الشورى والاستبداد
الأستاذ ياسين عبد العزيز عضو الهيئة العليا للإصلاح
تضيق روح الاستبداد بالشورى الحقة لأنها تقدم رأي الأمة العاقلة على استبدادهم في الأمر ، وتجعل كلمتها الجماعية العادلة هي المتبوعة والمسموعة في الجملة وهم التابعون في القوامة عليهم وهو القوامون على أمرها برأي جميعها ، أو مجموعها وهم المنقذون لأمرها فيها والأجراء عندها فلا خيره لهم من أمرهم فيها إلا بإذنها وقرارها ، كما أن الطرفين لا خيرة لهم من أمرهم كلهم إلا بإذن الله عز وجل وأمره لأنه ذو الخلق والأمر فهم لأمره وأمر رسوله تبع .
والشورى هي نقبض التفرد بالأمر دون الأمة ولهذا فلا غرابة أن تناهض الشورى مبكرة من قبل أبتلو بالاستبداد من الولاة قبل مناهضة غيرها من قواعد الإسلام وفرائضه في أمة التوحيد حيث شرع بعض ولاة أمر المسلمين يستجيرون الطبائع القيصرية والكسروية ، ويدخلون على أمة التوحيد ، وفي معدة حكمها وخز الشيطان وعضه فتوالى تعوديها من الناحية السياسية والحكمية على قتل هذا الدخن ، حتى ظن البعض أن كل شيء في تلك العهود حسن .
أجل : فقد ُسودت صحائف بالحديث عن الحكم الوراثي في الأمة الإسلامية مغفلة أهم ما هُدم من قواعد الحكم النبوي الجماعي ، وأخذ الحديث عن الشورى شكلاً متعرجاً يقضي في غايته بضوابط لها ، مفصلة على قدر أسرة بعينها ، أو قبيلة في الحكم لا يتقدم دونها جنس أو قبيل .
كما تدب بعض الكتاب أنفسهم لتبرير كثير من صورالاستبداد ، فمسوا قاعدة الشورى مساً خفيفاً وبأيد حريرية وكأنها من المباحات التي للحكام فيها الخيار ، فإن شاءوا استفادوا منها وإن شاءوا زهدوا فيها وذلك خوفاً من غضبه العصبية السياسية المضرية لحكام المسلمين ، وخشية أن ينزعج مستبعدوهم ، فتحدث الكارثة وتحصل المفسدة التي على المحكومين أكثر وتضاعف استبدادهم بأمور الأمة أعظم .
فإن يشاور الولاة في قضايا صغيرة ليرضوا بذلك بعض أهل العلم فلا بأس إما أن يشاوروا المسلمين في الأمر الأعظم والشأن الأكبر وهو الولايات فدونها خرط القتاد وحصون أرم ذات العماد ، لان الولايات العامة إما أن يتوارثها نسب ، خلفه عمن سلفه أو يقفز عليها مغرور جبراً على الأمة وهكذا مرت أمة التوحيد متداولة في الجملة بين هاتين الولايتين عبر الحكم العاض ، وأشد منه عبر الحكم الجبري العصري لا تشاور في أمرها هذا على عظمته وأهميته ، ولا بأس أن يشاور المستبد مقربيه وتابعيه فيما يعضد استبداده ويديم جوره ويحفظ ميراثه ويحوطه من ورائه .. ومن بين يديه وعن يمينه وعن شماله إلى قيام ساعته وساعة سدنته وبطانته ،غير أن فضل اله عز وجل على أمة التوحيد ، وعلى الإنسانية كلها عظيم ، أن بقيت الهيمنة للإسلام في بقية شئون الحياة في الجملة عهد الحكم العاض العثير الذي كان كسرت له يد ورجل وبقي على الآخرين منهما ، في الكثير من أحواله .
على أن حكام هذه الحقب التاريخية في أمة التوحيد ليسوا القدوة فيما ضربوه للناس سوءاً ، بل القدوة هي النبوة والخلافة الراشدة .
إلا أنا لا ننسى أن لهؤلاء الحكام جوانب معروفة يستفاد منها ، وأخرى منكرة يجب أن تتحاشى ، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح ( يصلون لكم ، فإن صابوا فلكم ولهم ، وإن أخطأوا فلكم وعليهم ) وقوله صلى الله عليه وسلم لحذيفة بن اليمان من حديث طويل ومتفق عليه سأله بقوله : ( وهل بعد هذا الشر من خير ؟ ) .
