المحكمة الجنائية الدولية وقرارها ضد البشير
الاحد 30 صفر 1431 الموافق 14 فبراير 2010
د. عبد الله الأشعل
في الثالث من فبراير 2010م أصدرت الدائرة الاستئنافية بالمحكمة الجنائية الدولية حكمًا إضافيًّا، تجاوبت فيه مع طلب المدعي العام للمحكمة لويس أوكامبو الذي كانت الدائرة التمهيدية قد رفضته؛ وهو إضافة جريمة الإبادة الجماعية للجريمتين السابقتين، وهما جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية التي نُسبت إلى الرئيس البشير، والتي على أساسها صدر قرار المحكمة في مارس 2009م بشأن الرئيس البشير.
ورغم كل الاعتراضات والانتقادات القانونية والسياسية لقرار المحكمة؛ فإن المحكمة رغم ذلك تجاوبت مع سعي المدعي العام لتحريك الدعوى ضد الرئيس البشير.
ومن المعلوم أن ملاحظة هذه القضية منذ بدايتها في عام 2005م عندما أصدر مجلس الأمن القرار الطعين رقم 1593 الذي أحال ملف الرئيس وعددًا آخر من المسئولين السودانيين إلى المحكمة، تبرِّر الشكوك التي بدأت تحوم حول هذه المحكمة ومصداقيتها.
كما لوحظ أن المدعي العام والمحكمة وقفا وحيدين، وانكشف دورهما السياسي لعدم قدرتهما على الصمود أمام أي مواجهة قانونية، وبدأ العالم الثالث يدرك أنه خاب أمله في عدالة جنائية دولية رصينة، بعد أن سعى مع أعضاء المجتمع الدولي إلى إنشاء هذه المحكمة، فإذا هي سيف للسادة في رقاب العبيد، ولكنه سيف أنيق يتشح بهيبة القانون ويَتَزَيَّا بسيفِه، وأفاق العالم الثالث على حقيقة يبدو أنها قد هربت للحظات من ذاكرته، وهي أن العالم مثلما كان منذ قرون لا يزال منقسمًا بين السادة الذين زاد ثراؤهم على حساب العالم الثالث وبين عبيد العالم الثالث في عودة قاسية إلى صورة العلاقة بين روما وأحرارِها وبين الشعوب الأخرى وعبيدها.
وكبر على العالم الثالث ذات يوم أن ثروات السادة انتقلت نهبًا وغفلة من العبيد إليهم، ثم تلقى هؤلاء العبيد فتات الإحسان فيما سمي بالمعونات الدولية، وكيف للنسور والحدأة والعقبان أن تتبرع بكتاكيت حية، بعد أن اختطفتها، وتغذَّت على دمائِها كما نقول في أمثالنا العامية.
إن موقف المحكمة منذ البداية من السودان هو موقف الأداة التي استخدمت طوعًا لصالح مؤامرة تقودها الولايات المتحدة، استخدمت فيها مجلس الأمن الذي لم يحول قضية واحدة إلى المحكمة إلا السودان، وعجز حتى الآن عن أن ينظر في أكوام الوثائق التي تحتوي على جرائم الصهاينة في فلسطين ما دام الدم المراق هو من فصيلة العبيد، أما السادة من الجنس الأبيض المسيحي واليهودي؛ فإن محاكم بلادهم هي التي تختصُّ بمحاكمتِهم ولا عزاء لمحاكم العبيد.
فإذا كان العوار واضحًا في قرار مجلس الأمن الذي أحال الدعوى، كما أن العوار واضح في سلوك المحكمة منذ أصدرت أولى أحكامها في الرابع من مارس 2009م ودماء غزة في أكبر هولوكوست ضد العرب لم تجفّ بعد، ولم يحمرَّ وجه أوكامبو خجلًا من هذا التقارب في التوقيت بين محرقة غزة وبين اتهام البشير.
فماذا يعني توقيت التحرك الجديد للمحكمة الجنائية الدولية ضد البشير؟!
