بقلم: د. عبدالله الأشعل
يجب أن نؤكد عدداً من الحقائق الأولية اللازمة لتحليل الموضوع. الحقيقة الأولى: هي أن ’’التيارات الإسلامية’’ ’’والجماعات الإسلامية’’ مصطلحات حديثة نسبياً، وظهرت مع مصطلح الإسلاميين والإسلام السياسي وكلها ظهرت في وقت واحد، وتضم أطيافاً مختلفة من المسلمين الذين يعملون في مجال الدعوة والتنظير الديني. وقد ظهرت كل هذه المصطلحات في مصر بعد نكسة 1967م، حيث فسرت هذه النكسة على أنها هزيمة ساحقة للتيار القومي ومعه التيار الناصري ’’العلماني’’؛ بسبب بعد الشعب عن الله، فآن له أن يجرب اللجوء إلى الله وارتياد المساجد ومجالس الذكر والمحاضرة، فانتشرت المساجد الأهلية كما انتشر الدعاة الذين تربوا في صفوف هذه الجماعات والتي تضم ألواناً مختلفة متباينة في الموقف من الحكومة والمجتمع والدولة الفاضلة التي يريدون إنشاءها، ويمثل الإخوان المسلمون الوعاء الأساسي الذي يضم كل هذه الأطياف، ولم يعجبهم اعتدال الجماعة فتطرف بعضهم ولجأ إلى أعمال ’’جهادية’’، وهي الأعمال التي فسرت بالأعمال ’’الإرهابية’’. وكل هذه التيارات والجماعات اتخذت موقفاً مناهضاً للحكومة والنظام في الأغلب في عصر ’’السادات’’، رغم أنه هو الذي أتاح لهم حرية العمل لاستيعابهم كقوة معارضة وتوجهها لضرب اليسار العلماني الذي استعان به ’’عبدالناصر’’ في صدامه مع الإخوان المسلمين. الحقيقة الثانية: هي أن المراجعات التي تمت عند عدد من الجماعات الإسلامية تمت بسبب نضج القيادات من ناحية، ولكن السبب الأهم هو رفض المجتمع لعملياتهم التي ضربت المجتمع ولم تضر الحكومة وأعضاءها، رغم كثافة محاولات الاعتداء على الوزراء في الثمانينيات والتسعينيات في عهد ’’مبارك’’، ولم يكن بطش الأمن إلا سبباً في اشتعال الرغبة في الثأر منهم خاصة في الصعيد. الحقيقة الثالثة: هي أن التيارات والجماعات بما فيها الإخوان المسلمون لم تدخل فيها في البداية التيارات السلفية التي كانت موالية للحكومة، كما لم تدخل فيها الطرق الصوفية الموالية هي الأخرى للحكومة، وظلت هذه الجماعات تمثل المعارضة المسلحة بديلاً عن معارضة مستأنسة، وسوف يسجل الباحثون أن توحش الأمن في انتهاك كافة حقوق هذه الجماعات وعدم التعامل معها تعاملاً سياسياً أو اجتماعياً كان السبب في ازدهار النظام الاستبدادي، وتوحش الشرطة وتحول مصر كلها إلى أداة في يد الدولة البوليسية الأمنية، برغم أن ذلك مطلوب لتأمين المجتمع، كما كان الإعلام أداة لتعميق صورة هذه الجماعات التي وصفها بالإرهابية، فغصت بهم السجون والمعتقلات في دولة غاب فيه حكم القانون، فأصبحت نهباً للصراع بين الدكتاتورية القمعية والإرهاب، بعد أن تم تجريف التعليم والعقل والثقافة وإهدار كرامة المواطنين، وإفقار المجتمع وإهدار كل قيم العدل والعدالة وتكافؤ الفرص. الحقيقة الرابعة: هي أن الحديث عن التيارات الإسلامية واجتهاداتها في الدعوة والدين شيء، والحديث عنها في المجال السياسي شيء آخر، يؤدي إلى قلب الحديث عنها إلى مصطلح ’’الإسلام السياسي’’. وفي الوقت الذي اشتدت فيه أزمة هذه الجماعات