أ. ياسين عبدالعزيز
من كرم الله عز وجل أنه لم يجعل كل ما يمت إلى الأرض بسببٍ مَنبَعَ الشرف، ومصدر الفضل بين الناس، فلم يُودِعِ الفضلَ وَالَميَزةَ في أصل الخِلقَةِ الآدمية أجناسا وأنواعاً، ألوانا وأنساباً، ولا في الهيئة أموالاً وسلطاناً، بل وَصَلَ تَمَايُزَ الناس بالعمل الكسبي بما بَعَثَ به الرسلَ من الرسالات، لا بِما ينبعث به الناس من الأهواء، والشهوات، حيث انتهي أمر التفضيل في الدين الخاتم الكامل إلى الإيمان الجامع، الذي وضع ميزاناً حاوياً لشعبه ومراتبه التي أعلاها التوحيد، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ... فقال جل ذكره : {إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير } الحجرات.
التقوى هي الميزان
إنَ الوصفَ الجامعَ للخيرات في الأجناس البشرية، وفي الأنواع الآدمية، وفي الأشخاص، وفي الألوان، وفي الأنساب، وفي السلطان، وفي الأموال، إنما هو (التقوى)، وهي مرتبة لها طرفان ووسط يمر بها الـمَرءُ وهو سائر في طريق الإسلام يتخلق بخصاله ، ويستوثق بعراه الوثيقة، فيكون له من معاني التقوى وحقائقها الربانية حسب ما يقطع من مسافات العمل بخصال الإيمان، فهو ظالم لنفسه ما قَصُرَ عن نصف الطريق باقتصاره على التخلق بالأدنى من شُعب الإيمان مع تركه لبعض المأمور ووقوعه في بعض المحظور في الكثير من أحواله، وهو مقتصد ما اقتصر على القَدرِ الواجب من فعل المأمور وترك المحظور في الأغلب من أحواله، وهو سابق بالخيرات بإذن الله ما اشتملت حياته على أداء الفرض والنفل، وعلى اجتناب المحظور وترك المكروه غالباً.
وبهذا تتقرر درجات الفضل حسب التدرج في سُلَمِ ( التقوى ) من ظالم لنفسه، إلى تقي فاضل مقتصد، إلى أتقى وأفضل سابق وجامع للخيرات بإذن الله.
وخصال التقوى فضائل بعضها أفضل من بعض، فمن اتصف بأفضلها كان أفضل ممن اتصف بفاضلها ولا شك أن معرفة الله عز وجل، ومعرفة صفاته ومراضيه، والتخلق بما هو أرضى عنده هن أفضل مما عداهن من الخصال الإيمانية.
فمراتب الطائعين المتقين إنما تعرف بملابسة بعضهم لأفضل الطاعات، وبملابسة الآخرين لأدناها، فإن استووا في الطاعة لم يجز التفضيل في باب الطاعات.
وإن كَثُرَت طاعاتُ أحدِهم، وَقَلَت معارفُ الآخر وَضَعُفَت أحوَالُهُ، قُدِم شَرَفُ العلم والعمل القليل مع نقاءِ الطَوِيَةِ، وسلامة الأحوال على شرف الأَعمال والأقوال فقط.
ولهذا جاء في الحديث: (ما سبقكم أبو بكر بكثرة الصوم ولكن بأمر وقر في صدره) وقد قال صلى الله عليه وسلم لَمَا استُقصِرَت طاعتُه: (إني لأرجو أن أكون أَعلَمَكُم بالله وأَشَدَ كُمله خشيةً).
ففضل المعرفة ونظافة السريرة مع قلة الأعمال -على كثرتها بلا معرفة، وفضل الخشية كذلك على ماسواها.
وليس لأحد أن يُفَضِلَ أَحدًا على أحد ولا يُسَوِيَ أحداً بأحد في الجهد والعمل، حتى يقف على أوصاف التفضيل أو التساوي.
ولا يجوز أن يتعرض لشيء من التفضيل والتساوي إلا بِمَدرَكٍ شرعي، ولا يُقدِمَ على ذلك إلا هَجُومٌ، لا يتقي الله عز وجل، ولا يخشى التَلَطُخَ بعار الكذب.
والناس لا يَعدِلُونَ عن المنهج الرباني في التفضيل والتفاضل إلى غيره من المقاييس الأرضية إلا حينما تغيب عن ضمائرهم تقوى الله عز وجل، فيلتفت كل قوم إلى ما يَزعُمُهُ لنفسه من فَضلةِ الأرضِ أنها آيَةُ فَضلِهِ، وميزة أَصلِهِ ونسله، فيهبطون من مراتب شرف التقوى إلى فَضلَةِ حَمأتِهِم الطينية يتمرغون فيها تَمَرُغَ الحُمُرِ يَتَشَمَمُونَ في أَعطَافِهَا مَيزَتَهُم على الناس، فلا يجدون إلا ما يَجِدُهُ الجُعلُ حين يُدَهدِهُ الخِرَاءَةَ بأنفِهِ، على أنه لِسُقمِ فِطرَتِهِ يَجِدُ رَاحَتَهُ في نَتَنِ الأذى.