قال : نعم : وفيه دخن .
قلت : وما دخنه يا رسول الله ؟
قال: قوم تعرف له الكتاب والسنة من سلوكهم بأنه معروف قبلناه وما أنكر ناه رددناه.
الشورى والحكم العادل:-
الشورى هي إحدى حواس الحكم الجماعي العادل التي يدرك بها ولاة ما خفي من حلول الإشكال ، ويستظهرون بها ما غمض من شئون الحياة ، ويستكشفون بها ما التبس من الحق بالباطل ، والصواب بالخطأ وذلك تلا قح الأفكار كما يلهمون سداد القول من خلال تبادل الآراء .
ومشاورة ولاة الأمر أهل شورى كل قضية إنما تجري مجرى الحكمة التي تعتبر ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها.
فتلمس ولي الأمر للحكمة إنما يتأتى له من خلال الاستشارة لأهل الفطنة لخفايا الأمور، ولمن لهم اختصاص ومراس يجيدون استنباط الرأي ، وانتزاعه من ثنايا علل الإشكال ووقائع الأحوال .
كما يلمس صواب الرأي من الوسط الاجتماعي المؤمن الواعي، الذي تتصعد منه الآراء بروحها الآراء بروحها كالبذرات بثمراتها .
فإن الجماعة غالباً ما تكون مظنة الصواب والفرد غالبا ما يكون مظنة الزلل ، الجامعة مظنة الرحم ، والفرد غالباً ما يكون مظمنة الرحم ، والفرد منظنة السخطة ففي لحديث ( يد الله مع الجماعة ) صحيح رواه الترمذي عن ابن عباس وأخرجه البيهقي عن ابن عميره .
وفي آخر ( إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله بها رضوانه إلى يوم القيامة وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم القيامة ) صحيح رواه مالك ، وأحمد والترمذي وغيرهما عن بلال بن الحارث ، والأمة العاقلة تعتبر بالنسبة لأولياء الأمور عامل مراجعة ومناصة تتضح بآرائها جميع أوجه الحل بينما لا يتضح برأي الفرد سوى وجه واحد إن قدر له موافقة الحل ( وقد يكون هو ناب الفيل من الفيل كله ) والناس معادن ، ونفاسة الرأي بنفاسة المعدن والمرء لا يدي أي الناس نفيس المعدن لذا جعل الله عز وجل مواطن الشورى كل الناس ( وأمرهم شورى بينهم )( وشاورهم في الأمر ) من غير استثناء لأحد من عقلاء المسلمين .
كيفية تنزيل الشورى على الأمة
الشورى تتحتم على ولاة الأمور وتتنزل على الأمة ، حسب مساس الأمور بها كلها أو بعضها ، فإن كان يمسها كلها لزمت مشورتها كلها وذلك كالولايات العامة أو النفير فلا يجزئ سوى مشورة الكافة .
وإن كان يمس بعضها لزمت مشورته كالأمر الذي يهم أهل المحلة أو يعني أهل القرية أو أهل الاختصاص والمجال الواحد في الحياة النظرية أو العملية.
واستخلاص الآراء ينبغي أن يكون على وجه لا تحرم به الأمة رأي عاقل ولا حكمة حكيم ولا يستأ خر رأي أريب وإن لم يؤبه له فلعل الصيد في جوف الفراء ، لا يستقدم رأي على آخر استخفافاً بل الانتقاء إنما يكون لما يرجع فيه السداد والحكمة وإجماع الآراء على حل ما فيما أشكل أو اتفاق أغلبها عليه يعد من الحكمة .
وهكذا فالشورى تعم ، وتخص ، وتتركز ، وتتسع ، وتتحد ، وتتنوع . فهي عمامة كما في الولايات العامة والنفير العام لدفع عدو وغيره ففي مثل هذه الحال لا تجزئ إلا من الكافة أو المعظم ثم هي تخص الحال فتخص من يهمهم الأمر أو أهل الاختصاص أو المساس وهكذا فيلتمس صواب الحل عند من لهم الحق في أن يستشاروا والآية تشمل الوجهين ، تعم الجهتين قوله تعالى ( وأمرهم شورى بينهم ) وقوله جل ذكره ( وشاورهم في الأمر ) تتنزل على الأمة حسب ما يهم الكافة أو الخاصة ولا تجزئ إلا على هذا الوجه .
