د . سعد المرصفي
الفكر الغربي يعاني قصوراً شديداً في نظرته إلى الدين، حيث يعده قضيّـة ميتافيزيقيّـة تخصُّ الفلسفة، كما يُعَـدُّ الدين ظاهرة اجتماعيّـة، ويعالجه كما يعالج أي ظاهرة أخرى من ظواهر المجتمع ومؤسّـساته، ولا يرى مانعاً - إن لم يجد ذلك ضروريّـاً - من إخضاع الدين للمفاهيم الفكريّـة الجديدة الناشئة في سياق تطور الدراسات الفلسفيّـة، غير آبهٍ لما ينجم عن ذلك من انهيار العقيدة، ودمار القيم، وضعف سلطان الوازع الديني على النفوس، وأوضاع الحياة. ويقع الفكر الغربي في خطيئة كبرى تتمثل في فصل الدّين عن المجتمع، وما يتصل به من نظم وأوضاع، ويحصره في الأمور الروحيّـة فحسب، وعلى هذا فإن تفسير الباحثين الغربيّين للثـقافة، وتحـديد علاقـتها بالمجتمع، من حيث كونه عنصراً من عناصر تراثه، أو عاملاً من عوامل التغيّر فيه، لا يضع الدّين حيث يجب أن يكون من حياة الإنسان، باعتباره السلطان النازع الوازع، الذي يضمن تماسكَ المجتمع واستقرارَ نظامه، والتئامَ أسباب الراحـة والطمأنينة فيه، ويكـون خيرَ ضمان لقيـام التعامل بين الناس على قواعد العدالة، والنّصفة، والتعاون المثمر الخيِّر. ولا ينظر الفكر الغربي - الذي سيطرت عليه الماديّـة - إلى الدّين من زاوية حقيقـته الأصيلة التي تقرر أنه فطرة إنسانيّـة، وضرورة اجتماعيّة، وقيمة إيمـانية وكرامة إنسانيّة، وأنه لا تـداني سلطانَه على النفس أيُّ سلطـة أو قـوة أو نظام. ومن هنا نجد الثـقافة الإسلاميّـة ترتبط ارتباطـاً وثيقـاً بالـدّين القـيِّـم.. ذلك أن الثـقافة الحقة هي تلك التي تعـبّر تعبـيراً حيّـاً عن القـيم الأساسيّـة التي تعطي المجتمع ملامحه الصحيحة، وتضبط حركته السديدة، وترسُم له وجهته الرشيدة.. فإذا انعزلت الثـقافة عن القيم ووقع الفصل التام بينهما، فإن نتائج ذلك إنما تنعكس على الثـقافة والقـيم والمجتمع معاً، فلا مناص للثـقافة - بسبب ذلك - من الضمور، وللقيم من الخمود، وللمجتمع من الانحطـاط؛ إذ لا يتصور أن تنمو الثـقافة من غير رفد يغـذيها، أو تحيا القيم إذا لم تجد مجالها في التطبيق والواقع.. أما المجتمع فلابد من أن تـتفاقم مشكلاته، وتشـتد أزماته، ويصبح عاجزاً عن التحرك الجدي، والإنتاج المثمر حتى تفترسه العلل، وتعصف به الأحداث، ويمزقه الضياع. ومن هنا - كذلك - يتجه أكثر الباحثين المسلمين في تعريف الثـقافة الإسلاميّـة إلى تعريفات متعددة منها أنها «علم يبحث مقوِّمات الأمّـة الإسلاميّـة العامة المتعلقة بماضيها وحاضرها، والتي تـتكوّن من الدّين الإسلامي، واللغة العربيّـة، والتاريخ والتراث، والأرض والحكم، والحضارة وأنماط السلوك، وأساليب الحياة المشتركة والمتنوعة»، أو «علمٌ يبحث في مقومات الـدّين الإسلامي، وآثار تلك المقومات في الماضي والحاضر، والمصادر التي استُقيت منها هذه المقومات بصورة إجماليّـة مركزة»، كما أن هناك تعريفاً