مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
حسن البناء يعود هذه الأيام
عبد العزيز كحيل
تتزامن ذكرى اغتيال الإمام الشهيد حسن البنا هذه السنّة مع الثورات الشعبيّة العارمة الّتي تعصف بالأنظمة الاستبداديّة في العالم العربيّ ، وقد بدأت في تونس فأطاحت بالطاغيّة المستبدّ، وهي دائرة رحاها في مصر لتقتلع النظام المتعفّن، وينتظر أن يمتدّ لهيبها المبارك ليلتهم معاقل الطغيان والظلم والفساد في باقي البلاد العربيّة.

حسن البنا قتلته الدكتاتوريّة لأنّه كان داعيّة حريّة وكرامة وعزّة ، وهذا ما ينبغي أن يعرفه الناس لأنّ الإعلام المغرض الّذي تحرّكه أنظمة الحكم الفاسدة شوّه صورة مؤسّس جماعة الإخوان المسلمين، وعمل على حشره في زمرة الدراويش تارةً وخانة الإرهابيّين تارةً أخرى ، لكن عندما نتابع انتفاضات تونس ومصر والأردن واليمن ونحوها نعرف حسن البنا من خلال غرس يده والتربيّة الشاملة المتكاملة الّتي تكوّن من خلالها أتباعه الّذين كان حضورهم بارزاً في الانتفاضات الحاليّة يؤطّرونها ويحمونها من الانفلات والالتفاف ويرفعون أصواتهم بمطالب الشعوب في الإصلاح والتغيير الجذريّ والحياة الكريمة ونشر الحريّات على أنقاض الحكومات الاستبدادية وسيّاستها الفاسدة .

يعود إذن حسن البنا، ليس من خلال فيلم عنه أو مسلسل سيء الإخراج والتمثيل عن جماعته ولكن بحضور أفكاره ووصاياه ومنهجه الإصلاحيّ في مصر بالدرجة الأولى، بلده الّذي انطلقت منها دعوته الإسلاميّة العالميّة الّتي لم تقتصر على الشأن الدينيّ البحت وإنّما كانت دعوةً لإصلاح المجتمعات المسلمة سيّاسيّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً وتربويّاً وبعثها حضاريا بعد عهود التراجع والإنحطاط، كم كتب المرشد العام عن الوطنيّة ’’ وطنيّة الحنين والحريّة والعزّة والفتح ’’ – كما قال - ، وكم خطب عن القوميّة ’’ قوميّة المجد والأمّة لا قوميّة الجاهلية والعدوان ’’، وكم أبداً وأعاد حول علاقة الإخوان بالسيّاسة والقوّة والثورة والدستور والقانون والدول الأجنبيّة ، وبيّن رؤيته لهذه المواضيع من منظور إسلاميّ يجمع بين مثاليّة التصوّر وواقع الناس والحياة ، كما يوائم بين الأصالة والحداثة في النظر إلى الفرد والبيت والشعب والحكومة وشؤون الدنيا كلّها .

وكم شرّح الرجل العظيم بوعي فذّ وذكاء حادّ أوضاع البلاد الإسلاميّة – وفي مقدّمتها مصر – وحلّل ظاهرة فساد النظام السياسيّ والاجتماعيّ فشخّص الداء واقترح الدواء المستمدّ من المرجعيّة الإسلاميّة ، تحدّث عن الأسباب والغايات والوسائل ، وصدع بكلمة الحقّ في وجه الحكّام المستبدّين والأغنياء المترفين والأفراد المستسلمين والهيئات الدينيّة المنسحبة من ميدان الإصلاح ، ذكّر أولئك بواجباتهم، وحثّ هؤلاء على استرداد حقوقهم الماديّة والمعنويّة.