مع النظام، كانت واشنطن تبحث عن الإسلام كعدو جديد بعد سقوط الاتحاد السوفييتي؛ أي زوال ’’الخطر الأحمر’’ وحلول ’’الخطر الأخضر’’ مكانه. في نفس الوقت الذي كان التقارب المصري ’’الإسرائيلي’’ في معاهدة السلام سبباً في اغتيال ’’السادات’’، ولا يزال هذا التقارب من أسباب الخلافات العميقة بين كل التيارات الإسلامية والنظام، فأدى ذلك إلى تشدد النظام مع المخالفين لخط الصلح مع ’’إسرائيل’’، ونال هؤلاء مختلف العقوبات بدءاً بالسجن والاعتقال وانتهاءً بالاضطهاد والتضييق والعزل والإبعاد عن الوظائف الكبرى.. ترتب على ذلك أيضاً أن ’’التيارات الإسلامية’’ جميعاً نظر إليها النظام على أنها في سلة واحدة وهي إرهابية بطبيعتها، وحظر عليها بالطبع الحق في دخول ستة من أجهزة الدولة الأساسية وهي: الداخلية، والخارجية، والمخابرات، والجيش، والقضاء، والإعلام إلى حد ما. خامساً: سمح للتيارات الإسلامية ممارسة السياسة في أضيق نطاق في حضن النظام، وتحت رقابته في البرلمان من خلال أحزاب غير إسلامية، حتى يكون ظهورهم المقنن والمرسوم ديكوراً للديمقراطية الزائفة التي مارسها ’’السادات’’ و’’مبارك’’، ولكن هذه الترجمة ودخول الانتخابات قبل ثورة 25 يناير أعقبها فكرة عن قواعد السياسة والحكم في مصر، وكان صوتهم في البرلمان محسوباً على الأحزاب التي ترشحوا على قوائمها وأبرزها حزب ’’الوفد’’، وحزب ’’العمل’’ الأقرب إلى هذه التيارات. سادساً: أن اشتراك الإخوان المسلمين في ثورة 25 يناير خاصة يوم 28 منه كان حاسماً في إنجاح الثورة، ولكن الثورة فتحت الباب لحرية العمل الحزبي والسياسي فسمح لهم بتشكيل أحزاب ذات مرجعية إسلامية، ثم دخلوا الانتخابات وأولها استفتاء مارس 2011م على تعديل الدستور حيث أقر بأغلبية مذهلة، وكانت تلك هي بداية دخول الدين على خط السياسة بعد الثورة، حيث فسرت النتائج على أنها انتصار للإسلام ضد العلمانية الليبرالية والكنيسة التي كانت قد أعلنت قبل الاستفتاء رفضها للتعديلات الدستورية. وهكذا أصبح التحالف ظاهراً بين كتلة الناخبين المسيحيين والليبراليين والعلمانيين في الانتخابات التالية مجلس الشعب ومجلس الشورى ضد التيارات الإسلامية خاصة الإخوان وحزب ’’النور’’ السلفي والتيارات السلفية الأخرى. سابعاً: بدا واضحاً أن ظهور هذه التيارات الإسلامية التي كانت أسيرة سجون النظام بعد انهياره، وإعلانها عن المشروع الإسلامي وتطبيق الشريعة الإسلامية قد جذب إليها أغلبية الناخبين؛ فسيطر الإخوان والسلفيون على أغلبية مقاعد مجلس الشعب والشورى وعلى معظم لجانه. على الجانب الآخر، كان التربص منذ ’’استفتاء مارس’’ ونتائجه وناقوس الخطر الذي دقته هذه النتائج يضم شرائح متعددة من الشعب، وكلها وجدت خطراً أو انتهازية أو تسرعاً أو استغلالاً لفقر الناس أو عواطفهم الدينية، وهذه الشرائح هي شباب الثورة والاتجاهات العلمانية والليبرالية والمسيحية وأعداء ثورة 25 يناير من بقايا النظام ومفاصل النظام الاقتصادية والعسكرية والأمنية والقضائية والإعلامية، فضلاً عن مؤامرات بعض الدول العربية