مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
نجوم في سماء الخير
د. سمير يونس
وَرَدَتْ في كتاب «الوزراء» للصباني، وكتاب «المنتظم» لابن الجوزي، قصة مفادها، أن ابن الفرات الوزير كان يتتبع أبا جعفر بن بسطام بالأذى، ويقصده بالمكاره، فلقي من ذلك شدائد كثيرة. وكانت أم جعفر قد عودته - منذ كان طفلاً - أن تجعل له في كل ليلة تحت مخدته التي ينام عليها رغيفاً من الخبز، فإذا كان من غد تصدقت به عنه، وبعد مدة من أذى ابن الفرات لأبي جعفر دخل الأخير إلى ابن الفرات في شيء احتاج إليه فيه، فقال له ابن الفرات: لك مع أمك خبز في رغيف؟ قال: لا. فقال: لا بد أن تصْدقني، فذكر أبو جعفر الحديث، فحدثه به على سبيل التطايب بذلك من أفعال النساء، فقال ابن الفرات: لا تفعل، فإني بتُّ البارحة وأنا أُدَبِّر عليك تدبيراً لو تمَّ لاستأصلتك، فنمتُ فرأيتُ في منامي كأن بيدي سيفاً مسلولاً، وقد قصدتك لأقتلك به، فاعترضتني أمك بيدها رغيف تُتَرسك به مني، فما وصلت إليك، وانتبهت. فعاتبه أبو جعفر على ما كان بينهما، وجعل ذلك طريقاً إلى استصلاحه، وبذل له من نفسه ما يريده من حُسن الطاعة، ولم يبرح حتى أرضاه، وصارا صديقين، وقال له ابن الفرات: والله، لا رأيت مني بعدها سوءاً أبداً. كان عنوان المقال الماضي هو: «وافعلوا الخير»، وفيه تناولت تأصيل فعل الخير وأهميته، وضرورة المبادرة والمسارعة إلى تحقيقه، ثم بينت ثماره المبتغاة. ومعلوم - في مجال التربية - أن لسِيَر الأنبياء والصحابة والصالحين أثرها التربوي الفعال، وخاصة أن الله سبحانه أمرنا أن نتأسى بهم في صناعة الخير، ومن ثم فلا شك في أن ذلك له نفع عظيم. الأنبياء وصناعة المعروف الأنبياء هم أسرع الناس إلى طاعة الله تعالى، فهم الذين قضوا حياتهم في دعوة الناس إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. فها هو ذا إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام، بلغ هذه المنزلة بصناعة المعروف، فقد روى البيهقي في الشعب بسنده إلى عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي [ قال: «يا جبريل، لِمَ اتخذ الله إبراهيم خليلاً؟ قال: لإطعامه الطعام يا محمد». وهذا موسى عليه السلام، يحكي عنه ربه في سورة القصص: ( وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ 23 فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ 24 ) (القصص). وورد في القرآن الكريم على لسان عيسى عليه السلام: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا 30 وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا 31 وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا 32 (مريم). فقد روى أبو نعيم وغيره بسنده عن النبي [ أنه قال في تفسيره لقوله تعالى: {$ّجّعّلّنٌي مٍبّارّكْا}، أي: «جعلني نفَّاعاً للناس أين اتجهت». وهكذا كان رسولنا الكريم محمد [، فقد سئلت السيدة عائشة رضي الله عنها: هل كان النبي [ يصلي وهو قاعد؟ قالت: «نعم بعدما حطمه الناس، أي بكثرة حوائجهم» (رواه مسلم). ويروي عبدالله بن جعفر أن رسول الله [ دخل ذات يوم حائطاً لرجل من الأنصار، فإذا جمل، فلما رأى النبي [ حنَّ وذرفت عيناه، فأتاه النبي [، فمسح ذفراه فسكت، فقال: «مَنْ ربُّ هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟»، فجاء فتى من الأنصار، فقال: لي يا رسول الله، فقال: «أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي مَلَّكك الله إياها؟ فإنه شكا إليّ أنك تُجيعه وتدئبه»(رواه أبو داود). وقد صدق الشاعر حين قال عنه [: تراه إذا ما جئته متهللاً كأنما تعطيه الذي أنت سائله لو لم يكن في كفه إلا روحه لجاد بها فليتق الله سائله نماذج من السلف الصالح كان سلفنا الصالح عمالقة في ميادين الخير، يبادرون في الخيرات، راجين إرضاء ربهم، وقد ضربوا لنا أروع الأمثلة في صناعة الخير والمعروف. فإذا ذُكر الإنفاق ذُكر أبو بكر الصديق ]، وعمر ، وعثمان، وعلي، والزبير، وعبدالرحمن بن عوف، وغيرهم، وأمهات المؤمنين والصحابيات... وهو أمر يطول شرحه وتفصيله. فها هو ذا أبو بكر الصديق ] حينما تولى الخلافة، يأتي كل يوم بيتاً في عوالي المدينة تسكنه عجوز عمياء، فينضج لها طعامها، ويكنس لها بيتها، وهي لا تعلم مَنْ هو، وكان ينافسه في ذلك عمر بن الخطاب ]. (أسد الغابة: 3/327). ولما ولي عمر الخلافة، خرج يتحسس أخبار المسلمين، فوجد أرملة وأيتاماً عندها يبكون، يتصاغون من الجوع، لم يلبث أن غدا إلى بيت مال المسلمين، فحمل وقر طعام على ظهره، وانطلق فأنضج لهم طعامهم، فما زال بهم حتى أكلوا وضحكوا. (الرياض النضرة: 1/385). ومن رحمة عثمان بن عفان ]، مع كبر سنه، وعُلو مقامه أنه كان يأخذ الوضوء لنفسه إذا قام من الليل، فقيل له: لو أمرت الخادم فكفاك، فقال: «لا، الليل لهم يستريحون فيه». وبعث معاوية بن أبي سفيان ] إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، بمائة ألف، ففرقتها من يومها، فلم يبق منها درهم، فقالت لها خادمتها: هلا أبقيت لنا درهماً نشتري به لحماً لتفطري عليه؟ فقالت: «لو ذكَّرتني لفعلت» (البداية والنهاية لابن كثير: 8/136، 137). وكان علي زين العابدين من سكان المدينة، وكان أناس منها لا يدرون من أين معايشهم، فلما مات فقدوا ذلك الذي كانوا يؤتون بالليل، ولما غسَّلوا علي زين العابدين وجدوا بظهره أثراً مما كان ينقله بالليل إلى بيوت الأرامل. (سير أعلام النبلاء: 4/393). وهذا عبدالله بن المبارك كان ينفق من ماله على الفقهاء، وكان مَنْ أراد الحج من أهل «مرو» إنما يحج من نفقة ابن المبارك، كما كان يؤدي عن المديون دينه، ويشترط على الدائن ألا يخبر مدينه باسمه. (سير أعلام النبلاء: 8/386). وكان عامر بن عبدالله التميمي إذا فصل غازياً يتوسم من يرافقه، فإذا رأى رفقة تعجبه اشترط عليهم أن يخدمهم، ويؤذن فيهم، وأن ينفق عليهم طاقته. (سير أعلام النبلاء: 4/117). وبلغت الرحمة من «أويس القرني» مبلغاً كان معه إذا أمسى تصدق بما في بيته من الفضل من الطعام والثياب، ثم يقول: «اللهم من مات جوعاً فلا تؤاخذني به، ومن مات عرياناً فلا تؤاخذني به» (صفوة الصفوة: 3/27). وكان الفضيل بن عياض يرى أن المعروف لا يكتمل إلا أن ترى المنة لأخيك عليك إذا أخذ منك شيئاً، لأنه لو أخذه منك ما حصل لك الثواب، وأيضاً فإنه خصك بالسؤال، ورجا فيك الخير دون غيرك»(تنبيه المغتربين: ص 138). وفوق ذلك كان بعضهم يجعل الصدقة في يده، ويدعو الفقير لتناولها، لتكون يد الفقير هي العليا، ويد المتصدق هي السفلى، إذ الفقير بقبول صدقتك يصلح لك دينك، وأنت بإعطائه صدقتك تصله له دنياه، فيصبح له الفضل عليك. وهذا سفيان بن عيينة جاءه مديون يسأله العون على قضاء حاجته، فأعانه، ثم بكى، فقالت له زوجته: ما يبكيك، فقال: أبكي أن احتاج أخي فلم أشعر بحاجته حتى سألني. وأتى سائل إلى ابن جريج المكي فسأله، فقال ابن جريج لخازنه: أعطه ديناراً، فقال: ما عندي إلا دينار، إن أعطيته جُعت وعيالك. قال: فغضب وقال: أعطه. فإذا برجل معه كتاب وصرة، بعث بهما بعض إخوان ابن جريج، وفي الكتاب: إني قد بعثت خمسين ديناراً، فحل ابن جريج الصرة فعدَّها، فإذا هي واحد وخمسون ديناراً، فقال