لم تضف المحكمة من الناحية الفنية جديدًا؛ لأن الجريمتين اللتين نسبتهما إلى الرئيس البشير تكفيان للمثول أمام المحكمة، كما أنها تكفي للعقاب، ولكن تحرك المحكمة له خمس دلالات لا تخفى على المراقِب.
الدلالة الأولى، هي أن المحكمة رغم فشل جهودها منذ مارس 2009م حتى الآن في التعرض للرئيس البشير، وتنفيذ حكم المحكمة بسبب الرفض الإجماعي العربي والإسلامي والإفريقي؛ لاستخدام المحكمة وتسييس مهمتها، وهو أمر سجله الكثيرون كما سجلناه في كتابنا الصادر عام 2009م حول السودان والمحكمة الجنائية الدولية، إلا أن المحكمة أبت إلا أن تعلن من جديد أنها لا تزال أداة قانونية في مشروع سياسي.
ولا يجب أن يفوت على المتابع أنه في اليوم الذي صدر فيه حكم الدائرة الاستئنافية ضد البشير كان الرئيس أوباما يهدّد السودان بفرض عقوباتٍ عليه ما لم يوقف المذابح بدارفور.
الدلالة الثانية، أن السودان كدولة والسودان كنظام قد تمسك بما لم ترض عنه الولايات المتحدة وفرنسا في القضايا العربية خصوصًا، كما أن السودان كدولة بثرواته الواعدة يمكن أن يكون من الدول التي تتمتع بالرخاء، وهذا أمر لا يسعد المشروع الاستعماري والصهيوني والذي تحركه ’’إسرائيل’’، ولذلك إذا تغيَّر النظام في الخرطوم واستمر على نفس السياسات؛ فإن الاستهداف سيظل للسودان ما دامت المؤامرة تستهدف السياسات وليس أشخاص النظام.
الدلالة الثالثة، هي أن توقيت هذا القرار مقصود، وهو إفساد المصالحة في الداخل، بعد أن أعلن الرئيس البشير عن استعداد الحكومة للانتخابات الحرة؛ مما يؤدي إلى الإضرار بمركز الحزب الحاكم في هذه المنافسة، كما أن هذا التوقيت يشجع المتمردين في دارفور على عدم الاستمرار في محادثات الدوحة، وهو ما حدث بالفعل، ما دامت المحكمة بهذا الموقف كانت دائمًا عونًا للتمرد ضد الحكومة السودانية، وخطرًا على الاستقرار وجهود السلام في السودان؛ بحجة أن العدالة تسبق السلام، وهي حقٌّ أُريد به باطل.
الدلالة الرابعة، هي أن المؤامرة لا تزال مستمرَّة، وهي إسقاط النظام؛ لعل نظامًا جديدًا يتفاهم مع متطلبات هذه المؤامرة.
الدلالة الخامسة والأخيرة، هي أن السودان قد دخل طوعًا أو كرهًا في دائرة الحرب الباردة الجديدة بين الصين والولايات المتحدة.
والخلاصة، أن موقف المحكمة الجديد هو تذكير باستمرار العزم لدى المدعي العام ضد الرئيس البشير، بينما لا يجرؤ المدعي العام على أن يمسّ ملفات الجرائم الصهيونية وآخرها في غزة، والتي تكشف التحيز الفاضح لقانون كسيح ضد عدالة واضحة كالشمس في رابعة النهار.
كما يجب أن نذكِّر بموقف المدعي العام من الجرائم الأمريكية في العراق، والذي يُعدّ فضيحة بكل المقاييس، ويبرر إبعادَه عن ساحة العمل القانوني والقضائي؛ حيث أكد في تقريره أنه استطلع رأي وزارة الخارجية البريطانية فيما نسب إلى جنودها من جرائم، فأفادت بأن ما قاموا به كان سليمًا قانونًا وطبقًا للتعليمات الموجهة إليهم، وهو موقف شبيه بموقف ’’إسرائيل’’ في ضم الأراضي الفلسطينية في القدس بأن الجيش تصرف وفق الأوامر العسكرية ’’الإسرائيلية’’... تلك هي عدالة أوكامبو التي يبشر بها ضحايا الجرائم في العالم الثالث.
