ضوابط تشغيل النساء
د. عدنان حسن باحارث
الحمد لله ، والصلاة والسلام على نبينا وسيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد : فإن مشروعية النشاط الاقتصادي لا تستلزم – بالضرورة – جواز مشاركة المرأة فيه بصورة مطلقة ، حتى ينضم إليها مجموعة من الضوابط والشروط ؛ فإن عمل المرأة في الحياة العامة يتطلب مزيد قيود زائدة على ما يجب على الرجل ؛ فالمرأة في دول العالم الثالث تسير على المنوال نفسه الذي سارت عليه المرأة في الدول الصناعية ، وهذا من شأنه أن تكون النتائج السلبية التي وصلت إليها المرأة العاملة في الدول الصناعية تشبه النتائج التي سوف تصل إليها المرأة في العالم الثالث ، وقد تكون المسألة أبلغ وأعقد بعد انضمام غالب الدول النامية – ومنها الدول الإسلامية – إلى منظمة التجارة العالمية ، حينما يفقد المجتمع المحلي – بما فيه الدولة التقليدية – الدور التربوي ، والسلطة الأخلاقية ، لتكون المرجعية المسيطرة – في كل ذلك – هي السوق الاستثمارية ، التي تعبِّر عن قيم واتجاهات ورغبات الشركات الاستثمارية الكبرى العابرة للقارات .
لذا كان من المفروض وضع الضوابط التي تحكم مشاركة المرأة المسلمة في ميادين التنمية الاقتصادية العامة ، وتراعي خصوصيتها الاجتماعية ، ودورها التربوي ، وطبيعتها الفطرية ، وذلك على النحو الآتي :
أولاً: الضابط الإيماني لتشغيل النساء:
والمقصود بهذا الضابط : البعد الغيبي للتنمية الاقتصادية الذي يحكمه التشريع الإسلامي فيحدد هدفه ، ويوضح معالمه ، ويفرض استقلاله عن الأنظمة الاقتصادية الجاهلية، وذلك من خلال النقاط الآتية :
1- إدراك الغاية من التنمية الاقتصادية الشاملة وهي مرضاة الله تعالى بالتزام التشريعات الاقتصادية التي جاء بـها الإسلام في جميع الجوانب والخطط التنموية المختلفة ؛ فإن المجتمع بكل فعالياته وحركته لا يعدو أن يكون وسيلة إلى مرضاة الله تعالى.
2- تجاوز النموذج الغربي للتنمية الاقتصادية الذي ثبت إخفاقه في كثير من جوانبه ، فلا يكون هو النموذج المقياس للتنمية الاقتصادية في المجتمع المسلم، لاسيما وقد ثبت في الواقع وجود نماذج اقتصادية أخرى ، لا تقل تفوقاً – في بعض جوانبها – عن النموذج الغربي.
3- الانطلاقة التنموية من ذات الأمة الإسلامية من خلال الاعتماد على ثرواتها المدخرة في أرضها وفي أفرادها ، بهدف التخلص من الهيمنة الاقتصادية الغربية ؛ فقد أثبتت التجارب أن التنمية لا تأتي من الخارج ، وإنما هي عملية اجتماعية واعية ، تنطلق من إرادة وطنية مستقلة، ومن المعلوم أن خطة التنمية كلما كانت متوافقة مع الإطار المرجعي للأمة : كانت أكثر فعالية ، وأجدر أن تؤتي ثمارها.
ثانياً: الضابط الأخلاقي لتشغيل النساء :
والمقصود بهذا الضابط : إحكام مشاركات النساء الاقتصادية العامة ضمن الضوابط الأخلاقية والآداب المرعية التي جاء بـها الإسلام ، وهذا يتجلى في النقاط الآتية:
1- تجنب اختلاط المرأة بالرجال الأجانب في العمل ؛ وذلك للمفاسد الخلقية والاجتماعية التي نجمت من جراء فتنة الاختلاط بين الجنسين ، لاسيما إذا وقعت المرأة العاملة المحتاجة تحت سلطة الرجل الذي لا يتورع عن استغلالها ، بصورة من صور الاستغلال الأخلاقي.
2- تحريم جميع أشكال الاتجار بشخص المرأة العاملة سواء كان ذلك بصورتها أو بصوتها أو بجسدها ؛ بحيث يمنع بصورة جذرية استغلالها جسدياً لترويج المنتجات الاستهلاكية ، أو إبرام العقود التجارية ، أو استغلالها كواجهة لجذب الزبائن ، أو ابتذالها في خدمتهم ، أو الترويح عنهم .
ثالثاً : الضابط الإنساني لتشغيل النساء:
ويُقصد بهذا الضابط : المحافظة على كرامة المرأة ، وحمايتها من كل ما من شأنه إذلالها ، أو احتقارها ، أو إرهاقها وهذا يتضح من خلال النقاط الآتية:
1- الترفع بالمرأة عن الأعمال المهنية الوضيعة التي قد تستذل كرامتها ، وتضعف درجة محافظتها على شرفها ، والتي أصبحت في هذا العصر مهن غالب النساء، فما من مهنة ذهب بريقها ، وزهد فيها الرجال إلا تكدس فيها النساء ، وهي – للأسف - المهن التي تُرشَّح لها اليوم النساء الخليجيات في عمليات إحلال العمالة النسائية الوطنية مكان العمالة الوافدة الأجنبية ، التي تشغل – في الغالب - المهن الوضيعة والحقيرة.
2- حماية المرأة من الأعمال الشاقة المضنية ، التي تتطلب جهداً جسمياً كبيراً ؛ مما قد يعيق قيامها بوظائفها الإنسانية في الإنجاب ورعاية الأطفال وخدمة الأسرة ، وقد شهد الواقع اشتغال كثير من النساء بهذه المهن الشاقة في المصانع ، والورش ، والمناجم ، وذلك بعد أن مُلئت المهن المناسبة بالأعداد المتزايدة من النساء ، فلم يعد أمام الراغبات الجدد سوى المهن الصعبة.
