانيا حق الاحتلال العسكري تحت ستار الدفاع عن مصر وعن قناة السويس؛ ولذلك كانت فرحة العقاد كبيرة عندما أعلنت حكومة ’’الوفد’’ أيضاً في أكتوبر 1950م بعد عدم اكتراث مجلس الأمن بالمسالة المصرية التي ناقشها في أولى جلساته في باريس عام 1946م، إلغاء المعاهدة، وصمود حكومة ’’الوفد’’ ضد الإنجليز وبطشهم في منطقة القناة التي ألهبت الوطنية المصرية.
كان العقاد أيضاً كاتباً في السياسة، ولم يترك مناسبة إلا كان له رأي وموقف جدير بأن يدرس ويسجل، فقد أنصف العقادُ، عرابي وثورتَه، في وقت كان العرابيون كما قال البارودي في قصيدته الشهيرة ’’في سرنديب’’: فل رزية تقاسمها في الأهل باد وحاضر، كما شاهد العقاد بنفسه أحمد عرابي باشا بعد عودته من المنفى الذي قضى فيه ربع قرن من حياته، وما أجدر شبابنا أن يقرؤوا الثورة العرابية ومذكرات زعيمها على ضوء موقف العقاد.
وعندما قامت حركة الجيش بقيادة ’’جمال عبدالناصر’’ عام 1952م أيَّدها العقاد، وامتدح شبابها، ولكنه لم يخشَ في الحق لومة لائم، ولم يمنعه البطش في ذلك الوقت من أن يعترض بصراحة على كل الإجراءات الاستثنائية في مجال الملكية الخاصة والحريات في ذلك الزمان، تلك الإجراءات التي كانت سبباً رئيساً في سقوط النظام بأكمله عام 1967م.
وفي مجال الفكر السياسي، كان العقاد ضد كل الحركات السياسية التي تصادر الحرية؛ فاتخذ موقفاً عدائياً من النازية في ألمانيا، ولم يظهر تعاطفاً كان مألوفاً في الحركة الوطنية المصرية مع الألمان نكاية في الإنجليز المحتلين.
أما عبقرياته من الناحية السياسية، فقد كانت نموذجاً في التحليل السياسي الذي يجعل الشخصية وحدة التحليل وينشئ حولها الأحداث والعلاقات، ولا شك أن ملاحظاته حول العبقرية السياسية لرسول الأمة صلى الله عليه وسلم تستحق الدراسة والاهتمام، خاصة في رحلة الحديبية التي كشفت عن عبقرية سياسية ودبلوماسية وفهم عميق لطبائع البشر نحن أحوج ما نكون إليها في هذه الأيام.
أما قيمة العقل فهو ظاهر في كتابات العقاد جميعاً، خاصة سير العباقرة الذين أعجب بهم وأنزلهم المنزلة التي يستحقونها بين البشر، وقيمة العقل ثروة أهملها العقل العربي والمصري، وكان السبب في ذلك هو حكَّامها الذين جرَّفوا عقول الناس، وحرَّفوا أفهامهم؛ فانساقت الأمة كالقطيع وراء الخرافات والتوافه من الأمور، وخلطت الحق بالباطل في الدين والدنيا.
وأذكر أن أسلوب العقاد في الكتابة قد أغرانا جميعاً بالمتابعة، خاصة وأن بعض السوقة قد روَّجوا في سالف الزمان بأن العقاد يتناقض مع طه حسين، ولكن الاثنين عملاقان في الفكر والأدب معاً لكل من ألقى السمع وهو شهيد.
وقد لفت النظر في الندوات التي شهدتها عن العقاد أن بعضاً من شبابنا ينحاز إلى كاتب دون آخر، فيهاجم هذا الآخر؛ مما كشف لدينا عن عاهة ثقافية خطيرة، وكذلك شذوذاً أخلاقياً؛ وهو أن مثل هذا الشاب لم يفهم كاتبه كما لم يقرأ لغيره، واعتصم بكاتبه الوهمي حتى ينسب نفسه إليه زوراً وبهتاناً.