ابن جريج لخازنه: قد أعطيت واحداً، فرده الله عليك وزادك خمسين ديناراً. (ذكره الترمذي). وحينما كان الصحفي الشهير مصطفى أمين، رئيس تحرير جريدة «الأخبار» المصرية سابقاً - يرحمه الله - مسجوناً سنة 1965م، صدر قرار بمنع الطعام والشراب عنه، لإجباره على تغيير مواقفه، وكان الجو حاراً جداً، وقد اشتد به العطش، وكان مريضاً بالسكر، ومريض السكر - كما هو معروف - يحتاج إلى كميات كبيرة من الماء.. وقيل: إنه في اليوم الأول شرب من ماء الاستنجاء الموجود في الحمام، وفي اليوم التالي وجد الإناء خالياً، لأنهم اكتشفوا أنه يشرب منه، فاضطر أن يشرب من ماء البول، وفي اليوم الثالث لم يجد بولاً يشربه، وبينما هو يتحرك كالمجنون في الغرفة بحثاً عن الماء، إذا به يرى باب الزنزانة يفتح بهدوء، ورأى يداً تمتد في ظلام الزنزانة تحمل كوب ماء مثلج!! وفي بداية الأمر تصور أنه حلم من أحلام اليقظة، أو هذيان وخيالات وتهيؤات، أو غيبوبة سكر، ولكنه مدّ يده ولمس الكوب، فوجد الماء بارداً، وإذ بالشخص الذي يحمل الكوب يضعه على فم الأستاذ مصطفى أمين، ويضع يده على فمه إشارة منه للأستاذ بألا يتكلم، حتى لا ينكشف أمر الحارس المجهول!! شرب الأستاذ مصطفى أمين كوب الماء البارد بسرعة، وقال: إنه ألذ كوب ماء شربه في حياته، ثم اختفى الحارس المجهول الذي أتاه بالماء بسرعة، ولكنه عرف ملامح وجهه، وعندما خرج في الغد للتريض خارج الزنزانة رآه، وعرفه، فهرع إليه ليسأله: لماذا فعلت ما فعلت؟ لو كانوا ضبطوك لفصلوك، فقال الحارس: بل لو رأوني لقتلوني رمياً بالرصاص، فسأله الأستاذ مصطفى أمين: ما الذي جعلك تقوم بهذه المغامرة؟ فأجابه الحارس: إنني أعرفك، ولكنك لا تعرفني.. منذ تسع سنوات تقريباً.. أرسل فلاح من الجيزة خطاباً لك يقول فيه: إنه فلاح من إحدى القرى، وأمنية حياته أن يشتري جاموسة، ليعيش هو وأولاده على خيرها، وأنه مكث سبع سنوات يقتصد في قوته وقوت عياله، حتى جمع مبلغاً، ثم باع ذهب زوجته، واشترى بالمبلغ جاموسة، وبعد أيام ماتت الجاموسة، وحزن عليها حزناً شديداً.. حكى لك ذلك الفلاح قصته، لتعطيه جاموسة بدلاً من تلك التي ماتت، وبعد ذلك بشهور دق باب البيت الصغير الذي يملكه ذلك الفلاح، فإذا بمحررة من جريدة «الأخبار»، تجر وراءها الجاموسة التي أهديتها أنت إياه، وهذا الفلاح الذي أهديت له الجاموسة منذ تسع سنوات هو أبي!! وهذا أحد شباب مدينة الرياض، بالمملكة العربية السعودية يقول: خرج والدي مسافراً بسيارته من الرياض إلى الدمام، وقبل خروجه ودَّع جدتي، وكانت بيدها «بطانية» (غطاء صوفي)، وأصرَّت أن يأخذها أبي ليحتمي بها من شدة البرد. وأثناء سير والدي بالسيارة ليلاً، وكانت الساعة تشير إلى الواحدة بعد منتصف الليل، وإذا بوالدي يرى سيارة معطلة، وبجوارها شخصان، أشارا لأبي أن يتوقف ففعل، فإذا بهما شخصان غريبان وافدان على المملكة، وقد تعطلت سيارتهما، وبدا عليهما أثر السفر والعناء، وكانا يشعران بشدة البرودة والجوع، فأعطاهما والدي طعاماً وشراباً، كما أعطاهما الغطاء الذي أصرت جدتي أن يأخذه معه للحماية من البرد، وطلب منهما الدعاء لأمه، فدعوا لأبي ولجدتي، وسُحبت سيارتهما إلى أقرب مكان لإصلاح المركبات، وساعد والدي في ذلك، وبعد أن اطمأن والدي على الرجلين واصل سفره. وبعد خمس سنوات كان والدي يسير في نفس الطريق ذاته إذا بسيارتنا تُعطل، ونحن مع أبي خمس من البنات وأمي، وفجأة وقفت بجانبنا سيارة ترغب في مساعدتنا، فقبل أبي المساعدة، وإذا يرى الشخصين اللذين ساعدهما الوالد قبل ذلك وفي الطريق ذاته!!
*المجتمع
أضافة تعليق