3- ضمان الحق المالي للفتاة العاملة ؛ بحيث تعطى على عملها أجر المثل دون إجحاف بسبب الأنوثة ؛ فإن عنصر الأنوثة في المرأة حتى الآن – في كثير من الدول المتقدمة حسب تقارير الأمم المتحدة - لا يزال سبباً في حيف اجتماعي ، وظلم إداري ، لا تتقاضى بسببه المرأة أجر المثل ، رغم قيامها في بعض المهن بنفس جهد الرجل ، وقد تأهلت مثله بالشهادة العلمية والخبرة.
رابعاً: الضابط الصحي لتشغيل النساء :
والمقصود بهذا الضابط : ما يمنع المرأة من العمل بسبب الضرر الصحي المتوقع عليها ، وهذا يتضح من خلال النقاط الآتية:
1- تجنب تأثيرات العمل السلبية على صحة المرأة الجسمية ، فلا يعيق العمل نموها السليم ، ولا يعطل مهمتها الاجتماعية ، ووظائفها العبادية ، إلا أن الواقع يشهد بأن المرأة العاملة أقل فئات المجتمع راحة ونوماً، وأكثرهم جهداً وعملاً ؛ مما ينعكس سلباً على صحتها الجسمية.
2- تجنب تأثيرات العمل السلبية على صحة المرأة النفسية ؛ بحيث يعيقها العمل عن التوافق الاجتماعي ، ويخرجها عن حد الاتزان ، وقد لُوحظ على كثير من العاملات شيء من الإرهاق النفسي ، والقلق ، والاكتئاب ، الذي يدفع بعضهن إلى عدم التوافق الاجتماعي ، وربما دفعهن إلى شيء من العنف العائلي تجاه الأبناء.
3- تجنب تأثيرات العمل السلبية على سلامة إنجاب المرأة ، فلا يكون العمل سبباً في انخفاض مستوى قدرتها على الإنجاب ، وضعفها عن القيام بهذه المهمة الحيوية باعتبارها وظيفة إنسانية ضرورية ، وقد لُوحظ إخفاق بعض النساء في إتمام حملهن بسبب الإرهاق والجهد البدني بسبب العمل .
خامساً : الضابط الأسري لتشغيل النساء :
والمقصود بهذا الضابط هو : الانعكاسات السلبية التي يمكن أن يفرزها العمل خارج المنزل على أدوار المرأة الأسرية ، وتوافقها مع زوجها ، ومعدلات خصوبتها ، ورعايتها لأطفالها ، ويمكن تلخيص ذلك في هذه النقاط:
1- حماية نظام الأسرة من التصدع ، فلا يكون العمل سبباً كافياً لإحجام المرأة عن الزواج بحجة اكتفائها اقتصادياً ، فقد لُوحظ عزوف بعض النساء عن النكاح بسبب العمل ، باعتباره مورداً اقتصادياً يستغنين به عن الزواج ، وإقامة الأسرة، وهذا يتعارض مع وجهة الإسلام المرغبة في الزواج ، والمنفرة من العزوبة.
2- رعاية المرأة العاملة لقوامة الزوج من الاختلال ؛ بحيث لا يكون موردها المالي سبباً في إضعاف قوامة الزوج الأسرية ، فإن للقوامة جانبين : فطري وكسبي ، وكثيراً ما يكون مورد المرأة الاقتصادي سبباً في مصادرة قوامة الزوج الكسبية، والإخلال بـها ، وهذا من شأنه أن يخل بنظام الأسرة الطبيعي ، ويثير صراعات تنافسية بين الزوجين ، تنعكس آثرها سلباً على مهمة التربية الأسرية.
3- سلامة معدلات خصوبة المرأة العاملة من الانخفاض ، فلا يكون العمل سبباً مباشراً في انخفاض معدلات خصوبتها ، والواقع يشهد من خلال الإحصاءات انخفاض معدلات خصوبة المرأة العاملة ، فإن أفضل طريقة لتحديد النسل : ربط النساء بالعمل خارج المنزل.
4- تجنُّب المرأة العاملة صراع الأدوار الاجتماعية ؛ بحيث تستطيع أن توِّفق بين عملها خارج المنزل وداخله دون تعرضها لأزمة تعارض الأدوار الاجتماعية ، وهذا النوع من الصراع لا تكاد تنفك عنه المرأة العاملة خارج المنزل ، وإنما يختلفن في درجة معاناتهن من آثاره المزعجة ، وقد لُوحظ أن محاولة المرأة العاملة التوفيق بين المهمتين المناطة بـها – بصورة مُرْضية – يكاد يكون مستحيلاً ؛ ولهذا كثيراً ما يفضل أرباب العمل المرأة العزبة ، لخلو ذهنها ومشاعرها من هذه الصراعات ، وأمثالها من المنغصات.
5- المحافظة على سلامة أولاد المرأة العاملة من الانحراف ، وهو أن لا يكون عملها خراج المنزل سبباً في ضياع أولادها في المستقبل ، أو إهمال تربيتهم ؛ فإن المرأة العاملة تهمل – بالضرورة- شيئاً كثيراً من شؤون أولادها كالرضاعة الطبيعية ، وتولي شؤونهم بصورة مباشرة ، وتحمُّل أعباء معاناة التربية ، مما قد يكون سبباً في المستقبل في انحرافات سلوكية ، وقبائح اجتماعية يقع فيها الأولاد بسبب ضعف التربية ، واختلال التنشئة في الصغر.
سادساً : الضابط التخصصي لتشغيل النساء :
والمقصود بهذا الضابط : إحكام مجالات عمل المرأة ضمن تخصصات محددة تتناسب مع طبيعتها من جهة ، ويحتاجها المجتمع من جهة أخرى ، وهذا يتضح فيما يلي :
1- رفض مبدأ تماثل الأدوار المهنية بين الجنسين ، بحيث يستقر لدى المرأة والمجتمع أن التماثل في جميع الأعمال المهنية بين الجنسين أمر مرفوض ، فلابد أن يبقى هناك وظائف تختص بالرجال وأخرى بالنساء ، تناسب كلاً حسب طبيعته ، فليس كل إنسان يصلح لكل عمل ولكل صناعة ؛ فإن المواهب المختلفة تفرض نفسها ، ونوع الجنس يفرض نفسه أيضاً ، والجنسان ما خلقا ليتسابقا في مضمار واحد.