والوهم الذي يتبادر إلى الذهن إن الداعي الوحيد للشورى فيما لا نص فيه إنما هو في الولاية الكبرى فحسب ، انتقاء وتعيينا وتخطيطاً وإرادة وتسيير ، فتلزم حينئذ في تعيين الوالي العام فقط دون الولايات الأخرى ، لأنها مسؤولية على بعض شأن الأمة فقط وليس على جميعه ، وما كان كذالك فيستبد بتعيينه ولي الأمر العام دون مشاورة من الوالي عليهم ، ودون استشارة من لهم دراية بحالة ، أعدل هو أم لا ، أعالم بما سيتولى أم جاهل ، أتقي هو أم فاجر، ممالا بد منه للولاية .
هذا الوهم ندفعه بمنطوق ومفهوم الآيات، والأحاديث الصحاح التي تلزم كل ولي أمر لم يمنح من الأمة حتى التعيين والتوظيف بالشورى فيمن يعيين وفي تحديد اختصاصه ومجاله ووظيفته سواء كانت صغيرة أو كبيرة.
فإذا كان من الواجب على ولي الأمر أن يرد حل ما أشكل عليه من أمور الحياة إلى الكتاب والسنة فيما نصا عليه ، فإنه يتحتم عيه أيضاً أن يرجع حل إشكال ما لم ينصا عليه إلى الأمة ليرى فيه أصحاب الأهلية منها وأصحاب الاختصاص والمساس الحل الأصوب الجالب للمصلحة والدارئ للمفسدة ، والرأي الأوفق والموافق للقاعدة ، فإن لم يجد الحل عند الأمة أو ولي على من ليسوا أهلاً للرأي وهذا من النادر كان له أن يجتهد رأيه من غير تقصير في تحصيل مصلحة لمن ولي عليهم ودرء المفسدة عنهم : وكلا الحاليين الجماعي الذي مبعثه الشورى والفردي يجب أن يكونا أشبه بالنص ، أو القاعدة الرعية مما يرمي إلى تحصيل مصلحة أو تكميلها أو إلى تعليل مفسدة أو تعطيلها : لأن الشرع الحكيم لا يأذن للجماعة ، وللفرد بالخروج عن براهينه وموازينه وقواعده ومقاصده .
فلا بد وأن يمت كل رأي إليها بصلة.
وما دام رأي الجماعة أو الفرد يدوران فيما لا نص فيه وتحصيل المصالح أو تكميلها أو تعطيل المفاسد وتقليلها : فهما المقبولان فإذا خرجا عنها فهما المردودان عليه ورأي ولي الأمر الفرد إن خالف رأي الجماعة قدم عليه رأي الجماعة ، لأن رأي الجماعة أقرب إلى الدليل الشرعي أو القاعدة الشرعية في الغالب .
وأما إقراره صلى الله عليه وسلم لمعا ذ في اجتهاده الفردي دون رده للجماعة فلأنه لم تكن جماعة مسلمة ذات أهلية آنذاك في اليمن يرد إليها حل ما لم يجد فيما عنده من نصوص الكتاب والسنة.
والاجتهاد الفردي من ولي الأمر مطلوب، ومقبول عند عدم وجود نص أو عدم استحضاره وعند غياب أهل المشورة والرأي.
لأنه متى أنعدم النص تعلق بذمة ولي الأمر واجب المشورة للأمة فيما يهمها ولذوي الأهلية منها لا محالة ، فالمشورة لأهل المشورة في الأمة تكليف واجب يتعلق بذمة ولي الأمر مباشرة حالة انعدام الدليل الصريح فهو حق شرعي عام ثابت للأمة في الجملة تارة وفي التفصيل أخرى يضمن ولي الأمر مباشرة حالة انعدام الدليل الصريح ، فهو حق شرعي عام ثابت إذا تعمد تفويته عليها .
ولا يعتد رأيه الذي قطع به دونها استبدادا بأمرها ، حتى إذا أنتج عن استبداده برأيه في أمرها مفسدة أو مضرة بمصلحتها العامة كان الضامن لما فرط في عقيدتها ، أو نفسها ، أو عقولها أو تصوراتها أو عقائدها ، أو مسالكها ، أو أعراضها أو أموالها أو أوطانها ، وتخيل بذلك عقد ولايته ما لم يراجع وصلح ما أفسده ويرتق ما فتق .
ومشورة ولي الأمر للأمة فيما يعنيها واجب شرعي يتعلق بذمته ما أمكن فيحث كان الإمكان تعلق به الحكم .