و’’إسرائيل’’.. وأما واشنطن فيبدو أنها كانت واثقة أن اندفاع التيارات إلى المساحات الحالية سوف يهدم المعبد كله على رأسها، وأن تأليب الشعب على هذه التيارات واستغلال أخطائها لكفيل بالقضاء عليها دون مواجهة مع واشنطن، وهذا هو السبب في أن كل الأطراف لديها عشم كبير في دعم واشنطن لها. ولذلك كان ترشح ’’د. محمد مرسي’’ إشارة حمراء لهذا التحالف الواسع مع نظام ’’مبارك’’ وأجهزة الدولة القديمة، فلما تمت الإعادة بين ’’مرسي’’ و’’شفيق’’ كانت النتيجة متقاربة ولصالح ’’مرسي’’، ففسرت مرة أخرى على أن الشعب يريد التيار الإسلامي، وتم تجاهل هذا التيار 48% الذين ساندوا ’’أحمد شفيق’’ حباً في الجيش وفي نظام ’’مبارك’’ وكفراً بالثورة. كما كان منهم نسبة كبيرة لمناهضة مرشح الإخوان. ثامناً: لم يدرك التيار الإخواني والسلفي أن ما لا يقل عن 40% ممن أيدوا ’’مرسي’’ كان كراهية في ’’شفيق’’ وما يمثله، وأن على مرشح الإخوان أن يجمع كل المصريين ويمثل الثورة ويستعين بالشعب على دولة ’’مبارك’’ وأجهزتها العتيدة، وأنه يستحيل إنشاء نظام جديد خارج رحم مصر المشغول بنظام ’’مبارك’’ وأجهزة دولته المعادية أصلاً للإخوان والسلفيين، فكان وجود التيار في السلطة زواجاً بالإكراه يتطلب الاستعانة بالشعب والحزم والاستقامة وإشراك الجميع على أساس الكفاءة وليس الثقة وحدها. وقد مارست أجهزة الدولة القديمة دوراً هائلاً في إفشال التجربة، فظل ’’مرسي’’ في الفناء الخلفي لكل الأجهزة خاصة الجيش الذي سيظل متربصاً بالسلطة لعدم اقتناعه بنزعه عنوة من مكانه الذي ظل فيه من خلال الرئيس العسكري لأكثر من 60 عاماً، ولصالح رئيس مدني إخواني أو سلفي وهذه قضية مستحيلة عقلاً، وهذا هو أحد أهم أسباب حركة الجيش ضد الإخوان في الثالث من يوليو 2013م، فانفجرت كل القطاعات المناهضة للإخوان في حركة 30 يونيو ومعها كافة أجهزة الدولة المعادية لهم، خاصة وأن الجيش برر تدخله بهذه الحركة التي ظلت تتجمع منذ استفتاء مارس 2011م، وتغذت وتوسعت على أخطاء الإخوان، وكذلك الشيطنة الهائلة والمدروسة التي قادها الإعلام، كما مارس القضاء والإعلام والأمن ونظام ’’مبارك’’ دوراً هائلاً سواء في إبطال المؤسسات المنتخبة ديمقراطياً أو في الحشد ليوم 30 يونيو في عملية مخططة تخطيطاً يدعو للتأمل والمرارة. تاسعاً: اتسم رد الفعل الشعبي الذي تبلور في حركة 30 يونيو وحركة الجيش يوم 3 يوليو بالعداء ضد الإخوان وحدهم، وتحول الصخب والفرحة بخلعهم بالقوة من السلطة إلى مطالبات بإبادتهم كجماعة دعوية وسياسية واجتماعية وكأنهم جماعة أجنبية، واقترن ذلك بامتنان للجيش وحده على تخليص مصر منهم، لأن صناديق الانتخاب خذلت المعاونين للإخوان، وقد انضم إلى هذه الشرائح حزب ’’النور’’ السلفي والبابا وشيخ الأزهر الذين حضروا بيان وزير الدفاع لخلع الإخوان والرئيس ووقف الدستور وحل مجلس الشورى، ومن الطبيعي أن يحضر ممثل عن حركة ’’تمرد’’ التي أعدت المسرح ليوم 30/6 و3/7، ولكن اعتراض الإخوان على خلع الرئيس المنتخب والدستور والشورى قد انضم إليه رافضون آخرون لهذه