ولَمَا دُعِيَ (إبليسُ) لالتزام ميزان التقوى رأى فيه هَضمًا لأصله ونسبه فقال كما حكى القرآن عنه : {قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين } الأعراف 12 ، فأبى واستكبر وَدَعَاهُ غَيُهُ، وَدَاءُ كِبرِيَائِهِ أن يُنَقِبَ عن مَيزَتِهِ في جُرثُومَةِ خِلقَتِهِ النَارِيَة، فَتَمَخَضَ بها حقدُه وحسدُه لآدم عليه السلام فولدها جيفة ( أَنَا خَيرٌ مِنهُ) لا بصالح الأعمال وخلوص النية ورشاد السلوك في الجَلِيَةِ والطَوِيَة، ولكن بالفخر بالأجناس، والأنسال رفضا منه للمماثلة بينه وبين آدم عليه السلام أمام أمر الله عز وجل ونهيه، وزهداً منه في ميزان الله عز وجل المنصوب للمفاضلة بين عقلاء خَلقِهِ:- قال تعالى : {إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير }الحجرات 13 .
وهكذا يتحدد أمام العقلاء طريقان: طريق الرشاد والهدى وهو: صراط الله عز وجل الذي يَفضُلُ الناسُ بِالسَيرِ فيه بعضُهم بعضاً فَضلَ المُتَقَدِمِ فيه على المتأخر، وفضل المنتهي فيه على المبتدى، وميزة المستمر على المتوقف، وَالمُدلِج على النائم، والعامل على المتكاسل، والذاكر على الغافل، والمجاهد على القاعد، وفضل السابق بالخيرات على المقتصد، والمقتصد على الظالم لنفسه.
وطريق الغواية والعمى وهو سبيل الشيطان الذي يتمايز فيه الناس بالجاه والنسب والألوان والأجناس والنسب ونحوها من المقاييس الأرضية الهابطة والتي طلب (إبليس) من ربه إِنظَارَهُ ليتولى إشاعتها بين أهل الغِواية والشَقاء إلى يوم الوقت المعلوم.
على أن غايته أن تسرى في الناس المفاسد، وأن يصيروا إلى وصف واحد مشتركين فيها.
إذ كَم مِن معضلاتٍ رَمَى بها عدوُ الله (إبليس) أبناءَ آدم فاستناموا له فأرداهم إلى بوار، وأوقعهم في خسار أَنَانِيَةِ (أَنَا خَيرٌ مِنهُ).
إلا أن كيده أضعف ما يكون أمام الإيمان وأهله قال تعالى: {إن كيد الشيطان كان ضعيفا } النساء 76 .
وقال تعالى {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من ابتعك من الغاوين } الحجر 42 .
فالشيطان يَلَذُ له ارتحالُ ظهور مَن يَتَدَسَسُونَ بأنوفهم في زبالة العصبيات الجاهلية حُبًا منه في تمزيق الناس إلى أوزاع وأشتات فإنه حِينَ يُقبِلُ على النَاس من هذه الجهات الأرضية المظلمة يكون أمكن له على تفريق ما اجتمع منهم، خاصةً وهو يَحتَوِشُهُم عند غياب نور الهدى في ظلمة حب الجاه والنسب والمال ونحوه احتواش الذئب لفرائسه في ظلمة الليل البهيم ليكون ذلك أَعوَنَ له على تحقيق أمانيه وغروره فيهم قال تعالى : {وما يعدهم الشيطان إلا غرورا } النساء 120.
أجل: فالله عز وجل يقرر للناس (التقوى وأعمال التقوى ميزاناً للتفاضل) ويستبعد كل الموازين البشرية كالسلطان، والأنساب، والأجناس، والألوان، والأموال ونحوها مما يمت إلى الأرض بصلة.
والشيطان له في عمله ضِدَ الإنسان من اسمه النَصيب الأوفى، فهو مأخوذ من شَطَنَ إذا بَعُدَ، فهو يحرص على إبعاد الإنسان في تصوره واعتقاده ، وعمله عن جادة الحق كَبُعدِهِ هو عنها.
ففي حين يشرع الحق تبارك وتعالى التقوى وأعمالها للإنسان مسلكا للتفاضل، ومضماراً للتسابق فإن الشيطان ومن شايعه يعملون على إبعاده عنها إلى التمايز فيما يستوي فيه الناس طبعا، وشرعا ليغريَهم بالعداوة والبغضاء.
ولا أدل على المساواة بين بني آدم في كل ما يمت إلى الأرض بصلة من قوله تعالى : {قل إنما أنا بشر مثلكم } الكهف 110 ، على أنه إذا كان صلى الله عليه وسلم في أصله الترابي، وجنسه البشري، وشخصه الإنساني مساوياً لبقية أبناء آدم في بشريتهم بموجب القرآن ، فإن هذا أصل يقطع بالمساواة بينه وبين أبناء جنسه من البشر في النوع، والنسل من باب أولى لأنه إذا قطع بالمساواة والمثلية البشرية بينه وبين أبناء جنسه فمن باب أولى يقطع بها بين نسبه ونوعه، وبين أنساب الناس وأنواعهم، وأولى الأولى : يقطع بالمساواة بين أنساب حواشيه صلى الله عليه وسلم، وأنساب سائر البشرية قاطبة فلا تفاضل في مضمار أصل الخِلقة الآدمية والأواصر الأرضية قطعا، بين بشرية النبي وبشرية غير النبي، بل المقطوع به هي ( المساواة بين الناس كلهم في أصل الخلقة البشرية).
بيد أنه من جهة أخرى .. لا أدل على التفاضل بين الناس بشرف التقوى وأعمال التقوى من قوله جل ذكره {يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا ً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } الكهف 110.