والله عز وجل حين قال : ( وأمرهم شورى بينهم ) إنما ذكر حال الإمكان الذي يتعلق به الحكم كواجب على الولاة ، وحق للأمة ، وهو الركن الذي يشترط توافره لمتعلقاته فيهم جماعة متوافرة العدد متأهله للخطاب الجماعي ، تسمو بإيمانها أن يستبد بالحكم والأمر فيها فرد أو أفراد دون مشاورتها وتترفع بقواها أن تخرج عن النص إلى رأيها الجماعي وتتحرز بعبادتها البد نية والمالية من سورة الغضب ، وطبع الاستبداد والانتصار للنفس أو الرأي فهي من شيمتها الغفران ، فإذا ما انتصرت وعلى حد قوله تعالى ( جزاء سيئة سيئه مثلها ) وهي تستحب الأجر بالعفو على الأخذ بالعقوبة كل هذا مصداَقاً لقوله جل ذكره ( فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا ، وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ، والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون ، والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون ، والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون ، والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون وجزاء سيئة سيئه مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين ، ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم ، ولمن صبر وغفر إن ذلك من عزم الأمور ) سورة الشورى آية (36-37-38-39-40-41-42-43-44) .
والله عز وجل : حين أمر رسوله صلى الله عليه وسلم المحاط بالعصمة ، والحفظ بمشاورة أهل الإسلام والإيمان والإحسان بقوله ( وشاورهم في الأمر ) إنما أمره بما هو ممكن وموجود وهم المؤمنون في الأمة ( محل الشورى وموضع الرأي ومكمن الحل فيما لا نص فيه ، مرجع ولي الأمر عندما تنعدم محل الشورى فاللازم أن يبذل ولي الأمر جهده في البحث عن سداد القول وصواب الرأي بعد التجرد من الهوى إلى الله عز وجل والله المعين ( أجتهد رأيي ولا آلو ) .
وقد جعل الله عز وجل ، الشورى مرنة متحققة بما ترتضيه الأمة من صيغة ، فكم الشورى يتعلق تنفيذه بالكافة من أهلها في الجملة فوجب على ولاة الأمر أ ن يشاورا أهلها وإلا يقطعوا دونهم برأي فردي .
وأحمد الصيغ ، وأسدها ، كان أقرب إلى تحقيق المقصود الشرعي من الشورى ، وعند مشورة الكافة مباشرة لا تعذر أخذ رأي عقلاء كل محلة ، أو طائفة من محمودي السيرة ومأموني السريرة ممن تنيبهم بإختيارها ، ورضاها عوضاً عنها على أن يستخلص هؤلاء النواب من الكافة الرأي في الأمر ليكون ذلك أوفق للوفاء بالمقصود من الشورى ولا يجوز للنائب أن يستبد بالرأي دون من أنابه إلا بتخويل ، ولا يقطع رأيا باسمه دون مشورته أو أن يعزو إلى أهل محلته ما لم يقولوه ، أو أن يستغل منصب النيابة لحرب دين الأمة وإفساد أخلاقها وانتهاك أعراضها أو إن تهاب أموالها وغواية عقولها ، إضلالها والتفريط في حقها وفي أوطانها .
فهو إن حاد الله عز وجل وضاد الدين وأخلاق الأمة وشرائعها ومصالحها ، أو أنفسها أو أضل عقولها أو أنتهك أعراضها أو استرخص حقها في أوطانها انعزل من منصب النيابة لأنه أخل بوجباته ، فيصير محلة شاغراً ، على أهل محلته ملؤها بسواه من أهل الرأي والتقوى والإصلاح وذلك ما لم يراجع فيصلح ما أفسد ويبني ما خرب .
وما كان للدولة من ولايات أو مقاطعات أو محافظات ، ونحوها من المسميات للمناطق العامة فإن أحمد صيغ الشورى وأسدها أن يختار أهل كل محلة فيها وأسرة أو قبيلة أو قرية أو عشيرة عنهم عدداً كافياً مناسباً يمثلونهم في مجلس الشورى في المحافظة ، أو المقاطعة أو الولاية من ذوي الرأي والتقوى ومن مأموني السيرة والسريرة وذلك ليضطلعوا باختيار أولياء أمور ولايتهم ، أو محافظتهم ، ومديرياتهم ولمحاسبة ذوي التقصير ولاختبار من يمثلهم في مجلس شورى الدولة العام الذي من وظائفه اختيار أحمد الصيغ ، وأسدها للحكم الجماعي العادل وولي الأمر العام للأمة .