أما اللغة العربية، فهذه آفة في العالم العربي يتقاسمها الحكام والمثقفون، والله لا يستحيي من الحق، ولكن انهيار اللغة دليل على انهيار الأمة، والذين يريدون إنهاض اللغة وحدها دون إنهاض الأمة يعملون بدافع نبيل وهو الغيرة على اللغة، ولا ضير في ذلك أيضاً إلى أن تنهض الأمة وتزدهر لغتها ويتقدم النابهون فيها، وجدير بالإعلام المصري أن يحترم حق الشعب المصري في التنوع الثقافي والفكري، وألا يفرض عليه فريقاً واحداً يدعي تمثيل الأمة وفكرها في عصر تفخر فيه مصر بثروتها البشرية التي تحتاج بالفعل إلى تنمية واهتمام.
*المجتمع
احتفلت وزارة الثقافة منذ أيام بالذكرى الخامسة والعشرين بعد المائة على ميلاد عملاق العقل العربي عباس محمود العقاد، بمؤتمر دولي ضم الباحثين والمتخصصين في مختلف الجوانب التي طرقها العقاد، وكانت دار الكتب والوثائق القومية قد نظمت ندوة في شهر أبريل الماضي حول العقاد أديباً وشاعراً وتربوياً ومفكراً سياسياً.
والحق أننا بحاجة ماسة إلى إعادة قراءة قضايانا على ضوء الخصائص الأساسية للفكر السياسي للعقاد، وأهمها قضية الحرية، وقيمة العقل والاحتكام إليه، والعناية باللغة العربية.. هذه المجالات الثلاثة هي التي يجب أن تكون أساساً لإستراتيجية ثقافية، خصوصاً وأن العقاد كان يتمتع بعقلية صلبة تنفذ إلى صلب الأشياء، ولا تضيع في تضاعيف الموضوع الذي يتصدى له، فكان باحثاً محققاً دؤوباً مستقصياً، حتى إذا كتب كان قد هضم موضوعه هضماً كاملاً فقدَّمه إلى قرائه ببصيرة وبلغة تستطيع حمل المعاني مهما كان ثقلها، ولكنها لغة تحررت من النفور والأحاجي، فضلاً عن استقلاله في الرأي ووطنيته وشموخه، وتلك صفات ناجمة عن فتى من أقاصي الصعيد حصل على العلم خارج أسوار المدرسة؛ فأصبح الكتاب هو معلمه؛ ولذلك سئل ذات مرة عن عمره فقال: إن عمره هو مجموع أعمال من قرأ لهم، وكانوا ألوفاً.
ولست بحاجة إلى الإفاضة في جوانب شخصية العقاد وخدمته للثقافة العربية في جميع المجالات، ولذلك سنركز في هذا المقال على الجانب السياسي في حياة العقاد الثقافية، ومدى إدراكه للمفاهيم السياسية التي تعامل معها في كتبه ودراساته التي يتعين علينا أن نستمتع بهذه الدراسات دفعة واحدة؛ حتى نرى العقاد بكامل قامته، ونستخلص الدروس من فتى جاء من أقصى الأرض لكي يحفر لنفسه مكاناً علياً في دنيا القاهرة في ذلك الزمان المبكر من بدايات القرن العشرين، والذي تصور سيرته صفحة مضيئة في تاريخ مصر الحديث.
في مجال السياسة، كان العقاد من الشخصيات السياسية اللامعة عندما كان عضواً في البرلمان لصيقاً بزعيم الأمة سعد زغول باشاً الذي اقترب منه وصوَّره في كتبه أبلغ تصوير، وسجن تسعة أشهر؛ بسبب حماسه الوطني ودفاعه عن الدستور ضد طغيان الملك فؤاد، ولكن التصاقه بحزب ’’الوفد’’ في عهد سعد زغلول لم يمنعه من التصدي بموضوعية كاملة لإبرام حزب الوفد ’’المعاهدة’’ مع بريطانيا العظمى عام 1936م، ووصفها بأقذع الألفاظ، وقدَّم لها تحليلاً علمياً وطنياً رائعاً، وكشف نفاق الساسة ورجال الصحافة الذين لبَّسوا على الشعب بأنها معاهدة ’’الصداقة والاستقلال’’، وأشد ما نعاه عليها هو أنها الحقت مصر بخدمة المجهود الحربي البريطاني، ومنحت بريطانيا حق الاحتلال العسكري تحت ستار الدفاع عن مصر وعن قناة السويس؛ ولذلك كانت فرحة العقاد كبيرة عندما أعلنت حكومة ’’الوفد’’ أيضاً في أكتوبر 1950م بعد عدم اكتراث مجلس الأمن بالمسالة المصرية التي ناقشها في أولى جلساته في باريس عام 1946م، إلغاء المعاهدة، وصمود حكومة ’’الوفد’’ ضد الإنجليز وبطشهم في منطقة القناة التي ألهبت الوطنية المصرية.
