مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
ثلاثية الدعوة والثورة والدولة
عبد العزيز كحيل
يخطئ من يظن أن الربيع العربي أنهى حقبة الدعوة ونقل الحركة الإسلامية إلى طور الدولة، لأنّ انتقال الرسول – صلّى الله عليه وسلّم – من مكّة إلى المدينة وسّع دائرة الدعوة لتستوعب – بالإضافة إلى مهامّ الهداية والتوعيّة والإنذار – وظائف سياسة الحياة الدنيا وتسييرها في جميع الميادين بهدي السماء، وهذا مطلوب حاليّاً من الدعوة، الّتي مازالت مطالبة ً بإحداث الثورة الاجتماعية في البلاد المستضعفة ومدّها بالوقود الروحيّ والنفسيّ والانخراط في صلبها لتقويّة عودها وحراستها من التراجع والانحراف، كما أنّها مطالبة في الوقت ذاته بالانخراط في مشروع النهضة الشاملة والتغيير الحاسم في أيّ دولة تخلّصت من الاستبداد وحملت إلى سدّة الحكم أبناء الحركة والثورة، لذلك مازلنا في حاجة دائمة متجدّدة لوسائل وآليّات الفهم لنحسن التعامل مع الوحي فقهاً وتنزيلاً، ومع الواقع إلماماً ومقاربةً وتطبيقا، لأنّ وجود العلاج النافع لعلَل الأمّة – وهو الوحي المعصوم – لا يعفينا من الإقرار بندرة المعالج الّذي يحتاج بدوره – وفي هذه المرحلة المفصليّة الحاسمة بالذات – إلى الاستزادة من العلوم الإنسانيّة والاجتماعية باعتبارها آليّات ضروريّة لفهم الواقع المتشعّب، ذلك أنّ الانعطاف الّذي تعيشه الحركة والأمّة لا يقبل ذهنيّة التسطيح والتبسيط الساذج ولا العقليّة الذرائعيّة الّتي درجت عليها أجيال من العرب والمسلمين. ولا مناص من اكتساب القدرة على إحداث التوازن بين العاطفة والعقل وبين الفرد والمجتمع وبين الأنصار والخصوم وبين الثوابت والمتغيّرات وبين متطلّبات الداخل ومحاذير الخارج، وهذا يتيح لنا تحويل المبادئ إلى برامج والكليّات النظرية إلى آليات عمليّة بدءاً بمستوى التقنين ووصولاً إلى الممارسة اليوميّة في أروقة السياسة والمال والاقتصاد والقضاء والجيش والعلاقات الخارجيّة ومعالجة ظاهر الفقر والآفات الاجتماعية والانحراف الخلقي، وهذا دور المثقّفين بالدرجة الأولى ليبدعوا في صناعة الحياة بمعارفهم المتنوّعة ونظراتهم الواعيّة، وسيحتاج تدريب المثقّفين الإسلاميّين على النزول إلى ميدان تجسيد البرامج إلى وقت طويل نسبيّاً ليتحرّروا من عوائق المعارضة والتهميش والتقزيم ويأخذوا أماكنهم في دواليب صناعة القرار في المنظومة السياسيّة الجديدة، برؤية جديدة تتمحور حول البناء الحضاري وحول تصوّر كليّ يعيد صياغة علاقة الدين والتديّن في إطار آفاق قيادة البشريّة والشهادة عليها، فلا مكان للوهن والعجز والسقوط أمام الأزمات بل قد جاء أوان إحياء سنن الأنبياء والصديقين والمصلحين ’’أولي الأيدي والأبصار’’ في التصدّي للمعضلات الإنسانيّة بهدي قيم التوحيد وأخلاق الإسلام، فهل لدينا رجال لتلك الملمّات الكبرى؟ على الدعاة أن يُصغوا لصاحب الهمّة العاليّة الّذي قالوا له: جئناك في أمر صغير، فقال لهم: اطلبوا له رُوَيجلاً !!! أي نعم، لا تقبل همّته إلاّ أن تتصدّى للتحديات الكبرى وتنجز الأعمال الضخمة– لأنّه رجل -ولا يرضى بالهون والدون والرداءة ; وجهد المقلّ، وتلك بغية الدين والأمة من حمَلة المشروع الإسلاميّ خاصّة في زمن الأعباء الضخمة والتحوّلات المصيريّة، ومن المنتظر أن يتصدّى الأعداء والخصوم للمشروع الإصلاحيّ ويتسلّلوا من خلال عدّة طروحات، فلا مجال إذاً لإفراغ الجهد في المعارك الخاطئة بل تجب اليقظة الدائمة وعلى كلّ المستويات لتحقيق المقاصد بأسرع وقت ممكن وأقلّ تكاليف متاحة، والنداء الإلهي حاضر بيننا ’’ يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم ’’،والأمر ليس هيّناً، فستشنّ الأوساط المعاديّة حملات ضاريّةً لتشويه المعالم والعقول وإيغار الصدور وتضخيم الأخطاء واتّهام النوايا وتحريف المسار والتبشير بالهزائم، فلا بدّ من إبصار أطراف المواجهة بوضوح، ورصّ الصف الإسلاميّ بمختلف مكوّناته، وقد كان للسلفيين المصريين مواقف تاريخيّة نبيلة أسهمت في فوز المرشّح الإسلاميّ وهزيمة الفلول، والحرص على قوة الوحدة والأخوة لازم لزوم قوة الإيمان والعقيدة لمواجهة التآمر العلمانيّ والغربيّ.
