عبد العزيز كحيل
الحديث عن حياتنا الفكرية والثقافية ذو شجون بسبب تعثّر نهضتها المنشودة والجراحات المختلفة التي تثخن هوية الأمّة وشخصيّتها ومسيرتها الحضارية، ويتراوح تناول هذه الحالة بين الغثّ والسمين تبعًا لموقع الكاتب والمفكّر والخطيب في خانة الذاتية أو الموضوعية .
ومن نعم الله عز وجلّ عليّ أنّي خريج كلية الحقوق وأستاذ للقانون،
وأحسب أنّ هذه الخلفية منحتني أدوات تحليلية تمكّنني من تناول بعض المحاور البارزة في المعترك الفكري العربي والإسلامي بمقاييس أدنى إلى التجرّد والعلمية ، في حدود الطاقة البشرية التي لا يمكن لي ولغيري تجاوزها .
ومن المعروف أنّ دراسة الحقوق تُكسب صاحبها – بفضل الله – ملكةً تحليليّةً وتجعله أقرب إلى الموضوعيّة ، تماماً مثل الدراسات الأصوليّة والفقهيّة في الميدان الشرعيّ، والتعامل مع القانون يخلّص طالب العلم والقاضي ونحوَهما من الذاتيّة ومن التعميم – إلى حدّ بعيد - ويجنح بهم إلى الصرامة والتركيز، وهذا أفادني كثيراً في مجال البحث والكتابة، حتّى إني عندما أتناول – على سبيل المثال – قضايانا العربيّة والإسلاميّة من منظور التحليل الفكري أو السياسي أحاول الابتعاد عن ذهنيّة التآمر والحالات النفسيّة الرخوة أو المتشنّجة وإطلاق الأحكام ، وأعمد إلى القراءة المستندة إلى الحقائق والأرقام والإحصاءات ، بذهن صاف وأعصاب باردة ، وأظنّ أنّ هذا المنهج أفْيَد للحركة الإسلامية والدين والأمّة من المنهج العاطفي الذي يرى ما يريد رؤيته ويسمع ما يريد سماعه بغضّ النظر عن حيثيّات الواقع وقرائنه ومعطياته ، وقد أفادنا شيوخ الدعوة والتربية والحركة الراسخون عندما علّمونا أنّ صرامة المنهج هي التي تجعلنا نبصر الحق وننتصر له ونحن على بيّنة من أمرنا .
انطلاقا من هذه التقدمة أثير مجموعة من النقاط التي تشغل ساحتنا الفكرية والدعوية على أمل نقل الحديث عنها من العاطفة إلى العقل ومن الأمنيات إلى الحقائق.
1.حقوق الإنسان بين الإسلام النظري والإسلام العملي :
الانفصام بين الإسلام النظريّ والإسلام العمليّ يتجاوز موضوع حقوق الإنسان ليشمل – مع الأسف – حياة الفرد والأسرة والمجتمع المسلم كلّه إلى حدّ بعيد ، وذلك منذ أن تمّت تنحيّة الإسلام عن مجالات التربيّة والتشريع والحكم وحدث الفصام النقد بين الدين والثقافة وبين العقيدة والحياة العامّة ، فأصبحت عندنا أجيال لا علاقة لها بحقوق الإنسان ، لأنّنا في الحقيقة لا نشكو فقط من الأنظمة الّتي تغتصب هذه الحقوق ولكن من الشعوب وبعض النخب الّتي لا تطالب بها ولا تعتبر نفسها معنيّةً بها، ويمكننا العثور بسهولة على علماء دين وأتباع لهم يعدّون الحديث عن حقوق الإنسان بدعةً لم يعهدها الأوّلون أو ترفاً وافداً من الغرب.
لقد أبان الباحثون ما يزخر به القرآن والسنّة من نصوص وقواعد تؤصّل لحقوق الإنسان السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والروحيّة وغيرها، وتتناول حقوق الأطفال والنساء والعمال والحكّام والشعوب، لكن كلّ هذا بقيّ إلى حدّ بعيد على شكل موادّ خام ليس لها نصيب كبير في حياتنا لأنّ التأصيل والتدريس والدعوة لم تعرها من الإهتمام ما تعيره للجانب الشعائري والتعبّد الفردي، وهذا يفرض علينا إعادة مدّ الصلة بيننا وبين مرجعيّتنا الدينيّة الأصيلة في هذا المجال والاستفادة من التجارب البشريّة الّتي مكّنت الإنسان في الغرب من الإحساس بالكرامة والتمتّع بالحريّة أكثر منّا بكثير، وأضرب مثالا على هشاشة ثقافة حقوق الإنسان عندنا بقضية المرأة ، فهي – مع الرّجل المسلم أو قبله – تصرّح أن الإسلام كرّمها ومنحها كلّ حقوقها ، لكنّ الأمر لا يتجاوز هذا التقرير النظري إلى التحرّك الميداني لممارسة هذه الحقوق بسبب ، معوّقات ذاتية على رأسها قاعدة سدّ الذرائع التي توسّع في الأخذ فيها كثيرون – منهم المرأة نفسها – فأفرغوا منظومة الإسلام الحقوقية النسوية من محتواها ومكّنوا بذلك للغزو الثقافي أيّما تمكين.