وهكذا جمع الله عز وجل بين ما يستوي فيه الناس من الآدمية، وبين ما يتفاضلون به من الربانية في آية واحدة وهي قوله تعالى : {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين} فصلت 6 ، وَمِثلُها قولُه تعالى {قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً }الإسراء 93 .
فالوحي والعمل بالوحي هو الشرف الذي فُضِلَ به رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم على الناس قاطبة ولم يَفضُلهُم ببشريته ونسبه، ولكن بنبوته والعمل بموجباتها، ورسالته وإحسان الأداء لِمَا كُلِفَ به ولهذا جعله الله عز وجل قدوة لكل عاقل بالرسالة قال تعالى : {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } الأحزاب 21 ، ولم يقل في بشرية محمد صلى الله عليه وسلم، فهو برسالته يفوق الناس لا ببشريته فالأجناس والأنواع والأنساب والأشخاص البشرية والسلطان والأموال كل هذه وما ماثلها أوعية للحقائق الربانية والآثار النبوية وبمقدار استيعابها لها ضميرا وعملا تكون تقواها وشرفها، إِذ لا قيمة لها فارغة منها أَو مُمتَلِئَةٌ بقيح العصبيات ونتنها، أو أهواء القوميات وَعَفَنِها.
وقيمة الوعاء بما فيه (وكل إناء بالذي فيه ينضح).
إذن: فالتفاضل إنما هو بالمبادئ الربانية لا بالأنساب الآدمية ونحوها.
إن النفوس البشرية، والعقول الإنسانية، والأنساب الطينية، والأموال الشَيئِيَة، كلها وسائل يتحقق بها الإسلام في عالم المعاني في القلوب، وفي عالم الحس في واقع الحياة.
والإسلام هو النظام الذي تتحقق به عبادة الخلق لِلَه وحده بوسائلَ هي النفس، والعقل، والنسب، والمال، والأوطان، والجاه والسلطان، ونحوها، فهي وسائل -والدِينُ نِظَامُهَا، وعبادة الله جل ذكره غَايَتُها لقوله سبحانه : {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون * ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون * إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين }الذاريات 57 .
والنفوس إنما هي مستودعات لهذا الدين قيمتها من قيمة ما استُودِعَ فيها وليس لها من نَفَاسَةٍ خَلقِيَةٍ مودعةٍ فيها جنسا، أو لونا، أو نسبا إلا بالتقوى (والتقوى وحدها)
فهذا الرسول صلى الله عليه وسلم يأمره الله عز وجل بأن يُعلِنَ للخلق أجمع عن بشريته التي لا تزيد على بشرية الناس كلهم بِخَاصيَة يفضلهم بها في شيء من الصفات الأرضية البشرية، والله عز وجل يقرر في كتابه أن محمدا صلى الله عليه وسلم مثل غيره من البشر في أصل خلقته الآدمية ، وأَنَ فَضلَهُ وَخَيرِيَتَهُ صلى الله عليه وسلم لا تكمن فيما يمت إلى الأرض بصلة قطعا، وإنما تكمن في أنه وعاء للوحي الرباني، ومستودع للقرآن، ومحل لِحِليَةِ التقوى، وكمال الإيمان، وخالص التوحيد وعواصمه، مصداقاً لقوله جل ذكره : {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد } الكهف 110.
فهو إذن بشر من البشر خُلِقَ من أَبَوَينِ كما تُخلَقُ عَامَةُ البشر، حَمَلَتهُ أُمُهُ المُدَةَ التي تحمل مثلها الأمهات ، نطفةً، فعلقةً ،فمضغةً، فجنيناً ، فرضيعا ، فصغيرا ، فشابا ، فشيخا ، ثم أدركة الموت كما يدرك البشر {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإين مات أو قتل أنقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين * وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نوته منها وسنجزي الشاكرين } آل عمران 144 0
وهو صلى الله عليه وسلم إنما فُضِلَ على العالمين لأن الله عز وجل جعله محلاً للهداية، ومستودعاً للرسالة الكاملة الخاتمة، وشرفة بحقائق الإيمان قال تعالى : {الله أعلم حيث يجعل رسالته } الأنعام 124 ، وقال تعالى : {الله يصطفى من الملائكة رسلاً ومن الناس } الحج 75، وقال تعالى : {ووجدك ضالاً فهدى } الضحى 7 .
ثم إن الأجساد الآدمية إنما تَشرُفُ - بعد ذلك - بشرف الأرواح الربانية ، وتطيب بطيبها، وكلاهما يَشرُفَان بملابستهما للطاعات بإتباع المأمور، والتنزه عن المحظور.
إنَ كُلَ من قطع بفضله في شخصه على الأشخاص، أو بنسبة على الأنساب، أو لونه على الألوان، ثم ناضل لِيُسَلَمَ لَهُ بهذا الشرف المزعوم فقد أعظم على الله تعالى الفِريَة ، وانتصب إبليسا من أبالسة الإنس يناضل عن فضل جرثومته وعرقه أمام ميزان الله عز وجل الثابت {إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير } الحجرات 13 .
كما أنتصب من الجن (إبليس) يناضل عن أصله وفصله أمام أمر الله عز وجل {اسجدوا لأدم } البقرة 34 .