الخطوة؛ خشية أن تضيع قيمة صناديق الانتخاب ويُغرى الجيش بالتدخل لإحباط أي نبتة ديمقراطية مثلما التهم القضاء الدستوري مجلس الشعب. عاشراً: هكذا بدت أزمة جماعة الإخوان ومن ورائها التيارات الإسلامية - بخلاف حزب ’’النور’’ - وكأنها أزمة الديمقراطية والتآمر عليها أو تدخل الجيش لإحباطها، أو كما بدت الأزمة في مصر على أنها أزمة المجتمع، ولكنها في النهاية وفي جزء كبير منها هي أزمة التيار الإسلامي كله سواء من كان في السلطة أو من كان مناهضاً لمن في السلطة، وهي أزمة ظهرت على مرحلتين؛ الأولى: في البرلمان، وقد حقق التيار نجاحاً ساحقاً في ظروف معينة تغيرت بعدها مباشرة، والثانية: في الرئاسة، ونظن أن التيار لو اقتصر عمله في البرلمان لكان قد تحكم في الرئاسة والحكومة، ولكن الأزمة الجديدة ارتبطت بمراجعة المجتمع كله للفكرة؛ مما يدفعنا إلى محاولة فهم الأزمة بمراجعة حول تصور التيار نفسه لها، ثم رفع كفاءته السياسية وتمكينه من حقوق المواطنة التي يبدو أن الأزمة تتجه إلى عزله والإخلال بهذه الحقوق. وسوف يمر برنامجنا بمرحلتين؛ الأولى: مراجعة نقدية للسلوك السياسي للتيار الإسلامي بلقاء مع كل الأطراف المعنية والباحثين والمعنيين، والمرحلة الثانية: هي تحقيق الحوار بين التيار الإسلامي وكافة التيارات الأخرى للاتفاق على الأرضية المشتركة اللازمة لاستئناف الحياة السياسية الصحية في مصر.. والمطلوب: المراجعة، والحوار، والتأهيل، ثم تحديد الموقع على الخريطة. (*) مساعد وزير الخارجية المصري سابقاً
*المجتمع
يجب أن نؤكد عدداً من الحقائق الأولية اللازمة لتحليل الموضوع. الحقيقة الأولى: هي أن ’’التيارات الإسلامية’’ ’’والجماعات الإسلامية’’ مصطلحات حديثة نسبياً، وظهرت مع مصطلح الإسلاميين والإسلام السياسي وكلها ظهرت في وقت واحد، وتضم أطيافاً مختلفة من المسلمين الذين يعملون في مجال الدعوة والتنظير الديني. وقد ظهرت كل هذه المصطلحات في مصر بعد نكسة 1967م، حيث فسرت هذه النكسة على أنها هزيمة ساحقة للتيار القومي ومعه التيار الناصري ’’العلماني’’؛ بسبب بعد الشعب عن الله، فآن له أن يجرب اللجوء إلى الله وارتياد المساجد ومجالس الذكر والمحاضرة، فانتشرت المساجد الأهلية كما انتشر الدعاة الذين تربوا في صفوف هذه الجماعات والتي تضم ألواناً مختلفة متباينة في الموقف من الحكومة والمجتمع والدولة الفاضلة التي يريدون إنشاءها، ويمثل الإخوان المسلمون الوعاء الأساسي الذي يضم كل هذه الأطياف، ولم يعجبهم اعتدال الجماعة فتطرف بعضهم ولجأ إلى أعمال ’’جهادية’’، وهي الأعمال التي فسرت بالأعمال ’’الإرهابية’’. وكل هذه التيارات والجماعات اتخذت موقفاً مناهضاً للحكومة والنظام في الأغلب في عصر ’’السادات’’، رغم أنه هو الذي أتاح لهم حرية العمل لاستيعابهم كقوة معارضة وتوجهها لضرب اليسار العلماني الذي استعان به ’’عبدالناصر’’ في صدامه مع الإخوان المسلمين. الحقيقة الثانية: هي أن المراجعات التي تمت عند عدد من الجماعات الإسلامية تمت بسبب نضج القيادات من ناحية، ولكن السبب الأهم هو رفض المجتمع