مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
الفكرة الدينية مهد الحضارة
أ. عفاف عنيبة .

’’ابتدعت من أجل تبرير هذا العالم (الإسلامى) آلة ذات مقطع مزدوج: فقد تمت المحافظة على ذائقة القيم الإسلامية أو أعيد انشاؤها لمواجهة سيطرة الغرب الثقافية عليه. ولكن فى الوقت الذى كان يواجه فيه الإستعمار على هذا النحو كان يحتفظ بمعطيات القابلية للإستعمار، أو هي كانت تترك دون مساس بها.
فبدل أن تترجم الجهود الذهنية عن نفسها فى صورة مذهب دقيق للنهضة، ومنهاج منسجم، كانت تنطلق فى صورة شعلات دفاعية أو جدالية’’. ’’كل هذه الحضارات -المعاصرة لنا- قد شكلت تركيبها المتآلف الأصلى للانسان والتراب والزمن في مهد فكرة دينية.’’
فقرتان مقتطفتين بتصرف من محاضرة ’’مشكلة الحضارة’’ للمفكر مالك بن نبي رحمه الله، ألقاها باللغة الفرنسية في الجزائر العاصمة بتاريخ 4-9-1969
وقد ارتأيت هذا المدخل لأناقش ارتباط فعل النهوض الحضاري بمرجعية دينية تستند إلى مبدأي التأصيل والتجديد في آن.
1) المجتمع الجزائرى بين الجمود والتململ:
نشأ مالك بن نبي في مجتمع الفرد فيه يفعل به ولا يفعل شىء، فلا إرادة ذاتية له ولا فعالية، وإن قام بفعل فيقوم به مرغما. طبع الإكراه والقسوة بيئة تناست ميراثها العظيم وتاريخها المجيد، فالجزائري في بدايات القرن العشرين كان مجرد ركام لا حراك له. يوجه بحسب املاءات الإستعمار والدجالين، في أسرة كانت تجل العلم، فهم باكرا مالك بن نبي معضلة الحضارة في عالم إسلامي إن لم يكن مستعمرا فقد كان يغط في سبات عميق وهذا رغم بدايات محتشمة للنهضة والإصلاح فيه.
فقد كان مفكرنا الإسلامي رحمه الله يقلب النظر في أحوال مجتمعه ليصطدم بنماذج سلبية، أما محاولات المصلحين والمجددين في إنتشاله من وحل الجهل والخمول كانت مهمتها من الضخامة ومن الخطورة ما جعلها أحيانا تتعثر، خاصة وأن الإستعمار كان متربص بها الدوائر -عند إستقلال معظم الدول المسلمة والعربية اصطدمت حركة الإصلاح الإسلامي وأعلامها بأنظمة حكم ونخب متغربة، أخذت مكان الإستعمار- وقد تنبه إلى ذلك مالك بن نبي لهذا رأيناه طوال الفترة التى عاشها بين تبسة وقسنطينة وأفلو، وشلغوم العيد والجزائر العاصمة وحتى في منفاه فرنسا، حريصا على التوجه إلى المسلم الجزائري بصفة خاصة وإلى المسلم أي كانت جنسيته بصفة عامة، معلنا ضرورة بناءه من جديد على أسس قديمة جديدة، وهذا بالنظر الى السياق التاريخي الذي هو ضمنه وبتدبر فترة الإنحطاط التى بدأت بنزوع العالم الإسلامي إلى الجمود والإنكفاء على الذات إلى المرحلة التي شهدت نزول قوات شارل العاشر على شواطىء الجزائر العاصمة في 1830.
التغيير الذي نشده مالك بن نبي لم يأتى من فراغ، فقد سبقته إرهاصات وهو كان من بين الأوائل الذين إعتنوا بدراسة الخلفية التاريخية والإجتماعية والسياسية للمجتمع الجزائري، فقد كان يرمى إلى هدف واضح كيف السبيل للخروج من النفق؟ فبتعبير مالك بنى نبى نفسه ’’كان الشعب الجزائري يعيش فى بلاد سد فيها المستقبل أمامه، حيث كان الفرد يولد والتشاؤم يملأ أعماقه وروحه، لأنه كان يفقد الدوافع الوجودية الباعثة التي تتيح للإنسان أن يكرس نفسه للحياة أو الموت من أجل شىء معين.’’ أتت فرنسا إلى الجزائر بحسب مزاعمها لتحضر بلدا وشعبا كانا أقرب إلى الوحشية منها إلى التمدن وبعد قرن من الإحتلال الفرنسي ثبت للجميع أن الشعب الجزائري تردى إلى أسفل السافلين، وإنحصر كل همه فى إحتياجات فيزيائية لم يكن قادراً على ضمانها أحيانا كثيرة. فقد كان من الصعب إيقاظ من كان يعانى من حالة غيبوبة مستديمة، والمنهج الذى إتبعه مالك بن نبى حدد المسار المفضي إلى يقظة، إلى حالة تململ، للخروج من الشيئية إلى وعي بالذات وعيا كاملا.