2.أدوات فكرية لخدمة الإسلام :
يعتبر الدعاة أنفسهم خدماً لهذا الدين ولأمّة محمد – صلّى الله عليه وسلّم – ويصدرون في ميدان الغايات والوسائل عن الكتاب والسنّة ويستثمرون من الأدوات كلّ ما هو متاح ولا يخالف مبادئهم وأخلاقهم، فيخطبون ويحاضرون ويعقدون الندوات ويكتبون المقالات ويؤلّفون الكتب، محاولين في كلّ هذا مخاطبة العقل مع تحريك القلب، كما يخاطبون القلب مستصحبين نور العقل، فهم يفضّلون حجّة الفقيه على جلجلة الخطيب وخطّة الداعيّة البصير على حماس المستعجل، ينتفعون من التاريخ الإسلاميّ والإنساني، ويحاولون تدبّر القرآن والتفقّه في السنّة أكثر من ترديد أقوال السابقين ما لم يكن كلامهم نصّاً قطعيّاً أو إجماعاً متيقّناً، وآلوا على أنفسهم أن يبتعدوا قدر المستطاع عن الدروب المعبّدة واقتحام ميادين خصبة تهيّب منها كثيرون بذرائع شتّى، هذا ما تعلّموه من السادة العلماء المجدّدين ومن رموز الحركة الإسلاميّة الواعيّة الرّشيدة ، تعلّموا منهم متابعة أحوال الناس وسياساتهم وأفكارهم واتجاهاتهم الإيديولوجية والفنية والدينية في الساحة العربية والإسلامية والغربية للاستفادة من كلّ ما هو نافه مهما كان مشربه، فهم يقرأون قراءة نقدية من خلال المقاييس الشرعية والمحكمات العقلية ، وبناء على ذلك يكتبون ويتكلّمون.
3.النظرة الشمولية في الفكر والتعبير:
السلوك السليم – بالنسبة للفرد والأمّة – تبع لرؤية شموليّة متكاملة، فإن لم تتوفّر هذه الرؤية كان الخبط وإهدار الطاقات بلا فائدة، وهذا يفرض علينا بناء ثقافة رأسيّة وأفقيّة في آن واحد حتّى نجمع في تناغم وتناسق بين النخبويّة والجماهيريّة، وهذا هو أمثل المناهج كما بيّن القرآن الكريم والتجارب الإنسانيّة الناجحة، فالنخبويّة الّتي يمثّلها ’’الراسخون في العلم’’ تنتج الفكر الراقي الّذي يقوم بترشيد الإنتاج الجماهيريّ ويحصّنه من الوقوع في الرّداءة والفساد، ولا يخفى أن الإيغال في النخبوية يقطع الصلة بالناس وواقعهم ، كما أنّ الشعوبية خطر على العلم والثقافة والجدّ والاعتدال ، وقد صحّ عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أنّه كان في المجلس الواحد يخاطب الجميع بنفس الخطاب ثمّ يسرّ لبعض جلسائه ما لا يسمعه غيرهم ، فهؤلاء لهم من الاستعدادات ما يجعلهم من النخبة التي تستحقّ موضعا خاصا وتكاليف أكبر وأكثر رغم مشاركتهم غيرهم في قواسم عامّة كثيرة.
وإنمّا أخفقت تجارب تجديدية وراءها جهابذة بسبب منحاها النخبوي الذي أفقدها الانتشار فماتت كمبادرات جيّدة مع موت زعمائها ، كما أخفقت أخرى رمت بالدعوة إلى الشارع فتلقّفتها جماهير يحدوها إخلاص وحماس لكنّها تولّت بنفسها قيادةً لا تملك مؤهّلاتها فكانت فريسة سهلة للتآكل الداخلي والتآمر الخارجي ، وخاضت بهذه المعوّقات تجارب عادت بالوبال على الإسلام والدعوة والجماهير نفسها، فلا فلاح إلاّ للعمل الذي يجمع بين إيجابيات الطرقتين معاَ .
