مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
أوراق سلفية إصلاحية (3)...الاحتساب الثقافي .. أهميته وترشيده
أوراق سلفية إصلاحية (3)...الاحتساب الثقافي .. أهميته وترشيده
22-5-2009
وعلى أقل الأحوال، فالمأمول من هؤلاء الفضلاء أن يحرصوا على تكاملية مشاريعهم الإصلاحية مع التيار الاحتسابي، فكما أن هموم الإصلاح السياسي والتنموي تعد قضايا مهمة تستحق الكثير من الجهود، فكذلك القضاء على بؤر الفساد الأخلاقي، وتجفيف ينابيع الانحراف الثقافي تصب في نفس المسار. والمحتسبون والشرعيون، وإن وقعوا في بعض الثناء المبالغ فيه على الأوضاع، غير أنهم في الغالب لا يفعلون ذلك إلا بقدر ما يدفع الأذى عن جهودهم ومؤسساتهم في ظل أجواء اتهامية وتحريضية قذرة من خصومهم، تشكك في ولائهم للبلاد ووحدته..وأما المواقف العائمة واللغة الفضفاضة تجاه قضايا مفصلية في معركة الثوابت، والوضوح والقسوة في نقد التيارات الاحتسابية والشرعية.
ظل هذا الدين منذ فجر النبوة صافياً مشعاً يعم بنوره الدنيا، إيماناً وتوحيداً هداية وإرشاداً، وبعد استشهاد الفاروق رضي الله عنه، انكسر الباب عن فتن وشبهات، تزعمها أهل الأهواء والبدع يريدون تقويض هذا الدين من داخله، تأكيداً لصدق الخبر النبوي عن افتراق هذه الأمة إلى فرق عديدة، توعدها النبي عليه السلام بالعذاب إلا فرقة واحدة تميزت بثباتها وبقائها ’’على ما كان عليه وأصحابه’’.

ومهما حاول بعض الباحثين المعاصرين تضعيف هذا الحديث في روايته أو درايته، فإن لُب معناه ثابت عن الافتراق بدلالة الأحاديث المتواترة، كحديث الطائفة المنصورة، أو الأحاديث المتفق على صحتها في ظهور فرقة الخوارج...منذ ذلك التاريخ أدرك الصحب الكرام رضوان الله عليهم ومن سار على أثرهم من أئمة التوحيد والسنة، مهمتهم الكبرى في التصدي لأهل الأهواء والانحراف عن المنهج الرباني....

وتصدي العلماء والمفكرين لشبهات المنحرفين عن منهج الإسلام، كدين ومنهج حياة، من أوجب الواجبات، وهي فريضة جليلة لا يسع القادرين عليها التقاعس عن أدائها، ولا يخفى على المراقبين أن كافة بلاد الإسلام تتعرض منذ عقود لحملات تغريبية مدججة بأعتى الأسلحة الإعلامية والثقافية والعسكرية.

ومن المعلوم أن حياطة الدين وحماية بيضته وإبقاء جذوة التدين لدى الناس، لا تكون بتلك الدعاوى الجوفاء التي ترفع راية التعايش والوئام الفكري والاجتماعي، من دون تقديم أرضية شرعية للتعايش المأمول.

واستكمالاً لمسيرة الاحتساب المشرقة منذ فجر الإسلام، ينفر اليوم في بلاد الحرمين رجال غيورون ودعاة مخلصون ـ نحسبهم كذلك ـ للاحتساب على هذا الانحراف الثقافي والفكري، الذي يشيعه الليبراليون عبر منابرهم الإعلامية المتعددة، والحركة الاحتسابية لم تجد لها متنفساً إلا على شبكة الانترنت وبعض الفرص النادرة عبر الفضائيات.

والملاحظ أن الفئات الممتعضة من حركة الاحتساب الثقافي والفكري، تنقسم إلى عدة تيارات، ولا يمكن حصرها بالخصوم التقليديين، وهم الليبراليون، والذين لا تُستغرب عداوتهم الصارخة لمبدأ الاحتساب كشعيرة دينية، إذ على صخرة الاحتساب تحطمت العديد من مشاريعهم ومخططاتهم، وإن كانوا يعيشون اليوم حالة من التوهج المؤقت والجرأة غير المسبوقة لأسباب لا تخفى على النابهين.

وأما الفئات الأخرى الممتعضة من الجهود الاحتسابية على أهل التغريب، فيمكن تقسيمها إجمالاً ـ في تقديري ـ إلى صنفين:

الصنف الأول: ’’الإسلاميون الجدد’’، وإن شئت فقل الإسلاميون الحالمون من دعاة ومثقفين وأكاديميين، وهؤلاء يأملون بتعايش ووئام غير واقعي مع خصوم المنهج الإسلامي من الليبراليين والمبتدعة، وهم لا يقدمون مشروعاً واضحاً للتعايش سوى خطاب عاطفي يدغدغ أحلام الرومانسيين ولا يصمد لثوابت الشرع وحقائق الواقع، وامتعاض هؤلاء من الحركة الاحتسابية يظهر عبر تخلفهم عن الدخول في ركابها، بعد أن كانوا من الفاعلين فيها، يرافق هذا الإغضاء عن تجديف التغريبيين وإرجافهم، النقد المستمر للحركة الاحتسابية.