راسل في هذا الشأن ملك مصر أكثر من مرّة ناصحا أمينا ، كما كتب لرؤساء الوزارات المتعاقبين على سدّة الحكم ، ودبّج المقالات يهتف في آذان زعماء المسلمين والعرب وقادة الحركات الوطنية والإصلاحية وأرباب الفكر في ربوع العلم الإسلامي ، وكانت كتاباته وخطبه تقطر دما تحسّرا على أحوال الأمّة المتردّية ، وكانت في نفس الوقت مفعمة بالأمل في التغيير الإيجابي ، مرصّعة بخطوطه العريضة والأساليب الواجب إتباعها لبلوغ الأهداف وتحقيق الغايات ، ومن المعلوم أنّه ما دعا ولو مرّة واحدة إلى الثورة المسلّحة في وجه الحكّام ولا كان من المنادين بالاغتيالات السياسية – كما يلفّق عليه خصوم الإسلام والإخوان من أعمدة الأنظمة المستبدّة منذ عقود – وإنّما كان ثورة عارمة على الاحتلال الأجنبي لبلاد العرب والمسلمين ، فلم يكتف هنا بالدعوة إلى الجهاد ضدّ الاستعمار بل أعدّ الإخوان إعدادا جيّدا لخوضه ، وخاضوه بالفعل ضدّ الإنجليز في معارك القناة كما كانوا السبّاقين إلى تلبية نداء الجهاد في فلسطين بعد قرار التقسيم المشؤوم ، وجاءت كتائبهم من مصر وسوريا والأردن والعراق ، وأبلوا البلاء الحسن في ميدان القتال بشهادة قادة الجيوش العربية والصهاينة أنفسهم ، ثمّ نالتهم خيانة الأنظمة العربية كما هو معروف.

إنّ حسن البنا لم يكن واعظاً دينياً كما تصوّره الأوساط المعاديّة إنّما كان صاحب خطّة إصلاحيّة شاملة متكاملة على منهج النبوّة ، عاش ومات من أجلها، امتدّت إلى جميع نواحي الحياة الاجتماعيّة وشملت – بالإضافة إلى المحاور الّتي ذكرناها – مجال الجيش والصحّة العامّة والعلاقات الدوليّة ، وقد ركّز – رحمه الله – على إصلاح الدستور المصريّ بعد أن بيّن عيوبه ونقائصه، ودعا إلى تعديل قانون الانتخابات لإجحافه ، وندّد بما سمّاه ’’ الحزبيّة العمياء ’’ الّتي كانت من أكبر مفاسد النظام الملكي في مصر، ولم يغفل الاقتصاد بل تناوله في رسائله وخطبه جنباً إلى جنب مع نظام الحكم ، وعاب ظاهرة الثراء الفاحش والفقر المدقع ، وخاض خوضاً علميّاً في مسائل المال والثروة والاكتساب وترشيد الإنفاق وتنظيم العلاقات الماليّة والضرائب، واقترح الحلّ الاقتصاديّ الإسلاميّ وأشار إلى قضايا الملكيّة الخاصّة والعامّة ومفاسد الربا ، أي وضع برنامجا إصلاحيّا مفصّلا كان بمثابة دستور أو قوانين مدنية عصرية ذات مرجعية إسلامية ، ولم تكن لدعوته علاقة بما يسمّيه الخصوم ’’ دولة دينية ’’ ، لكنّها دعوة ربّانية المصدر والغاية والوسائل تستمدّ شرعيّتها من الشعوب بعيدا عن كلّ أنواع الفوقية والوصاية ’’ الكهنوتية ’’ ، وذلك ما جعلها تنتشر في حياة المرشد في معظم البلاد الإسلامية ليعمّ تواجدها – بعد وفاته – القارّات الخمس إلى درجة استقطاب غير المسلمين في خططها الإصلاحية الوطنية ، وجدير بالذكر أنّه كان للإمام الشهيد في السنوات الأخيرة من حياته مستشار قبطي للشؤون الوطنية والقومية ، وقد ترشّح نصارى في عدد من الانتخابات النيابية والمحلّية على قوائم الإخوان وذلك أكثر من مرّة في أكثر من بلد عربي كمصر والأردن وفلسطين .

