د . سعد المرصفي
زعم قوم أن الاعتماد في إثبات السنة إنما كان على الذاكرة؛ لأن النبي ’’صلى الله عليه وسلم’’ نَهَى عن كتابة غير القرآن، فيما رواه مسلم وغيره عن أبي سعيد رضي الله عنه، أن رسول الله ’’صلى الله عليه وسلم’’ قال: «لا تكتـبوا عنِّي، ومن كتب عنِّي غير القرآن فَـلْيمْحُه، وحـدِّثـوا عن بني إسرائيل ولا حَرَج، ومن كَذَب عليَّ مُتَعَـمِّداً فليتَـبوَّأْ مَـقعده من النار»، وقالوا: وذلك أمرٌ يدعو إلى عدم الضبط، والاطمئنان إلى الحديث، وهذا الطرح فيه نظر، إذ أذن رسـول اللـه ’’صلى الله عليه وسلم’’ بالكتـابة لكثـير من الصحابة، فقد روى أحمد وغيره بسند صحيح عن عبدالله بن عَمرو رضي الله عنهما قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله ’’صلى الله عليه وسلم’’ ، أريد حفظه، فنهتني قريش، فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله ’’صلى الله عليه وسلم’’ ، ورسول الله [ بشر، يتكلّم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله ’’صلى الله عليه وسلم’’ ، فقال: «اكتُبْ، فوالذي نفسي بيده، ما خرج منّي إلا حق». ويروي الشيخان وغيرهما عن أبي هـريـرة رضي الله عنه قـال: لـمّـا فتـح اللـه عـلى رسول الله ’’صلى الله عليه وسلم’’ مكّـة، قـام في الناس، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: «إنّ الله حبَس عن مكّـة الفيل، وسلّط عليها رسوله والمؤمنين..» الحديث، فقام أبو شاه - رجل من أهل اليمن - فقال: اكتبوا لي يا رسول الله، فقال رسول الله ’’صلى الله عليه وسلم’’ «اكتـبوا لأبي شاه»، وتطالعنا الصحيـفة الصادقـة لعبدالله بن عمرو بن العاص، وهي تـضم ألف حديث، كما يقول ابن الأثير، وقد نقل ابن حنبل محتواها في مسنده، كما ضمت السنن الأخرى جانباً كبيراً منها، ولهذه الصحيفة أهمية كبرى؛ لأنها وثيـقةٌ علميّـة تاريخيّـة، تُـثبت كتابةَ الحديث النبوي الشريف، بين يدي رسول الله ’’صلى الله عليه وسلم’’ وبإذنه، بل وبأمره. وفي هذه الأدلة - وهي قليل من كثير- ما يكفي للدلالة على أن النبي ’’صلى الله عليه وسلم’’ قد أَذِن بالكتابة، بل وأمر لمن طلب أن يكتب أو تكتب له، كما أنه ’’صلى الله عليه وسلم’’ كان يأمر بكتابة المواثيق والرسائل، وهي تمثِّـل جزءاً كبيراً من السنة النبويّـة. وقد ذكر العلماء - في التوفيـق بين الإذن في الكتابة والنهي عنها - أن النهي خاص بوقت نزول القرآن، خشيةَ التباسه بغيره، والإذن في غير ذلك، أو أن النهي خاص بكتابة غير القرآن مع القرآن في شيء واحد، والإذن في تفريقهما، أو النهي متقدمٌ والإذن ناسخٌ له عند الأمن من الالتباس، وهو أقربها مع أنه لا ينافيها! وقيل: النهي خاص بمن خُشي منه الاتكال على الكتابة دون الحفظ، قال المحدّث الشيخ أحمد شاكر يرحمه الله: «وهذه الأحاديث، مع استـقرار العمل بين أكثر الصحابة والتابعين، ثم اتفاق الأمة بعد ذلك على جوازها، كل هذا يدل على أن حديث أبي سعيد - السابق في النهي عن الكتابة - منسوخ، وأنه كان في أول الأمر، حين خِيف اشتغالُهم عن القرآن، وحين خيف اختلاط غير القرآن بالقرآن، وحديث أبي شاه في أواخر حياة النبي ’’صلى الله عليه وسلم’’ ، وكذلك إخبار أبي هريرة، وهو متأخر الإسلام، أن عبدالله بن عمرو كان يكتب، وأنه هو لم يكتب؛ يدل على أن عبدالله كان يكتب بعد إسلام أبي هريرة، ولو كان حديث أبي سعيد في النهي متأخراً عن هذه الأحاديث في الإذن والجواز، لعرف ذلك عند الصحابة يقيناً صريحاً، ثم جاء إجماع الأمة القطعي بَعْـدُ قرينة قاطعة على أن الإذن هو الأمر الأخير، وهو إجماع ثابت بالتواتر العملي، عن كل طوائف الأمة بعد الصدر الأول رضي الله عنهم أجمعين»، وهذا الرأي هو ما نرجحه في هذا المقام. والصحابة الذين حفظوا السنّـة، كانوا يطبقـونها في حياتهم، وكانوا حراساً عليها، وهم عدولٌ بشهـادة الله تعالى، وشهادة الرسول ’’صلى الله