2) بين الإستعمار البوليسي والمد الطبيعي للنهوض:
تنطبق الحالة الجزائرية على كل المجتمعات المتخلفة، كانت تحكمها قوات إستعمارية أو دكتاتورية. فالمجتمع الجزائرى كان ممزقاً بين نزوع إلى التحرر والذهاب إلى الفعل الحضاري وبين سياسة قمعية تريد إفشال أى محاولة تميزها حركة واعية قيد التشكل. في عالم متقلب وثائر كان من الصعب على مفكر مثل مالك بن نبي متابعة تجربة بعينها ورغم ذلك حاول، ففي منظوره الفلسفى كان يتعين على الشعب الجزائري أن يحدث قطيعة مع عهد طال أمده، ويترتب عن حدوث ذلك وعي بالقضية، البحث عن مخرج والذهاب إلى حل دائم وليس الى حلول مؤقتة أو نصف الحلول. وقبل الإضطلاع بمهمة بث الوعي وإستنهاض الهمم، كان من الضروري تحديد المرجعية الفكرية للإنبعاث الحضاري للأمة.
إطلاع مالك بن نبي على بدايات النهضة في العالم العربي الإسلامي وأصحابها أتاح له الوقوف على جوانب الضعف والقوة فى آن، من أين نبدأ؟ وكيف نشرع في التغيير والبناء؟ كل هذه الأسئلة تبلورت فى ذهنه. الإصلاح واجب فيما يصلح تقويمه، فإعادة الجزائر وشعبها إلى حيزها الحضاري كان شرطا ضروريا بمقتضى أن محاولات الإستعمار في جعل الجزائر فرنسية باءت بالفشل وهذا أمام تصميم بريء لشعب فقد مقومات الحضارة إلا أنه بقى متشبثا بهويته الإسلامية. انطلق مالك بن نبي أولا وأخيرا مما كان يضطرم ويعتمل داخل المجتمع الجزائري عقب الحرب العالمية الأولى، فكرس قسما كبيرا من جهده الفكري فى إيجاد طريقة للأخذ بيده نحو تحقيق الذات وربط وجوده ومصيره بسياق حضاري له ثوابت ومتغيرات، فقد كان بإمكان الشعب الجزائري أن يتجاوز المرحلة المظلمة للإستعمار الفرنسى وهذا ما تحقق فعلا بخوضه لحرب تحرير وحصوله على الإستقلال. فهم المفكر إنصب على مسار محدد، كيفية توفير الإرادة والرؤية والأدوات للبناء. بحسب مالك بن نبي في محاضرته ’’مشكلة الحضارة’’: ’’عوض أن نذهب إلى بناء حضارة، عملنا على تكديس منتوجاتها.’’(1). فبين إقتناء الشكل الخارجى للحضارة من أدوات ومواد وأكسسوارات، وبين تقديم سهمنا فى بناءها وإثراءها قيميا وروحيا وفكريا، تبنينا موقفا سلبيا للغاية وهو إستهلاك منتوجاتها والإفتتان بإقتناءها. ينم هذا الموقف عن الفهم الخاطىء والمغلوط لدورنا، ككل الأمم لنا ما نقدمه لأنفسنا وللبشرية، الإكتفاء بالتفرج والتكديس هو دوران في حلقة مفرغة، والنتيجة الطبيعية لهذا، أننا نزداد تبعية وإذلالا.