إن المرحلة الّتي دخلناها بفضل الربيع العربيّ تسقينا جرعات من القلق المحمود على المشروع الإسلاميّ، لكنّه قلق بعيد عن الإحباط بل هو نقيضه، تحتضنه فاعليّة الإيمان وتلقي به في دروب المراجعة وتنويع الوسائل وطرق أبواب جديدة لإعادة تشكيل الصورة الذهنية والميدانية للمشروع البديل وحشد عوامل إنجاحه من كلّ المشارب الإسلاميّة والوطنيّة والإنسانيّة واحتلال المواقع المؤثّرة للتمكين للحق والعدل والفضيلة، ولا شكّ أن كثيراً من الأقنعة ستسقط، كما أنّ الأعشاب الضارة ستبقى في الحقل الإسلاميّ مدّة من الزمن. وكلّ ذلك اختبار ربّاني للتوكّل والبصيرة والذكاء والكفاءة، وهذا هو زمن المعادلات الصعبة الّتي يعيش لها الجهابذة، ولا يكونون جهابذة إلاّ إذا نمّوا عنصر الربانيّة فيهم باستحضار تربيّة البدايات المحرقة واستئناف حلقات الذكر وأوراد الصباح والمساء وإطالة السجود والتفكير في المعاد مع حرص خاص على دموع الخلوات، فكلّ هذا يرقّق القلب ويُبقي الصلة بالله غضّةً طريّةً مثمرةً، ونحن قوم ربّانيون لا يجوز أن تحوّلنا الأيام إلى ساسة محترفين أحسن حال الواحد منهم أن يصلّي الجمعة، فكلّما زادنا مشروعنا أعباءً ازددنا التجاءً إلى الله، فهو وحده مصدر القوّة والنصر ’’وما النصر إلاّ من عند الله العزيز الحكيم’’، بهذا الاشتغال المزدوج وُصِف الصّحابة الكرام بأنّهم كانوا رهباناً بالليل فرساناً بالنهار، والمناخ الربّانيّ هو البيئة الصحيحة لمعالجة المشكلات وبناء النهضة والخطو نحو منصّة الريّادة والقيادة، وفي طيّات كلّ هذا بشرى للصف الإسلاميّ بالفوز لأنّ الخصوم لا يقدرون على تكاليف الدعوة والدولة معاً، ولا حظّ لهم من إصلاح النفس والتودّد إلى الملإ الأعلى، فأكثرهم لا يصبر على صلاة الفجر والعشاء جماعةً – وهو مسلم – فكيف بالرواتب والنوافل والمحاسبة والتوبة والبكاء؟
وليس من الترف المطالبة بإيجاد قيادات روحيّة راشدة للأمّة الناهضة إلى جانب القيادات الفكريّة والسيّاسيّة لتستويّ المسيرة وتتوازن، وإنّما يكمن عوار العلمانيّة الأكبر في الإخلاد إلى الأرض والتهوين من الجوانب الروحيّة والروافد الأخلاقيّة، ولذلك انتشر التخلّل باسم التحرّر، بل لم تتحقّق سوى الهزائم النكراء على أيدي الدنياويّين الماديين دعاة الواقعيّة والحداثة المنقطعة عن قيّم الأمّة، وبدل الاعتراف بالهزيمة مازالوا يفلسفونها بألوان السفاسف لأنّهم ’’نسوا الله فأنساهم أنفسهم’’، ومن واجب جيل الثورة العربيّة الحاليّة أن يصحّح لهم تصوّراتهم الخاطئة، لأنّ العلمانيّين ضحاياها، وقد سقطت بدائلهم ولا يمثّلون سوى حضارة المنهزمين نفسيّاً والمغلوبين في ميدان الاختيارات الحضارية المصيرية.
إنّ دفع حركة الحياة من منظور إسلامي مهمّة كبرى، وهو في الوقت ذاته مُتعة عظيمة تنضح بطعم طاعة الخالق وخدمة الخَلق وإقامة الشهادة على الدنيا، ولا يشعر بهذه المتعة إلاّ من جرّب وكابد وانتقل من معاناة إنضاج الأفكار والعواطف إلى معاناة الالتحام بالشعب في ساحات الثورة وميادينها ثم ثلّث بمعاناة مكابدة الواقع السياسيّ وتحويل النظريّة إلى تطبيق والأفكار إلى مشروعات وتحمّل الصبر على توضيحها وتنفيذها، ولا بديل للحركة الواعية عن خوض غمار الدعوة والثورة والدولة معًا لإتمام مسيرتها المباركة.

أضافة تعليق