كان العقاد أيضاً كاتباً في السياسة، ولم يترك مناسبة إلا كان له رأي وموقف جدير بأن يدرس ويسجل، فقد أنصف العقادُ، عرابي وثورتَه، في وقت كان العرابيون كما قال البارودي في قصيدته الشهيرة ’’في سرنديب’’: فل رزية تقاسمها في الأهل باد وحاضر، كما شاهد العقاد بنفسه أحمد عرابي باشا بعد عودته من المنفى الذي قضى فيه ربع قرن من حياته، وما أجدر شبابنا أن يقرؤوا الثورة العرابية ومذكرات زعيمها على ضوء موقف العقاد.
وعندما قامت حركة الجيش بقيادة ’’جمال عبدالناصر’’ عام 1952م أيَّدها العقاد، وامتدح شبابها، ولكنه لم يخشَ في الحق لومة لائم، ولم يمنعه البطش في ذلك الوقت من أن يعترض بصراحة على كل الإجراءات الاستثنائية في مجال الملكية الخاصة والحريات في ذلك الزمان، تلك الإجراءات التي كانت سبباً رئيساً في سقوط النظام بأكمله عام 1967م.
وفي مجال الفكر السياسي، كان العقاد ضد كل الحركات السياسية التي تصادر الحرية؛ فاتخذ موقفاً عدائياً من النازية في ألمانيا، ولم يظهر تعاطفاً كان مألوفاً في الحركة الوطنية المصرية مع الألمان نكاية في الإنجليز المحتلين.
أما عبقرياته من الناحية السياسية، فقد كانت نموذجاً في التحليل السياسي الذي يجعل الشخصية وحدة التحليل وينشئ حولها الأحداث والعلاقات، ولا شك أن ملاحظاته حول العبقرية السياسية لرسول الأمة صلى الله عليه وسلم تستحق الدراسة والاهتمام، خاصة في رحلة الحديبية التي كشفت عن عبقرية سياسية ودبلوماسية وفهم عميق لطبائع البشر نحن أحوج ما نكون إليها في هذه الأيام.
أما قيمة العقل فهو ظاهر في كتابات العقاد جميعاً، خاصة سير العباقرة الذين أعجب بهم وأنزلهم المنزلة التي يستحقونها بين البشر، وقيمة العقل ثروة أهملها العقل العربي والمصري، وكان السبب في ذلك هو حكَّامها الذين جرَّفوا عقول الناس، وحرَّفوا أفهامهم؛ فانساقت الأمة كالقطيع وراء الخرافات والتوافه من الأمور، وخلطت الحق بالباطل في الدين والدنيا.
وأذكر أن أسلوب العقاد في الكتابة قد أغرانا جميعاً بالمتابعة، خاصة وأن بعض السوقة قد روَّجوا في سالف الزمان بأن العقاد يتناقض مع طه حسين، ولكن الاثنين عملاقان في الفكر والأدب معاً لكل من ألقى السمع وهو شهيد.
وقد لفت النظر في الندوات التي شهدتها عن العقاد أن بعضاً من شبابنا ينحاز إلى كاتب دون آخر، فيهاجم هذا الآخر؛ مما كشف لدينا عن عاهة ثقافية خطيرة، وكذلك شذوذاً أخلاقياً؛ وهو أن مثل هذا الشاب لم يفهم كاتبه كما لم يقرأ لغيره، واعتصم بكاتبه الوهمي حتى ينسب نفسه إليه زوراً وبهتاناً.
أما اللغة العربية، فهذه آفة في العالم العربي يتقاسمها الحكام والمثقفون، والله لا يستحيي من الحق، ولكن انهيار اللغة دليل على انهيار الأمة، والذين يريدون إنهاض اللغة وحدها دون إنهاض الأمة يعملون بدافع نبيل وهو الغيرة على اللغة، ولا ضير في ذلك أيضاً إلى أن تنهض الأمة وتزدهر لغتها ويتقدم النابهون فيها، وجدير بالإعلام المصري أن يحترم حق الشعب المصري في التنوع الثقافي والفكري، وألا يفرض عليه فريقاً واحداً يدعي تمثيل الأمة وفكرها في عصر تفخر فيه مصر بثروتها البشرية التي تحتاج بالفعل إلى تنمية واهتمام.
*المجتمع