ففعل الإستهلاك، لا يجعل منا أناس متحضرين أو بناة حضارة. تكمن المشكلة فى الأساس فى عدم توفير الشروط الموضوعية للنهضة وفى توجه لا يخدم الهدف، مهاجمة أسباب التبعية والتخلف فى عهد الإستعمار أو بعد الإستقلال لا يحل الإشكال ولا يقدمنا إلى الأمام، بمعرفة المسببات كان يتوجب علينا العمل للتوصل إلى حلول وليس إلى تحرير مرافعات أو الندب على حالنا، فالفلاح قبل أن يقوم بعملية بذر حقل، يهيأه بحرثه وسقيه، ليتحصل على منتوج فلاحي. فهو يحترم أطوار معينة ملازمة لعملية الإنتاج، ينطبق نفس الأمر على العمل النهضوي، فهناك مراحل لا بد أن نمر بها كالتفكير والتمحيص وضبط القواعد المنهجية والعلمية. لا نستطيع القفز على تاريخ وبنية إجتماعية ووضع سياسى وإقتصادى، لنفرض تصورات تفتقد إلى أرضية ملتصقة بالواقع المعيش. الحضارة صنيعة الأفكار وهاته لا تكتسب فاعلية ما إلا بتجسيدها فى أرض الواقع، ولا تولد الفكرة فى أوساط إعتادت إستجداء أسباب وجودها من الآخرين ولا تثق فى نفسها وفى رصيدها الديني والحضاري، فالقطيعة التي وقعت بين زمن ازدهارالحضارة الإسلامية وعصر إنحطاطها حجبت عن المسلمين مفاهيم عقدية وحضارية كانت مكمن قوتهم وتطورهم. عاش المجتمع المسلم ولا يزال فترة ركود وإنكسار، بحيث صارت مجموعة القيم التى حكمت الحضارة الإسلامية فى فترة إزدهارها ينظر لها بإستهانة، فقيم الإجتهاد والإعتماد على النفس والعمل والجد والإخلاص باتت لا حضور لها فى وجدانات المسلمين. فالمعايير التى تحكم المجتمعات المسلمة الآن مادية صرفة، تتعامل مع الإنسان على أنه شىء وليس روح ونفس وجسد.
3) تلازم شرط النهضة بالحرية:
فى عصر يلعب فيه المسلمون أسوأ الأدوار وهذا من جراء إعراضهم وإبطالهم للمهام التى أوكلت لهم بموجب تكليفهم بمهمة الإستخلاف، عملية التموقع فى نظام دولي معادي تتطلب مجهودا ضخما ومربكا. وفى ظل عولمة أمريكية تفرض فرضا قيما ومفاهيم علمانية تتعسر مهمة المسلمين فى ايجاد صيغة إستقلال ونهضة لأنفسهم خارج الأطر التى عينتها قوى عظمى. وقد جاء على لسان أحد المستشرقين الأمريكين المنصفين جون.ل. إسبوزيتو (2) مايلى: ’’إستنادا إلى عدد كبير من المعلقين الغربيين: الإسلام والغرب فى نزاع مستمر. وبالنسبة لهم يمثل الإسلام ثلاث تهديدات خطيرة: سياسية، حضارية وديموغرافية. وتصور المواجهة أحيانا كثيرة على أنها صدام حضارات’’ بعد أحداث 11-09-01 المروعة إزداد الغرب المؤسساتى رفضا للإسلام والمسلمين وإذا ما نطالع تحليلات المختصين والمنظرين السياسين الغربيين نقع على خلفية عدائية للعالم الإسلامى، عززتها هجمات 11 سبتمبر، يعتبر التيار المحافظ المتطرف داخل مؤسسات الحكم فى الغرب أن لا جدوى من التعامل مع العالم الإسلامى وأفضل طريقة لعزله وإتقاء ما يسمى بـ’’الإرهاب الإسلامى’’ هو بنهج سياسة إستعمارية غير مباشرة ومباشرة كإحتوائه سياسيا وإقتصاديا تارة وإحتلاله لإفغانستان والعراق تارة أخرى، وفى الجهة المقابلة العالم الإسلامى عاجز كشعوب ونخب على بلورة رؤية نهضوية موحدة تقوم على قيم ومبادىء الإسلام وهذا بالنظر إلى تضافر عوامل عديدة داخلية وخارجية أحبطت وتحبط فى كل مرة محاولاته فى نهج طريق وسط بعيدا عن الوصاية الإيديلوجية للشرق والغرب.