2- مراعاة حاجات الإناث الطبية والتعليمية ، بحيث يكون هذان الجانبان أهم ميادين المرأة التنموية العامة – كما هو الواقع- على أن تكون مشاركتها ضمن مفاهيم الشرع وحدوده المحترمة ، التي كثيراً ما تتعارض مع واقع ممارسات الإناث في المهن التعليمية والطبية ، فإن شرف هاتين المهنتين لا يلغى ثوابت الشريعة وأخلاقياتها المرعية.
سابعاً : الضابط الحاجي لتشغيل النساء :
ويُقصد بهذا الضابط: وجود حاجة قائمة بين المرأة والعمل ، فلا يكون إشغالها للوظيفة لغير حاجة متبادلة بينها وبين الوظيفة ، وهذا يظهر فيما يلي :
1- عدم الاعتماد على العمالة النسائية في قيام النهضة الاقتصادية ؛ وذلك لأن النهضة الاقتصادية لا تقوم عادة على أكتاف النساء ؛ لا سيما إذا عجز عن ذلك الرجال ، وقد شهد التاريخ الإنساني نهضات كبرى ، ولاسيما في التاريخ الإسلامي ، كانت فيها المرأة بعيدة عن الحياة المهنية العامة ، قد انشغلت بوظائفها الفطرية التي دعمت النهضة من خلال تربية وإعداد الرجال العاملين ، مما يدل على أن التفوق في التنمية الاقتصادية لا علاقة له بزيادة نسب العنصر النسائي في المهن العامة.
2- تجنب تأثير عمل النساء على زيادة البطالة بين الرجال ، فلا يكون عملهن سبباً في تعطيل الرجال عن الكسب ؛ لكونهم مكلفين شرعاً بأُسر ينفقون عليها ، والنساء مكفولات شرعاً بأوليائهن ، وقد ثبت أن الدور الأكبر في أزمة البطالة المعاصرة يُعزى إلى التوسع في تشغيل النساء ، مما دفع بعض الدول إلى التقليل من فرص أعمالهن حتى في بعض الميادين التي تخصُّهن ؛ رغبة في توفير مهن للرجال المكلفين فطرياً وشرعياً بالنفقة على الأسر ، فالرجل بالفطرة وبإلزام الشرع يُوزِّع ثروته ويفتتها بصورة دائمة على من هم تحت يده ، والمرأة بحكم الشرع تجمع ولا تفتت ثروتها بالنفقة ، ومن المعلوم أن توزيع الثروة مطلب اقتصادي مرغوب فيه ، وللناظر أن يتأمل : ما هو موقف الشرع حين يتقدم رجل وزوجته إلى وظيفة ما ، فتقبل الزوجة للوظيفة ويُرد الرجل ، فهل يكون من المنطق العقلي ، والنظر الشرعي إلزامها بالنفقة عليه ، وإسقاط وجوب النفقة عنه ، فتتغيَّر – بناء على هذا الوضع الشاذ- ثوابت الشريعة ، أم أن المنطق والشرع يعطي الوظيفة للرجل ، ومن ثمَّ يلزمه بالنفقة على زوجته ؟
3- التأكيد على حاجة المرأة الاقتصادية للعمل ؛ بحيث يكون عملها عن حاجة مالية ، أو حاجة اجتماعية دون الحاجات المتوهمة ، أو غير المعتبرة شرعاً ؛ فإن نسبة كبيرة من النساء العاملات ليس لهن غرض من العمل سوى التسلية ، وإثبات الذات ، كما دلت على ذلك كثير من الدراسات الميدانية.
ثامناً : الضابط الأنثوي لتشغيل النساء :
المقصود بهذا الضابط: ما يمنع المرأة عن العمل بسبب الأنوثة ؛ بحيث يكون الجنس سبباً كافياً لمنعها من العمل ، أو إعفائها من القيام به ، وهذا ما يتعلق غالباً بتعارض الأنوثة مع العمل السياسي ، وظهر هذه التعارضات من خلال النقاط الآتية:
1- تعارض الأنوثة الاجتماعي مع نمط البروز السياسي ، الذي تتطلبه الممارسة السياسية في مواجهة الجماهير ، ومخالطتهم ، وتربيتهم ، وقيادتهم، وهذا لا يتناسب مع طبيعة المرأة المأمورة بالحجاب والستر ، وخروج السيدة عائشة رضي الله عنها يوم الجمل مذهب قديم لها ، قد تواترت الأخبار عنها بالتوبة منه ، والرجوع عنه ، فلا يصح أن يكون دليلاً، ثم هي لم تخرج من باب حقها في المشاركة السياسية ؛ وإنما خرجت رغبة في الإصلاح بين فئتين من المسلمين باعتبارها أماً لهم ، وإلا فأين باقي النساء لم يشاركن ، إضافة إلى أنها حين خرجت كانت في هودج من حديد لا يُرى من شخصها شيء.
2- تعارض الأنوثة الفطري مع طبيعة السلوك السياسي من جهة الطبيعة العقلية ، والطبيعة العاطفية ، والطبيعة النفسية ، التي لا تتوافق في جملتها مع نوع المسؤولية السياسية ، التي يتقاصر عنها غالب الرجال فضلاً عن النساء.
3- تعارض الأنوثة مع الولايات السياسية العامة من الناحية الواقعية التي تدل على ندرة وجودهن في المواقع السياسية المؤثرة ، وما يُنقل تاريخياً وواقعياً عن نساء برزن في ميادين سياسية ، وقتالية لا تتعدى الندرة والشذوذ الذي لا يغير من الحقائق شيئاً ، والمرأة حين تريد أن تصنع شيئاً في الميدان السياسي تحتاج إلى أن تتخلص مما هي به أنثى من الطبائع والأخلاق والأعمال ، وتتصف بما يجعلها ذكراً ، من الأفعال والممارسات المختلفة ؛ ولهذا أعرضت بلقيس ملكة سبأ عن الزواج ، وتناولت ’’تاتشر’’ رئيسة وزراء بريطانيا السابقة صفة من عالم الرجال – المرأة الحديدية – لتتخلص بها مما هي به أنثى.