لعملياتهم التي ضربت المجتمع ولم تضر الحكومة وأعضاءها، رغم كثافة محاولات الاعتداء على الوزراء في الثمانينيات والتسعينيات في عهد ’’مبارك’’، ولم يكن بطش الأمن إلا سبباً في اشتعال الرغبة في الثأر منهم خاصة في الصعيد. الحقيقة الثالثة: هي أن التيارات والجماعات بما فيها الإخوان المسلمون لم تدخل فيها في البداية التيارات السلفية التي كانت موالية للحكومة، كما لم تدخل فيها الطرق الصوفية الموالية هي الأخرى للحكومة، وظلت هذه الجماعات تمثل المعارضة المسلحة بديلاً عن معارضة مستأنسة، وسوف يسجل الباحثون أن توحش الأمن في انتهاك كافة حقوق هذه الجماعات وعدم التعامل معها تعاملاً سياسياً أو اجتماعياً كان السبب في ازدهار النظام الاستبدادي، وتوحش الشرطة وتحول مصر كلها إلى أداة في يد الدولة البوليسية الأمنية، برغم أن ذلك مطلوب لتأمين المجتمع، كما كان الإعلام أداة لتعميق صورة هذه الجماعات التي وصفها بالإرهابية، فغصت بهم السجون والمعتقلات في دولة غاب فيه حكم القانون، فأصبحت نهباً للصراع بين الدكتاتورية القمعية والإرهاب، بعد أن تم تجريف التعليم والعقل والثقافة وإهدار كرامة المواطنين، وإفقار المجتمع وإهدار كل قيم العدل والعدالة وتكافؤ الفرص. الحقيقة الرابعة: هي أن الحديث عن التيارات الإسلامية واجتهاداتها في الدعوة والدين شيء، والحديث عنها في المجال السياسي شيء آخر، يؤدي إلى قلب الحديث عنها إلى مصطلح ’’الإسلام السياسي’’. وفي الوقت الذي اشتدت فيه أزمة هذه الجماعات مع النظام، كانت واشنطن تبحث عن الإسلام كعدو جديد بعد سقوط الاتحاد السوفييتي؛ أي زوال ’’الخطر الأحمر’’ وحلول ’’الخطر الأخضر’’ مكانه. في نفس الوقت الذي كان التقارب المصري ’’الإسرائيلي’’ في معاهدة السلام سبباً في اغتيال ’’السادات’’، ولا يزال هذا التقارب من أسباب الخلافات العميقة بين كل التيارات الإسلامية والنظام، فأدى ذلك إلى تشدد النظام مع المخالفين لخط الصلح مع ’’إسرائيل’’، ونال هؤلاء مختلف العقوبات بدءاً بالسجن والاعتقال وانتهاءً بالاضطهاد والتضييق والعزل والإبعاد عن الوظائف الكبرى.. ترتب على ذلك أيضاً أن ’’التيارات الإسلامية’’ جميعاً نظر إليها النظام على أنها في سلة واحدة وهي إرهابية بطبيعتها، وحظر عليها بالطبع الحق في دخول ستة من أجهزة الدولة الأساسية وهي: الداخلية، والخارجية، والمخابرات، والجيش، والقضاء، والإعلام إلى حد ما. خامساً: سمح للتيارات الإسلامية ممارسة السياسة في أضيق نطاق في حضن النظام، وتحت رقابته في البرلمان من خلال أحزاب غير إسلامية، حتى يكون ظهورهم المقنن والمرسوم ديكوراً للديمقراطية الزائفة التي مارسها ’’السادات’’ و’’مبارك’’، ولكن هذه الترجمة ودخول الانتخابات قبل ثورة 25 يناير أعقبها فكرة عن قواعد السياسة والحكم في مصر، وكان صوتهم في البرلمان محسوباً على الأحزاب التي ترشحوا على قوائمها وأبرزها حزب ’’الوفد’’، وحزب ’’العمل’’ الأقرب إلى هذه التيارات. سادساً: أن اشتراك الإخوان المسلمين في ثورة 25 يناير خاصة يوم 28 منه كان حاسماً في إنجاح