*البشير
الاحد 30 صفر 1431 الموافق 14 فبراير 2010
د. عبد الله الأشعل
في الثالث من فبراير 2010م أصدرت الدائرة الاستئنافية بالمحكمة الجنائية الدولية حكمًا إضافيًّا، تجاوبت فيه مع طلب المدعي العام للمحكمة لويس أوكامبو الذي كانت الدائرة التمهيدية قد رفضته؛ وهو إضافة جريمة الإبادة الجماعية للجريمتين السابقتين، وهما جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية التي نُسبت إلى الرئيس البشير، والتي على أساسها صدر قرار المحكمة في مارس 2009م بشأن الرئيس البشير.
ورغم كل الاعتراضات والانتقادات القانونية والسياسية لقرار المحكمة؛ فإن المحكمة رغم ذلك تجاوبت مع سعي المدعي العام لتحريك الدعوى ضد الرئيس البشير.
ومن المعلوم أن ملاحظة هذه القضية منذ بدايتها في عام 2005م عندما أصدر مجلس الأمن القرار الطعين رقم 1593 الذي أحال ملف الرئيس وعددًا آخر من المسئولين السودانيين إلى المحكمة، تبرِّر الشكوك التي بدأت تحوم حول هذه المحكمة ومصداقيتها.
كما لوحظ أن المدعي العام والمحكمة وقفا وحيدين، وانكشف دورهما السياسي لعدم قدرتهما على الصمود أمام أي مواجهة قانونية، وبدأ العالم الثالث يدرك أنه خاب أمله في عدالة جنائية دولية رصينة، بعد أن سعى مع أعضاء المجتمع الدولي إلى إنشاء هذه المحكمة، فإذا هي سيف للسادة في رقاب العبيد، ولكنه سيف أنيق يتشح بهيبة القانون ويَتَزَيَّا بسيفِه، وأفاق العالم الثالث على حقيقة يبدو أنها قد هربت للحظات من ذاكرته، وهي أن العالم مثلما كان منذ قرون لا يزال منقسمًا بين السادة الذين زاد ثراؤهم على حساب العالم الثالث وبين عبيد العالم الثالث في عودة قاسية إلى صورة العلاقة بين روما وأحرارِها وبين الشعوب الأخرى وعبيدها.
وكبر على العالم الثالث ذات يوم أن ثروات السادة انتقلت نهبًا وغفلة من العبيد إليهم، ثم تلقى هؤلاء العبيد فتات الإحسان فيما سمي بالمعونات الدولية، وكيف للنسور والحدأة والعقبان أن تتبرع بكتاكيت حية، بعد أن اختطفتها، وتغذَّت على دمائِها كما نقول في أمثالنا العامية.
إن موقف المحكمة منذ البداية من السودان هو موقف الأداة التي استخدمت طوعًا لصالح مؤامرة تقودها الولايات المتحدة، استخدمت فيها مجلس الأمن الذي لم يحول قضية واحدة إلى المحكمة إلا السودان، وعجز حتى الآن عن أن ينظر في أكوام الوثائق التي تحتوي على جرائم الصهاينة في فلسطين ما دام الدم المراق هو من فصيلة العبيد، أما السادة من الجنس الأبيض المسيحي واليهودي؛ فإن محاكم بلادهم هي التي تختصُّ بمحاكمتِهم ولا عزاء لمحاكم العبيد.
فإذا كان العوار واضحًا في قرار مجلس الأمن الذي أحال الدعوى، كما أن العوار واضح في سلوك المحكمة منذ أصدرت أولى أحكامها في الرابع من مارس 2009م ودماء غزة في أكبر هولوكوست ضد العرب لم تجفّ بعد، ولم يحمرَّ وجه أوكامبو خجلًا من هذا التقارب في التوقيت بين محرقة غزة وبين اتهام البشير.
فماذا يعني توقيت التحرك الجديد للمحكمة الجنائية الدولية ضد البشير؟!