4- تعارض الأنوثة مع عضوية أهل الحل والعقد ، فلا يصح أن تكون عضواً فيهم ، وإنما تستشار المرأة الخبيرة فيما يتصل بالشؤون النسائية ، مما تحتاجه الأمة ، ولا يطلع عليه غيرهن ، هذا هو الثابت في تاريخ الأمة السياسي دون حالات الشذوذ التي مرت بـها الأمة زمن ضعفها وتخلفها ، فالسيدة فاطمة والسيدة عائشة رضي الله عنهما رغم فضلهما ومكانتهما لم تكونا موضع استشارة سياسية من أحد الخلفاء ، ولم تبايع امرأة قط خليفة للمسلمين ، وإنما هن وعامة الناس تبعاً لأهل الحل والعقد من أفذاذ رجال الأمة ، الذين يُعرفون بعلمهم وجهدهم وجهادهم ، ممن لا يحتاجون أصلاً إلى من يزكيهم أو يُعرِّف بهم من العامة أو النساء ، فإن الأصل أن المرأة لا تعرف شؤون الرجال الأجانب ؛ لكونها بعيدة عن مجامعهم ، فكيف لها أن تزكي أحداً منهم ، أو تعرف به ؛ ولهذا لم تسجل كتب الرجال مطلقاً كلاماً للنساء في الجرح والتعديل ، وما حصل من أم سلمة رضي الله عنها يوم الحديبية من المشورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بطريقة عفوية ، ولو كانت المشورة السياسية حقاً للنساء ما كان للرسول صلى الله عليه وسلم أن يحصرها في امرأة واحدة ، لا سيما وأنه عليه الصلاة والسلام لم يستشر في حياته كل الرجال من أصحابه ، ومع ذلك لم يتوقف امتثال الصحابة على مشورتها ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم سوف يذبح ويحلق بكل حال ، سواء أشارت أم سلمة أو لم تشر ؛ لأنه واجب شرعي غير متوقف على رأي أحد ، وهذا عين ما حدث في حجة الوداع حين تباطأ الصحابة بعد طوافهم وسعيهم من التحلل بالحلق وجعلها عمرة ، حين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتمتع لمن لم يكن منهم قد ساق الهدي ، فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم من تباطئهم، ودخل على عائشة رضي الله عنها وهو مُغضب وقد علمتِ الخبر ، ومع ذلك حلق الصحابة في نهاية الأمر وجعلوها عمرة متمتعين بها إلى الحج ، رغم أن الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه لم يحلق لكونه قارناً قد ساق الهدي ، فالأمر حاصل بكل حال بمشورة أم سلمة وبغير مشورتها ، ثم هل فهمت أم سلمة رضي الله عنها – صاحبة الحادثة - ما فهمه المحللون من حادثة الحديبية أنها دليل عل جواز مشاركة المرأة السياسية ؛ فإن واقعها مخالف لذلك تماماً ؛ فقد كانت أشد الناس إنكاراً على عائشة رضي الله عنها حين خرجت إلى البصرة ، وثبتت عنها نصوص تدل على أنها لا ترى نفسها أهلاً - بسبب الأنوثة - للمشاركة السياسية ، ومع ذلك فإن الموقف يوم الحديبية موقف تشريع في مسألة حكم المُحْصر ، وليس موقفاً سياسياً.
5- تعارض الأنوثة مع المسؤولية العسكرية ، فلا تكلف المرأة بالجهاد ، ولا تقود الجيوش ، ولا تكون جندية ، وإنما تدافع عن نفسها عند الضرورة ، وهذا من رحمة الله بالنساء ، ولطبيعة أدوارهن المهمة في تكثير النوع ؛ فإن كثرة النسل تتوقف على وفرة العنصر النسائي ، إضافة إلى حاجتهن إلى السكون ، فهن كالقوارير في سرعة تكسرهن كما وصف الرسول صلى الله عليه وسلم ، وما ثبت عن بعضهن من القتال كان ضمن الضرورة ، وهذا واجب المرأة ، أما في غير ضرورة فلا يصح منها القتال ، ولا مشاركة الرجال لما فيه من الفتنة ، ولاسيما من الشواب ، وأما التدريب على السلاح الخفيف ، فهذا يحصل إذا عاشت الأمة المسلمة حالة الجهاد ، وكانت الأسلحة الخفيفة ضمن متاع البيوت - كما كان في السابق - تعاينها المرأة وتتدرب عليها مع محارمها ، إلا أن الواقع يشهد بتخلف الرجال عن هذه المهمة الجهادية وهم المكلفون بها شرعاً ، فكيف يُفرض ذلك على النساء ، ويُطالبن بالتدريب والرجال في عزلة عن السلاح ؟
الخاتمة :
لا شك أن هذه الضوابط كثيرة ، وتحمل في طياتها التعجيز عن مشاركة المرأة في ميادين التنمية الاقتصادية العامة ، وهذا حق فإن مخالفة الفطرة والشرع أمران عسيران وشاقان ، يشبهان محاولة توجيه النهر الجاري في غير اتجاهه ، ومع هذا فقد يحتاج المجتمع ، وقد تحتاج المرأة – في ظل الظروف الاجتماعية والاقتصادية القائمة – إلى العمل خارج المنزل مع مخالفة شيء من هذه الضوابط ضمن حدِّ الضرورة الشرعية ، والحاجة الاجتماعية الملحة ، إلا أنه لابد أن يعرف أن الضرورة تُقدَّر بقدرها ، وما أبيح لضرورة يزول بزوالها.
