مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
التوبة والمعرفة1/2
التوبة والمعرفة1/2

بقلم/ عمر مناصرية

تبدو العلاقة بين التوبة والمعرفة علاقة واهنة، أو مصطنعة في أحسن الأحوال، غير أنها علاقة وطيدة جدا، بسبب وجود المفهومين معا كأصلين أو مبدأين أساسيين منذ الوجود الإنساني في عالم الغيب، فأبونا آدم، خاض منذ البدء تجربتين أساسيتين حددتا تكوينه وطبيعته:

- تجربة مع الملائكة: والتي أتاحت له التفوق على الملائكة والحصول على المعرفة.
- وتجربة مع نفسه والشيطان: والتي أدت به إلى السقوط أمام نفسه والشيطان، ثم الوصول إلى التوبة.

وسيكون هدف هذه الأسطر، هو تبيان العلاقة بين التجربتين والمفهومين مع التركيز على التوبة كمفهوم يؤدي إلى التغيير.

قامت هذه التجربة على مفهوم الاستدعاء المعرفي، الذي يتضمن كل العمليات المعرفية المعروفة وقد أوتيها آدم عن طريق التعليم، الذي تفوق به على الملائكة.

- تجربة المعرفة: قامت هذه التجربة على مفهوم الاستدعاء المعرفي، الذي يتضمن كل العمليات المعرفية المعروفة كالفهم والتحليل والانتباه و التذكر وغيرها، وقد أوتيها آدم عن طريق التعليم، الذي تفوق به على الملائكة، وكان من محصلته الإسجاد ودخول الجنة التي لا يفعل فيها آدم أيا من هذه العمليات، (( إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى، وإنك لا تضمأ فيها ولا تضحى)) فآدم كفي مؤونة المعيشة، التي تمثل أهم دافع في البحث والمعرفة والتفكير. وهنا نتساءل عن دور هذه التجربة، أي تجربة الجنة، ومدى صحة الأقوال الفقهية فيها، إذ كانت هذه الأقوال كلها، ذات طابع إداني لآدم، وتخطيئي دون النظر إلى الهدف من التجربة نفسها. وهو ما تفسره المرحلة الثانية أو التجربة الثانية التي قامت على مفهوم التوبة.

- تجربة التوبة: قامت هذه التجربة على مفهوم التأزم والتلقي، حيث اكتشف آدم عدم قدر ته على البقاء في الوضع الراهن، وهو ما يميزه كإنسان مختلف عن الملائكة، ولذا أكل من الشجرة، وهنا دخل في وضع آخر وجديد، إذ لم يعد الكائن الذي يتاح له كل شيء، بل سلب من كل شيء وأعيد مرة أخرى إلى وضعه الطبيعي، هنا عانى آدم من الاختلاف وأحس بالفرق، فأصبح يطمح إلى المثالي والمطلق، وهنا (تلقى) كلمات ولم (يعلم) أسماء، ليحصل على التوبة، غير أن هذه التوبة لم تكن كافية لإعادته إلى الجنة، وهنا نكتشف مفهوم التوبة الحقيقي، فليس الهدف منها العودة إلى الجنة، بل تلمس الطريق إليها.

كانت التوبة هي الفعل الأول أو الخطوة الأولى للسير في طريق طويلة، وأولها كيفية التغلب على الشيطان وهوى النفس، والبقاء مع الله،

لقد كانت المعرفة كافية للتفوق على ا لملائكة، غير أنها لم تكن كافية للتغلب على النفس أو على الشيطان، إنما التوبة، هي القادرة على فعل ذلك.

بسبب أن التوبة مرتبطة بالنفس، والإرادة الإنسانية، بينما المعرفة مرتبطة بالذهن والعقل الذي يقوم بتوظيف هذه المعرفة لصالحه.

إن تجربة المعرفة مؤداها عملية الاستخلاف الرحبة في الأرض ، حيث يكتشف الانسان ويبدع ويتقدم ويحس بالتفوق. وهذه التجربة ، تمت ولا تزال بالتعليم: (( وعلم آدم الأسماء كلها))

أما التوبة، وهي طريق أخرى تماما، لم تكن العملية الأساسية فيها عملية التعليم، بل التلقي، بعد الإحساس بالسقوط، (( فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه)) وهنا نجد التوبة كتجربة فريدة، تعطي للإنسان بعده الآخر والمهم ، لقد وجد آدم نفسه في موقف فريد هو القدرة على التحكم في الوضع أو عدم القدرة على التحكم فيه، ولذا فقد عانى من المواجهة وما تحتمه من ظروف التمحيص والامتحان. واجهة نفسه، ولم يكن الشيطان سوى وسيط لهذه المواجهة التي اكتشف فيها آدم حقيقة ذاته، ولذا كان لزاما عليه أن يفعل الإرادة وليس المعرفة، والتي تجعل من عملية التغيير عملية قائمة.

