بعض الناس يعيشون حياتهم كالهمل، ويهيمون في الحياة على غير هدى، يأكلون ويشربون، ويلهثون وراء الملذات والشهوات، وهذا منتهى طموحهم في الدنيا، بل قد يصل بهم الأمر إلى حد التصارع والتقاتل من أجل عرض زائل أو غنيمة زائفة. ولا كبير فرق بين هؤلاء وبين الأنعام، بل ربما يكونون أضل سبيلاً، وليس لهذا العبث خلق الله الإنسان، وميزه عن سائر المخلوقات بالعقل والفكر والتأمل والقدرة على التمييز، قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ’’115’’}(المؤمنون). إن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان لعبادته، واتباع أوامره، واستخلافه في الأرض، وعمارة الكون، فمن حاد عن ذلك واستكبر، استحق العقاب الرادع، قال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ’’60’’}(غافر)، ومن امتثل فاز بالنعيم المقيم الذي وعد الله به عباده، واستحق الجزاء الأوفى، وهذه حقيقة لا مراء فيها، كما دلت عليها النصوص الصريحة، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلا’’107’’ خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا’’108’’}(الكهف)، ولهذا ينبغي أن تكون حياة المسلم كلها عبادة خالصة لله سبحانه في جميع جوانبها الخاصة والعامة، والاعتقادية والعملية، فالمسلم عبد لله في كل حركاته وسكناته؛ {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ’’162’’}(الأنعام)، وعلى المرء أن يتوجه إلى الله بكل حركة في الضمير، وكل حركة في الجوارح، وكل حركة في الجوانح، وكل حركة في الحياة، مع التجرد من كل شعور آخر، ومن كل معنى غير معنى التعبّد لله، وبهذا وذاك يتحقق معنى العبادة، ويصبح العمل كالشعائر، والشعائر كعمارة الأرض، وعمارة الأرض كالجهاد في سبيل الله، وعندئذ يعيش الإنسان مؤمناً ومعتقداً أنه خلق للقيام بالعبادة.. والقرآن الكريم يغذّي هذا الإحساس ويقوّيه، بإطلاق مشاعر الإنسان من الانشغال بهمّ الرزق ومن شحّ النفس، فالرزق في ذاته مكفول، تكفل به الله تعالى لعباده، وهو لا يطلب إليهم أن يطعموه سبحانه أو يرزقوه جلّ شأنه، حين يكلفهم إنفاق المال لمحتاجيه، والقيام بحق المحرومين، كما جاء في الآية الكريمة: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ’’56’’ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ’’57’’ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ’’58’’}(الذاريات)، وبهذا لا يكون حافز المؤمن للعمل، وبذل الجهد في الخلافة هو الحرص على تحصيل الرزق، بل يكون الحافز هو تحقيق معنى العبادة الذي يتحقّق ببذل أقصى الجهد والطاقة. ومن ثم يصبح قلب الإنسان معلّقاً بتحقيق معنى العبادة في الجهد، طليقاً من التعلّق بنتائج الجهد، وهي مشاعر كريمة لا تنشأ إلاّ في ظلّ هذا التصوّر الكريم. وإذا كان البعض لا يدرك هذه المشاعر ولا يتذوّقها، فذلك لأنه لم يعش كما عاش الصالحون، ولم يستمد قواعد حياته من كتاب الله تعالى وسُنة الرسول ’’صلى الله عليه وسلم’’ كما صنع المؤمنون. وحين يرتفع الإنسان إلى أفق العبادة، ويستقرّ عليه، فإن نفسه تأنف حتماً من اتخاذ وسيلة خسيسة لتحقيق غاية كريمة، ويطالعنا هنا قوله جلّ شأنه: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ’’112’’ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ’’113’’}(النحل)، وقد عرف الإمام ابن تيمية يرحمه الله تعالى العبادة بأنها: «اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، كالصلاة والزكاة، والصيام والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك من العبادة». وخلاصة القول: إن العبادة في الإسلام مفهوم شامل ومتكامل، وليس كما يختزله البعض في أداء بعض الفرائض في المسجد، أو بعض طقوس الحياة الخاصة بعقود الزواج والمآتم، إنها كلمة جامعة لجميع الأعمال والأقوال التي يحبها الله تعالى ويرتضيها سواء كانت من قبيل الفرائض والأركان أو من قبيل السنن والمستحبات، أو من قبيل الآداب أو المعاملات، فعنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ أَيضاً قَال: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوْسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ’’صلى الله عليه وسلم’’ ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيْدُ بَيَاضِ الثِّيَاب شَدِيْدُ سَوَادِ الشَّعْرِ لاَ يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلاَ يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ حَتَّى جَلَسَ إِلَى النبي ’’صلى الله عليه وسلم’’، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلاَم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ’’صلى الله عليه وسلم’’: «الإِسْلاَمُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَ أَنَّ مُحَمَّدَاً رَسُولُ الله، وَتُقِيْمَ الصَّلاَة، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُوْمَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ البيْتَ إِنِ اِسْتَطَعتَ إِليْهِ سَبِيْلاً»، قَالَ: صَدَقْتَ. فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِيْ عَنِ الإِيْمَانِ، قَالَ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِالله، ومَلائِكَتِه ،وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآَخِر، وَتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ»، قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِيْ عَنِ الإِحْسَانِ، قَالَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ، قَالَ: «مَا الْمَسؤوُلُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ»، قَالَ: فَأَخْبِرْنِيْ عَنْ أَمَارَاتِها، قَالَ: «أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرى الْحُفَاةَ العُرَاةَ العَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُوْنَ فِي البُنْيَانِ»، ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثَ مَلِيَّاً ثُمَّ قَالَ: «يَا عُمَرُ أتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟»، قُلْتُ: اللهُ وَرَسُوله أَعْلَمُ، قَالَ: «فَإِنَّهُ جِبْرِيْلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِيْنَكُمْ»(رواه مسلم)، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يفقهنا في الدين. ولله در الشاعر: قد هيَّؤوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
*مجلة المجتمع
*مجلة المجتمع