مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
شورى المجتمع ...... وشورى الحاكم
شورى المجتمع ...... وشورى الحاكم

إبراهيم الخليفة / الرياض
والواقع أنه يهمنا التأكيد على أن مجمل آليات الديمقراطية هي التطور الطبيعي والضروري الذي كان يمكن أن تصل إليه الخلافة الراشدة ضمن الأرضية والمرجعية الثقافية الإسلامية، لو خضعت المبادئ والاجتهادات التي تحققت للتطوير والتقنين والتنظيم. إننا نفاخر بأن الخلفاء الراشدين لم يصلوا إلى الحكم عن طريق اغتصاب السلطة، فما الذي كان ينقص هذا الوصول السلمي لكي يترسخ ويستمر ويتطور؟! كان ينقصه تحديد وتوحيد آلية الوصول وتثبيتها في وثيقة ملزمة، أي بالمعنى العصري تنظيم حق الترشيح والانتخاب وتداول السلطة..

من مظاهر الأزمة الدنيوية العميقة التي نعيشها كمسلمين هذا الغياب الهائل لقيمة الشورى. ورغم ذلك فإننا لو تأملنا عالم الأفكار والتجربة التاريخية للمسلمين، فسنجد أن هذا الغياب منطقي إلى أبعد الحدود.

فطالما أن نمط الحكم الذي انتصر ثم هيمن منذ فترات مبكرة من تاريخنا هو حكم التغلب، وطالما أن الثقافة السياسية الراسخة والسائدة هي ثقافة التغلب، وطالما أن التقليد قد أصبح عماد الطرح الثقافي، بحيث لم تحظ نصوص الوحي الواردة بشأن الشورى ولا تجربة الخلفاء الراشدين بقراءات سياسية متكررة وواسعة وعميقة خارج نطاق ثقافة التغلب، فإنه من المنطقي بقاء مفهوم الشورى غائماً وضبابياً ومتعدد المعاني والتفسيرات.

وإذا كانت حتى أحاديث الرسول الكريم الواضحة حول الانحراف السياسي لم تأخذ حقها من الاستحضار والشيوع والاهتداء بها، فمن الأولى ألا يتطور فهم الشورى وألا تأخذ هذه القيمة مكانتها اللائقة في الوعي وألا تجد طريقها إلى الواقع.

إن الاختلاف حول معنى الشورى يكاد يكون معادلاً لإلغائها، والاختلاف حول ما إذا كانت معلمة أو ملزمة، هو بمثابة الاتفاق على كونها معلمة لا ملزمة. والواقع أن ظهور المستبدين قد لا يحتاج لأكثر من مثل هذا الاختلاف.

وإذا انطلقنا من أن القرآن جديد لا يبلى ولا تنفد معانيه كما أخبر الرسول الكريم، وأعدنا تأمل الآيات القرآنية في ضوء ذلك، فسنجد أن الشورى وردت في نصين قرآنيين، أحدهما مكي والآخر مدني.

وإذا أعدنا تأمل النصين فسنجد أنهما يتحدثان عن نوعين من الشورى، إحداهما ملزمة بأقصى ما يكون الإلزام، وهي شورى المجتمع، وبها ورد النص المكي الذي سنعرضه بعد قليل. والأخرى لا إلزام فيها، وهي شورى الحاكم أو الاستشارة، وبها ورد النص المدني الذي سنعرضه لاحقاً.

ومما يؤسف له، أن معنى الشورى الحاضر في أذهاننا لا يكاد يتجاوز معنى الاستشارة الوارد في النص المدني، الأمر الذي أدى إلى تغييب الشورى الأهم والأخطر والأعظم، وهي شورى المجتمع الواردة في النص المكي. ولننظر إلى الآيات التالية التي تتحدث عن القيم والتكاليف الكبرى في حياة المؤمنين كجماعة ومجتمع وأمة.

يقول تعالى (فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ. وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ. وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ).

إن ورود الشورى وسط هذه السلسلة من القيم والتكاليف الكبرى في حياة المؤمنين لم يأت عبثاً ولا هو من قبيل التحسين اللغوي، بل هو تأكيد لأهميتها وطابعها الملزم الذي اقتضى ورودها وسط حشد من أبرز القيم والتكاليف الملزمة للمسلمين.

إن هذه الآيات تربط الشورى بعموم المؤمنين كجماعة ومجتمع وأمة، بعكس شورى الحاكم التي ينصرف خطاب الآية فيها إلى شخص الحاكم، وحيث أن الآيات المكية التي تم عرضها تسبق في نزولها مرحلة نشوء المجتمع المسلم فإن ذلك يدل على ضرورة خضوع كافة الأمـور المجتمعية ـ وعلى رأسها ما يتعلق بالسلطة السياسية، نشوءاً واستمراراً ـ لحكم الشورى المستنبط من قوله تعالى (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) بكل ما للحكم من قـوة وحسم وإلزام.