عليه وسلم’’ ، قـال تعـالى: {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)}(الحشر). وروى مسلم وغيره عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله ’’صلى الله عليه وسلم’’ : «النُّجوم أَمَنَـةٌ للسَّماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماءَ ما تُوعـد، وأنا أَمَنَةٌ لأصحابي، فإذا ذهبْتُ أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أَمَـنَةٌ لأُمَّـتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون». ومع ذلك كانوا إذا شكُّوا في حديث رجعوا فيه إلى رسول الله ’’صلى الله عليه وسلم’’ حال حياته للتثـبّت، وفي عهد الخُلفاء الراشدين كانوا يستحلفون الراوي أو يطالبونه بالبيـنة.. مما يطول الحديث فيه، ومن ثَـمَّ سار الحفظ والجمع والنقد في موكبٍ واحد، وسط هذا الجو الطاهر، السالك العابد، الحافظ الناقد. يروي الشيخان وغيرهما عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله ’’صلى الله عليه وسلم’’ : «لا يؤمن أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين»، وإذا كان حب الولد والوالد أعز على العاقل من نفسه، فقد جاء التصريح بضرورة أن يكون حب النبي ’’صلى الله عليه وسلم’’ فوق حب النفس، وذلك فيما رواه البخاري من حديث عبدالله بن هشام قال: كنا مع النبي ’’صلى الله عليه وسلم’’ ، وهو آخـذٌ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله! لأنت أحب إليَّ مـن كـلِّ شيءٍ إلا من نفسي، فقال النبي ’’صلى الله عليه وسلم’’ : «لا والذي نفسي بيده! حتى أكونَ أحبَّ إليكَ من نفسِك». فقال عمر: فإنه الآن والله! لأنتَ أحبُّ إليَّ من نفسي، فقال النبي ’’صلى الله عليه وسلم’’ : «الآن يا عمر». تلك إشارات إلى أهم سبل وحوافز حماية السنة، ومن ثـمَّ تحركـت الجهود لخدمتها منذ صدورها عن رسول الله ’’صلى الله عليه وسلم’’ ، وصبغت الحياة بأطيافها، وشملت كل شؤون المسلم.
*
زعم قوم أن الاعتماد في إثبات السنة إنما كان على الذاكرة؛ لأن النبي ’’صلى الله عليه وسلم’’ نَهَى عن كتابة غير القرآن، فيما رواه مسلم وغيره عن أبي سعيد رضي الله عنه، أن رسول الله ’’صلى الله عليه وسلم’’ قال: «لا تكتـبوا عنِّي، ومن كتب عنِّي غير القرآن فَـلْيمْحُه، وحـدِّثـوا عن بني إسرائيل ولا حَرَج، ومن كَذَب عليَّ مُتَعَـمِّداً فليتَـبوَّأْ مَـقعده من النار»، وقالوا: وذلك أمرٌ يدعو إلى عدم الضبط، والاطمئنان إلى الحديث، وهذا الطرح فيه نظر، إذ أذن رسـول اللـه ’’صلى الله عليه وسلم’’ بالكتـابة لكثـير من الصحابة، فقد روى أحمد وغيره بسند صحيح عن عبدالله بن عَمرو رضي الله عنهما قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله ’’صلى الله عليه وسلم’’ ، أريد حفظه، فنهتني قريش، فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله ’’صلى الله عليه وسلم’’ ، ورسول الله [ بشر، يتكلّم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله ’’صلى الله عليه وسلم’’ ، فقال: «اكتُبْ، فوالذي نفسي بيده، ما خرج منّي إلا حق». ويروي الشيخان وغيرهما عن أبي هـريـرة رضي الله عنه قـال: لـمّـا فتـح اللـه عـلى رسول الله ’’صلى الله عليه وسلم’’ مكّـة، قـام في الناس، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: «إنّ الله حبَس عن مكّـة الفيل، وسلّط عليها رسوله والمؤمنين..» الحديث، فقام أبو شاه - رجل من أهل اليمن - فقال: اكتبوا لي يا رسول الله، فقال رسول الله ’’صلى الله عليه وسلم’’ «اكتـبوا لأبي شاه»، وتطالعنا الصحيـفة الصادقـة لعبدالله بن عمرو بن العاص، وهي تـضم ألف حديث، كما يقول ابن الأثير، وقد نقل ابن حنبل محتواها في مسنده، كما ضمت السنن الأخرى جانباً كبيراً منها، ولهذه الصحيفة أهمية كبرى؛ لأنها وثيـقةٌ علميّـة تاريخيّـة، تُـثبت كتابةَ الحديث النبوي الشريف، بين يدي رسول الله ’’صلى الله عليه وسلم’’ وبإذنه، بل وبأمره. وفي هذه الأدلة - وهي قليل من كثير- ما يكفي للدلالة على أن النبي ’’صلى الله عليه وسلم’’ قد أَذِن بالكتابة، بل وأمر لمن طلب أن يكتب أو تكتب له، كما أنه ’’صلى الله عليه وسلم’’ كان يأمر بكتابة المواثيق والرسائل، وهي تمثِّـل جزءاً كبيراً من السنة النبويّـة. وقد ذكر العلماء - في التوفيـق بين الإذن في الكتابة والنهي عنها - أن النهي خاص بوقت نزول القرآن، خشيةَ التباسه بغيره، والإذن في غير ذلك، أو أن النهي خاص بكتابة غير القرآن مع القرآن في شيء واحد، والإذن في تفريقهما، أو النهي متقدمٌ والإذن ناسخٌ له عند الأمن من الالتباس، وهو أقربها مع أنه لا ينافيها! وقيل: النهي خاص بمن خُشي منه الاتكال على الكتابة دون الحفظ، قال المحدّث الشيخ أحمد شاكر يرحمه الله: «وهذه الأحاديث، مع استـقرار العمل بين أكثر الصحابة والتابعين، ثم اتفاق الأمة بعد ذلك على جوازها، كل هذا يدل على أن حديث أبي سعيد - السابق في النهي عن الكتابة - منسوخ، وأنه كان في أول الأمر، حين خِيف اشتغالُهم عن القرآن، وحين خيف اختلاط غير القرآن بالقرآن، وحديث أبي شاه في أواخر حياة النبي ’’صلى الله عليه وسلم’’ ، وكذلك إخبار أبي هريرة، وهو متأخر الإسلام، أن عبدالله بن عمرو كان يكتب، وأنه هو لم يكتب؛ يدل على أن عبدالله كان يكتب بعد إسلام أبي هريرة، ولو كان حديث أبي سعيد في النهي متأخراً عن هذه الأحاديث في الإذن والجواز، لعرف ذلك عند الصحابة يقيناً صريحاً، ثم جاء إجماع الأمة القطعي بَعْـدُ قرينة قاطعة على أن الإذن هو الأمر الأخير، وهو إجماع ثابت بالتواتر العملي، عن كل طوائف الأمة بعد الصدر الأول رضي الله عنهم أجمعين»، وهذا الرأي هو ما نرجحه في هذا المقام. والصحابة الذين حفظوا السنّـة، كانوا يطبقـونها في حياتهم، وكانوا حراساً عليها، وهم عدولٌ بشهـادة الله تعالى، وشهادة الرسول ’’صلى الله عليه وسلم’’ ، قـال تعـالى: {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)}(الحشر). وروى مسلم وغيره عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله ’’صلى الله عليه وسلم’’ : «النُّجوم أَمَنَـةٌ للسَّماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماءَ ما تُوعـد، وأنا أَمَنَةٌ لأصحابي، فإذا ذهبْتُ أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أَمَـنَةٌ لأُمَّـتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون». ومع ذلك كانوا إذا شكُّوا في حديث رجعوا فيه إلى رسول الله ’’صلى الله عليه وسلم’’ حال حياته للتثـبّت، وفي عهد الخُلفاء الراشدين كانوا يستحلفون الراوي أو يطالبونه بالبيـنة.. مما يطول الحديث فيه، ومن ثَـمَّ سار الحفظ والجمع والنقد في موكبٍ واحد، وسط هذا الجو الطاهر، السالك العابد، الحافظ الناقد. يروي الشيخان وغيرهما عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله ’’صلى الله عليه وسلم’’ : «لا يؤمن أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين»، وإذا كان حب الولد والوالد أعز على العاقل من نفسه، فقد جاء التصريح بضرورة أن يكون حب النبي ’’صلى الله عليه وسلم’’ فوق حب النفس، وذلك فيما رواه البخاري من حديث عبدالله بن هشام قال: كنا مع النبي ’’صلى الله عليه وسلم’’ ، وهو آخـذٌ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله! لأنت أحب إليَّ مـن كـلِّ شيءٍ إلا من نفسي، فقال النبي ’’صلى الله عليه وسلم’’ : «لا والذي نفسي بيده! حتى أكونَ أحبَّ إليكَ من نفسِك». فقال عمر: فإنه الآن والله! لأنتَ أحبُّ إليَّ من نفسي، فقال النبي ’’صلى الله عليه وسلم’’ : «الآن يا عمر». تلك إشارات إلى أهم سبل وحوافز حماية السنة، ومن ثـمَّ تحركـت الجهود لخدمتها منذ صدورها عن رسول الله ’’صلى الله عليه وسلم’’ ، وصبغت الحياة بأطيافها، وشملت كل شؤون المسلم.
*