آخر يقول: إنها «علمٌ يبحث في المتغيِّـرات والمستجدات، والشبهات الماضية والحاضرة التي تتعلق بمقومات الأمّـة الإسلاميّـة عامة، أو مقومات الـدّين الإسلامي خاصة بصورة مقنعة موجِّهة». ومما لا شك فيه أن الثـقافة الإسلاميّـة شهدت نهضةً مجيدةً، وعهداً من الازدهار، وكان لها من القوة ما يُلهم الرجالَ جلائلَ الأعمال وأنواع التضحية، ولقد غيّرت معالم الشعوب، وخلقت دولاً جديدة.. ثم سكنَت وركدَت، وأصبحت كلمة جوفاء.. وها نحن أولاء اليوم نشهد انحطاطها التام وانحلالها! ولكن هل هذا كل ما في الأمر؟ إذا كنا نعتقد أن الإسلام ليس مدنيّـة من المدنيّـات الأخرى، وليس نتاجاً بسيطاً لآراء البشر وجهودهم، بل هو شرعٌ سنّه الله لتعمل به الشعوب في كل زمان ومكان، فإن الموقـف يتـبدّل تماماً. وإذا كانت الثـقافة الإسلاميّـة - في اعتـقادنا - نتيجةً لاتّباعـنا شرعاً منزّلاً.. فإننا حينئذٍ لا نستطيع أبداً أن نقول: إنها كسائر الثـقافات خاضعةٌ لمرور الزمن، ومقيّـدةٌ بقـوانين الحياة العضويّـة، ثم إن ما يظهر انحلالاً.. ليس إلا موتاً وخلاءً يحلان في قـلوبنا التي بلغ من خمولها وكسلها أنها لا تستمع إلى الصوت الأزلي. ثم ليس ثمة علامة ظاهرة تدل على أن الإنسانيّـة - مع نموّها الحاضر - قد استطاعت أن تـشبّ عن الإسلام.. إنها لم تستـطع أن تبني فكرة الإخاء الإنساني على أساس عملي، كما استطاع الإسلام أن يفعل، حينما أتى بفكرة القوميّـة العليا المتمثلة في الأمّـة، إنها لم تستطع أن تـشيد صرحاً اجتماعيّـاً يتضاءل التصادم والاحتـكاك بين أهله فعلاً على مثال ما تم في النظام الاجتماعي الإسلامي، بل لم تستطع أن ترفع قدر الإنسان، ولا أن تزيد في شعوره بالأمن، ولا في رجائه الروحي وسعادته. لقد أُيـّـد الإسلام بما وصل إليه الإنسان من أنواع الإنتاج الإنساني؛ لأن الإسلام كشف عنها، وأشار إليها، على أنها مستحبّـة، قبل أن يصل إليها الناس بزمن طويل. ولقد أُيـّـد أيضاً - على السواء - بما وقع في أثناء التـطوّر الإنساني من قصور وأخطاء وعثرات؛ لأنه كان قد رفع الصوت عالياً واضحاً بالتحذير منها، من قبل أن تتحقـق البشريّـة أن هذه أخطاء. وإذا صرفنا النظر عن الاعتـقاد الدّيني نجد - من وجهة نظر عقليّـة محضة - كلَّ تـشويق إلى أن نتبع الهدي الإسلامي، بصورة عمليّـة، وبثـقة تامة. ونحن لا نحتاج إلى فرض إصلاح على الإسلام - كما يظن بعض المسلمين - لأن الإسلام كامل بنفسه من قبل. أما الذي نحتاج إليه فعلاً، فهو إصلاح موقـفنا من الـدّين، بمعالجة كسلنا وغرورنا، وقصر نظرنا، وبكلمة واحدة: معالجة مساوئـنا. إن الإسلام كمؤسسة روحيّـة واجتماعيّـة غني عن التحسين، وإن كل تغيير في مثل هذه الحال يطرأ على مدركاته، وعلى تنظيمه الاجتماعي، بافـتئات من ثـقافة أجنبيّـة - ولو بإشراق ضئيل - سيكون مدعاةً إلى الأسف الشديد، وسترجع الخسارة حتماً علينا نحن.