وهكذا، فالآيات التي عرضناها تدل على أن الشورى ينبغي أن تحتل في ضمير وسلوك المجتمع المسلم مكانتها المرموقة إلى جوار الإيمان بالله والتوكل عليه واجتناب كبائر الإثم والفواحش، والتسامح [وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ] وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وردع أي عدوان. وما لم يتم إدراك هذه الحقائق وإعادة صياغة الفكر والثقافة لتنسجم مع هذه المكانة التي حظيت بها شورى الجماعة، فإن قيمة الشورى ستظل غائبة عن مجتمعات المسلمين وسيظل ينتجون الاستبداد ويحمونه ويحرسونه، وذلك مهما حسنت نواياهم ومهما تعاظمت شكواهم من المستبدين والطغاة.

وليس مهماً أن يتم الاختلاف بشأن آليات تحقيق شورى المجتمع، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. والآليات ـ أياًَ كان مصدرها ـ ليست سوى وسائل، وبالتالي فلا نصيب لها من الاحترام والقبول إلا بقدر ارتفاعها بالمسلمين إلى تجسيد قولـه تعالى [ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ] في حياتهم كجماعة ومجتمع، سواء تعلق الأمر بالسلطة السياسية أو تعلق بأي أمر مجتمعي آخر.

والواقع أنه يهمنا التأكيد على أن مجمل آليات الديمقراطية هي التطور الطبيعي والضروري الذي كان يمكن أن تصل إليه الخلافة الراشدة ضمن الأرضية والمرجعية الثقافية الإسلامية، لو خضعت المبادئ والاجتهادات التي تحققت للتطوير والتقنين والتنظيم.

إننا نفاخر بأن الخلفاء الراشدين لم يصلوا إلى الحكم عن طريق اغتصاب السلطة، فما الذي كان ينقص هذا الوصول السلمي لكي يترسخ ويستمر ويتطور؟!

كان ينقصه تحديد وتوحيد آلية الوصول وتثبيتها في وثيقة ملزمة، أي بالمعنى العصري تنظيم حق الترشيح والانتخاب وتداول السلطة. كان ينقصه توسيع دائرة الولاية، بحيث تتجاوز دائرة الصفوة ـ المهاجرون والأنصار ـ إلى عموم الأمة.

ولا شك أن ولاية الصفوة في عهد الخلفاء الراشدين كانت الأنسب لأحوال المجتمع المسلم الذي كان في طور الاتساع والتمدد، وكان يتمتع بوجود صفوة جيدة الإعداد ومستجيبة للرسالة ومتواصلة معها منذ لحظات الضعف الأولى، وهو وضع تغير بصورة تدريجية، وكان ينبغي أن تتسع تبعاً لذلك دائرة الصفوة وصولاً إلى عموم الأمة.

نحن نفاخر أيضاً بحق المساءلة والمحاسبة اللذين أقرا ومورسا خلال القسم الأول من عهد الخلفاء الراشدين، فما الذي كان ينقصهما لكي يترسخا ويستمرا ويتطورا؟!

كان ينقصهما التقنين والتنظيم ووضع الآليات وإنشاء المؤسسات اللازمة لترسيخهما وتطويرهما.

وبالمقابل، فقد حدث السخط السياسي الواسع في أواخر عهد عثمان رضي الله عنه، ثم حدثت الفتنة الكبرى بمقتله، وحدث التقاتل بين الصحابة، فما الذي كان ينقصهم لتجنب هذه الأحداث وترسيخ وتطوير ما تحقق خلال القسم الأول من عهد الخلافة الراشدة؟!

كان ينقصهم وجود مؤسسة تجعل الأمر بيد الصفوة، أي بالمعنى العصري وجود مجلس شورى مستقل أو برلمان. ووجود مثل هذه المؤسسة كان سيعيق نفوذ الأقارب ويحد من جرأة العامة ويمتص أو يهذب غضب الساخطين ويقيد أو ينظم تصرفات رموز الصفوة. وكان ينقصهم إخضاع الاختلافات السياسية الكبرى للقضاء (المحكمة الدستورية بمفاهيم عصرنا)، وكان ينقصهم تنظيم تداول السلطة وإقرار التنظيمات السياسية، خصوصاً وأن التعددية السياسية ظهرت واتضحت منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. وكل هذه الآليات والمؤسسات والتنظيمات تؤدي في النهاية إلى تكريس وترسيخ مبدأ الوصول السلمي إلى السلطة الذي تحقق بالفعل في عهد الخلفاء الراشدين.

لقد قُتل ثلاث خلفاء راشدين، بينما حكام التغلب لا يكاد يصل إليهم إلا أمثالهم أو ملك الموت، فما الذي كان ينقص الخلفاء الراشدين لحماية أمنهم الشخصي؟!.

كانت تنقصهم مجمل آليات التنظيم السياسي، وخصوصاً التنظيم المؤسسي لمنصب الخلافة.

مبدأ الفصل بين السلطات، هل يتناقض مع روح وقيم الخلافـة الراشدة أم أنه ينسجم معها ويرسخها ويعمقها؟!. الإعلام السياسي الحر، هل يتناقض مع روح وقيم وثقافة الخلافة الراشدة أم أنه ينسجم معها ويرسخها ويعمقها؟! والشيء نفسه يمكن أن يقال بشأن مبدأ الشفافية واستقلال القضاء وتحديد مدة الحكم وغير ذلك من المبادئ والآليات والمؤسسات التي يلزمها الإصلاح السياسي، أي أن مجرد إدخال الخلافة الراشدة إلى عالم التقنين والتنظيم والتطوير كان سيقود إلى تلك المبادئ والآليات والمؤسسات.

