مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
كفالة طالب العلم
كفالة طالب العلم



د . سعد المرصفي
نوهنا في المقال السابق إلى أهمية العلم ومكانته في الإسلام، وأكدنا أن الجهل سبب التأخر والتخلف الحضاري، وأن العلم سبيل النهضة والرقي والازدهار، وفي هذا المقال نتناول مسألة على قدر من الأهمية، وتتعلق بطالب العلم الذي يحتاج من مجتمعه إلى العون والمساعدة، خاصة الطالب الفقير، وما أكثر العلماء الذين نبتوا في بيئات فقيرة، وتحدوا الظروف القاسية حتى أصبحوا أعلاماً، ملأت الدنيا علماً، وحفلت المكتبات بآثارهم القيمة. ليس العلم الذي نقصده محصوراً في علم الـدّين وحده، كما قد يظن البعض؛ بل كل علم نافع يحتاج إليه المسلمون في دنياهم، لصحة أبدانهم، وتنمية اقتصادهم وعمرانهم، وتمكينهم من التفوّق العسكري على عدوّهم، ونحو ذلك من الأغراض. ولا عجب أن رأينا فقهاء الإسلام يقرّرون في أحكام الزكاة أن يُعطى منها المتفرّغ للعلم، على حين يحرم منها المتفرّغ للعبادة، ذلك أن العبادة في الإسلام لا تحتاج إلى تفرّغ، كما يحتاج العلم والتخصّـص فيه، كما أن عبادة المتعبّـد لنفسه، أما علم المتعلّم فله ولسائر الناس. ولم يكتف الإسلام بذلك، بل قال فـقهاؤه: يجوز للفـقير الأخذ من الزكاة لشراء الكتب التي يحتاجها من كتب العلم التي لابدّ منها لمصلحة ديـنه ودنياه. ورأينا فقهاء الحنفيّة يجيزون نقل الزكاة من بلد إلى آخر بلا كراهة - على خلاف القاعدة - إذا نقلت لطالب علم محتاج. وبعد عرض هذين المذهبين من مذاهب الفقه الإسلامي؛ مذهب من يرى إعطاء الفقير كفاية العمر كله مـرّة واحدة، ومذهب من يرى إعطاءه كفاية سنة فحسب. تُرى، أيّ المذهبين أحـقّ أن يتّـبع، ولكل منهما وجهته ودليله؟ وخاصة إذا أردنا في العصر الحاضر أن تقوم الحكومة المسلمة بأمر الزكاة. يقول الدكتور يوسف القرضاوي: الذي أختاره أن لكل من المذهبين مجاله الذي يعمل فيه، ذلك أن الفقراء والمساكين نوعان: 1- نوع يستطيع أن يعمل ويكسب ويكفي نفسه بنفسه، كالصانع والتاجر والزارع، ولكن ينقصه أدوات الصنعـة، أو رأس مال التجارة، أو الضيعة وآلات الحرث والسقي.. فالواجب لمثل هذا أن يعطى من الزكـاة ما يمكنه من اكتساب كفاية العمر، وعدم الاحتياج إلى الزكاة مرّة أخرى بشراء ما يلزمه لمزاولة حرفته وتمكينه إيّـاه، استقلالاً أو اشتـراكاً على قدر ما تسمح حصيلة الزكاة. 2 - والنوع الآخر عاجز عن الكسب كصاحب المرض المزمن الذي لا يرجى شفاؤه والأعمى، والشيخ الهرم، والأرملة، والطفل، ونحوهم، فهؤلاء لا بأس أن يُعطى الواحد منهم كفاية السنة، أي يُعطى راتباً دوريّـاً يتقاضاه كل عام، بل ينبغي أن يوزّع على أشهر العام، إن خيف من المستحق الإسراف، وبعثرة المال في غير حاجة ماسة. وهذا هو المتّـبع في عصرنا، فالرواتب إنما تعطى للموظفين شهراً بشهر، وكذلك المساعدات الدوريّـة. والعجيب أنني بعد أن اخترت هذا التقسيم، وجدته - تقريباً - منصوصاً عليه في بعض كتب الحنابلة. فقد قال في غاية المنتهى وشرحه، بعد أن ذكر قول الإمام أحمد في صاحب العقار، والضيعة التي تغل عشرة آلاف أو أكثر ولا تكفيه: إن له أن يأخذ من الزكاة ما يكفيه، قال: وعليه، فيعطى محترف ثمن آلة وإن كثرت، وتاجر يعطى رأسمال يكفيه، ويعطى غيرهما من فقير ومسكين تمام كفاية عائلتهما سنة، لتكرّر الزكاة بتكرّر الحول، فيعطى ما يكفيه إلى مثله، وهو قريب مما اخترته، وإن لم يصرّح بكفاية العمر، ولكنه مفهوم من إعطاء ثمن الآلة، ورأس المال. مذاهب أخرى حـدّدت ما يعطاه الفقـير: وأما الاتجاه الثاني، فإن أصحابه من الفقهاء قد أوجبوا حـدّاً معيّـناً فيما يُعطاه الفقير والمسكين، ما بين مقلّ ومكثر! فأبو حنيـفة وأصحابه ذهبوا إلى أنه لا يجوز الزيادة على مائتي درهم (أي نصاب النقود)، وإذا كان له من يعوله من زوجة وأولاد، جاز أن يأخذ لكل واحد منهم مقدار هذا النصاب! وذهب بعض الفقهاء إلى ما هو أدنى من ذلك، فلم يجوزوا الزيادة على خمسين درهماً، وقال بعضهم: لا يزيد على أربعين، ومنهم من قال: لا يزاد على قوت اليوم والليلة! وعلى كل هؤلاء ردّ الفقيه الظاهري ابن حزم فقال: يُعطى من الزكاة الكثير جـدّاً، والقليل، لا حـدّ في ذلك، إذ لم يوجب الحـدّ في ذلك قرآن ولا سنة. وقد تعرّض لذلك الإمام الغزالي، قائلاً: «إذا تحقّـقت حاجته فلا يأخذ مالاً كثيراً، بل ما تـتمّ كفايـته من وقت أخذه إلى سنة، فهذا أقصى ما يرخّـص فيه، من حيث إن السنة إذا تكرّرت أسباب الدخل.. وأشار إلى الحديث السابق، وقال: فهذا أقرب ما يحـدّ به حـدّ الفقير والمسكين، ولو اقـتصر على حاجة شهره أو حاجة يومه فهذا أقرب للتقوى. وختاماً أقول: إن كفالة طالب العلم باب من أبواب الخير، خاصة ونحن مقبلون على شهر رمضان الفضيل الذي تتضاعف فيه الحسنات، ويقبل فيه أهل الإحسان على البذل والإنفاق في سبيل الله، وما أكثر الجمعيات الخيرية التي تتبنى مثل هذه المشاريع، وتكفل العديد من طلبة العلم والدعاة والعلماء.
أضافة تعليق