د. عدنان حسن باحارث
www.bahareth.org
*لجينيات
د. عدنان حسن باحارث
الحمد لله ، والصلاة والسلام على نبينا وسيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد : فإن مشروعية النشاط الاقتصادي لا تستلزم – بالضرورة – جواز مشاركة المرأة فيه بصورة مطلقة ، حتى ينضم إليها مجموعة من الضوابط والشروط ؛ فإن عمل المرأة في الحياة العامة يتطلب مزيد قيود زائدة على ما يجب على الرجل ؛ فالمرأة في دول العالم الثالث تسير على المنوال نفسه الذي سارت عليه المرأة في الدول الصناعية ، وهذا من شأنه أن تكون النتائج السلبية التي وصلت إليها المرأة العاملة في الدول الصناعية تشبه النتائج التي سوف تصل إليها المرأة في العالم الثالث ، وقد تكون المسألة أبلغ وأعقد بعد انضمام غالب الدول النامية – ومنها الدول الإسلامية – إلى منظمة التجارة العالمية ، حينما يفقد المجتمع المحلي – بما فيه الدولة التقليدية – الدور التربوي ، والسلطة الأخلاقية ، لتكون المرجعية المسيطرة – في كل ذلك – هي السوق الاستثمارية ، التي تعبِّر عن قيم واتجاهات ورغبات الشركات الاستثمارية الكبرى العابرة للقارات .
لذا كان من المفروض وضع الضوابط التي تحكم مشاركة المرأة المسلمة في ميادين التنمية الاقتصادية العامة ، وتراعي خصوصيتها الاجتماعية ، ودورها التربوي ، وطبيعتها الفطرية ، وذلك على النحو الآتي :
أولاً: الضابط الإيماني لتشغيل النساء:
والمقصود بهذا الضابط : البعد الغيبي للتنمية الاقتصادية الذي يحكمه التشريع الإسلامي فيحدد هدفه ، ويوضح معالمه ، ويفرض استقلاله عن الأنظمة الاقتصادية الجاهلية، وذلك من خلال النقاط الآتية :
1- إدراك الغاية من التنمية الاقتصادية الشاملة وهي مرضاة الله تعالى بالتزام التشريعات الاقتصادية التي جاء بـها الإسلام في جميع الجوانب والخطط التنموية المختلفة ؛ فإن المجتمع بكل فعالياته وحركته لا يعدو أن يكون وسيلة إلى مرضاة الله تعالى.
2- تجاوز النموذج الغربي للتنمية الاقتصادية الذي ثبت إخفاقه في كثير من جوانبه ، فلا يكون هو النموذج المقياس للتنمية الاقتصادية في المجتمع المسلم، لاسيما وقد ثبت في الواقع وجود نماذج اقتصادية أخرى ، لا تقل تفوقاً – في بعض جوانبها – عن النموذج الغربي.
3- الانطلاقة التنموية من ذات الأمة الإسلامية من خلال الاعتماد على ثرواتها المدخرة في أرضها وفي أفرادها ، بهدف التخلص من الهيمنة الاقتصادية الغربية ؛ فقد أثبتت التجارب أن التنمية لا تأتي من الخارج ، وإنما هي عملية اجتماعية واعية ، تنطلق من إرادة وطنية مستقلة، ومن المعلوم أن خطة التنمية كلما كانت متوافقة مع الإطار المرجعي للأمة : كانت أكثر فعالية ، وأجدر أن تؤتي ثمارها.
ثانياً: الضابط الأخلاقي لتشغيل النساء :
والمقصود بهذا الضابط : إحكام مشاركات النساء الاقتصادية العامة ضمن الضوابط الأخلاقية والآداب المرعية التي جاء بـها الإسلام ، وهذا يتجلى في النقاط الآتية:
1- تجنب اختلاط المرأة بالرجال الأجانب في العمل ؛ وذلك للمفاسد الخلقية والاجتماعية التي نجمت من جراء فتنة الاختلاط بين الجنسين ، لاسيما إذا وقعت المرأة العاملة المحتاجة تحت سلطة الرجل الذي لا يتورع عن استغلالها ، بصورة من صور الاستغلال الأخلاقي.
2- تحريم جميع أشكال الاتجار بشخص المرأة العاملة سواء كان ذلك بصورتها أو بصوتها أو بجسدها ؛ بحيث يمنع بصورة جذرية استغلالها جسدياً لترويج المنتجات الاستهلاكية ، أو إبرام العقود التجارية ، أو استغلالها كواجهة لجذب الزبائن ، أو ابتذالها في خدمتهم ، أو الترويح عنهم .
ثالثاً : الضابط الإنساني لتشغيل النساء:
ويُقصد بهذا الضابط : المحافظة على كرامة المرأة ، وحمايتها من كل ما من شأنه إذلالها ، أو احتقارها ، أو إرهاقها وهذا يتضح من خلال النقاط الآتية:
1- الترفع بالمرأة عن الأعمال المهنية الوضيعة التي قد تستذل كرامتها ، وتضعف درجة محافظتها على شرفها ، والتي أصبحت في هذا العصر مهن غالب النساء، فما من مهنة ذهب بريقها ، وزهد فيها الرجال إلا تكدس فيها النساء ، وهي – للأسف - المهن التي تُرشَّح لها اليوم النساء الخليجيات في عمليات إحلال العمالة النسائية الوطنية مكان العمالة الوافدة الأجنبية ، التي تشغل – في الغالب - المهن الوضيعة والحقيرة.
2- حماية المرأة من الأعمال الشاقة المضنية ، التي تتطلب جهداً جسمياً كبيراً ؛ مما قد يعيق قيامها بوظائفها الإنسانية في الإنجاب ورعاية الأطفال وخدمة الأسرة ، وقد شهد الواقع اشتغال كثير من النساء بهذه المهن الشاقة في المصانع ، والورش ، والمناجم ، وذلك بعد أن مُلئت المهن المناسبة بالأعداد المتزايدة من النساء ، فلم يعد أمام الراغبات الجدد سوى المهن الصعبة.