ومن هنا يمكن القول، أن المعرفة تأتي في حالة الاستقرار، والسكون، وهي عملية تؤدي غرض الاستخلاف، بينما التوبة ، تأتي في حالات عدم الاستقرار، وينجر عنها عملية التغيير الثوري في فهم الإنسان لذاته ولنفسه، ولهذا نجد التلقي هو تعبير عن حالة وجدانية داخلية في النفس، وإحساس بالخطأ، بمعنى أن التلقي في حالة آدم عبر عن الحاجة الماسة، والإحساس بالحرج في ظل وضع متأزم، وهنا يكون التلقي كعون على الوصول وإحداث التغيير.

بينما في تجربة المعرفة، نجد أن الأسماء الخارجية، هي أسماء محددة، وموضعة، بينما التوبة عبرت عن حالة هائلة من الإحساس والزخم.

يكمن الفرق أيضا بين التجربتين في حالة آدم، أي بين تجربة المعرفة، وتجربة التوبة، في أن الأولى، تكمن في التحديد، أو الاستجابة الوحيدة الفريدة أو عدم الاستجابة مطلقا، فأنت تعرف الاسم أو الفكرة أو الحل أو لا تعرفه، فلا توجد هناك منازعة داخلية في النفس.

بينما في الثانية، أو تجربة التوبة، نجد هناك عملية مهمة جدا، هي الاختيار المسئول، فهناك أمرين من الله بعدم الأكل ، ومن الشيطان والنفس وما صاحبهما من الإغواء والإغراء بالأكل. ولذا يكتشف آدم حالة أخرى فيه، هي القدرة على الكينونة والوجود المسئول الذي يحدده الاختيار.

فالتوبة هي القدرة على إعادة الاختيار مرة أخرى، حيث كان الاختيار الأول حين الوقوع في الخطأ ، بينما يكون الاختيار الثاني الذي هو التوبة بالعودة عن وعي وإيمان.

هنا نحصل على المفهوم البسيط للتوبة والعميق في نفس الوقت، فالتوبة هي القدرة على إعادة الاختيار مرة أخرى، أو مرة ثانية، حيث كان الاختيار الأول حين الوقوع في الخطأ ، وربما يكون في أحيان كثيرة عن غير وعي، بينما يكون الاختيار الثاني الذي هو التوبة بالعودة عن وعي وإيمان. وهنا نفهم لماذا لا يحق للكفار الخروج من النار، مع استجدائهم لذلك.

التوبة في الإسلام:

مما سبق نجد أن التوبة هي أحد المفردات الرئيسية الوثيقة الصلة بالذات الإنسانية بجنب المعرفة ، ولذا يمنحها الإسلام مكانا مهما في مشروعه الانساني.

غير أنه يجب توضيح نقطتين رئيسيتين حول التوبة في الإسلام، قبل الحديث عنها:

- فالتوبة تختلف عن الإستغفار، إذ تتعلق بالأبعاد الرئيسية في حياة الإنسان، كالبعد العقدي، أو الأبعاد المؤثرة على هذا البعد، والتي قد تؤدي إلى التأثير عليه، فيتسبب بإخراج الإنسان من الجنة.

بينما يقصد بالاستغفار تعديل السلوك ليتواءم مع هذه الأبعاد، ويكون من الأخطاء البسيطة التي يؤدي تراكمها إلى الإضرار بالأبعاد العميقة في الإسلام.

فالتوبة أعمق، نظرا لأنها تعيد هيكلة الذات من أساسها، وتتعلق غالبا بالعقيدة، بينما الاستغفار يعدل من السلوك، وليس العقيدة، ولهذا نجد الله يخاطب الكفار ويدعوهم إلى التوبة، بينما يخاطب المؤمنين ويدعوهم للاستغفار.

وهذا هو الفرق بين الاستغفار والتوبة. وكلا المفهومين وجدا في الإسلام بصورة محورية.

-النقطة الأخرى، هي أن الإسلام شرع للخطأ، وأصل له، وجعله من سمات النفس الإنسانية: ((لولا أنكم تخطئون لذهب الله بكم وأتى بقوم يخطئون ويستغفرون)) أو كما في معنى الحديث، فالخطأ ضروري جدا للمسلم، وذلك لأنه يتيح إعادة النظر إلى القيم الإسلامية، حيث يدرك المؤمن مدى البون بينه وبين المطلق والمثالي، فنحن بحاجة ماسة إلى هذه المسافة من الرؤية التي تعطينا القدرة على الحكم والاتجاه، ولذا ارتبط الخطأ في الحديث السابق، بالاستغفار، ونحن غالبا ما ننظر إلى هذه العملية على نحو آني وسريع، فبمجرد الخطأ يحدث الاستغفار، وهذا لا يسمح بدخول النفس في صراعها وتفعيل خصائصها، وقدراتها على التجاوز.