4.شبابنا والفكر السياسي والمشاركة الإيجابية :
حضور الشباب المسلم على مستوى واقع الأمّة والبشريّة وما يمور من مستجدّات وتحديّات ومحاسن ومساوئ أمر حتمي، وذلك في مجالات الحياة كلّها، والبقاء على هامش كلّ هذا يعدّ خروجاً عن النسق الإسلاميّ الّذي يحمّل المؤمنين – والشباب خاصّةً – مسؤوليّة الدين والحياة والمخلوقات كلّها ’’حتّى لا تكون فتنة ويكون الدين كلّه لله’’، والحضور لا يعني التفرّج وإنّما التعلّم والإحساس ثمّ الإقدام على المساهمة في البناء والإصلاح والتغيير ورفع التحديّات وإفراغ الوسع في كلّ هذه الأهداف الرّفيعة، ولا شكّ أن للواقع السياسيّ العربيّ وضعاً خاصاً يستحقّ الاهتمام الأكبر، والشباب مغيّب عن قصد، ولا يتولّى أمر هذا الواقع في الغالب سوى عجزة يظنّون أن العناية اختارتهم ليتولّوا تسيير حياتنا من المهد إلى اللحد، لكنّ دور الشّباب قادم لا محالة بل قد بدأ بالفعل ، بشكل جليّ وقويّ مع الثورات العربية المباركة التي بدأ تفجيرها في تونس ومصر لتنتشر شرقا وغربا، فعليه شحذ الهمم وإمضاء العزائم وخوض المعارك الفكرية والسياسية واقتحام مجالات العمل الخيري والتربوي، ومطاردة اليأس الذي تريد الأنظمة بثّه فيه ، واجتناب اللجوء إلى العمليات القيصرية في حركة التغيير، و التحرّ وفق السنن التي تحكم المجتمعات والأمم كما قرّها القرآن الكريم ومحكمات التاريخ وعلم الاجتماع .
وأضيف أنّي أريد من الشباب أن يحبّوا الحياة ، فهي مزرعة الآخرة ، ويعمروها بكلّ نافع وجميل ، وكلّ ميسّر لما خلق له، والحياة في سبيل الله أمر مرضيّ تماما كالموت في سبيل الله ، والحياة هي الأصل ، والشباب المؤمن لا يتهيّب من الموت في ساحة الوغى إذا توجّب عليه.
5.من هو المفكر الإسلامي ؟ :
من المؤسف أنّ هذا لقب صار ينتحله حتّى أشخاص دأبهم وديدنهم عَلمنَة الإسلام أو الطعن في قيمه وأحكامه وأخلاقه باسم الاجتهاد والتّجديد، ولو شئت لذكرت أسماء، فقد طافت بها الصحف والمواقع والفضائيّات، وأنا إذ لا أحجّر على أحد أن يفكّر إلاّ أنّ الإسلام أعظم من أن يقتحم حماه الفكريّة والشرعية كلّ متطفّل ومدّع، فالفيزياء النوويّة لا يخوض فيها كلّ من شاء، وحتّى الموسيقى الكلاسيكيّة لا يتناولها بالكتابة والتنظير والنقد إلاّ أصحاب المعرفة الواسعة والذوق الرّفيع، لذلك أحذّر من الانخداع بالألقاب والأوصاف، وينبغي النظر بدل ذلك إلى مرجعيّة هذا المفكّر أو ذاك ومدى التزامه بالثوابت الشرعيّة وبالنّسق الإسلاميّ الّذي يبيّنه علم الأصول، أي المعرفة بمصادر الدين ومقاصده والعمل على خدمتها، أمّا أن يوصف بالمفكّر الإسلاميّ من لا يؤمن أصلاً بالمرجعيّة الإسلاميّة ويجعل من النّصوص الشرعيّة عجينةً يطوّعها لخدمة الفكر الوافد فهذا مرفوض وينبغي كشف أمره للرّأي العام ،ومن أراد أن يكون ناقدا للإسلام فله ذلك لكن بعيدا عن تزوير الألقاب وانتحال الشخصية .
وساحتنا العربية الاسلامية تزخر – بفضل الله – بمفكّرين يكتبون ويتكلّمون في الاسلام من منطلقات أصيلة ، يعرّفون بالفكر المستوحى من القرآن والسنّة ، كلّ حسب اجتهاده المنضبط بالقواعد والأصول العلمية ، ويدافعون عن هذا الفكر ويخدمونه بوسائل العصر ، ويردّون على المخالفين، ويناقشون الآراء القديمة والحديثة ، وهذا ينتج ثروة فكرية هائلة تصبّ في خدمة الدين والعلم والثقافة والحضارة.