*الاصلاح نت
الأستاذ ياسين عبد العزيز عضو الهيئة العليا للإصلاح
تضيق روح الاستبداد بالشورى الحقة لأنها تقدم رأي الأمة العاقلة على استبدادهم في الأمر ، وتجعل كلمتها الجماعية العادلة هي المتبوعة والمسموعة في الجملة وهم التابعون في القوامة عليهم وهو القوامون على أمرها برأي جميعها ، أو مجموعها وهم المنقذون لأمرها فيها والأجراء عندها فلا خيره لهم من أمرهم فيها إلا بإذنها وقرارها ، كما أن الطرفين لا خيرة لهم من أمرهم كلهم إلا بإذن الله عز وجل وأمره لأنه ذو الخلق والأمر فهم لأمره وأمر رسوله تبع .
والشورى هي نقبض التفرد بالأمر دون الأمة ولهذا فلا غرابة أن تناهض الشورى مبكرة من قبل أبتلو بالاستبداد من الولاة قبل مناهضة غيرها من قواعد الإسلام وفرائضه في أمة التوحيد حيث شرع بعض ولاة أمر المسلمين يستجيرون الطبائع القيصرية والكسروية ، ويدخلون على أمة التوحيد ، وفي معدة حكمها وخز الشيطان وعضه فتوالى تعوديها من الناحية السياسية والحكمية على قتل هذا الدخن ، حتى ظن البعض أن كل شيء في تلك العهود حسن .
أجل : فقد ُسودت صحائف بالحديث عن الحكم الوراثي في الأمة الإسلامية مغفلة أهم ما هُدم من قواعد الحكم النبوي الجماعي ، وأخذ الحديث عن الشورى شكلاً متعرجاً يقضي في غايته بضوابط لها ، مفصلة على قدر أسرة بعينها ، أو قبيلة في الحكم لا يتقدم دونها جنس أو قبيل .
كما تدب بعض الكتاب أنفسهم لتبرير كثير من صورالاستبداد ، فمسوا قاعدة الشورى مساً خفيفاً وبأيد حريرية وكأنها من المباحات التي للحكام فيها الخيار ، فإن شاءوا استفادوا منها وإن شاءوا زهدوا فيها وذلك خوفاً من غضبه العصبية السياسية المضرية لحكام المسلمين ، وخشية أن ينزعج مستبعدوهم ، فتحدث الكارثة وتحصل المفسدة التي على المحكومين أكثر وتضاعف استبدادهم بأمور الأمة أعظم .
فإن يشاور الولاة في قضايا صغيرة ليرضوا بذلك بعض أهل العلم فلا بأس إما أن يشاوروا المسلمين في الأمر الأعظم والشأن الأكبر وهو الولايات فدونها خرط القتاد وحصون أرم ذات العماد ، لان الولايات العامة إما أن يتوارثها نسب ، خلفه عمن سلفه أو يقفز عليها مغرور جبراً على الأمة وهكذا مرت أمة التوحيد متداولة في الجملة بين هاتين الولايتين عبر الحكم العاض ، وأشد منه عبر الحكم الجبري العصري لا تشاور في أمرها هذا على عظمته وأهميته ، ولا بأس أن يشاور المستبد مقربيه وتابعيه فيما يعضد استبداده ويديم جوره ويحفظ ميراثه ويحوطه من ورائه .. ومن بين يديه وعن يمينه وعن شماله إلى قيام ساعته وساعة سدنته وبطانته ،غير أن فضل اله عز وجل على أمة التوحيد ، وعلى الإنسانية كلها عظيم ، أن بقيت الهيمنة للإسلام في بقية شئون الحياة في الجملة عهد الحكم العاض العثير الذي كان كسرت له يد ورجل وبقي على الآخرين منهما ، في الكثير من أحواله .
على أن حكام هذه الحقب التاريخية في أمة التوحيد ليسوا القدوة فيما ضربوه للناس سوءاً ، بل القدوة هي النبوة والخلافة الراشدة .
إلا أنا لا ننسى أن لهؤلاء الحكام جوانب معروفة يستفاد منها ، وأخرى منكرة يجب أن تتحاشى ، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح ( يصلون لكم ، فإن صابوا فلكم ولهم ، وإن أخطأوا فلكم وعليهم ) وقوله صلى الله عليه وسلم لحذيفة بن اليمان من حديث طويل ومتفق عليه سأله بقوله : ( وهل بعد هذا الشر من خير ؟ ) .
قال : نعم : وفيه دخن .