وَكُلُ ما ورد من آيات قرآنية، أو أحاديث نبوية تشير إلى فضل أقوام أو أشخاص إنما لأنهم كانوا أوعية استَوعَت ما جاءت به الرسالة الخاتمة من الحقائق الربانية، فَفُضِلُوا على غيرهم بها، ولا ينتقل هذا الفضل إلى الخلف بالنسب، ولكن بحسن الأداءِ والاِستيعابِ لِما فُضِلَ به السلف من الدين والأدب.
وأصل الفضل هو وراثة الرسول صلى الله عليه وسلم في السيرة والأدب، وليست وراثته في الأصل والنَسب.
والرسول صلى الله عليه وسلم إنما بُعِثَ لِيُنتَسَبَ إلى النور الذي جاء به، لا لِيُنتَسَبَ إلى أدميته ونسبه وهو رسول الله إلى كافَةِ الثقلين من بَرِيَتِه لا إلى خُصُوصِ عشيرته أو قرابته.
ثم إن الله عز وجل لم يعتمد بواباً أو حُجَاباً من قرابة رسوله صلى الله عليه وسلم لتعميد من عزم على الدخول في دينه الخاتم بحيث لا يقبل من الدَاخِل فيه صرفٌ ولا عدلٌ إلا بالتذرع بهم، والمرور عليهم لمنحهم إياه بطاقة الدخول والقبول، بل الكل دعاهم الله عز وجل بواسطة رسوله إلى كلمة سواء ألا يعبدوا إلا الله، ولا يشركوا به شيئا، ولا يتخذ بعضُهم بعضا أربابا من دون الله.. بقوله : {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا ً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } آل عمران 64 .. والكل فتح لهم أبواب الحق سواء، من غير تفضيل أحدٍ على أحد بإذن، وتنقيص أحد عن أحد برد...
فَلاَ غَرَابَةَ : (بعد ذلك) أن يصير أتباعه صلى الله عليه وسلم العاملون بجنس ما عمل به هم ورثته، وأولياؤه المتقون، والأولى به وهو صلى الله عليه وسلم وليهم والأولى بهم {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم } الأحزاب 6 ، فصارت مَنزلة كل مؤمن بعد ذلك حسب ما ورثه عن نبي الهدى صلى الله عليه وسلم من شرف الهدى، وحسب ما استخلفه الله عز وجل من أمانة الرسالة، وحسب ما قَسَمَ لهم من الفهم والعمل بالنبوة، على أن الكل في إرث أصل التركة النبوية سواء.
بيد أن تفاوتهم إنما يكمن في الفهم لهذه التركة الربانية والأخذ بها، فمنهم من يستمع القول فيتبع أحسنه بعزيمة المخلص الصادق، ومنهم من يأخذ به عن ضعف.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما أنا قاسم والله عز وجل يعطي) وهكذا سَوَى الله عز وجل بين الناس في عرض ما ورثه صلى الله عليه وسلم من التركة الربانية، وتفاوتوا بعد ذلك في العلم والفقه ، والإيمان والعمل الصالح، والقبول والرد، فتقرر أن التسوية بينهم فيما يستوون فيه إنما هي منحة من المُعطِي سبحانه، وأن التفضيل بينهم إنما هو في مضمار الفهم والإدراك، والإيمان والإخلاص والصدق والتقوى، وفي العمل الصالح بموجبات الدين القيِم، وهو فضل الله عز وجل على بعضهم يؤتيه من يشاء لقوله تعالى:{ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم }الجمعة4.
فبهذه المكارم الربانية يَفضُلُ النَاسُ بعضهم بعضا:
ففي الحديث الصحيح الذي أخرجه المنذري في كتابه القيم (الترغيب والترهيب) عن عقبة بن عامر عن رسول صلى الله عليه وسلم ( ليس لأحد على أحد فضل إلا بالدين أو عمل صالح، حَسبُ الرَجُلِ أن يكون فاحشا بذياً بخيلاً جباناً ) وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد عن طلحة رضي الله عنه عن رسوله صلى الله عليه وسلم ( ليس أحد أفضل عند الله من مؤمن يُعَمَرُ في الإسلام، لتكبيره وتحميده وتسبيحه وتهليله )...
فالنبي إسماعيل وَأَخُوهُ إسحاق عليهما السلام، لم يُفَضَلاَ على غَيرِهما من البشر لكونهما أبناءَ النبي إبراهيم عليه السلام بل بالوحي والاصطفاء فقط، ولو فُضِلاَ على غيرهما بالانتساب إلى أبيهما البشر لَمَا كان لانتسابهم إلى بَشَريَتِهِ من مَزِيَة لأنه أبن رجل وثني وما فضل محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم البشرية كلها لأنه أبن عبد الله ابن عبد المطلب ابن هاشم بل لأنه رسول الله إلى الناس كافة، أُوحِيَ إليه بشرع وأمر بتبليغه إلى الثقلين كافة، فبهذا كان خير الثقلين على الإطلاق، وأفضل العالمين باتفاق، لأنه لو شُرِفَ لِنَسَبِهِ الهاشمي القرشي لكان أبو لهب من خير الناس.
وما فَضُلَ الخلفاء الراشدون سواهم لبشريتهم، ولكن لما وقر في قلوبهم من الإيمان والإخلاص والصدق والتقوى، والعدل وحسن الأداء، والإتباع لما جاء به رسول الهدى صلى الله عليه وسلم فرضي الله عنهم وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
وإذن فالمفاضلة فيما يستوي فيه الناس من فَضَلاَت الطين إنما هو من فضول أهوائهم، وَوَحَلِ شهواتهم وغبار تربتهم فلا يُعتَدُ به قطعاً.
