لقد اهتم رسولنا الكريم ’’صلى الله عليه وسلم’’ وصحابته الكرام رضي الله عنهم أجمعين وسلفنا الصالح يرحمهم الله بتربية أولادهم تربية تقوم على الإيمان والأدب والشجاعة والرجولة والإقدام، فاكتسبوا أدب الكلام، وحسن الخطاب، وجمال القول، كما اكتسبوا الشجاعة الفائقة، والبطولة النادرة، بفضل التربية الإيمانية القويمة، التي ربّوا عليها وتلقوها، كل ذلك وهم دون سن الحلم، حتى إذا بلغوا مبلغ الرجال كانوا هم الرجال. إن نفس الطفل كالمرآة، يظهر عليها كل ما يقابلها من صور، وعجينة لينة بين أيدينا تتشكل حسب الإناء الذي توضع فيه، لذا يجب على الآباء أن يختاروا لأبنائهم النشأة السوية البريئة الصالحة، التي ترتقي بهم إلى الهمم العالية وإلى مدارج الكمال. إن نجابة الأبناء وصلاحهم هما أمنية كل أب، وكل أم، بل هي همُّ الوالدين مدى الحياة. ولله درُّ الشاعر حين قال: نعم الإله على العباد كثيرة وأجلُّهن نجابة الأبناء نجابة عبدالله بن عمر وأدبه: روى البخاري وغيره عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما - وكان دون الحلم - أن رسول الله ’’صلى الله عليه وسلم’’ قال: «إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، فحدثوني ما هي؟»، فوقع الناس في شجر البوادي. قال عبدالله: ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت، ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: «هي النخلة». وفي رواية فأردت أن أقول: «هي النخلة، فإذا أنا أصغر القوم». وفي رواية: «ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان، فكرهت أن أتكلم، فلما قمنا حدثت أبي بما وقع في نفسي، فقال: لأن تكون قلتها أحب إليّ من أن يكون لي حُمُر النعم». ابن عمر بن عبدالعزيز رأى عمر بن عبدالعزيز ’’رضي الله عنه’’ ولداً له في يوم عيد، وعليه ثوب خلق - أي قديم - فدمعت عيناه، فرآه ولده، فقال: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ قال: يا بني، أخشى أن ينكسر قلبك إذا رآك الصبيان بهذا الثوب الخلق. قال يا أمير المؤمنين، إنما ينكسر قلب من أعدمه الله رضاه، أو عقّ أمه وأباه، وإني لأرجو أن يكون الله تعالى راضياً عني برضاك. فطنة أبي بكر في صغره روى أبو هريرة ’’رضي الله عنه’’ قال: اجتمع المهاجرون والأنصار رضي الله عنهم عند النبي ’’صلى الله عليه وسلم’’ فقال أبو بكر: وعيشك يا رسول الله ما سجدت لصنم قط، فغضب عمر رضي الله عنه، وقال: تقول: وعيشك يا رسول الله ما سجدت لصنم قط، وقد كنت في الجاهلية كذا وكذا سنة. فقال أبو بكر رضي الله عنه: إني لما ناهزت الحلم أخذ والدي أبو قحافة بيدي، وانطلق بي إلى مخدع فيه الأصنام، فقال لي: هذه آلهتك الشُّمُّ العُلا فاسجد لها، وخلاَّني وذهب، فدنوت من الصنم وقلت له: إني جائع فأطعمني فلم يجبني، فقلت: إني عطشان فاسقني، فلم يجبني، فقلت له: إني عار فاكسني، فلم يجبني، فأخذت صخرة وقلت: إني ملق عليك هذه الصخرة فإن كنت إلهاً فامنع نفسك، فلم يجبني، فألقيت عليه الصخرة فخرّ لوجهه، فأقبل والدي وقال: ما هذا يا بني؟ فقلت: هو الذي ترى، فانطلق بي إلى أمي، فأخبرها، فقالت: دعه فهذا الذي ناجاني به الله عز وجل، فقلت: يا أماه: ما الذي ناجاك به الله؟ فقالت: ليلة أصابني المخاض لم يكن عندي أحد، فسمعت هاتفاً يهتف - أسمع الصوت ولا أرى الشخص - وهو يقول: يا أمة الله على التحقيق أبشري بالولد العتيق اسمه في السماء الصديق لمحمد صاحب ورفيق قال أبو هريرة: فلما انقضى كلام أبي بكر نزل جبرائيل على النبي ’’صلى الله عليه وسلم’’، وقال: «صدق أبو بكر»، فصدّقه ثلاث مرات» (محمد بن ظفر، كتاب أنباء نجباء الأبناء). ونلاحظ من خلال هذا الموقف التربوي أن أبا بكر لم يكن مقلداً وفي الوقت ذاته كان حريصاً على حسن معاملة أبيه برغم أنه يأمره بالشرك والسجود للأصنام. كما نلحظ استخدام أبي بكر رضي الله عنه لعقله فاختبر الأصنام، وعندما تأكد أنها لا تضر ولا تنفع، بل لا تستطيع رد الضر عن نفسها، ولما سأله أبوه عما أحدثه في الأصنام، قائلاً: ما هذا يا بني؟ أجابه أبو بكر رضي الله عنه بقوله: هو الذي ترى. وبتحليل الموقف تربوياً أيضاً نلاحظ رقي الحوار وهدوءه، فبرغم دعوة الأب ابنه للشرك، فقد خالفته زوجته (أم الصديق) في الرأي، كما خالفه ابنه، فتقبل الوالد ذلك، مما يؤكد أن حرية الرأي كانت تمارس في هذا البيت العظيم الذي تخرج فيه أبو بكر الصديق رضي الله عنه وتربى.. أين نحن من هذا الحوار؟! لقد شاهدت في البرامج الحوارية - كالاتجاه المعاكس - مثلاً مشاجرات لا حوارات، تبدأ بعنف الكلام، يملؤها الصخب، وارتفاع الصوت، والغوغائية، والسب، والقذف، وقد يصل الأمر أحياناً إلى التطاول والاشتباك بالأيدي بين الفريقين. يقول الشيخ محمد الغزالي في كتابه «خلق المسلم»: «لا شك أن الإنسان يحزنه أي تهجم على شخصه أو على من يحب، وإذا واتته أسباب الثأر سارع إلى مجازاة السيئة بمثلها، ولا يقر له قرار إلا إذا أدخل الضيق على غريمه بقدر ما يشعر به هو نفسه من ألم.. ولكن هناك مسلكاً أنبل من ذلك وأرضى لله، وأدل على العظمة والمروءة، أن يبتلع غضبه فلا يتفجر، وأن يقبض يده فلا يقتص، وأن يجعل عفوه عن المسيء نوعاً من شكر الله تعالى الذي أقدره على أن يأخذ بحقه إذا شاء. وأنت إذا وجهت إلى شخص نقداً، ونظرت في وجهه وجدت فيه الكدر أو تصنُّع تقبل النقد، إلا من رحم ربي، وهذه ظاهرة توجب علينا أن نعيد النظر في تربية أولادنا وأنفسنا. وتنطق مواقف الحياة بسلوكيات عجيبة من بعض الأشخاص حين يغضبون، فلقد رأيت رجلاً يلعن حماراً كان يركبه، وجمح به، ورجلاً يضرب ساعته في صخرة فيكسرها لأن خبراً مزعجاً أتاه، وثالثاً يسب القلم لأنه لم يطاوعه عند الكتابة، وفي مصر يصفون هذه الأنماط من البشر الغضوبة الانفعالية بأنهم «يخانقون الذباب»!! وقد حدث أن رجلاً نازعته الريح رداءه، فلعنها، قال رسول الله ’’صلى الله عليه وسلم’’: «لا تلعنها فإنها مأمورة مسخرة، وإنه من لعن شيئاً ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه» (رواه الترمذي). إذن فالإهانات والشتائم تسقط على قاذفها قبل أن تصل إلى مرماها البعيد، وهذا المعنى يفسر لنا حلم هود عليه السلام، وهو يستمع إلى إجابة قومه بعدما دعاهم إلى توحيد الله، فقد ذكر القرآن الكريم أنه جاء على ألسنتهم أنهم قالوا: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ’’66’’ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ’’67’’ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ’’68’’} (الأعراف). وكان العرب - قبل الإسلام - يفخرون بعنفهم ضد من يجهل عليهم: ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا فجاء الإسلام ليربيهم على سيطرة العقل الراشد على غريزة الغضب. ومن هديه ’’صلى الله عليه وسلم’’ في التربية على الحلم وتجنب الغضب: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر» (رواه البخاري). وجاء أعرابي إلى رسول الله [ يريد أن يتعلم الإسلام، ولم تكن له معرفة سابقة بالنبي ’’صلى الله عليه وسلم’’، ولا بما يدعو إليه، قال الأعرابي - واسمه جابر بن سليم -: رأيت رجلاً يصدر الناس عن رأيه، لا يقول شيئاً إلا صدوراً عنه. قلت: من هذا؟ قالوا: رسول الله!! قلت: عليك السلام يا رسول الله!! قال: «لا تقل عليك السلام، عليك السلام تحية الميت، قل: السلام عليك!!». قال: قلت: أنت رسول الله؟ قال: «أنا رسول الله الذي إذا أصابك ضر فدعوته كشفه عنك، وإن أصابك عام سنة (جدب) فدعوته أنبتها لك، وإذا كنت بأرض قفر فضلت راحتلك فدعوته ردها عليك». قال: قلت: اعهد إليّ. قال: «لا تسبنَّ أحداً»، فما سببت بعده حراً ولا عبداً ولا بعيراً ولا شاة، قال: «ولا تحقرن شيئاً من المعروف، وإن تكلم أخاك وأنت منبسط إليه وجهك إن ذلك من المعروف»، ثم قال: «وإن امرؤ شتمك وعيرك بما لم يعلم فيك، فلا تعيره بما تعلم فيه، فإنما وبال ذلك عليه». يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: «إن اللعن قذيفة طائشة خطرة، يدفع إليها الغضب الأعمى أكثر مما يدفع إليها استحقاق العقاب، واستهانة الناس بهذه الدعوات الشداد لا تليق، لأنه لا يُفلت من وبالها أحد». فقد قال رسول الله ’’صلى الله عليه وسلم’’: «إن العبد إذا لعن شيئاً صعدت اللعنة إلى السماء، فتغلق أبواب السماء دونها، ثم تهبط الأرض فتغلق أبوابها، ثم تأخذ يميناً وشمالاً، فإن لم تجد مساغاً رجعت إلى الذي لُعن، فإن كان أهلاً... وإلا رجعت إلى قائلها». (رواه أبو داود). ملاك النجاة من النزاعات ليست هناك طريقة للنجاة من النزاعات أفضل من تغليب الحلم على الغضب، وتغليب العفو على العقاب. نموذج عمرو بن أحيحة الأوسي: كان نظراء عمرو بن أحيحة الأوسي يحسدونه لعجزهم عن الوصول إلى شأنه، ويسمعونه المكروه، فلا يزيده ذلك إلا إعفاء!! وأراد حلماء قومه امتحانه في حداثة سنه، فقال له قائل منهم: علام تقرُّ على ما تسمع من الأذى وأبوك أعز من بين لابتي يثرب؟ - واللابتان هما قطعتان من الأرض ذات الحجارة السوداء - فقال: لو أني أهتبل (أغتنم) لكل شرارة أذى تبلغني لحسرت دون ذلك، ولم أبلغ ما أريد، ويشغلني ذلك عن أكثر أمري، ونال من يبلغني ذلك ما طلب.. والصبر على ما أكره أخفّ علي من التسميع به، وإذا تكلم المتكلم في الأمر ثم نزع عنه قبل أن يبلغ أقصى ما يريد منه عجزه ذوو البصائر والفضل... وصون المرء عرضه بالحلم خير له من ابتذاله بالجهل. ومن قال للناس ما فيهم.. قالوا له ما ليس فيه، واستمع بأذنيه ما كان الناس يقولونه في أنفسهم، فلا تجعل للناس عليك مقالاً فيما بينهم. واحرص نفسك من غيرك، وكن عليها أشد سلطنة من عدوك، ووقرها بالحلم يوقرك من سواك، فإن الحلم رأس الحكمة، ومن كان حليماً كان حكيماً. فصاحة عثمان لما كان سيدنا عثمان بن عفان صغيراً كان الأطفال يمازحونه في الحي، فينادونه: يا ابن عفانٍ بتنوين نون «عفان»، فكان يغضب ويلزمهم بأن يقولوا: يا ابن عفانَ، بنطق فتحة على النون.. ذلك أنه كان يفهم أنه لو نونت نون عفان لكان الاسم مشتقاً من «العَفَن» وهو الفساد، فساد الخبز والأطعمة وكل شيء، أما إن منع «عفان» من الصرف ونطقت نونه بالفتح، فإن الكلمة حينئذٍ تكون مشتقة من العفة، ويكون معنى اسم أبيه العفيف جداً. إنه جامع قرآننا على مصحف واحد، والمشرف على قراءته وسلامته، فقد كان من الفصاحة والقوة اللغوية بحيث كان يفطن أسرار اللغة العربية منذ طفولته، وهو ثالث الخلفاء الراشدين، وهو من هو من الحياء والعفة والكرم وحسن الخلق، لأنه تربى في مدرسة النبي محمد ’’صلى الله عليه وسلم’’.