3- ضمان الحق المالي للفتاة العاملة ؛ بحيث تعطى على عملها أجر المثل دون إجحاف بسبب الأنوثة ؛ فإن عنصر الأنوثة في المرأة حتى الآن – في كثير من الدول المتقدمة حسب تقارير الأمم المتحدة - لا يزال سبباً في حيف اجتماعي ، وظلم إداري ، لا تتقاضى بسببه المرأة أجر المثل ، رغم قيامها في بعض المهن بنفس جهد الرجل ، وقد تأهلت مثله بالشهادة العلمية والخبرة.
رابعاً: الضابط الصحي لتشغيل النساء :
والمقصود بهذا الضابط : ما يمنع المرأة من العمل بسبب الضرر الصحي المتوقع عليها ، وهذا يتضح من خلال النقاط الآتية:
1- تجنب تأثيرات العمل السلبية على صحة المرأة الجسمية ، فلا يعيق العمل نموها السليم ، ولا يعطل مهمتها الاجتماعية ، ووظائفها العبادية ، إلا أن الواقع يشهد بأن المرأة العاملة أقل فئات المجتمع راحة ونوماً، وأكثرهم جهداً وعملاً ؛ مما ينعكس سلباً على صحتها الجسمية.
2- تجنب تأثيرات العمل السلبية على صحة المرأة النفسية ؛ بحيث يعيقها العمل عن التوافق الاجتماعي ، ويخرجها عن حد الاتزان ، وقد لُوحظ على كثير من العاملات شيء من الإرهاق النفسي ، والقلق ، والاكتئاب ، الذي يدفع بعضهن إلى عدم التوافق الاجتماعي ، وربما دفعهن إلى شيء من العنف العائلي تجاه الأبناء.
3- تجنب تأثيرات العمل السلبية على سلامة إنجاب المرأة ، فلا يكون العمل سبباً في انخفاض مستوى قدرتها على الإنجاب ، وضعفها عن القيام بهذه المهمة الحيوية باعتبارها وظيفة إنسانية ضرورية ، وقد لُوحظ إخفاق بعض النساء في إتمام حملهن بسبب الإرهاق والجهد البدني بسبب العمل .
خامساً : الضابط الأسري لتشغيل النساء :
والمقصود بهذا الضابط هو : الانعكاسات السلبية التي يمكن أن يفرزها العمل خارج المنزل على أدوار المرأة الأسرية ، وتوافقها مع زوجها ، ومعدلات خصوبتها ، ورعايتها لأطفالها ، ويمكن تلخيص ذلك في هذه النقاط:
1- حماية نظام الأسرة من التصدع ، فلا يكون العمل سبباً كافياً لإحجام المرأة عن الزواج بحجة اكتفائها اقتصادياً ، فقد لُوحظ عزوف بعض النساء عن النكاح بسبب العمل ، باعتباره مورداً اقتصادياً يستغنين به عن الزواج ، وإقامة الأسرة، وهذا يتعارض مع وجهة الإسلام المرغبة في الزواج ، والمنفرة من العزوبة.
2- رعاية المرأة العاملة لقوامة الزوج من الاختلال ؛ بحيث لا يكون موردها المالي سبباً في إضعاف قوامة الزوج الأسرية ، فإن للقوامة جانبين : فطري وكسبي ، وكثيراً ما يكون مورد المرأة الاقتصادي سبباً في مصادرة قوامة الزوج الكسبية، والإخلال بـها ، وهذا من شأنه أن يخل بنظام الأسرة الطبيعي ، ويثير صراعات تنافسية بين الزوجين ، تنعكس آثرها سلباً على مهمة التربية الأسرية.
3- سلامة معدلات خصوبة المرأة العاملة من الانخفاض ، فلا يكون العمل سبباً مباشراً في انخفاض معدلات خصوبتها ، والواقع يشهد من خلال الإحصاءات انخفاض معدلات خصوبة المرأة العاملة ، فإن أفضل طريقة لتحديد النسل : ربط النساء بالعمل خارج المنزل.
4- تجنُّب المرأة العاملة صراع الأدوار الاجتماعية ؛ بحيث تستطيع أن توِّفق بين عملها خارج المنزل وداخله دون تعرضها لأزمة تعارض الأدوار الاجتماعية ، وهذا النوع من الصراع لا تكاد تنفك عنه المرأة العاملة خارج المنزل ، وإنما يختلفن في درجة معاناتهن من آثاره المزعجة ، وقد لُوحظ أن محاولة المرأة العاملة التوفيق بين المهمتين المناطة بـها – بصورة مُرْضية – يكاد يكون مستحيلاً ؛ ولهذا كثيراً ما يفضل أرباب العمل المرأة العزبة ، لخلو ذهنها ومشاعرها من هذه الصراعات ، وأمثالها من المنغصات.
5- المحافظة على سلامة أولاد المرأة العاملة من الانحراف ، وهو أن لا يكون عملها خراج المنزل سبباً في ضياع أولادها في المستقبل ، أو إهمال تربيتهم ؛ فإن المرأة العاملة تهمل – بالضرورة- شيئاً كثيراً من شؤون أولادها كالرضاعة الطبيعية ، وتولي شؤونهم بصورة مباشرة ، وتحمُّل أعباء معاناة التربية ، مما قد يكون سبباً في المستقبل في انحرافات سلوكية ، وقبائح اجتماعية يقع فيها الأولاد بسبب ضعف التربية ، واختلال التنشئة في الصغر.
سادساً : الضابط التخصصي لتشغيل النساء :
والمقصود بهذا الضابط : إحكام مجالات عمل المرأة ضمن تخصصات محددة تتناسب مع طبيعتها من جهة ، ويحتاجها المجتمع من جهة أخرى ، وهذا يتضح فيما يلي :
1- رفض مبدأ تماثل الأدوار المهنية بين الجنسين ، بحيث يستقر لدى المرأة والمجتمع أن التماثل في جميع الأعمال المهنية بين الجنسين أمر مرفوض ، فلابد أن يبقى هناك وظائف تختص بالرجال وأخرى بالنساء ، تناسب كلاً حسب طبيعته ، فليس كل إنسان يصلح لكل عمل ولكل صناعة ؛ فإن المواهب المختلفة تفرض نفسها ، ونوع الجنس يفرض نفسه أيضاً ، والجنسان ما خلقا ليتسابقا في مضمار واحد.