*الأهالي نت
من كرم الله عز وجل أنه لم يجعل كل ما يمت إلى الأرض بسببٍ مَنبَعَ الشرف، ومصدر الفضل بين الناس، فلم يُودِعِ الفضلَ وَالَميَزةَ في أصل الخِلقَةِ الآدمية أجناسا وأنواعاً، ألوانا وأنساباً، ولا في الهيئة أموالاً وسلطاناً، بل وَصَلَ تَمَايُزَ الناس بالعمل الكسبي بما بَعَثَ به الرسلَ من الرسالات، لا بِما ينبعث به الناس من الأهواء، والشهوات، حيث انتهي أمر التفضيل في الدين الخاتم الكامل إلى الإيمان الجامع، الذي وضع ميزاناً حاوياً لشعبه ومراتبه التي أعلاها التوحيد، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ... فقال جل ذكره : {إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير } الحجرات.
التقوى هي الميزان
إنَ الوصفَ الجامعَ للخيرات في الأجناس البشرية، وفي الأنواع الآدمية، وفي الأشخاص، وفي الألوان، وفي الأنساب، وفي السلطان، وفي الأموال، إنما هو (التقوى)، وهي مرتبة لها طرفان ووسط يمر بها الـمَرءُ وهو سائر في طريق الإسلام يتخلق بخصاله ، ويستوثق بعراه الوثيقة، فيكون له من معاني التقوى وحقائقها الربانية حسب ما يقطع من مسافات العمل بخصال الإيمان، فهو ظالم لنفسه ما قَصُرَ عن نصف الطريق باقتصاره على التخلق بالأدنى من شُعب الإيمان مع تركه لبعض المأمور ووقوعه في بعض المحظور في الكثير من أحواله، وهو مقتصد ما اقتصر على القَدرِ الواجب من فعل المأمور وترك المحظور في الأغلب من أحواله، وهو سابق بالخيرات بإذن الله ما اشتملت حياته على أداء الفرض والنفل، وعلى اجتناب المحظور وترك المكروه غالباً.
وبهذا تتقرر درجات الفضل حسب التدرج في سُلَمِ ( التقوى ) من ظالم لنفسه، إلى تقي فاضل مقتصد، إلى أتقى وأفضل سابق وجامع للخيرات بإذن الله.
وخصال التقوى فضائل بعضها أفضل من بعض، فمن اتصف بأفضلها كان أفضل ممن اتصف بفاضلها ولا شك أن معرفة الله عز وجل، ومعرفة صفاته ومراضيه، والتخلق بما هو أرضى عنده هن أفضل مما عداهن من الخصال الإيمانية.
فمراتب الطائعين المتقين إنما تعرف بملابسة بعضهم لأفضل الطاعات، وبملابسة الآخرين لأدناها، فإن استووا في الطاعة لم يجز التفضيل في باب الطاعات.
وإن كَثُرَت طاعاتُ أحدِهم، وَقَلَت معارفُ الآخر وَضَعُفَت أحوَالُهُ، قُدِم شَرَفُ العلم والعمل القليل مع نقاءِ الطَوِيَةِ، وسلامة الأحوال على شرف الأَعمال والأقوال فقط.
ولهذا جاء في الحديث: (ما سبقكم أبو بكر بكثرة الصوم ولكن بأمر وقر في صدره) وقد قال صلى الله عليه وسلم لَمَا استُقصِرَت طاعتُه: (إني لأرجو أن أكون أَعلَمَكُم بالله وأَشَدَ كُمله خشيةً).
ففضل المعرفة ونظافة السريرة مع قلة الأعمال -على كثرتها بلا معرفة، وفضل الخشية كذلك على ماسواها.
وليس لأحد أن يُفَضِلَ أَحدًا على أحد ولا يُسَوِيَ أحداً بأحد في الجهد والعمل، حتى يقف على أوصاف التفضيل أو التساوي.
ولا يجوز أن يتعرض لشيء من التفضيل والتساوي إلا بِمَدرَكٍ شرعي، ولا يُقدِمَ على ذلك إلا هَجُومٌ، لا يتقي الله عز وجل، ولا يخشى التَلَطُخَ بعار الكذب.
والناس لا يَعدِلُونَ عن المنهج الرباني في التفضيل والتفاضل إلى غيره من المقاييس الأرضية إلا حينما تغيب عن ضمائرهم تقوى الله عز وجل، فيلتفت كل قوم إلى ما يَزعُمُهُ لنفسه من فَضلةِ الأرضِ أنها آيَةُ فَضلِهِ، وميزة أَصلِهِ ونسله، فيهبطون من مراتب شرف التقوى إلى فَضلَةِ حَمأتِهِم الطينية يتمرغون فيها تَمَرُغَ الحُمُرِ يَتَشَمَمُونَ في أَعطَافِهَا مَيزَتَهُم على الناس، فلا يجدون إلا ما يَجِدُهُ الجُعلُ حين يُدَهدِهُ الخِرَاءَةَ بأنفِهِ، على أنه لِسُقمِ فِطرَتِهِ يَجِدُ رَاحَتَهُ في نَتَنِ الأذى.
