دين السكينة والسعادة
د . سعد المرصفي
كلما تأملت ما يشهده العالم من حولنا من تصارع الأفكار واضطراب النظريات الوضعية، وحيرة الإنسان بين أمواجها المتلاطمة، أيقنت أنه لا سبيل إلى إخراج الإنسان من هذا الارتباك، وتلك الفوضى، إلا باتباع الدين الإسلامي القيّم، دين القول والعمل، الظاهر والباطن، دين الحياة الطيّبة، دين الضمير والروح، دين الأخلاق المفعمة بالحيويّة والعاطفة، دين الواقعيّة والسلوك. دين النور الصافي الذي ينفُذ إلى الأعماق، فيشيع الاطمئنان في أرجاء النفس الإنسانية، وينتشي الحسّ، وترفرف الروح، وينشرح الصدر، وينسكب في الحنايا والجوانج، ويظهر في السلوك والجوارح، وينشئ السكينة في الإدراك، ويفيض بالطمأنينة على القلب، ويضيف بالسعادة على الروح، ويسكب القوة في الضمير. إننا نسمع كلمات الأذان خمس مرات في اليوم ونردّدها، وتسيطر علينا روحانيّة عالية، وتهون الدنيا كلها، ونحسّ أنها تحت أقدامنا، ونستعلي على المادة، ونهرع إلى نداء الحق، لا نكاد نقف في الصلاة حتى تزول الحجب، وتنقشع الغيوم، وتأخذنا الصلاة بأنوارها إلى فضاء من الراحة والهدوء النفسي والسكون، قال النبي ’’صلى الله عليه وسلم’’: «أرحنا بها يا بلال»، ولم يقل النبي ’’صلى الله عليه وسلم’’: «أرحنا منها»، وفي الصلاة نقرأ من بين كلمات التشهد: «السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله». إن الإسلام ربّى جيلاً مثاليـاً عبر التاريخ، الصديق أبو بكر يتحمل الشدائد، وينفق ماله في سبيل الله، والخليفة الثاني عمر بن الخطاب يضرج بدمائه الشريفة في المحراب بعد حياة حافلة بالعطاء والعدل، والخليفة الثالث عثمان بن عفان تذهب روحه ضحية لمبادئه ومواقفه في الذود عن دينه، والخليفة الرابع على بن أبي طالب يلقى ربه شهيداً بعض صفحات من الجهاد والتضحية، والقائمة تطول، لقد أسس هذا الجيل رضي الله عنهم أجمعين علاقته مع الحياة على حسن الاتباع لرسول الله ’’صلى الله عليه وسلم’’، وقيم الأسوة والمحبة، والعقيدة السليمة والسلوك الإيجابي. وأمتنا اليوم تقف على عتبة انطلاقة جديدة يجدر بها أن تتحسّس مواقعها، وتقوّم مقدار إحساسها بهذه العلاقة، ومقدار علاقتها بالرسول ’’صلى الله عليه وسلم’’ الذي أضاء ليل الظلام الداجي، يوم كان العالم يتخبّط في متاهات الحيرة والضلال، ويئن من وطأة الظالمين، يوم كان نهباً لأولئك الذين استطاعوا ببغيهم وعدوانهم وجحودهم وكنودهم، وفسوقهم وعقوقهم، أن يستعبدوا من دونهم من البشر بلا هوادة ولا رحمة. إن الرسول ’’صلى الله عليه وسلم’’ ترك لنا ميراثاً عظيماً من القدوات والتوجيهات والسلوكيات والآداب والأخلاق والمواقف والتضحيات لنحيا بها وعليها، ونتخذ منها مرجعية ونبراساً ومنهجية في كل شؤون حياتنا. وتأتي العقيدة الإيمانيّة في ذروة كل ذلك، ليست منعزلة عن واقع الحياة، وليست بعيدة عن الإنسان واحتياجاته الفطرية، وهنا يصير الإيمان بالله وتقواه من مؤهلات فيوضات السماء والأرض ومن البركات، قال تعالى: { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ’’96’’}(الأعراف). والإيمان بالله قوة دافعة، تجمع جوانب الكينونة البشريّة، وتتجه بها إلى وجهة واحدة، وتطلقها تستمد من قوة الله، وتعمل لتحقيق مشيئته في خلافة الأرض وعمارتها، وفي دفع الفساد والفتنة عنها وفي ترقية الحياة ونمائها، والإيمان بالله تحرّر من العبوديّة للهوى، والعبوديّة للعبيد، وما من شك أن الإنسان المتحرّر بالعبوديّة لله أقدر على الخلافة في الأرض خلافة راشدة صاعدة. وتقوى الله يقظة واعية داعية تصون من الاندفاع والتهوّر والشطط والغرور، في دفعة الحركة والحياة، وتوجه الجهد البشري في حذر وتحرّج، فلا يعتدي ولا يتهوّر ولا يتجاوز حدود النشاط الصالح، وحين تسير الحياة متناسقة بين الدوافع والكوابح، عاملة في الأرض، متطلعة إلى السماء، متحررة من الهوى والطغيان البشري، عابدة خاشعة لله، تسير سيرة صالحة منتجة تستحق مدد الله تعالى بعد رضاه، فلا جرم تحفها البركة، ويعمها الخير، ويظلها الفلاح، والمسألة تمثل واقعاً منظوراً إلى جانب لطف الله المستور.. واقع له علله وأسبابه الظاهرة، إلى جانب قدر الله الغيبي الموعود. والبركات ألوان شتى.. ويطالعنا الفيض الهابط من كل مكان، التابع من كل مكان، بلا تحديد ولا بيان. إنها البركات بكل ألوانها وأنواعها وصورها وأشكالها، والذين يتصورون الإيمان بالله وتقواه مسألة تعبديّة بحتة لا صلة لها بواقع الناس لا يعرفون الإيمان، ولا يعرفون الحياة، وما أجدرهم أن ينظروا هذه الصلة قائمة يشهد بها الله سبحانه، وكفى بالله شهيداً، ويحققها النظر بأسبابها التي يعرفها الناس. وعلى الذين يقولون: إنهم من أهل الإيمان أن يحققوا شهادة التوحيد. وقبل الآية التي معنا نقرأ: { ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ’’59’’} (الأعراف). ومعلوم أن البركة قد تكون مع القليل إذا أحسن الانتفاع به، وكان معه الصلاح والأمن والرضا والارتياح. ويطالعنا ما رواه الترمذي وغيره بسند حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي ’’صلى الله عليه وسلم’’ قال: «إن الله تعالى يقول: يا ابن آدم، تفرّغ لعبادتي أملأ صدرك غنى، وأسد فقرك، وإلاّ تفعل ملأت يديك شغلاً، ولم أسد فقرك»، اللهم هوِّن علينا مصائبنا، واحلل مكان اللوعة سلوة، والحزن سروراً، والخوف أمناً وطمأنينة، والشقاء راحة، واهدِ الحيارى إلى سبيلك، واطرد من نفوسنا القلق والحزن، ونعوذ بك من العجز والكسل.
*مجلة المجتمع