6.تأهيل الفكر الدعوي وتقنين النظم الدعوية :
إنّ الساحة الإسلاميّة في حاجة – حاليا - إلى ممارسة الدعوة أكثر من حاجتها إلى التنظير رغم أهميّته ، فنحن نلاحظ تراجعاً مؤسفاً في حركة التعريف بالإسلام والدعوة إليه منذ انحصار مدّ الصّحوة المباركة بسبب الظروف المعروفة ، وتتمثّل الأولويّة الآن – في تقديري – في إعادة بعث العمل الدعويّ سواءً الفردي أو المؤسّسي ، ليواكبه بعد ذلك التأصيل المشار إليه ، وتقنين النظم، أقول هذا لخوفي من الاستغراق في النظريّات والمباحث التجريديّة على حساب الفعل الميدانيّ الّذي هو حقيقة الدعوة ومعيار حيويّة الدعاة ، كما أنّنا في زمان نحتاج فيه إلى تحفيز المشتغلين بالدعوة أكثر من تسييج نشاطهم بمزيد من الضوابط فوق تلك المتّفق عليها، هذا ما يقتضيه واقعنا المتأزّم ، وأضيف أنّ ما يسمّى بالفكر الدعوي والنظم الدعويّة متضمّن في الكتاب والسنّة وفي تراثنا الإسلاميّ ، فلا يحتاج إلى إنشاء وإنّما إلى استحضار وإعادة قراءة وتجديد، مع التركيز على النشاط الدعوي ذاته كما أشرت ، أؤكّد على هذا لأنّ في ساحتنا من يهتمّ بالوسيلة على حساب الغاية ، وبالأداة أكثر من المقصد ، فيتضخّم التنظير و يكون الأداء هزيلا ، والدنيا حولنا في حالة ظمأ فكري وخواء روحي تنتظر الخلاص ، وهل من خلاص سوى دين الله تعالى ؟ ومن شأن تفعيل العمل الدعوي كسب الحيارى لصفّ التوحيد وإنقاذهم من الضياع الدنيوي والهلاك الأخروي .
7.مغرب عربي و ’’مُغرَّب عربي ’’ :
’’المغرّب العربيّ’’ حقيقة ماثلة تدعو إلى ضحك كالبكاء، وإذا كان التغريب شرّاً كلّه لأنّه يستهدف فينا الشخصيّة والهويّة والانتماء الحضاريّ، فهوّ عندنا في المغرب العربيّ أدهى وأخطر لأنّه يستهدف اللّغة العربيّة أيضاً ويحاربها بلا هوادة ، واستطاع تهميشها إلى حدّ كبير، ولم تعد الفرنسيّة عندنا مجرّد لغة يهواها التغريبيون بل هي ثقافة وفكر وانتماء للغرب ولفرنسا بالذات ، على حساب الفضاء العربيّ الإسلاميّ بكلّ أشكاله وأبعاده، وربّما كسب التغريب في زمن الاستقلال ما لم يقدر عليه في زمن الاحتلال ، بسبب تواطؤ النخب الفكرية والسياسية من جهة ، وضعف المناعة لدى الأمّة من جهة أخرى، ولا شكّ أنّ للأنظمة الحاكمة اليد الطولى في التّمكين للغزو الفكريّ عبر القرارات السيّاسيّة والخيّارات الثقافيّة المفروضة على البلاد والمحروسة بترسانة بشرية ومؤسّسية قليلة العدد قويّة الشوكة، حتّى غدا شمال أفريقيا ’’ مغرّباً عربيّا ً’’، فهو يعيش غربة مكانية تمتدّ إلى التفكير والتعبير اللفظي وغير اللفظي ، يدعّمها إعلام فرنسي محلّي وخارجي قويّ الانتشار متبجّح مغرور، لا تعوزه الأموال مهما كانت مقرؤوتيه ضئيلة ، فالعربية تكاد تكون غريبة في أرضها ، والفرنسية سيّدة الموقف في الإدارة والاقتصاد والسياسة والإعلام ، يرطن بها الفرنكوفونيّون متباهين مختالين ، ولولا أصالة الشعوب وقوّة الإسلام لأصبحت بلاد المغرب كلّها ولايات تابعة للضفّة الشماليّة من البحر المتوسّط ، أو لحدث لها ما حدث لجزر المحيط الهادئ التابعة لفرنسا ، والتي فقدت هويّتها تماما وغدت جزءا من فرنسا رغم أنّها لا ترتبط بها بدين ولا لغة ولا تاريخ ولا جغرافيا !!! وأنصار العربية غير مستسلمين ، بل هم عازمون على خدمتها حتّى تتبوأ مكانتها الطبيعية في ديار الأمير عبد القادر والزيتونة والقرويّين إن شاء الله .