مع العلم، نحن نمتلك العوامل الرئيسية المؤسسة للحضارة، إنما لا نعتمدها ولاننطلق من الإنسان المعنى الأول والأخير بفعل البناء الحضارى. إستعمال الخامات والمواهب والأفكار المطروحة فى أرض الواقع هذه خطوة الذهاب إليها بداية وما سوف يتبعها دراسة، إستغلال ذكى، إعتماد الأولويات وإحترام السياق العام لعملية التنمية، كل هذا لا يتم اعتباطا، بل هو نتاج تصور شمولي يأخذ فى الحسبان الممكنات والوقائع وعامل الزمن. غير أن العالم الإسلامي لم يأخذ هذه الوجهة، أهمل التجارب الخاصة بنسقه التاريخى، وانصب إهتمامه فى مجرى آخر خارج الإطار الذي حددته ملابسات الواقع وظروفه، أراد أن يخضع ما هو كائن إلى نموذج من التطور القسري الذي لا يتلاءم وقيمه ومرجعيته الدينية باعتبار أن الإسلام دين يقنن لحياة الفرد والجماعة بشكل شامل وحكيم. وهذا التعاطى تم بتجاهل العوامل والشروط التي يفرضها الظرف التاريخى القائم. فالحضارة ليست وليدة ظروف إستثنائية بل هى خلاصة سياق تاريخي، فالأطوار التى تمر بها مناطق وبلدان ومجتمعات تخلق بشكل إرادي حركية حضارية تتيح لأبناءها العمل واعتماد أسلوب حياة تنتج عنه حركة علمية نشطة. لا تتوفر قدرة الخلق والإبداع فى مناخ يحكمه التواكل والكسل واللامبالاة والتبلد العقلي أو الرداءة والإنحلال والإستبداد، فكلما تتقلص مساحة الحرية، ويتمدد الجهل وتستبد الأهواء فى قضايا السياسة والإجتماع والإقتصاد وتفتقر المجموعة الإنسانية إلى ثقة فى قدراتها الذاتية، كلما تتناقص حظوظ ذلك المجتمع فى النهوض حضاريا.
يقضي التصور الإسلامى للوجود بأن الإنسان مخلوق لتأدية رسالة وهذه الرسالة لها شقين شق مرتبط بالواقع الدنيوى المحسوس وشق أخروى يحدد مصير الإنسان بعد موته، لم يرسخ دين أو أى معتقد وضعي هذا المفهوم كما فعل الإسلام الدين الكامل المكتمل. فالإسلام راعى أول ما راعى ميل الإنسان الفطري إلى الخير والفضيلة، فرسخ هذا الميل فى ذات العبد عبر منظومة تشريعية تحقق للمسلم طموحه فى التوصل إلى تحقيق المجتمع المثالى الذى لطالما شكل إحدى أهم المواضيع الفلسفية منذ القدم أى منذ أفلاطون الإغريقى وسنيك القرطبى الرومانى إلى إبن رشد الأندلسى، جمال الدين الأفغانى، ومالك بن نبى المسلمين رحمهم الله جميعا.
فإيجاد المجتمع المسلم المثالي إمكانية مطروحة أتاحها الدين الإسلامى لأتباعه بتزويدهم بمجموعة كاملة من القوانين والأدوات والمعايير الأخلاقية التى تمكنهم -على خلاف تجارب الحضارات اليهودية المسيحية والبوذية مثلا- من التحرك فى واقع معلوم دون التصادم معه وتغييره تدريجيا باحترام سنن إلهية وكونية. وأشدد هنا على مسألة عدم التصادم، فحتى وإن كان واقع الأمة الإسلامية الآن واقعا مهزوما ومتخلفا فهو قابل للتغيير والتغيير هذا بإمكانه أن يحصل دون صدام عنيف بما هو كائن على أرض الواقع، والدليل على ذلك ما أقره مفكرنا الإسلامى الفذ من حوالى نصف قرن ’’ليست المشكلة أن نعلم المسلم عقيدة هو يملكها، وإنما المهم أن نرد الى هذه العقيدة فاعليتها وقوتها الإيجابية وتأثيرها الإجتماعى. وفى كلمة واحدة: إن مشكلتنا ليست فى أن نبرهن للمسلم على وجود الله بقدر ما هى فى أن نشعره بوجوده ونملأ به نفسه، بإعتباره مصدرا للطاقة.’’ هنا في هذه الفقرة الإعجازية لخص خير تلخيص ما نحن مطالبين به كمسلمين ووطنيين وفي رأي المتواضع هذه المهمة ليست بمستحيلة فى بيئة مسلمة جزائرية تنعم بالحرية رغم أنها تشكو جميع أعراض التخلف والإنحطاط، فالحرية هى الضمانة التى تتيح للمفكرين والعلماء المسلمين النهوض بهذه المهمة.
-----------------
(1)- محاضرة مشكلة الحضارة، مأخوذة من كتاب أفاق جزائرية، مكتبة النهضة الجزائرية، ترجمة السيد الطيب شريف.
(2)- جون.ل.إزبسبوزيتو من كتابه ’’ التهديد الإسلامى هل هو أسطورة أم حقيقة ؟ ’’ طبعة 1995 ،أوكسفورد.
*مدونة الكاتبة
أضافة تعليق