ولَمَا دُعِيَ (إبليسُ) لالتزام ميزان التقوى رأى فيه هَضمًا لأصله ونسبه فقال كما حكى القرآن عنه : {قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين } الأعراف 12 ، فأبى واستكبر وَدَعَاهُ غَيُهُ، وَدَاءُ كِبرِيَائِهِ أن يُنَقِبَ عن مَيزَتِهِ في جُرثُومَةِ خِلقَتِهِ النَارِيَة، فَتَمَخَضَ بها حقدُه وحسدُه لآدم عليه السلام فولدها جيفة ( أَنَا خَيرٌ مِنهُ) لا بصالح الأعمال وخلوص النية ورشاد السلوك في الجَلِيَةِ والطَوِيَة، ولكن بالفخر بالأجناس، والأنسال رفضا منه للمماثلة بينه وبين آدم عليه السلام أمام أمر الله عز وجل ونهيه، وزهداً منه في ميزان الله عز وجل المنصوب للمفاضلة بين عقلاء خَلقِهِ:- قال تعالى : {إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير }الحجرات 13 .
وهكذا يتحدد أمام العقلاء طريقان: طريق الرشاد والهدى وهو: صراط الله عز وجل الذي يَفضُلُ الناسُ بِالسَيرِ فيه بعضُهم بعضاً فَضلَ المُتَقَدِمِ فيه على المتأخر، وفضل المنتهي فيه على المبتدى، وميزة المستمر على المتوقف، وَالمُدلِج على النائم، والعامل على المتكاسل، والذاكر على الغافل، والمجاهد على القاعد، وفضل السابق بالخيرات على المقتصد، والمقتصد على الظالم لنفسه.
وطريق الغواية والعمى وهو سبيل الشيطان الذي يتمايز فيه الناس بالجاه والنسب والألوان والأجناس والنسب ونحوها من المقاييس الأرضية الهابطة والتي طلب (إبليس) من ربه إِنظَارَهُ ليتولى إشاعتها بين أهل الغِواية والشَقاء إلى يوم الوقت المعلوم.
على أن غايته أن تسرى في الناس المفاسد، وأن يصيروا إلى وصف واحد مشتركين فيها.
إذ كَم مِن معضلاتٍ رَمَى بها عدوُ الله (إبليس) أبناءَ آدم فاستناموا له فأرداهم إلى بوار، وأوقعهم في خسار أَنَانِيَةِ (أَنَا خَيرٌ مِنهُ).
إلا أن كيده أضعف ما يكون أمام الإيمان وأهله قال تعالى: {إن كيد الشيطان كان ضعيفا } النساء 76 .
وقال تعالى {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من ابتعك من الغاوين } الحجر 42 .
فالشيطان يَلَذُ له ارتحالُ ظهور مَن يَتَدَسَسُونَ بأنوفهم في زبالة العصبيات الجاهلية حُبًا منه في تمزيق الناس إلى أوزاع وأشتات فإنه حِينَ يُقبِلُ على النَاس من هذه الجهات الأرضية المظلمة يكون أمكن له على تفريق ما اجتمع منهم، خاصةً وهو يَحتَوِشُهُم عند غياب نور الهدى في ظلمة حب الجاه والنسب والمال ونحوه احتواش الذئب لفرائسه في ظلمة الليل البهيم ليكون ذلك أَعوَنَ له على تحقيق أمانيه وغروره فيهم قال تعالى : {وما يعدهم الشيطان إلا غرورا } النساء 120.
أجل: فالله عز وجل يقرر للناس (التقوى وأعمال التقوى ميزاناً للتفاضل) ويستبعد كل الموازين البشرية كالسلطان، والأنساب، والأجناس، والألوان، والأموال ونحوها مما يمت إلى الأرض بصلة.
والشيطان له في عمله ضِدَ الإنسان من اسمه النَصيب الأوفى، فهو مأخوذ من شَطَنَ إذا بَعُدَ، فهو يحرص على إبعاد الإنسان في تصوره واعتقاده ، وعمله عن جادة الحق كَبُعدِهِ هو عنها.
ففي حين يشرع الحق تبارك وتعالى التقوى وأعمالها للإنسان مسلكا للتفاضل، ومضماراً للتسابق فإن الشيطان ومن شايعه يعملون على إبعاده عنها إلى التمايز فيما يستوي فيه الناس طبعا، وشرعا ليغريَهم بالعداوة والبغضاء.
ولا أدل على المساواة بين بني آدم في كل ما يمت إلى الأرض بصلة من قوله تعالى : {قل إنما أنا بشر مثلكم } الكهف 110 ، على أنه إذا كان صلى الله عليه وسلم في أصله الترابي، وجنسه البشري، وشخصه الإنساني مساوياً لبقية أبناء آدم في بشريتهم بموجب القرآن ، فإن هذا أصل يقطع بالمساواة بينه وبين أبناء جنسه من البشر في النوع، والنسل من باب أولى لأنه إذا قطع بالمساواة والمثلية البشرية بينه وبين أبناء جنسه فمن باب أولى يقطع بها بين نسبه ونوعه، وبين أنساب الناس وأنواعهم، وأولى الأولى : يقطع بالمساواة بين أنساب حواشيه صلى الله عليه وسلم، وأنساب سائر البشرية قاطبة فلا تفاضل في مضمار أصل الخِلقة الآدمية والأواصر الأرضية قطعا، بين بشرية النبي وبشرية غير النبي، بل المقطوع به هي ( المساواة بين الناس كلهم في أصل الخلقة البشرية).
بيد أنه من جهة أخرى .. لا أدل على التفاضل بين الناس بشرف التقوى وأعمال التقوى من قوله جل ذكره {يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا ً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } الكهف 110.