عبد العزيز كحيل
الحديث عن حياتنا الفكرية والثقافية ذو شجون بسبب تعثّر نهضتها المنشودة والجراحات المختلفة التي تثخن هوية الأمّة وشخصيّتها ومسيرتها الحضارية، ويتراوح تناول هذه الحالة بين الغثّ والسمين تبعًا لموقع الكاتب والمفكّر والخطيب في خانة الذاتية أو الموضوعية .
ومن نعم الله عز وجلّ عليّ أنّي خريج كلية الحقوق وأستاذ للقانون،
وأحسب أنّ هذه الخلفية منحتني أدوات تحليلية تمكّنني من تناول بعض المحاور البارزة في المعترك الفكري العربي والإسلامي بمقاييس أدنى إلى التجرّد والعلمية ، في حدود الطاقة البشرية التي لا يمكن لي ولغيري تجاوزها .
ومن المعروف أنّ دراسة الحقوق تُكسب صاحبها – بفضل الله – ملكةً تحليليّةً وتجعله أقرب إلى الموضوعيّة ، تماماً مثل الدراسات الأصوليّة والفقهيّة في الميدان الشرعيّ، والتعامل مع القانون يخلّص طالب العلم والقاضي ونحوَهما من الذاتيّة ومن التعميم – إلى حدّ بعيد - ويجنح بهم إلى الصرامة والتركيز، وهذا أفادني كثيراً في مجال البحث والكتابة، حتّى إني عندما أتناول – على سبيل المثال – قضايانا العربيّة والإسلاميّة من منظور التحليل الفكري أو السياسي أحاول الابتعاد عن ذهنيّة التآمر والحالات النفسيّة الرخوة أو المتشنّجة وإطلاق الأحكام ، وأعمد إلى القراءة المستندة إلى الحقائق والأرقام والإحصاءات ، بذهن صاف وأعصاب باردة ، وأظنّ أنّ هذا المنهج أفْيَد للحركة الإسلامية والدين والأمّة من المنهج العاطفي الذي يرى ما يريد رؤيته ويسمع ما يريد سماعه بغضّ النظر عن حيثيّات الواقع وقرائنه ومعطياته ، وقد أفادنا شيوخ الدعوة والتربية والحركة الراسخون عندما علّمونا أنّ صرامة المنهج هي التي تجعلنا نبصر الحق وننتصر له ونحن على بيّنة من أمرنا .
انطلاقا من هذه التقدمة أثير مجموعة من النقاط التي تشغل ساحتنا الفكرية والدعوية على أمل نقل الحديث عنها من العاطفة إلى العقل ومن الأمنيات إلى الحقائق.
1.حقوق الإنسان بين الإسلام النظري والإسلام العملي :
الانفصام بين الإسلام النظريّ والإسلام العمليّ يتجاوز موضوع حقوق الإنسان ليشمل – مع الأسف – حياة الفرد والأسرة والمجتمع المسلم كلّه إلى حدّ بعيد ، وذلك منذ أن تمّت تنحيّة الإسلام عن مجالات التربيّة والتشريع والحكم وحدث الفصام النقد بين الدين والثقافة وبين العقيدة والحياة العامّة ، فأصبحت عندنا أجيال لا علاقة لها بحقوق الإنسان ، لأنّنا في الحقيقة لا نشكو فقط من الأنظمة الّتي تغتصب هذه الحقوق ولكن من الشعوب وبعض النخب الّتي لا تطالب بها ولا تعتبر نفسها معنيّةً بها، ويمكننا العثور بسهولة على علماء دين وأتباع لهم يعدّون الحديث عن حقوق الإنسان بدعةً لم يعهدها الأوّلون أو ترفاً وافداً من الغرب.
لقد أبان الباحثون ما يزخر به القرآن والسنّة من نصوص وقواعد تؤصّل لحقوق الإنسان السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والروحيّة وغيرها، وتتناول حقوق الأطفال والنساء والعمال والحكّام والشعوب، لكن كلّ هذا بقيّ إلى حدّ بعيد على شكل موادّ خام ليس لها نصيب كبير في حياتنا لأنّ التأصيل والتدريس والدعوة لم تعرها من الإهتمام ما تعيره للجانب الشعائري والتعبّد الفردي، وهذا يفرض علينا إعادة مدّ الصلة بيننا وبين مرجعيّتنا الدينيّة الأصيلة في هذا المجال والاستفادة من التجارب البشريّة الّتي مكّنت الإنسان في الغرب من الإحساس بالكرامة والتمتّع بالحريّة أكثر منّا بكثير، وأضرب مثالا على هشاشة ثقافة حقوق الإنسان عندنا بقضية المرأة ، فهي – مع الرّجل المسلم أو قبله – تصرّح أن الإسلام كرّمها ومنحها كلّ حقوقها ، لكنّ الأمر لا يتجاوز هذا التقرير النظري إلى التحرّك الميداني لممارسة هذه الحقوق بسبب ، معوّقات ذاتية على رأسها قاعدة سدّ الذرائع التي توسّع في الأخذ فيها كثيرون – منهم المرأة نفسها – فأفرغوا منظومة الإسلام الحقوقية النسوية من محتواها ومكّنوا بذلك للغزو الثقافي أيّما تمكين.