قلت : وما دخنه يا رسول الله ؟
قال: قوم تعرف له الكتاب والسنة من سلوكهم بأنه معروف قبلناه وما أنكر ناه رددناه.
الشورى والحكم العادل:-
الشورى هي إحدى حواس الحكم الجماعي العادل التي يدرك بها ولاة ما خفي من حلول الإشكال ، ويستظهرون بها ما غمض من شئون الحياة ، ويستكشفون بها ما التبس من الحق بالباطل ، والصواب بالخطأ وذلك تلا قح الأفكار كما يلهمون سداد القول من خلال تبادل الآراء .
ومشاورة ولاة الأمر أهل شورى كل قضية إنما تجري مجرى الحكمة التي تعتبر ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها.
فتلمس ولي الأمر للحكمة إنما يتأتى له من خلال الاستشارة لأهل الفطنة لخفايا الأمور، ولمن لهم اختصاص ومراس يجيدون استنباط الرأي ، وانتزاعه من ثنايا علل الإشكال ووقائع الأحوال .
كما يلمس صواب الرأي من الوسط الاجتماعي المؤمن الواعي، الذي تتصعد منه الآراء بروحها الآراء بروحها كالبذرات بثمراتها .
فإن الجماعة غالباً ما تكون مظنة الصواب والفرد غالبا ما يكون مظنة الزلل ، الجامعة مظنة الرحم ، والفرد غالباً ما يكون مظمنة الرحم ، والفرد منظنة السخطة ففي لحديث ( يد الله مع الجماعة ) صحيح رواه الترمذي عن ابن عباس وأخرجه البيهقي عن ابن عميره .
وفي آخر ( إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله بها رضوانه إلى يوم القيامة وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم القيامة ) صحيح رواه مالك ، وأحمد والترمذي وغيرهما عن بلال بن الحارث ، والأمة العاقلة تعتبر بالنسبة لأولياء الأمور عامل مراجعة ومناصة تتضح بآرائها جميع أوجه الحل بينما لا يتضح برأي الفرد سوى وجه واحد إن قدر له موافقة الحل ( وقد يكون هو ناب الفيل من الفيل كله ) والناس معادن ، ونفاسة الرأي بنفاسة المعدن والمرء لا يدي أي الناس نفيس المعدن لذا جعل الله عز وجل مواطن الشورى كل الناس ( وأمرهم شورى بينهم )( وشاورهم في الأمر ) من غير استثناء لأحد من عقلاء المسلمين .
كيفية تنزيل الشورى على الأمة
الشورى تتحتم على ولاة الأمور وتتنزل على الأمة ، حسب مساس الأمور بها كلها أو بعضها ، فإن كان يمسها كلها لزمت مشورتها كلها وذلك كالولايات العامة أو النفير فلا يجزئ سوى مشورة الكافة .
وإن كان يمس بعضها لزمت مشورته كالأمر الذي يهم أهل المحلة أو يعني أهل القرية أو أهل الاختصاص والمجال الواحد في الحياة النظرية أو العملية.
واستخلاص الآراء ينبغي أن يكون على وجه لا تحرم به الأمة رأي عاقل ولا حكمة حكيم ولا يستأ خر رأي أريب وإن لم يؤبه له فلعل الصيد في جوف الفراء ، لا يستقدم رأي على آخر استخفافاً بل الانتقاء إنما يكون لما يرجع فيه السداد والحكمة وإجماع الآراء على حل ما فيما أشكل أو اتفاق أغلبها عليه يعد من الحكمة .
وهكذا فالشورى تعم ، وتخص ، وتتركز ، وتتسع ، وتتحد ، وتتنوع . فهي عمامة كما في الولايات العامة والنفير العام لدفع عدو وغيره ففي مثل هذه الحال لا تجزئ إلا من الكافة أو المعظم ثم هي تخص الحال فتخص من يهمهم الأمر أو أهل الاختصاص أو المساس وهكذا فيلتمس صواب الحل عند من لهم الحق في أن يستشاروا والآية تشمل الوجهين ، تعم الجهتين قوله تعالى ( وأمرهم شورى بينهم ) وقوله جل ذكره ( وشاورهم في الأمر ) تتنزل على الأمة حسب ما يهم الكافة أو الخاصة ولا تجزئ إلا على هذا الوجه .