الثورة، ولكن الثورة فتحت الباب لحرية العمل الحزبي والسياسي فسمح لهم بتشكيل أحزاب ذات مرجعية إسلامية، ثم دخلوا الانتخابات وأولها استفتاء مارس 2011م على تعديل الدستور حيث أقر بأغلبية مذهلة، وكانت تلك هي بداية دخول الدين على خط السياسة بعد الثورة، حيث فسرت النتائج على أنها انتصار للإسلام ضد العلمانية الليبرالية والكنيسة التي كانت قد أعلنت قبل الاستفتاء رفضها للتعديلات الدستورية. وهكذا أصبح التحالف ظاهراً بين كتلة الناخبين المسيحيين والليبراليين والعلمانيين في الانتخابات التالية مجلس الشعب ومجلس الشورى ضد التيارات الإسلامية خاصة الإخوان وحزب ’’النور’’ السلفي والتيارات السلفية الأخرى. سابعاً: بدا واضحاً أن ظهور هذه التيارات الإسلامية التي كانت أسيرة سجون النظام بعد انهياره، وإعلانها عن المشروع الإسلامي وتطبيق الشريعة الإسلامية قد جذب إليها أغلبية الناخبين؛ فسيطر الإخوان والسلفيون على أغلبية مقاعد مجلس الشعب والشورى وعلى معظم لجانه. على الجانب الآخر، كان التربص منذ ’’استفتاء مارس’’ ونتائجه وناقوس الخطر الذي دقته هذه النتائج يضم شرائح متعددة من الشعب، وكلها وجدت خطراً أو انتهازية أو تسرعاً أو استغلالاً لفقر الناس أو عواطفهم الدينية، وهذه الشرائح هي شباب الثورة والاتجاهات العلمانية والليبرالية والمسيحية وأعداء ثورة 25 يناير من بقايا النظام ومفاصل النظام الاقتصادية والعسكرية والأمنية والقضائية والإعلامية، فضلاً عن مؤامرات بعض الدول العربية و’’إسرائيل’’.. وأما واشنطن فيبدو أنها كانت واثقة أن اندفاع التيارات إلى المساحات الحالية سوف يهدم المعبد كله على رأسها، وأن تأليب الشعب على هذه التيارات واستغلال أخطائها لكفيل بالقضاء عليها دون مواجهة مع واشنطن، وهذا هو السبب في أن كل الأطراف لديها عشم كبير في دعم واشنطن لها. ولذلك كان ترشح ’’د. محمد مرسي’’ إشارة حمراء لهذا التحالف الواسع مع نظام ’’مبارك’’ وأجهزة الدولة القديمة، فلما تمت الإعادة بين ’’مرسي’’ و’’شفيق’’ كانت النتيجة متقاربة ولصالح ’’مرسي’’، ففسرت مرة أخرى على أن الشعب يريد التيار الإسلامي، وتم تجاهل هذا التيار 48% الذين ساندوا ’’أحمد شفيق’’ حباً في الجيش وفي نظام ’’مبارك’’ وكفراً بالثورة. كما كان منهم نسبة كبيرة لمناهضة مرشح الإخوان. ثامناً: لم يدرك التيار الإخواني والسلفي أن ما لا يقل عن 40% ممن أيدوا ’’مرسي’’ كان كراهية في ’’شفيق’’ وما يمثله، وأن على مرشح الإخوان أن يجمع كل المصريين ويمثل الثورة ويستعين بالشعب على دولة ’’مبارك’’ وأجهزتها العتيدة، وأنه يستحيل إنشاء نظام جديد خارج رحم مصر المشغول بنظام ’’مبارك’’ وأجهزة دولته المعادية أصلاً للإخوان والسلفيين، فكان وجود التيار في السلطة زواجاً بالإكراه يتطلب الاستعانة بالشعب والحزم والاستقامة وإشراك الجميع على أساس الكفاءة وليس الثقة وحدها. وقد مارست أجهزة الدولة القديمة دوراً هائلاً في إفشال التجربة، فظل ’’مرسي’’ في الفناء الخلفي لكل الأجهزة خاصة الجيش الذي سيظل متربصاً بالسلطة لعدم اقتناعه بنزعه