2.أدوات فكرية لخدمة الإسلام :
يعتبر الدعاة أنفسهم خدماً لهذا الدين ولأمّة محمد – صلّى الله عليه وسلّم – ويصدرون في ميدان الغايات والوسائل عن الكتاب والسنّة ويستثمرون من الأدوات كلّ ما هو متاح ولا يخالف مبادئهم وأخلاقهم، فيخطبون ويحاضرون ويعقدون الندوات ويكتبون المقالات ويؤلّفون الكتب، محاولين في كلّ هذا مخاطبة العقل مع تحريك القلب، كما يخاطبون القلب مستصحبين نور العقل، فهم يفضّلون حجّة الفقيه على جلجلة الخطيب وخطّة الداعيّة البصير على حماس المستعجل، ينتفعون من التاريخ الإسلاميّ والإنساني، ويحاولون تدبّر القرآن والتفقّه في السنّة أكثر من ترديد أقوال السابقين ما لم يكن كلامهم نصّاً قطعيّاً أو إجماعاً متيقّناً، وآلوا على أنفسهم أن يبتعدوا قدر المستطاع عن الدروب المعبّدة واقتحام ميادين خصبة تهيّب منها كثيرون بذرائع شتّى، هذا ما تعلّموه من السادة العلماء المجدّدين ومن رموز الحركة الإسلاميّة الواعيّة الرّشيدة ، تعلّموا منهم متابعة أحوال الناس وسياساتهم وأفكارهم واتجاهاتهم الإيديولوجية والفنية والدينية في الساحة العربية والإسلامية والغربية للاستفادة من كلّ ما هو نافه مهما كان مشربه، فهم يقرأون قراءة نقدية من خلال المقاييس الشرعية والمحكمات العقلية ، وبناء على ذلك يكتبون ويتكلّمون.
3.النظرة الشمولية في الفكر والتعبير:
السلوك السليم – بالنسبة للفرد والأمّة – تبع لرؤية شموليّة متكاملة، فإن لم تتوفّر هذه الرؤية كان الخبط وإهدار الطاقات بلا فائدة، وهذا يفرض علينا بناء ثقافة رأسيّة وأفقيّة في آن واحد حتّى نجمع في تناغم وتناسق بين النخبويّة والجماهيريّة، وهذا هو أمثل المناهج كما بيّن القرآن الكريم والتجارب الإنسانيّة الناجحة، فالنخبويّة الّتي يمثّلها ’’الراسخون في العلم’’ تنتج الفكر الراقي الّذي يقوم بترشيد الإنتاج الجماهيريّ ويحصّنه من الوقوع في الرّداءة والفساد، ولا يخفى أن الإيغال في النخبوية يقطع الصلة بالناس وواقعهم ، كما أنّ الشعوبية خطر على العلم والثقافة والجدّ والاعتدال ، وقد صحّ عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أنّه كان في المجلس الواحد يخاطب الجميع بنفس الخطاب ثمّ يسرّ لبعض جلسائه ما لا يسمعه غيرهم ، فهؤلاء لهم من الاستعدادات ما يجعلهم من النخبة التي تستحقّ موضعا خاصا وتكاليف أكبر وأكثر رغم مشاركتهم غيرهم في قواسم عامّة كثيرة.
وإنمّا أخفقت تجارب تجديدية وراءها جهابذة بسبب منحاها النخبوي الذي أفقدها الانتشار فماتت كمبادرات جيّدة مع موت زعمائها ، كما أخفقت أخرى رمت بالدعوة إلى الشارع فتلقّفتها جماهير يحدوها إخلاص وحماس لكنّها تولّت بنفسها قيادةً لا تملك مؤهّلاتها فكانت فريسة سهلة للتآكل الداخلي والتآمر الخارجي ، وخاضت بهذه المعوّقات تجارب عادت بالوبال على الإسلام والدعوة والجماهير نفسها، فلا فلاح إلاّ للعمل الذي يجمع بين إيجابيات الطرقتين معاَ .