إن الحكم العائلي نقيض للخلافة الراشدة وهادم لشورى المجتمع التي وردت ضمن سلسلة القيم الكبرى في حياة المؤمنين على النحو الذي عرضناه.

نأتي الآن إلى النوع الثاني من الشورى، وهي الشورى غير الملزمة أو الاستشارة. وأول ما ينبغي ملاحظته أن النص الوارد بشأن هذا النوع من الشورى هو نص مدني. أي أنه ينبغي النظر إليه وإلى مدلوله ومجال تطبيقه بعد أن تكون كافة السلطات المجتمعية قد قامت وخضع استمرارها لشورى المجتمع الواردة في قولـه تعالى [وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ].

في ظل هذا الوضع تبرز قضية أخرى تتعلق بعمل رئيس السلطة التنفيذية أو الحاكم، أياً كان مستوى الحكم الذي يمارسه. هل يتعين عليه أن يستشير من حوله ويستعين بمستشارين يعينونه على أداء عمله أم لا؟

بخصوص هذه القضية المحددة، ورد النص المدني الذي يتحدث عن الشورى، وهو يشير إلى ضرورة التزام الرئيس أو الحاكم باستشارة كل من يمكنه استشارتهم، ويشير كذلك إلى أن تلك الشورى معلمة لا إلزام فيها. وكما هو واضح، فإنه لا مجال للخلط بين هذه الشورى وبين شورى المجتمع الملزمة، والتي تظل حاكمة لكافة الأمور المجتمعية.

فلنستصحب هذه المعاني، ولننظر إلى صيغة الخطاب في قوله تعالى (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ).

هذا النص يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم كحاكم. وقد نزل النص عقب غزوة أحد التي هزم فيها المسلمون، وكانت الشورى ـ بحسب الظاهر ـ أحد أسباب الهزيمة. وخالف رماة الجبل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، الأمر الذي أدى إلى تغيير موازين المعركة. ونقض اليهود عهودهم مع المسلمين، وحاول بعض المنافقين تثبيط همم المسلمين وثنيهم عن مجابهة المشركين، وقد انسحب الكثير منهم، وبعضهم اعترض على نتائجها وحاول تحميل رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعة تلك النتائج.

في ظل هذه الأجواء نزلت الآية السابقة، لا لتحدثنا عن المشانق التي نصبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لرماة الجبل الذين خالفوا الأوامر وتسببوا في الهزيمة، أو العقوبات التي حلت بالمنافقين الذين حاولوا تفريق صفوف المسلمين، أو التوبيخ الذي لاقاه من انسحب من المعركة، أو التقريع الذي نال من أدان رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمله نتائج المعركة.

لم تأت الآية لتحدثنا عن شيء من ذلك، بل جاءت تمتدح التسامح واللين الذي أظهره رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب المعركة، وتأمره بالعفو عن المؤمنين والاستغفار لهم واستشارتهم في كل أمر يتطلب الاستشارة.

وإذا كان هذا هو شأن الاستشارة بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم المبلغ للوحي، فإن لنا أن نتصور شأنها بالنسبة للحكام العاديين الذين لا علاقة لهم بالقداسة أو العصمة؟!.

ونختم حديثنا هذا بالتذكير بمثال آخر للاستشارة ورد في حديث ملكة سبأ حين وصلها كتاب سليمان عليه السلام، حيث يقـول تعالى (قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ . قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ).

إنها شورى غير ملزمة (استشارة)، وهي تختلف كلياً عن شورى المجتمع الملزمة التي يجب أن تخضع لها كافة الأمور المجتمعية الكبرى، انسجاماً مع ورودها كسمة كبرى من سمات المؤمنين إلى جوار الإيمـان بالله والتوكل عليه واجتناب كبـائر الإثم والفواحش، والتسامح [ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ] وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وردع أي عدوان.

ترى، هل تسمح النصوص القرآنية الواردة بشأن الشورى بأدنى درجات الخلط بين هذين النوعين من الشورى (شورى المجتمع، والاستشارة) إذا وضعنا النصوص القرآنية نصب أعيننا وحاولنا فهمها بأقصى قدر من التجرد والموضوعية والحرص على التحرر من أي تأثير لثقافة حكم التغلب واعتذاراته وتبريراته؟

هل قوله تعالى عن المؤمنين كجماعة ومجتمع ’’وأمرهم شورى بينهم’’ إلى جوار الإيمان بالله والتوكل عليه واجتناب كبائر الإثم والفواحش وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وردع أي عدوان، ينبئ عن شورى معلمة غير ملزمة؟!

وإذا لم تكن الشورى جديرة بإعادة الفهم والانصياع لمدلولات الآيات القرآنية بشأنها، فما هي القضايا الهامة التي تستحق أن تشغل المسلمين في حياتهم الدنيوية؟!
*العصر
أضافة تعليق