وهكذا جمع الله عز وجل بين ما يستوي فيه الناس من الآدمية، وبين ما يتفاضلون به من الربانية في آية واحدة وهي قوله تعالى : {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين} فصلت 6 ، وَمِثلُها قولُه تعالى {قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً }الإسراء 93 .
فالوحي والعمل بالوحي هو الشرف الذي فُضِلَ به رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم على الناس قاطبة ولم يَفضُلهُم ببشريته ونسبه، ولكن بنبوته والعمل بموجباتها، ورسالته وإحسان الأداء لِمَا كُلِفَ به ولهذا جعله الله عز وجل قدوة لكل عاقل بالرسالة قال تعالى : {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } الأحزاب 21 ، ولم يقل في بشرية محمد صلى الله عليه وسلم، فهو برسالته يفوق الناس لا ببشريته فالأجناس والأنواع والأنساب والأشخاص البشرية والسلطان والأموال كل هذه وما ماثلها أوعية للحقائق الربانية والآثار النبوية وبمقدار استيعابها لها ضميرا وعملا تكون تقواها وشرفها، إِذ لا قيمة لها فارغة منها أَو مُمتَلِئَةٌ بقيح العصبيات ونتنها، أو أهواء القوميات وَعَفَنِها.
وقيمة الوعاء بما فيه (وكل إناء بالذي فيه ينضح).
إذن: فالتفاضل إنما هو بالمبادئ الربانية لا بالأنساب الآدمية ونحوها.
إن النفوس البشرية، والعقول الإنسانية، والأنساب الطينية، والأموال الشَيئِيَة، كلها وسائل يتحقق بها الإسلام في عالم المعاني في القلوب، وفي عالم الحس في واقع الحياة.
والإسلام هو النظام الذي تتحقق به عبادة الخلق لِلَه وحده بوسائلَ هي النفس، والعقل، والنسب، والمال، والأوطان، والجاه والسلطان، ونحوها، فهي وسائل -والدِينُ نِظَامُهَا، وعبادة الله جل ذكره غَايَتُها لقوله سبحانه : {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون * ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون * إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين }الذاريات 57 .
والنفوس إنما هي مستودعات لهذا الدين قيمتها من قيمة ما استُودِعَ فيها وليس لها من نَفَاسَةٍ خَلقِيَةٍ مودعةٍ فيها جنسا، أو لونا، أو نسبا إلا بالتقوى (والتقوى وحدها)
فهذا الرسول صلى الله عليه وسلم يأمره الله عز وجل بأن يُعلِنَ للخلق أجمع عن بشريته التي لا تزيد على بشرية الناس كلهم بِخَاصيَة يفضلهم بها في شيء من الصفات الأرضية البشرية، والله عز وجل يقرر في كتابه أن محمدا صلى الله عليه وسلم مثل غيره من البشر في أصل خلقته الآدمية ، وأَنَ فَضلَهُ وَخَيرِيَتَهُ صلى الله عليه وسلم لا تكمن فيما يمت إلى الأرض بصلة قطعا، وإنما تكمن في أنه وعاء للوحي الرباني، ومستودع للقرآن، ومحل لِحِليَةِ التقوى، وكمال الإيمان، وخالص التوحيد وعواصمه، مصداقاً لقوله جل ذكره : {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد } الكهف 110.
فهو إذن بشر من البشر خُلِقَ من أَبَوَينِ كما تُخلَقُ عَامَةُ البشر، حَمَلَتهُ أُمُهُ المُدَةَ التي تحمل مثلها الأمهات ، نطفةً، فعلقةً ،فمضغةً، فجنيناً ، فرضيعا ، فصغيرا ، فشابا ، فشيخا ، ثم أدركة الموت كما يدرك البشر {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإين مات أو قتل أنقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين * وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نوته منها وسنجزي الشاكرين } آل عمران 144 0
وهو صلى الله عليه وسلم إنما فُضِلَ على العالمين لأن الله عز وجل جعله محلاً للهداية، ومستودعاً للرسالة الكاملة الخاتمة، وشرفة بحقائق الإيمان قال تعالى : {الله أعلم حيث يجعل رسالته } الأنعام 124 ، وقال تعالى : {الله يصطفى من الملائكة رسلاً ومن الناس } الحج 75، وقال تعالى : {ووجدك ضالاً فهدى } الضحى 7 .
ثم إن الأجساد الآدمية إنما تَشرُفُ - بعد ذلك - بشرف الأرواح الربانية ، وتطيب بطيبها، وكلاهما يَشرُفَان بملابستهما للطاعات بإتباع المأمور، والتنزه عن المحظور.
إنَ كُلَ من قطع بفضله في شخصه على الأشخاص، أو بنسبة على الأنساب، أو لونه على الألوان، ثم ناضل لِيُسَلَمَ لَهُ بهذا الشرف المزعوم فقد أعظم على الله تعالى الفِريَة ، وانتصب إبليسا من أبالسة الإنس يناضل عن فضل جرثومته وعرقه أمام ميزان الله عز وجل الثابت {إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير } الحجرات 13 .
كما أنتصب من الجن (إبليس) يناضل عن أصله وفصله أمام أمر الله عز وجل {اسجدوا لأدم } البقرة 34 .
وَكُلُ ما ورد من آيات قرآنية، أو أحاديث نبوية تشير إلى فضل أقوام أو أشخاص إنما لأنهم كانوا أوعية استَوعَت ما جاءت به الرسالة الخاتمة من الحقائق الربانية، فَفُضِلُوا على غيرهم بها، ولا ينتقل هذا الفضل إلى الخلف بالنسب، ولكن بحسن الأداءِ والاِستيعابِ لِما فُضِلَ به السلف من الدين والأدب.