4.شبابنا والفكر السياسي والمشاركة الإيجابية :
حضور الشباب المسلم على مستوى واقع الأمّة والبشريّة وما يمور من مستجدّات وتحديّات ومحاسن ومساوئ أمر حتمي، وذلك في مجالات الحياة كلّها، والبقاء على هامش كلّ هذا يعدّ خروجاً عن النسق الإسلاميّ الّذي يحمّل المؤمنين – والشباب خاصّةً – مسؤوليّة الدين والحياة والمخلوقات كلّها ’’حتّى لا تكون فتنة ويكون الدين كلّه لله’’، والحضور لا يعني التفرّج وإنّما التعلّم والإحساس ثمّ الإقدام على المساهمة في البناء والإصلاح والتغيير ورفع التحديّات وإفراغ الوسع في كلّ هذه الأهداف الرّفيعة، ولا شكّ أن للواقع السياسيّ العربيّ وضعاً خاصاً يستحقّ الاهتمام الأكبر، والشباب مغيّب عن قصد، ولا يتولّى أمر هذا الواقع في الغالب سوى عجزة يظنّون أن العناية اختارتهم ليتولّوا تسيير حياتنا من المهد إلى اللحد، لكنّ دور الشّباب قادم لا محالة بل قد بدأ بالفعل ، بشكل جليّ وقويّ مع الثورات العربية المباركة التي بدأ تفجيرها في تونس ومصر لتنتشر شرقا وغربا، فعليه شحذ الهمم وإمضاء العزائم وخوض المعارك الفكرية والسياسية واقتحام مجالات العمل الخيري والتربوي، ومطاردة اليأس الذي تريد الأنظمة بثّه فيه ، واجتناب اللجوء إلى العمليات القيصرية في حركة التغيير، و التحرّ وفق السنن التي تحكم المجتمعات والأمم كما قرّها القرآن الكريم ومحكمات التاريخ وعلم الاجتماع .
وأضيف أنّي أريد من الشباب أن يحبّوا الحياة ، فهي مزرعة الآخرة ، ويعمروها بكلّ نافع وجميل ، وكلّ ميسّر لما خلق له، والحياة في سبيل الله أمر مرضيّ تماما كالموت في سبيل الله ، والحياة هي الأصل ، والشباب المؤمن لا يتهيّب من الموت في ساحة الوغى إذا توجّب عليه.
5.من هو المفكر الإسلامي ؟ :
من المؤسف أنّ هذا لقب صار ينتحله حتّى أشخاص دأبهم وديدنهم عَلمنَة الإسلام أو الطعن في قيمه وأحكامه وأخلاقه باسم الاجتهاد والتّجديد، ولو شئت لذكرت أسماء، فقد طافت بها الصحف والمواقع والفضائيّات، وأنا إذ لا أحجّر على أحد أن يفكّر إلاّ أنّ الإسلام أعظم من أن يقتحم حماه الفكريّة والشرعية كلّ متطفّل ومدّع، فالفيزياء النوويّة لا يخوض فيها كلّ من شاء، وحتّى الموسيقى الكلاسيكيّة لا يتناولها بالكتابة والتنظير والنقد إلاّ أصحاب المعرفة الواسعة والذوق الرّفيع، لذلك أحذّر من الانخداع بالألقاب والأوصاف، وينبغي النظر بدل ذلك إلى مرجعيّة هذا المفكّر أو ذاك ومدى التزامه بالثوابت الشرعيّة وبالنّسق الإسلاميّ الّذي يبيّنه علم الأصول، أي المعرفة بمصادر الدين ومقاصده والعمل على خدمتها، أمّا أن يوصف بالمفكّر الإسلاميّ من لا يؤمن أصلاً بالمرجعيّة الإسلاميّة ويجعل من النّصوص الشرعيّة عجينةً يطوّعها لخدمة الفكر الوافد فهذا مرفوض وينبغي كشف أمره للرّأي العام ،ومن أراد أن يكون ناقدا للإسلام فله ذلك لكن بعيدا عن تزوير الألقاب وانتحال الشخصية .
وساحتنا العربية الاسلامية تزخر – بفضل الله – بمفكّرين يكتبون ويتكلّمون في الاسلام من منطلقات أصيلة ، يعرّفون بالفكر المستوحى من القرآن والسنّة ، كلّ حسب اجتهاده المنضبط بالقواعد والأصول العلمية ، ويدافعون عن هذا الفكر ويخدمونه بوسائل العصر ، ويردّون على المخالفين، ويناقشون الآراء القديمة والحديثة ، وهذا ينتج ثروة فكرية هائلة تصبّ في خدمة الدين والعلم والثقافة والحضارة.