عنوة من مكانه الذي ظل فيه من خلال الرئيس العسكري لأكثر من 60 عاماً، ولصالح رئيس مدني إخواني أو سلفي وهذه قضية مستحيلة عقلاً، وهذا هو أحد أهم أسباب حركة الجيش ضد الإخوان في الثالث من يوليو 2013م، فانفجرت كل القطاعات المناهضة للإخوان في حركة 30 يونيو ومعها كافة أجهزة الدولة المعادية لهم، خاصة وأن الجيش برر تدخله بهذه الحركة التي ظلت تتجمع منذ استفتاء مارس 2011م، وتغذت وتوسعت على أخطاء الإخوان، وكذلك الشيطنة الهائلة والمدروسة التي قادها الإعلام، كما مارس القضاء والإعلام والأمن ونظام ’’مبارك’’ دوراً هائلاً سواء في إبطال المؤسسات المنتخبة ديمقراطياً أو في الحشد ليوم 30 يونيو في عملية مخططة تخطيطاً يدعو للتأمل والمرارة. تاسعاً: اتسم رد الفعل الشعبي الذي تبلور في حركة 30 يونيو وحركة الجيش يوم 3 يوليو بالعداء ضد الإخوان وحدهم، وتحول الصخب والفرحة بخلعهم بالقوة من السلطة إلى مطالبات بإبادتهم كجماعة دعوية وسياسية واجتماعية وكأنهم جماعة أجنبية، واقترن ذلك بامتنان للجيش وحده على تخليص مصر منهم، لأن صناديق الانتخاب خذلت المعاونين للإخوان، وقد انضم إلى هذه الشرائح حزب ’’النور’’ السلفي والبابا وشيخ الأزهر الذين حضروا بيان وزير الدفاع لخلع الإخوان والرئيس ووقف الدستور وحل مجلس الشورى، ومن الطبيعي أن يحضر ممثل عن حركة ’’تمرد’’ التي أعدت المسرح ليوم 30/6 و3/7، ولكن اعتراض الإخوان على خلع الرئيس المنتخب والدستور والشورى قد انضم إليه رافضون آخرون لهذه الخطوة؛ خشية أن تضيع قيمة صناديق الانتخاب ويُغرى الجيش بالتدخل لإحباط أي نبتة ديمقراطية مثلما التهم القضاء الدستوري مجلس الشعب. عاشراً: هكذا بدت أزمة جماعة الإخوان ومن ورائها التيارات الإسلامية - بخلاف حزب ’’النور’’ - وكأنها أزمة الديمقراطية والتآمر عليها أو تدخل الجيش لإحباطها، أو كما بدت الأزمة في مصر على أنها أزمة المجتمع، ولكنها في النهاية وفي جزء كبير منها هي أزمة التيار الإسلامي كله سواء من كان في السلطة أو من كان مناهضاً لمن في السلطة، وهي أزمة ظهرت على مرحلتين؛ الأولى: في البرلمان، وقد حقق التيار نجاحاً ساحقاً في ظروف معينة تغيرت بعدها مباشرة، والثانية: في الرئاسة، ونظن أن التيار لو اقتصر عمله في البرلمان لكان قد تحكم في الرئاسة والحكومة، ولكن الأزمة الجديدة ارتبطت بمراجعة المجتمع كله للفكرة؛ مما يدفعنا إلى محاولة فهم الأزمة بمراجعة حول تصور التيار نفسه لها، ثم رفع كفاءته السياسية وتمكينه من حقوق المواطنة التي يبدو أن الأزمة تتجه إلى عزله والإخلال بهذه الحقوق. وسوف يمر برنامجنا بمرحلتين؛ الأولى: مراجعة نقدية للسلوك السياسي للتيار الإسلامي بلقاء مع كل الأطراف المعنية والباحثين والمعنيين، والمرحلة الثانية: هي تحقيق الحوار بين التيار الإسلامي وكافة التيارات الأخرى للاتفاق على الأرضية المشتركة اللازمة لاستئناف الحياة السياسية الصحية في مصر.. والمطلوب: المراجعة، والحوار، والتأهيل، ثم تحديد الموقع على الخريطة. (*) مساعد وزير الخارجية المصري سابقاً
*المجتمع