وبالنسبة للتوبة، فهي مشروعة من خارج الإسلام، وداخله:

- فمن خارجه: فالتوبة مقبولة ممن يريد الدخول في دين الله، كما أنها مقبولة ممن يرتكب الكبائر المضرة بالدين والإنسان، إذ غالبا ما تساهم هذه الكبائر في إدراك البون الشاسع بين المرغوب فيه والمنبوذ، ونحن لا نستطيع إدراك هذه الحالات، لأننا غالبا ما لا نرى الاعتمالات الداخلية للكفرة والجاحدين والعصاة والفاسقين، وهي حالات يجب دراستها والتعرف على دواخلها خاصة من الناحية الفكرية والنفسية، للوصول إلى ما تعانيه حقيقة.

وهذه التوبة هي التي يركز عليها القرآن أيما تركيز، حيث يسعى بكل ما أوتي من حكمة و قوة إلى إخراج الإنسان من الضلال إلى الهدى، ومن الظلمات إلى النور، ومن الغي إلى الرشد،...كما أنه يحيل الإنسان إلى كل ما من شأنه أن يعيد تفكيره ورؤيته لذاته، في نفسه ومحيطه وكونه، ويضرب الأمثلة على ذلك، ويأتي بها من التاريخ ومن النفس ، ومن الكون، ومن كل شيء)) ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا)) ( الكهف)

إنها توبة قائمة على الدعوة والإبصار: (( وأبصرهم فسوف يبصرون))، وليس على الترهيب، نظرا لأنها مرتبطة بتفاعلات نفسية وفكرية داخلية تحدث داخل الإنسان، ومرتبطة بمدى التقدم الذي يحرزه الإنسان على صعيد قوة النظر: (( فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور)) وليس بالجبر والترهيب والتخويف. فنحن نرى الأبصار، ولكننا لا نرى القلب، لأن القلب موجود في عالمه الغيبي الذي يدركه به.

- كما أن التوبة مشروعة ضمن دائرة الإسلام نفسه، وهنا نجد المفهوم السائد هو الاستغفار، فالمسلم هو محصلة عمليات تقييمية لسلوكه وتفاعلاته الحضارية، حيث يتشاكل مع القيم المثالية يوميا، بسبب أن الإسلام ، أتى بمحددات للسلوك في كل وقت وفي كل وضع، يتيح للمسلم النظر إلى نفسه دائما، فالمعايير التي يجعلها لذلك كثيرة ولا تحصى، من السلوك البسيط إلى السلوك المعقد، مقيما سلما من الثواب والعقاب في كل سلوك(1) حتى أننا يمكن أن نشبه ذلك بمرآة يرى المسلم بها نفسه في كل حين، لينظر كيف يتحرك في الحياة، وليقيم نفسه على ضوئها، واختفاء هذه المرآة نهائيا من حياة المسلم، يؤدي به إلى خطر الوقوع في الحالة الأولى التي هي حالة أهل الظلال. إذ المسلم في هذه الحالة ليست لديه هذه المرآة التي تمكنه من التقييم والعودة، مما يجعله يسقط في أي مكان.

فالتوبة إذن مشروعة لمن هم خارج الإسلام أو هم بعيدين عنه، كما أنها مشروعة لمن هم داخله، بسبب أن الإسلام حريص على التقييم والتعديل بنفس حرصه على الهداية.

تلخيص:

التوبة هي أحد المفردات الأساسية في الوجود الإنساني منذ بدئه، وهي تقوم على عملية الاختيار الواعي، كما أنها عملية اختيار ثانية يقوم بها الإنسان، في محاولته القيام بالتحكم وقيادة نفسه على طريق الهداية.

ولهذا فقد اتخذت التوبة في الإسلام مكانة محورية، سواء لمن هم خارج الإسلام بدعوتهم إلى الهداية، أو لمن هم داخله بدعوتهم إلى الاستغفار وتقييم وتعديل سلوكهم وفكرهم ليتواءم مع مقولاته.

(1) يبدو ذلك في منظومة السلوك المعياري الذي يقيمه الإسلام، ومختلف نظم التقييم لهذا السلوك ، والتي تبتدئ بالدنيا وتنتهي بالآخرة، حيث نجد ذلك محددا حتى بصورة كمية كعدد الحسنات عن كل سلوك مثلا، وكيفية مضاعفتها، أو ككتب الحسنة مضاعفة والسيئة وحيدة، حتى الوصول إلى الجنة أو النار وهما جزاءين نهائيين.
*الشهاب
أضافة تعليق