لم تضف المحكمة من الناحية الفنية جديدًا؛ لأن الجريمتين اللتين نسبتهما إلى الرئيس البشير تكفيان للمثول أمام المحكمة، كما أنها تكفي للعقاب، ولكن تحرك المحكمة له خمس دلالات لا تخفى على المراقِب.
الدلالة الأولى، هي أن المحكمة رغم فشل جهودها منذ مارس 2009م حتى الآن في التعرض للرئيس البشير، وتنفيذ حكم المحكمة بسبب الرفض الإجماعي العربي والإسلامي والإفريقي؛ لاستخدام المحكمة وتسييس مهمتها، وهو أمر سجله الكثيرون كما سجلناه في كتابنا الصادر عام 2009م حول السودان والمحكمة الجنائية الدولية، إلا أن المحكمة أبت إلا أن تعلن من جديد أنها لا تزال أداة قانونية في مشروع سياسي.
ولا يجب أن يفوت على المتابع أنه في اليوم الذي صدر فيه حكم الدائرة الاستئنافية ضد البشير كان الرئيس أوباما يهدّد السودان بفرض عقوباتٍ عليه ما لم يوقف المذابح بدارفور.
الدلالة الثانية، أن السودان كدولة والسودان كنظام قد تمسك بما لم ترض عنه الولايات المتحدة وفرنسا في القضايا العربية خصوصًا، كما أن السودان كدولة بثرواته الواعدة يمكن أن يكون من الدول التي تتمتع بالرخاء، وهذا أمر لا يسعد المشروع الاستعماري والصهيوني والذي تحركه ’’إسرائيل’’، ولذلك إذا تغيَّر النظام في الخرطوم واستمر على نفس السياسات؛ فإن الاستهداف سيظل للسودان ما دامت المؤامرة تستهدف السياسات وليس أشخاص النظام.
الدلالة الثالثة، هي أن توقيت هذا القرار مقصود، وهو إفساد المصالحة في الداخل، بعد أن أعلن الرئيس البشير عن استعداد الحكومة للانتخابات الحرة؛ مما يؤدي إلى الإضرار بمركز الحزب الحاكم في هذه المنافسة، كما أن هذا التوقيت يشجع المتمردين في دارفور على عدم الاستمرار في محادثات الدوحة، وهو ما حدث بالفعل، ما دامت المحكمة بهذا الموقف كانت دائمًا عونًا للتمرد ضد الحكومة السودانية، وخطرًا على الاستقرار وجهود السلام في السودان؛ بحجة أن العدالة تسبق السلام، وهي حقٌّ أُريد به باطل.
الدلالة الرابعة، هي أن المؤامرة لا تزال مستمرَّة، وهي إسقاط النظام؛ لعل نظامًا جديدًا يتفاهم مع متطلبات هذه المؤامرة.
الدلالة الخامسة والأخيرة، هي أن السودان قد دخل طوعًا أو كرهًا في دائرة الحرب الباردة الجديدة بين الصين والولايات المتحدة.
والخلاصة، أن موقف المحكمة الجديد هو تذكير باستمرار العزم لدى المدعي العام ضد الرئيس البشير، بينما لا يجرؤ المدعي العام على أن يمسّ ملفات الجرائم الصهيونية وآخرها في غزة، والتي تكشف التحيز الفاضح لقانون كسيح ضد عدالة واضحة كالشمس في رابعة النهار.
كما يجب أن نذكِّر بموقف المدعي العام من الجرائم الأمريكية في العراق، والذي يُعدّ فضيحة بكل المقاييس، ويبرر إبعادَه عن ساحة العمل القانوني والقضائي؛ حيث أكد في تقريره أنه استطلع رأي وزارة الخارجية البريطانية فيما نسب إلى جنودها من جرائم، فأفادت بأن ما قاموا به كان سليمًا قانونًا وطبقًا للتعليمات الموجهة إليهم، وهو موقف شبيه بموقف ’’إسرائيل’’ في ضم الأراضي الفلسطينية في القدس بأن الجيش تصرف وفق الأوامر العسكرية ’’الإسرائيلية’’... تلك هي عدالة أوكامبو التي يبشر بها ضحايا الجرائم في العالم الثالث.
*البشير