2- مراعاة حاجات الإناث الطبية والتعليمية ، بحيث يكون هذان الجانبان أهم ميادين المرأة التنموية العامة – كما هو الواقع- على أن تكون مشاركتها ضمن مفاهيم الشرع وحدوده المحترمة ، التي كثيراً ما تتعارض مع واقع ممارسات الإناث في المهن التعليمية والطبية ، فإن شرف هاتين المهنتين لا يلغى ثوابت الشريعة وأخلاقياتها المرعية.
سابعاً : الضابط الحاجي لتشغيل النساء :
ويُقصد بهذا الضابط: وجود حاجة قائمة بين المرأة والعمل ، فلا يكون إشغالها للوظيفة لغير حاجة متبادلة بينها وبين الوظيفة ، وهذا يظهر فيما يلي :
1- عدم الاعتماد على العمالة النسائية في قيام النهضة الاقتصادية ؛ وذلك لأن النهضة الاقتصادية لا تقوم عادة على أكتاف النساء ؛ لا سيما إذا عجز عن ذلك الرجال ، وقد شهد التاريخ الإنساني نهضات كبرى ، ولاسيما في التاريخ الإسلامي ، كانت فيها المرأة بعيدة عن الحياة المهنية العامة ، قد انشغلت بوظائفها الفطرية التي دعمت النهضة من خلال تربية وإعداد الرجال العاملين ، مما يدل على أن التفوق في التنمية الاقتصادية لا علاقة له بزيادة نسب العنصر النسائي في المهن العامة.
2- تجنب تأثير عمل النساء على زيادة البطالة بين الرجال ، فلا يكون عملهن سبباً في تعطيل الرجال عن الكسب ؛ لكونهم مكلفين شرعاً بأُسر ينفقون عليها ، والنساء مكفولات شرعاً بأوليائهن ، وقد ثبت أن الدور الأكبر في أزمة البطالة المعاصرة يُعزى إلى التوسع في تشغيل النساء ، مما دفع بعض الدول إلى التقليل من فرص أعمالهن حتى في بعض الميادين التي تخصُّهن ؛ رغبة في توفير مهن للرجال المكلفين فطرياً وشرعياً بالنفقة على الأسر ، فالرجل بالفطرة وبإلزام الشرع يُوزِّع ثروته ويفتتها بصورة دائمة على من هم تحت يده ، والمرأة بحكم الشرع تجمع ولا تفتت ثروتها بالنفقة ، ومن المعلوم أن توزيع الثروة مطلب اقتصادي مرغوب فيه ، وللناظر أن يتأمل : ما هو موقف الشرع حين يتقدم رجل وزوجته إلى وظيفة ما ، فتقبل الزوجة للوظيفة ويُرد الرجل ، فهل يكون من المنطق العقلي ، والنظر الشرعي إلزامها بالنفقة عليه ، وإسقاط وجوب النفقة عنه ، فتتغيَّر – بناء على هذا الوضع الشاذ- ثوابت الشريعة ، أم أن المنطق والشرع يعطي الوظيفة للرجل ، ومن ثمَّ يلزمه بالنفقة على زوجته ؟
3- التأكيد على حاجة المرأة الاقتصادية للعمل ؛ بحيث يكون عملها عن حاجة مالية ، أو حاجة اجتماعية دون الحاجات المتوهمة ، أو غير المعتبرة شرعاً ؛ فإن نسبة كبيرة من النساء العاملات ليس لهن غرض من العمل سوى التسلية ، وإثبات الذات ، كما دلت على ذلك كثير من الدراسات الميدانية.
ثامناً : الضابط الأنثوي لتشغيل النساء :
المقصود بهذا الضابط: ما يمنع المرأة عن العمل بسبب الأنوثة ؛ بحيث يكون الجنس سبباً كافياً لمنعها من العمل ، أو إعفائها من القيام به ، وهذا ما يتعلق غالباً بتعارض الأنوثة مع العمل السياسي ، وظهر هذه التعارضات من خلال النقاط الآتية:
1- تعارض الأنوثة الاجتماعي مع نمط البروز السياسي ، الذي تتطلبه الممارسة السياسية في مواجهة الجماهير ، ومخالطتهم ، وتربيتهم ، وقيادتهم، وهذا لا يتناسب مع طبيعة المرأة المأمورة بالحجاب والستر ، وخروج السيدة عائشة رضي الله عنها يوم الجمل مذهب قديم لها ، قد تواترت الأخبار عنها بالتوبة منه ، والرجوع عنه ، فلا يصح أن يكون دليلاً، ثم هي لم تخرج من باب حقها في المشاركة السياسية ؛ وإنما خرجت رغبة في الإصلاح بين فئتين من المسلمين باعتبارها أماً لهم ، وإلا فأين باقي النساء لم يشاركن ، إضافة إلى أنها حين خرجت كانت في هودج من حديد لا يُرى من شخصها شيء.
2- تعارض الأنوثة الفطري مع طبيعة السلوك السياسي من جهة الطبيعة العقلية ، والطبيعة العاطفية ، والطبيعة النفسية ، التي لا تتوافق في جملتها مع نوع المسؤولية السياسية ، التي يتقاصر عنها غالب الرجال فضلاً عن النساء.
3- تعارض الأنوثة مع الولايات السياسية العامة من الناحية الواقعية التي تدل على ندرة وجودهن في المواقع السياسية المؤثرة ، وما يُنقل تاريخياً وواقعياً عن نساء برزن في ميادين سياسية ، وقتالية لا تتعدى الندرة والشذوذ الذي لا يغير من الحقائق شيئاً ، والمرأة حين تريد أن تصنع شيئاً في الميدان السياسي تحتاج إلى أن تتخلص مما هي به أنثى من الطبائع والأخلاق والأعمال ، وتتصف بما يجعلها ذكراً ، من الأفعال والممارسات المختلفة ؛ ولهذا أعرضت بلقيس ملكة سبأ عن الزواج ، وتناولت ’’تاتشر’’ رئيسة وزراء بريطانيا السابقة صفة من عالم الرجال – المرأة الحديدية – لتتخلص بها مما هي به أنثى.