*المجتمع
الفكر الغربي يعاني قصوراً شديداً في نظرته إلى الدين، حيث يعده قضيّـة ميتافيزيقيّـة تخصُّ الفلسفة، كما يُعَـدُّ الدين ظاهرة اجتماعيّـة، ويعالجه كما يعالج أي ظاهرة أخرى من ظواهر المجتمع ومؤسّـساته، ولا يرى مانعاً - إن لم يجد ذلك ضروريّـاً - من إخضاع الدين للمفاهيم الفكريّـة الجديدة الناشئة في سياق تطور الدراسات الفلسفيّـة، غير آبهٍ لما ينجم عن ذلك من انهيار العقيدة، ودمار القيم، وضعف سلطان الوازع الديني على النفوس، وأوضاع الحياة. ويقع الفكر الغربي في خطيئة كبرى تتمثل في فصل الدّين عن المجتمع، وما يتصل به من نظم وأوضاع، ويحصره في الأمور الروحيّـة فحسب، وعلى هذا فإن تفسير الباحثين الغربيّين للثـقافة، وتحـديد علاقـتها بالمجتمع، من حيث كونه عنصراً من عناصر تراثه، أو عاملاً من عوامل التغيّر فيه، لا يضع الدّين حيث يجب أن يكون من حياة الإنسان، باعتباره السلطان النازع الوازع، الذي يضمن تماسكَ المجتمع واستقرارَ نظامه، والتئامَ أسباب الراحـة والطمأنينة فيه، ويكـون خيرَ ضمان لقيـام التعامل بين الناس على قواعد العدالة، والنّصفة، والتعاون المثمر الخيِّر. ولا ينظر الفكر الغربي - الذي سيطرت عليه الماديّـة - إلى الدّين من زاوية حقيقـته الأصيلة التي تقرر أنه فطرة إنسانيّـة، وضرورة اجتماعيّة، وقيمة إيمـانية وكرامة إنسانيّة، وأنه لا تـداني سلطانَه على النفس أيُّ سلطـة أو قـوة أو نظام. ومن هنا نجد الثـقافة الإسلاميّـة ترتبط ارتباطـاً وثيقـاً بالـدّين القـيِّـم.. ذلك أن الثـقافة الحقة هي تلك التي تعـبّر تعبـيراً حيّـاً عن القـيم الأساسيّـة التي تعطي المجتمع ملامحه الصحيحة، وتضبط حركته السديدة، وترسُم له وجهته الرشيدة.. فإذا انعزلت الثـقافة عن القيم ووقع الفصل التام بينهما، فإن نتائج ذلك إنما تنعكس على الثـقافة والقـيم والمجتمع معاً، فلا مناص للثـقافة - بسبب ذلك - من الضمور، وللقيم من الخمود، وللمجتمع من الانحطـاط؛ إذ لا يتصور أن تنمو الثـقافة من غير رفد يغـذيها، أو تحيا القيم إذا لم تجد مجالها في التطبيق والواقع.. أما المجتمع فلابد من أن تـتفاقم مشكلاته، وتشـتد أزماته، ويصبح عاجزاً عن التحرك الجدي، والإنتاج المثمر حتى تفترسه العلل، وتعصف به الأحداث، ويمزقه الضياع. ومن هنا - كذلك - يتجه أكثر الباحثين المسلمين في تعريف الثـقافة الإسلاميّـة إلى تعريفات متعددة منها أنها «علم يبحث مقوِّمات الأمّـة الإسلاميّـة العامة المتعلقة بماضيها وحاضرها، والتي تـتكوّن من الدّين الإسلامي، واللغة العربيّـة، والتاريخ والتراث، والأرض والحكم، والحضارة وأنماط السلوك، وأساليب الحياة المشتركة والمتنوعة»، أو «علمٌ يبحث في مقومات الـدّين الإسلامي، وآثار تلك المقومات في الماضي والحاضر، والمصادر التي استُقيت منها هذه المقومات بصورة إجماليّـة مركزة»، كما أن هناك تعريفاً آخر يقول: إنها «علمٌ يبحث في المتغيِّـرات والمستجدات، والشبهات الماضية والحاضرة التي تتعلق بمقومات الأمّـة الإسلاميّـة عامة، أو مقومات الـدّين الإسلامي خاصة بصورة مقنعة موجِّهة». ومما لا شك فيه أن الثـقافة الإسلاميّـة شهدت نهضةً مجيدةً، وعهداً من الازدهار، وكان لها من القوة ما يُلهم الرجالَ جلائلَ الأعمال وأنواع التضحية، ولقد غيّرت معالم الشعوب، وخلقت دولاً جديدة.. ثم سكنَت وركدَت، وأصبحت كلمة جوفاء.. وها نحن أولاء اليوم نشهد انحطاطها التام وانحلالها! ولكن هل هذا كل ما في الأمر؟ إذا كنا نعتقد أن الإسلام ليس مدنيّـة من المدنيّـات الأخرى، وليس نتاجاً بسيطاً لآراء البشر وجهودهم، بل هو شرعٌ سنّه الله لتعمل به الشعوب في كل زمان ومكان، فإن الموقـف يتـبدّل تماماً. وإذا كانت الثـقافة الإسلاميّـة - في اعتـقادنا - نتيجةً لاتّباعـنا شرعاً منزّلاً.. فإننا حينئذٍ لا نستطيع أبداً أن نقول: إنها كسائر الثـقافات خاضعةٌ لمرور الزمن، ومقيّـدةٌ بقـوانين الحياة العضويّـة، ثم إن ما يظهر انحلالاً.. ليس إلا موتاً وخلاءً يحلان في قـلوبنا التي بلغ من خمولها وكسلها أنها لا تستمع إلى الصوت الأزلي. ثم ليس ثمة علامة ظاهرة تدل على أن الإنسانيّـة - مع نموّها الحاضر - قد استطاعت أن تـشبّ عن الإسلام.. إنها لم تستـطع أن تبني فكرة الإخاء الإنساني على أساس عملي، كما استطاع الإسلام أن يفعل، حينما أتى بفكرة القوميّـة العليا المتمثلة في الأمّـة، إنها لم تستطع أن تـشيد صرحاً اجتماعيّـاً يتضاءل التصادم والاحتـكاك بين أهله فعلاً على مثال ما تم في النظام الاجتماعي الإسلامي، بل لم تستطع أن ترفع قدر الإنسان، ولا أن تزيد في شعوره بالأمن، ولا في رجائه الروحي وسعادته. لقد أُيـّـد الإسلام بما وصل إليه الإنسان من أنواع الإنتاج الإنساني؛ لأن الإسلام كشف عنها، وأشار إليها، على أنها مستحبّـة، قبل أن يصل إليها الناس بزمن طويل. ولقد أُيـّـد أيضاً - على السواء - بما وقع في أثناء التـطوّر الإنساني من قصور وأخطاء وعثرات؛ لأنه كان قد رفع الصوت عالياً واضحاً بالتحذير منها، من قبل أن تتحقـق البشريّـة أن هذه أخطاء. وإذا صرفنا النظر عن الاعتـقاد الدّيني نجد - من وجهة نظر عقليّـة محضة - كلَّ تـشويق إلى أن نتبع الهدي الإسلامي، بصورة عمليّـة، وبثـقة تامة. ونحن لا نحتاج إلى فرض إصلاح على الإسلام - كما يظن بعض المسلمين - لأن الإسلام كامل بنفسه من قبل. أما الذي نحتاج إليه فعلاً، فهو إصلاح موقـفنا من الـدّين، بمعالجة كسلنا وغرورنا، وقصر نظرنا، وبكلمة واحدة: معالجة مساوئـنا. إن الإسلام كمؤسسة روحيّـة واجتماعيّـة غني عن التحسين، وإن كل تغيير في مثل هذه الحال يطرأ على مدركاته، وعلى تنظيمه الاجتماعي، بافـتئات من ثـقافة أجنبيّـة - ولو بإشراق ضئيل - سيكون مدعاةً إلى الأسف الشديد، وسترجع الخسارة حتماً علينا نحن.
*المجتمع