مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
رسالة من ساكب الدمع
د. سمير يونس
قال لي شاب ذات مرة: هل بكيت قبل ذلك من خشية الله؟ فأجبته: ادعُ الله لي ولك بصلاح القلب، وانسكاب الدمع، فبادرني قائلاً: عشت عمري كله أكره البكاء، وأعلم أنه حرقة وألم، ولكني ذقت حلاوته قريباً، فتمنيت ألا ينقطع إذا جاءني. شوَّقني الشاب إلى معرفة الخير، وأثار فضولي، فبادرته: إن لم يكن لديك حرج فقصّ عليّ من أمرك ما تشاء، فقال: لقد أسرفت على نفسي في المعاصي، ثم أفقت بعد عصيان طويل، ذلك فور علمي بوفاة صديق لي فجأة، بعد ليلة سهرناها معاً في معصية الله، فنظرت في أمره، وقارنت بين حالي وحاله، وتدبرت بعض آيات القرآن الكريم والأحاديث والسيرة، ثم نظرت فيما يحدث للبشر، فأفقت، وقلت في نفسي: حتماً ستبكي، إن لم تبكِ في الدنيا فستبكي في الآخرة، فدعوت الله أن يرزقني في الدنيا البكاء من خشيته، لعله يحصنني بذلك من البكاء، والحزن والفزع في الآخرة، كنت في بداية دعائي متجمد الأحاسيس، أشعر بقسوة قلبي، ولكنني كنت ألح في الدعاء على ربي، وأستحضر ذنبي، وأستغفر ربي، وكان يدفعني إلى ذلك ويشجعني عليه قول رسول الله [: «إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم»، وقوله [: «إن الله يحب العبد الملحاح».. فلما استعصت عليّ دموعي، نويت أن أحج هذا العام، وقد وفقني ربي فأديت فريضة الحج، ولن أنسى طوال حياتي مشهد الكعبة المهيب، فما أن وقع بصري عليها إلا وانسكبت دموعي وانهمرت، وجاشت أحاسيسي، ورجف قلبي وخشع، وساعتها شعرت بحلاوة هذا البكاء، ولأول مرة أجد في البكاء لذة وراحة، حتى تمنيت ألا تتوقف دموعي، وأن أظل بقية عمري في هذا الجو المفعم بالعبرات والدموع! لقد رأيت صدق التوبة في هذا الشاب، ولمست إقدامه على خالقه وشاهدته عياناً، حتى لقد تمنيت أن يرزقني الله وأهلي وأولادي وكل من أحببتهم هذه النعمة، كما دعوت له بأن يزيده الله عز وجل من رضاه. ولله درُّ الشاعر إذ يقول: ولا تضحك مع السفهاء يوماً فإنك سوف تبكي إن ضحكتا! ومن لك بالسرور وأنت رهن؟ وما تدري أتُفْدى أم غُلِلْتا؟! ولو بكت الدما عيناك خوفاً لذنبك لم أقل لك: قد أمِنْتا! ومن لك بالأمان وأنت عبد؟ أُمرت فما ائتمرت ولا أطعتا! أجل، ما أعذب الدموع من خشية الله، وأعظم بها نعمة، يقول أبو الفرج ابن الجوزي: «قطرة من الدمع على الخد أنفع من ألف قطرة على الأرض»(المدهش). وقد كان عبدالله بن عمر يقول: «لئن أدمع من خشية الله أحبُّ إليَّ من أن أتصدق بألف دينار»(إحياء علوم الدين). أرباح البكاء من خشية الله 1- الباكي في ظل العرش: فأنت تشعر بالنعمة شعوراً حقيقياً عندما تفقدها، أو تجد أضدادها، لذا فمن أعظم نعم الله تعالى على ساكب الدمع من خشية الله أنه يظله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، يوم تدنو الشمس من رؤوس العباد وبحرارتها الحارقة، ويلجم الناس في عرقهم حسب معصيتهم، هنالك يظل الله أصنافاً من الناس، ومن بين هؤلاء ساكبو الدمع من خشية الله، فقد ذكر الصادق المصدوق من بين السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: «ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه». هنيئاً لهذا الصنف من الناس - جعلنا الله منهم - فإنهم يتسلمون جائزة عظيمة على رؤوس العباد؛ لأن قلوبهم امتلأت خشية لربهم، ففاضت أعينهم بالدموع. 