والوهم الذي يتبادر إلى الذهن إن الداعي الوحيد للشورى فيما لا نص فيه إنما هو في الولاية الكبرى فحسب ، انتقاء وتعيينا وتخطيطاً وإرادة وتسيير ، فتلزم حينئذ في تعيين الوالي العام فقط دون الولايات الأخرى ، لأنها مسؤولية على بعض شأن الأمة فقط وليس على جميعه ، وما كان كذالك فيستبد بتعيينه ولي الأمر العام دون مشاورة من الوالي عليهم ، ودون استشارة من لهم دراية بحالة ، أعدل هو أم لا ، أعالم بما سيتولى أم جاهل ، أتقي هو أم فاجر، ممالا بد منه للولاية .
هذا الوهم ندفعه بمنطوق ومفهوم الآيات، والأحاديث الصحاح التي تلزم كل ولي أمر لم يمنح من الأمة حتى التعيين والتوظيف بالشورى فيمن يعيين وفي تحديد اختصاصه ومجاله ووظيفته سواء كانت صغيرة أو كبيرة.
فإذا كان من الواجب على ولي الأمر أن يرد حل ما أشكل عليه من أمور الحياة إلى الكتاب والسنة فيما نصا عليه ، فإنه يتحتم عيه أيضاً أن يرجع حل إشكال ما لم ينصا عليه إلى الأمة ليرى فيه أصحاب الأهلية منها وأصحاب الاختصاص والمساس الحل الأصوب الجالب للمصلحة والدارئ للمفسدة ، والرأي الأوفق والموافق للقاعدة ، فإن لم يجد الحل عند الأمة أو ولي على من ليسوا أهلاً للرأي وهذا من النادر كان له أن يجتهد رأيه من غير تقصير في تحصيل مصلحة لمن ولي عليهم ودرء المفسدة عنهم : وكلا الحاليين الجماعي الذي مبعثه الشورى والفردي يجب أن يكونا أشبه بالنص ، أو القاعدة الرعية مما يرمي إلى تحصيل مصلحة أو تكميلها أو إلى تعليل مفسدة أو تعطيلها : لأن الشرع الحكيم لا يأذن للجماعة ، وللفرد بالخروج عن براهينه وموازينه وقواعده ومقاصده .
فلا بد وأن يمت كل رأي إليها بصلة.
وما دام رأي الجماعة أو الفرد يدوران فيما لا نص فيه وتحصيل المصالح أو تكميلها أو تعطيل المفاسد وتقليلها : فهما المقبولان فإذا خرجا عنها فهما المردودان عليه ورأي ولي الأمر الفرد إن خالف رأي الجماعة قدم عليه رأي الجماعة ، لأن رأي الجماعة أقرب إلى الدليل الشرعي أو القاعدة الشرعية في الغالب .
وأما إقراره صلى الله عليه وسلم لمعا ذ في اجتهاده الفردي دون رده للجماعة فلأنه لم تكن جماعة مسلمة ذات أهلية آنذاك في اليمن يرد إليها حل ما لم يجد فيما عنده من نصوص الكتاب والسنة.
والاجتهاد الفردي من ولي الأمر مطلوب، ومقبول عند عدم وجود نص أو عدم استحضاره وعند غياب أهل المشورة والرأي.
لأنه متى أنعدم النص تعلق بذمة ولي الأمر واجب المشورة للأمة فيما يهمها ولذوي الأهلية منها لا محالة ، فالمشورة لأهل المشورة في الأمة تكليف واجب يتعلق بذمة ولي الأمر مباشرة حالة انعدام الدليل الصريح فهو حق شرعي عام ثابت للأمة في الجملة تارة وفي التفصيل أخرى يضمن ولي الأمر مباشرة حالة انعدام الدليل الصريح ، فهو حق شرعي عام ثابت إذا تعمد تفويته عليها .
ولا يعتد رأيه الذي قطع به دونها استبدادا بأمرها ، حتى إذا أنتج عن استبداده برأيه في أمرها مفسدة أو مضرة بمصلحتها العامة كان الضامن لما فرط في عقيدتها ، أو نفسها ، أو عقولها أو تصوراتها أو عقائدها ، أو مسالكها ، أو أعراضها أو أموالها أو أوطانها ، وتخيل بذلك عقد ولايته ما لم يراجع وصلح ما أفسده ويرتق ما فتق .
ومشورة ولي الأمر للأمة فيما يعنيها واجب شرعي يتعلق بذمته ما أمكن فيحث كان الإمكان تعلق به الحكم .