6.تأهيل الفكر الدعوي وتقنين النظم الدعوية :
إنّ الساحة الإسلاميّة في حاجة – حاليا - إلى ممارسة الدعوة أكثر من حاجتها إلى التنظير رغم أهميّته ، فنحن نلاحظ تراجعاً مؤسفاً في حركة التعريف بالإسلام والدعوة إليه منذ انحصار مدّ الصّحوة المباركة بسبب الظروف المعروفة ، وتتمثّل الأولويّة الآن – في تقديري – في إعادة بعث العمل الدعويّ سواءً الفردي أو المؤسّسي ، ليواكبه بعد ذلك التأصيل المشار إليه ، وتقنين النظم، أقول هذا لخوفي من الاستغراق في النظريّات والمباحث التجريديّة على حساب الفعل الميدانيّ الّذي هو حقيقة الدعوة ومعيار حيويّة الدعاة ، كما أنّنا في زمان نحتاج فيه إلى تحفيز المشتغلين بالدعوة أكثر من تسييج نشاطهم بمزيد من الضوابط فوق تلك المتّفق عليها، هذا ما يقتضيه واقعنا المتأزّم ، وأضيف أنّ ما يسمّى بالفكر الدعوي والنظم الدعويّة متضمّن في الكتاب والسنّة وفي تراثنا الإسلاميّ ، فلا يحتاج إلى إنشاء وإنّما إلى استحضار وإعادة قراءة وتجديد، مع التركيز على النشاط الدعوي ذاته كما أشرت ، أؤكّد على هذا لأنّ في ساحتنا من يهتمّ بالوسيلة على حساب الغاية ، وبالأداة أكثر من المقصد ، فيتضخّم التنظير و يكون الأداء هزيلا ، والدنيا حولنا في حالة ظمأ فكري وخواء روحي تنتظر الخلاص ، وهل من خلاص سوى دين الله تعالى ؟ ومن شأن تفعيل العمل الدعوي كسب الحيارى لصفّ التوحيد وإنقاذهم من الضياع الدنيوي والهلاك الأخروي .
7.مغرب عربي و ’’مُغرَّب عربي ’’ :
’’المغرّب العربيّ’’ حقيقة ماثلة تدعو إلى ضحك كالبكاء، وإذا كان التغريب شرّاً كلّه لأنّه يستهدف فينا الشخصيّة والهويّة والانتماء الحضاريّ، فهوّ عندنا في المغرب العربيّ أدهى وأخطر لأنّه يستهدف اللّغة العربيّة أيضاً ويحاربها بلا هوادة ، واستطاع تهميشها إلى حدّ كبير، ولم تعد الفرنسيّة عندنا مجرّد لغة يهواها التغريبيون بل هي ثقافة وفكر وانتماء للغرب ولفرنسا بالذات ، على حساب الفضاء العربيّ الإسلاميّ بكلّ أشكاله وأبعاده، وربّما كسب التغريب في زمن الاستقلال ما لم يقدر عليه في زمن الاحتلال ، بسبب تواطؤ النخب الفكرية والسياسية من جهة ، وضعف المناعة لدى الأمّة من جهة أخرى، ولا شكّ أنّ للأنظمة الحاكمة اليد الطولى في التّمكين للغزو الفكريّ عبر القرارات السيّاسيّة والخيّارات الثقافيّة المفروضة على البلاد والمحروسة بترسانة بشرية ومؤسّسية قليلة العدد قويّة الشوكة، حتّى غدا شمال أفريقيا ’’ مغرّباً عربيّا ً’’، فهو يعيش غربة مكانية تمتدّ إلى التفكير والتعبير اللفظي وغير اللفظي ، يدعّمها إعلام فرنسي محلّي وخارجي قويّ الانتشار متبجّح مغرور، لا تعوزه الأموال مهما كانت مقرؤوتيه ضئيلة ، فالعربية تكاد تكون غريبة في أرضها ، والفرنسية سيّدة الموقف في الإدارة والاقتصاد والسياسة والإعلام ، يرطن بها الفرنكوفونيّون متباهين مختالين ، ولولا أصالة الشعوب وقوّة الإسلام لأصبحت بلاد المغرب كلّها ولايات تابعة للضفّة الشماليّة من البحر المتوسّط ، أو لحدث لها ما حدث لجزر المحيط الهادئ التابعة لفرنسا ، والتي فقدت هويّتها تماما وغدت جزءا من فرنسا رغم أنّها لا ترتبط بها بدين ولا لغة ولا تاريخ ولا جغرافيا !!! وأنصار العربية غير مستسلمين ، بل هم عازمون على خدمتها حتّى تتبوأ مكانتها الطبيعية في ديار الأمير عبد القادر والزيتونة والقرويّين إن شاء الله .
عبد العزيز كحيل