يعود حسن البنّا هذه الأيام والساحّة العربية في أمسّ الحاجة إلى أمثاله من قادة الرأي المخلصين المستنيرين للمساهمة في تخليص شعوبنا من الطغاة المستبدّين والانطلاق بها نحو التحرّر والشورى والعدل والحكم الراشد ووحدة الصفّ والأوّة الإسلاميةوالوطنية والإنسانية ، وذلك بأفضل الطرق الحضارية وأقلّ التكاليف الممكنة من أرواح وأوقات وجهود ، لأنّ الأنظمة الدكتاتورية تصرّ على البقاء مهما كان الثمن فإن أجبرت على التنحّي أشاعت القتل والفوضى والخراب ، كما فعل نموذجها في تونس ويعمل نظيره في مصر ، ولا يستبعد أن يحدث ذلك في أيّ بلد عربي انتفض فيه الشعب مطالبا بحقوقه رافضا للقهر والتسلّط .

وها هم أتباع حسن البنّا في جميع الدول العربية والإسلامية منحازون للشعوب وقضاياها ومطالبها ، يتصدّرون المظاهرات والمسيرات والعرائض ، لم تتلطّخ أيديهم بدم بريء كما يروّج المبطلون بغير دليل إلاّ الكذب والإفك ، ، يتحمّلون المغارم ولا يسعون لمغانم سوى خدمة بلدانهم وأمّتهم ، ليس في مواقفهم استعلاء على حزب أو منظّمة أو هيئة أو فرد ، بل دعوة مستمرّة للتعاون في المتّفق عليه من قضايا الأمّة والوقوف في وجه المخطّطات الأمريكية والصهيونية المتربّصة بكلّ دولنا...هذا ما تعلّموه من المرشد المؤسّس ودرجوا عليه منذ نشأة الجماعة ، وقد فشل الإعلام المضلّل فشلا ذريعا في التمادي في تشويه صورتها رغم حملاته المكثّفة المتواصلة منذ عقود ، لأنّ الرأي العامّ لم يعد منخدعا بالتلفيقات المختلقة والاتّهامات المجانية ، وآخر أدلّة ذلك انقلاب تأثير مسلسل ’’ الجماعة ’’ على خصوم حسن البنّا ، وفضح زيفهم واهتمام الناس المتزايد بمعرفته ودعوته من المصادر الأصلية و المحايدة لا من أرشيف المخابرات البوليسية والعسكرية .

بقي القول إنّ حسن البنّا لم يكن في فترة من فترات حياته سياسيّا محترفا ولا ساعيا نحو المناصب ، لكنّه كان داعية له نظرة شمولية متكاملة مستقاة من القرآن والسنة متفتّحة على التجارب الإنسانية ، يؤمن بانّ الإسلام ’’ دين ودولة ومصحف وسيف ’’، وبأنّ أداء المسلم هو نفسه في محراب الصلاة وساحة الجهاد ومخابر البحث العلمي وملعب الرياضة وشركة الأموال والجمعية الخيرية...لأنّ الحياة الكريمة لا تكون إلاّ بهذا الشمول ، وكم أرجو ممّن لديهم إحاطة قليلة بحياة الإمام الشهيد أو تحفّظات عليه أوموقف سلبي منه أن يتعمّقوا في دراسة حياته ومنهجه ودعوته دراسة وافية ستجعلهم من غير شكّ يراجعون أحكامهم المسبّقة، وهذا ما يقتضيه الإنصاف والأمانة العلمية ، فمن غير المقبول أن يستقوا معلوماتهم من مراجع الأنظمة الحاكمة الرافضة للإسلام والديمقراطية والحرية وتعدّد الآراء ، وها هم أتباع الرجل العظيم نماذج مجسّدة لدعوته – وهم مثله بشر يجتهدون فيصيبون ويخطئون – أين نراهم متخندقين ؟ أليسوا في شارع بورقيبة وميدان التحرير وساحات عمّان ومنصّات صنعاء وعلى الفضائيّات يضمّون أصواتهم للجماهير ويتقدّمون الصفوف من أجل الإصلاح والتغيير الجذري ؟

اغتال القصر الملكي ’’ حسن البنا ’’ يوم 12 فبراير 1949، فماذا يحمل لنا 12 فبراير 2011 بعد تنحّي طاغوت مصر؟ هل ستكون نهاية الطغيان وانتصار الشعب ؟ إذن يكون المرشد العام قد حقّق بعض أحلامه.
أضافة تعليق