والله عز وجل حين قال : ( وأمرهم شورى بينهم ) إنما ذكر حال الإمكان الذي يتعلق به الحكم كواجب على الولاة ، وحق للأمة ، وهو الركن الذي يشترط توافره لمتعلقاته فيهم جماعة متوافرة العدد متأهله للخطاب الجماعي ، تسمو بإيمانها أن يستبد بالحكم والأمر فيها فرد أو أفراد دون مشاورتها وتترفع بقواها أن تخرج عن النص إلى رأيها الجماعي وتتحرز بعبادتها البد نية والمالية من سورة الغضب ، وطبع الاستبداد والانتصار للنفس أو الرأي فهي من شيمتها الغفران ، فإذا ما انتصرت وعلى حد قوله تعالى ( جزاء سيئة سيئه مثلها ) وهي تستحب الأجر بالعفو على الأخذ بالعقوبة كل هذا مصداَقاً لقوله جل ذكره ( فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا ، وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ، والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون ، والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون ، والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون ، والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون وجزاء سيئة سيئه مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين ، ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم ، ولمن صبر وغفر إن ذلك من عزم الأمور ) سورة الشورى آية (36-37-38-39-40-41-42-43-44) .
والله عز وجل : حين أمر رسوله صلى الله عليه وسلم المحاط بالعصمة ، والحفظ بمشاورة أهل الإسلام والإيمان والإحسان بقوله ( وشاورهم في الأمر ) إنما أمره بما هو ممكن وموجود وهم المؤمنون في الأمة ( محل الشورى وموضع الرأي ومكمن الحل فيما لا نص فيه ، مرجع ولي الأمر عندما تنعدم محل الشورى فاللازم أن يبذل ولي الأمر جهده في البحث عن سداد القول وصواب الرأي بعد التجرد من الهوى إلى الله عز وجل والله المعين ( أجتهد رأيي ولا آلو ) .
وقد جعل الله عز وجل ، الشورى مرنة متحققة بما ترتضيه الأمة من صيغة ، فكم الشورى يتعلق تنفيذه بالكافة من أهلها في الجملة فوجب على ولاة الأمر أ ن يشاورا أهلها وإلا يقطعوا دونهم برأي فردي .
وأحمد الصيغ ، وأسدها ، كان أقرب إلى تحقيق المقصود الشرعي من الشورى ، وعند مشورة الكافة مباشرة لا تعذر أخذ رأي عقلاء كل محلة ، أو طائفة من محمودي السيرة ومأموني السريرة ممن تنيبهم بإختيارها ، ورضاها عوضاً عنها على أن يستخلص هؤلاء النواب من الكافة الرأي في الأمر ليكون ذلك أوفق للوفاء بالمقصود من الشورى ولا يجوز للنائب أن يستبد بالرأي دون من أنابه إلا بتخويل ، ولا يقطع رأيا باسمه دون مشورته أو أن يعزو إلى أهل محلته ما لم يقولوه ، أو أن يستغل منصب النيابة لحرب دين الأمة وإفساد أخلاقها وانتهاك أعراضها أو إن تهاب أموالها وغواية عقولها ، إضلالها والتفريط في حقها وفي أوطانها .
فهو إن حاد الله عز وجل وضاد الدين وأخلاق الأمة وشرائعها ومصالحها ، أو أنفسها أو أضل عقولها أو أنتهك أعراضها أو استرخص حقها في أوطانها انعزل من منصب النيابة لأنه أخل بوجباته ، فيصير محلة شاغراً ، على أهل محلته ملؤها بسواه من أهل الرأي والتقوى والإصلاح وذلك ما لم يراجع فيصلح ما أفسد ويبني ما خرب .
وما كان للدولة من ولايات أو مقاطعات أو محافظات ، ونحوها من المسميات للمناطق العامة فإن أحمد صيغ الشورى وأسدها أن يختار أهل كل محلة فيها وأسرة أو قبيلة أو قرية أو عشيرة عنهم عدداً كافياً مناسباً يمثلونهم في مجلس الشورى في المحافظة ، أو المقاطعة أو الولاية من ذوي الرأي والتقوى ومن مأموني السيرة والسريرة وذلك ليضطلعوا باختيار أولياء أمور ولايتهم ، أو محافظتهم ، ومديرياتهم ولمحاسبة ذوي التقصير ولاختبار من يمثلهم في مجلس شورى الدولة العام الذي من وظائفه اختيار أحمد الصيغ ، وأسدها للحكم الجماعي العادل وولي الأمر العام للأمة .
*الاصلاح نت