2- آمنون من عذاب الله: نعم، فالبكاؤون آمنون، إنها الدموع المباركة، لأنها تقي صاحبها من العذاب، وتحمي الأعضاء، يقول [: «عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله»(رواه الترمذي). يقول سفيان الثوري: «البكاء عشرة أجزاء، فواحد منها لله، والتسعة كلها رياء، فإذا جاء ذلك الجزء الذي لله تعالى في السنة مرة واحدة نجا صاحبه من النار إن شاء الله»(تنبيه المغتربين، ص 44). 3- البكاء يبشر صاحبه بحياة قلبه: فالقلب القاسي يدل على عينين يابستين، بينهما وبين البكاء خصومة، أما القلب المنيب الرقيق فيدفع صاحبه إلى الاستغفار والندم، فتجود عيناه بالدموع، لأنه قلب خاشع، لذا فمن الدعاء المأثور: «وأعوذ بك من قلب لا يخشع». 4- البكاء علامة التوبة الصادقة: فما ارتوى زرع التوبة قط إلا من جداول الحدق، لذا فمن مشاهدات يحيى بن معاذ وتفرساته أن علامة التائب إسبال الدمعة، وحب الخلوة. (صفوة الصفوة). وما أجمل قول الشاعر في ذلك: لتذرف دمعك المدرار حتى تعود الصحف بيضاء نقية فإن سقوط دمع العين سحاً دليل العفو من رب البرية 5- البكاء يبلغنا محبة الله: فعن أبي أمامة ] عن النبي [ قال: «ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين: قطرة دموع من خشية الله، وقطرة دم تهرق في سبيل الله. أما الأثران: فأثر في سبيل الله (الجهاد)، وأثر في فريضة من فرائض الله»(رواه الترمذي). وهذا يحيى بن معاذ يصوغ هذا الحب الجميل، وذلك المعنى الراقي المعبر في قوله: «من كان يريد القرب من المحبوب، فليكثر البكاء على المحبوب»(تنبيه المغتربين). 6- بالبكاء نفوز بحب الناس لنا: وذلك أن الله تعالى إذا أحب عبداً حبَّب فيه خلقه، إنسهم وجنهم، حيهم وجمادهم، فالكون والمخلوقات والأرض تطرب لشدوهم ودموعهم فتحبهم، يقول الشاعر: بكى الباكون للرحمن ليلاً وباتوا ليلهم لا يسأمونا بقاع الأرض من شوق إليهم تحنُّ متى عليها يسجدونا 7- المغفرة: يقول زيد الرقاش: «بلغني أن من بكى على ذنب من ذنوبه نسى حافظاه ذلك الذنب». ويقول مالك بن دينار: «البكاء على الخطيئة يحط الخطايا كما تحط الريح الورق اليابس». نحو علاج عملي لجفاف الدموع لا شك أننا جميعاً نتمنى البكاء من خشية الله، وفي كثير من الأحيان تجف الدموع، وتبخل العينان، ولعل الإنسان، إذا أخذ ببعض الوسائل التربوية الإيمانية بعد توفيق الله تعالى، استطاع أن يلين قلبه، ويبكي من خشية ربه.. وفيما يلي بعض الوسائل والأسباب التي يمكن من خلالها تحقيق ذلك بأمر الله تعالى. 1- التعمق في معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله: فمن عرف الله خافه ورجاه، ومن خافه ورجاه رق قلبه، ودمعت عينه. 2- المداومة على قراءة القرآن وتدبره: فلقد كان سلفنا الصالح يبكي عند الاستماع إلى القرآن الكريم، وكذلك عباد الله الصالحين، قال تعالى: {قٍلً آمٌنٍوا بٌهٌ أّوً لا تٍؤًمٌنٍوا إنَّ پَّذٌينّ أٍوتٍوا پًعٌلًمّ مٌن قّبًلٌهٌ إذّا يٍتًلّى عّلّيًهٌمً يّخٌرٍَونّ لٌلأّذًقّانٌ سٍجَّدْا >107< $ّيّقٍولٍونّ سٍبًحّانّ رّبٌَنّا إن كّـانّ $ّعًدٍ رّبٌَنّا لّمّفًعٍـولاْ >108< $ّيّخٌرٍَونّ لٌلأّذًقّـانٌ يّبًكٍـونّ $ّيّزٌيدٍهٍمً خٍشٍوعْا >1095841
أضافة تعليق