وأصل الفضل هو وراثة الرسول صلى الله عليه وسلم في السيرة والأدب، وليست وراثته في الأصل والنَسب.
والرسول صلى الله عليه وسلم إنما بُعِثَ لِيُنتَسَبَ إلى النور الذي جاء به، لا لِيُنتَسَبَ إلى أدميته ونسبه وهو رسول الله إلى كافَةِ الثقلين من بَرِيَتِه لا إلى خُصُوصِ عشيرته أو قرابته.
ثم إن الله عز وجل لم يعتمد بواباً أو حُجَاباً من قرابة رسوله صلى الله عليه وسلم لتعميد من عزم على الدخول في دينه الخاتم بحيث لا يقبل من الدَاخِل فيه صرفٌ ولا عدلٌ إلا بالتذرع بهم، والمرور عليهم لمنحهم إياه بطاقة الدخول والقبول، بل الكل دعاهم الله عز وجل بواسطة رسوله إلى كلمة سواء ألا يعبدوا إلا الله، ولا يشركوا به شيئا، ولا يتخذ بعضُهم بعضا أربابا من دون الله.. بقوله : {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا ً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } آل عمران 64 .. والكل فتح لهم أبواب الحق سواء، من غير تفضيل أحدٍ على أحد بإذن، وتنقيص أحد عن أحد برد...
فَلاَ غَرَابَةَ : (بعد ذلك) أن يصير أتباعه صلى الله عليه وسلم العاملون بجنس ما عمل به هم ورثته، وأولياؤه المتقون، والأولى به وهو صلى الله عليه وسلم وليهم والأولى بهم {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم } الأحزاب 6 ، فصارت مَنزلة كل مؤمن بعد ذلك حسب ما ورثه عن نبي الهدى صلى الله عليه وسلم من شرف الهدى، وحسب ما استخلفه الله عز وجل من أمانة الرسالة، وحسب ما قَسَمَ لهم من الفهم والعمل بالنبوة، على أن الكل في إرث أصل التركة النبوية سواء.
بيد أن تفاوتهم إنما يكمن في الفهم لهذه التركة الربانية والأخذ بها، فمنهم من يستمع القول فيتبع أحسنه بعزيمة المخلص الصادق، ومنهم من يأخذ به عن ضعف.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما أنا قاسم والله عز وجل يعطي) وهكذا سَوَى الله عز وجل بين الناس في عرض ما ورثه صلى الله عليه وسلم من التركة الربانية، وتفاوتوا بعد ذلك في العلم والفقه ، والإيمان والعمل الصالح، والقبول والرد، فتقرر أن التسوية بينهم فيما يستوون فيه إنما هي منحة من المُعطِي سبحانه، وأن التفضيل بينهم إنما هو في مضمار الفهم والإدراك، والإيمان والإخلاص والصدق والتقوى، وفي العمل الصالح بموجبات الدين القيِم، وهو فضل الله عز وجل على بعضهم يؤتيه من يشاء لقوله تعالى:{ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم }الجمعة4.
فبهذه المكارم الربانية يَفضُلُ النَاسُ بعضهم بعضا:
ففي الحديث الصحيح الذي أخرجه المنذري في كتابه القيم (الترغيب والترهيب) عن عقبة بن عامر عن رسول صلى الله عليه وسلم ( ليس لأحد على أحد فضل إلا بالدين أو عمل صالح، حَسبُ الرَجُلِ أن يكون فاحشا بذياً بخيلاً جباناً ) وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد عن طلحة رضي الله عنه عن رسوله صلى الله عليه وسلم ( ليس أحد أفضل عند الله من مؤمن يُعَمَرُ في الإسلام، لتكبيره وتحميده وتسبيحه وتهليله )...
فالنبي إسماعيل وَأَخُوهُ إسحاق عليهما السلام، لم يُفَضَلاَ على غَيرِهما من البشر لكونهما أبناءَ النبي إبراهيم عليه السلام بل بالوحي والاصطفاء فقط، ولو فُضِلاَ على غيرهما بالانتساب إلى أبيهما البشر لَمَا كان لانتسابهم إلى بَشَريَتِهِ من مَزِيَة لأنه أبن رجل وثني وما فضل محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم البشرية كلها لأنه أبن عبد الله ابن عبد المطلب ابن هاشم بل لأنه رسول الله إلى الناس كافة، أُوحِيَ إليه بشرع وأمر بتبليغه إلى الثقلين كافة، فبهذا كان خير الثقلين على الإطلاق، وأفضل العالمين باتفاق، لأنه لو شُرِفَ لِنَسَبِهِ الهاشمي القرشي لكان أبو لهب من خير الناس.
وما فَضُلَ الخلفاء الراشدون سواهم لبشريتهم، ولكن لما وقر في قلوبهم من الإيمان والإخلاص والصدق والتقوى، والعدل وحسن الأداء، والإتباع لما جاء به رسول الهدى صلى الله عليه وسلم فرضي الله عنهم وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
وإذن فالمفاضلة فيما يستوي فيه الناس من فَضَلاَت الطين إنما هو من فضول أهوائهم، وَوَحَلِ شهواتهم وغبار تربتهم فلا يُعتَدُ به قطعاً.
*الأهالي نت