4- تعارض الأنوثة مع عضوية أهل الحل والعقد ، فلا يصح أن تكون عضواً فيهم ، وإنما تستشار المرأة الخبيرة فيما يتصل بالشؤون النسائية ، مما تحتاجه الأمة ، ولا يطلع عليه غيرهن ، هذا هو الثابت في تاريخ الأمة السياسي دون حالات الشذوذ التي مرت بـها الأمة زمن ضعفها وتخلفها ، فالسيدة فاطمة والسيدة عائشة رضي الله عنهما رغم فضلهما ومكانتهما لم تكونا موضع استشارة سياسية من أحد الخلفاء ، ولم تبايع امرأة قط خليفة للمسلمين ، وإنما هن وعامة الناس تبعاً لأهل الحل والعقد من أفذاذ رجال الأمة ، الذين يُعرفون بعلمهم وجهدهم وجهادهم ، ممن لا يحتاجون أصلاً إلى من يزكيهم أو يُعرِّف بهم من العامة أو النساء ، فإن الأصل أن المرأة لا تعرف شؤون الرجال الأجانب ؛ لكونها بعيدة عن مجامعهم ، فكيف لها أن تزكي أحداً منهم ، أو تعرف به ؛ ولهذا لم تسجل كتب الرجال مطلقاً كلاماً للنساء في الجرح والتعديل ، وما حصل من أم سلمة رضي الله عنها يوم الحديبية من المشورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بطريقة عفوية ، ولو كانت المشورة السياسية حقاً للنساء ما كان للرسول صلى الله عليه وسلم أن يحصرها في امرأة واحدة ، لا سيما وأنه عليه الصلاة والسلام لم يستشر في حياته كل الرجال من أصحابه ، ومع ذلك لم يتوقف امتثال الصحابة على مشورتها ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم سوف يذبح ويحلق بكل حال ، سواء أشارت أم سلمة أو لم تشر ؛ لأنه واجب شرعي غير متوقف على رأي أحد ، وهذا عين ما حدث في حجة الوداع حين تباطأ الصحابة بعد طوافهم وسعيهم من التحلل بالحلق وجعلها عمرة ، حين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتمتع لمن لم يكن منهم قد ساق الهدي ، فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم من تباطئهم، ودخل على عائشة رضي الله عنها وهو مُغضب وقد علمتِ الخبر ، ومع ذلك حلق الصحابة في نهاية الأمر وجعلوها عمرة متمتعين بها إلى الحج ، رغم أن الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه لم يحلق لكونه قارناً قد ساق الهدي ، فالأمر حاصل بكل حال بمشورة أم سلمة وبغير مشورتها ، ثم هل فهمت أم سلمة رضي الله عنها – صاحبة الحادثة - ما فهمه المحللون من حادثة الحديبية أنها دليل عل جواز مشاركة المرأة السياسية ؛ فإن واقعها مخالف لذلك تماماً ؛ فقد كانت أشد الناس إنكاراً على عائشة رضي الله عنها حين خرجت إلى البصرة ، وثبتت عنها نصوص تدل على أنها لا ترى نفسها أهلاً - بسبب الأنوثة - للمشاركة السياسية ، ومع ذلك فإن الموقف يوم الحديبية موقف تشريع في مسألة حكم المُحْصر ، وليس موقفاً سياسياً.
5- تعارض الأنوثة مع المسؤولية العسكرية ، فلا تكلف المرأة بالجهاد ، ولا تقود الجيوش ، ولا تكون جندية ، وإنما تدافع عن نفسها عند الضرورة ، وهذا من رحمة الله بالنساء ، ولطبيعة أدوارهن المهمة في تكثير النوع ؛ فإن كثرة النسل تتوقف على وفرة العنصر النسائي ، إضافة إلى حاجتهن إلى السكون ، فهن كالقوارير في سرعة تكسرهن كما وصف الرسول صلى الله عليه وسلم ، وما ثبت عن بعضهن من القتال كان ضمن الضرورة ، وهذا واجب المرأة ، أما في غير ضرورة فلا يصح منها القتال ، ولا مشاركة الرجال لما فيه من الفتنة ، ولاسيما من الشواب ، وأما التدريب على السلاح الخفيف ، فهذا يحصل إذا عاشت الأمة المسلمة حالة الجهاد ، وكانت الأسلحة الخفيفة ضمن متاع البيوت - كما كان في السابق - تعاينها المرأة وتتدرب عليها مع محارمها ، إلا أن الواقع يشهد بتخلف الرجال عن هذه المهمة الجهادية وهم المكلفون بها شرعاً ، فكيف يُفرض ذلك على النساء ، ويُطالبن بالتدريب والرجال في عزلة عن السلاح ؟
الخاتمة :
لا شك أن هذه الضوابط كثيرة ، وتحمل في طياتها التعجيز عن مشاركة المرأة في ميادين التنمية الاقتصادية العامة ، وهذا حق فإن مخالفة الفطرة والشرع أمران عسيران وشاقان ، يشبهان محاولة توجيه النهر الجاري في غير اتجاهه ، ومع هذا فقد يحتاج المجتمع ، وقد تحتاج المرأة – في ظل الظروف الاجتماعية والاقتصادية القائمة – إلى العمل خارج المنزل مع مخالفة شيء من هذه الضوابط ضمن حدِّ الضرورة الشرعية ، والحاجة الاجتماعية الملحة ، إلا أنه لابد أن يعرف أن الضرورة تُقدَّر بقدرها ، وما أبيح لضرورة يزول بزوالها.
د. عدنان حسن باحارث
www.bahareth.org
*لجينيات