وهذا النقد يصيب حيناً ويخطئ أحياناً، ولكنه لو كان نقداً هادفاً لاستبدله أصحابه بحركة احتسابية تصحيحية، ولكن الواقع يقول إن المحصلة هو جلد الحركة الاحتسابية ’’بسوط شرعي وإسلامي’’، في تناغم عجيب مع أرباب الشهوات ليس إلا، وترى الواحد من هؤلاء الإخوة يستشيط غضباً إذا قرأ فتوى أو موقفاً حاداً لأحد الدعاة في مسألة فقهية اجتهادية، وتفتر شفتاه عن ’’تقطيبة’’ باهتة إذا قرأ لأحد المنحرفين وهو يسخر بثوابت الشرع، داعياً لاحتواء المخالفين والتماس المعاذير لهم.

الصنف الثاني: مثقفون ومفكرون ودعاة مهمومون بقضايا عادلة ومشروعة، كقضية ’’الاستبداد’’ أو ’’التقدم الحضاري في الجانب المادي’’، وهؤلاء طغى اهتمامهم في هذه القضايا حتى جعلوها معياراً ثابتاً للحكم على الأشخاص والمؤسسات والتيارات، ويرون أن الواجب هو تفريغ كافة الطاقات والجهود لهذه القضايا، مما أدى بهم لازدراء أي نشاط دعوي أو احتسابي بعيداً عن قضاياهم تلك، فترى هذا الصنف من المفكرين الأحرار يشتد تقريعه وهجاؤه للعديد من الرموز والمؤسسات الشرعية، لأن لها موقفاً غير إيجابي من قضاياهم، ناسين أو متناسين الأثر الكبير لنفس تلك الرموز والمؤسسات في وأد العديد من مشاريع التغريب والإفساد، وحماية الكثير من المؤسسات والمشاريع الدعوية والإصلاحية التي كانت عُرضة للإغلاق أو التهميش، خصوصاً في الفترة التي تلت عاصفة 11 سبتمبر.

وفي الجهة الأخرى، تجد الثناء والإطراء للعديد من الرموز الفكرية المنحرفة، لأنها وقفت موقفاً إيجابياً من قضاياهم متناسين أو غافلين عن أثرهم الفكري والثقافي السيئ على المجتمع.

والمأمول من كل مسلم، سيما أهل الفكر والعلم أن يرهنوا مواقفهم للمقصد الشرعي الذي يحبه الله ويرضاه، فتجد الواحد منهم يقترب ويبتعد وفق إصابة هذا التيار أو ذاك للمقصود الشرعي، والذي لا يختص بحل معضلة الاستبداد أو التقدم التقني أو قضايا التنمية، فهي وإن كانت مسائل وقضايا عادلة ومشروعة، وجاء الشرع بتحقيقها، إلا أن مدار بوصلة المفكر الإسلامي الأصيل لا ترتكز عليها، بل إن مداره يدفع لسقف أعلى وفضاء أرحب وإطار أشمل، وهو كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال.

فالباذلون أوقاتهم وأعراضهم للاحتساب على أهل التغريب حقهم علينا التأييد بالدعاء وكل مستطاع، كما أن من حقهم علينا أن ننقدهم بعلم وعدل، لإيصال الحركة الاحتسابية إلى درجة الكمال البشري، لا بقصد توهين جهود المحتسب أو تثبيطه أو تشويه صورته أمام المجتمع، بحيث يكون هذا هو ديدنا وشأننا في كل معركة بين المحتسبين وخصومهم.

وعلى أقل الأحوال، فالمأمول من هؤلاء الفضلاء أن يحرصوا على تكاملية مشاريعهم الإصلاحية مع التيار الاحتسابي، فكما أن هموم الإصلاح السياسي والتنموي تعد قضايا مهمة تستحق الكثير من الجهود، فكذلك القضاء على بؤر الفساد الأخلاقي، وتجفيف ينابيع الانحراف الثقافي تصب في نفس المسار.

والمحتسبون والشرعيون، وإن وقعوا في بعض الثناء المبالغ فيه على الأوضاع، غير أنهم ـ وبعيداً عن الحكم على صوابية هذا الموقف أو خطئه ـ في الغالب لا يفعلون ذلك إلا بقدر ما يدفع الأذى عن جهودهم ومؤسساتهم في ظل أجواء اتهامية وتحريضية قذرة من خصومهم، تشكك في ولائهم للبلاد ووحدته، فالمؤمل من عامة المثقفين والشيوخ الغيورين الحريصين على هوية الأمة وثوابتها ألا يجرهم الإعلام بواجهاته وقنواته المتعددة في ضرب الجهات الاحتسابية والشرعية في البلاد، وأن يضعوا نقدهم البناء في موضعه الصحيح، والذي يقتضي ’’وضوح المواقف’’ تجاه معركة الثوابت القائمة بين الدعاة والمحتسبين وبين خصومهم من التغريبيين، أو الاعتزال التام عن الأحداث بالكلية.

وأما المواقف العائمة واللغة الفضفاضة تجاه قضايا مفصلية في معركة الثوابت، والوضوح والقسوة في نقد التيارات الاحتسابية والشرعية، فهذا في حقيقته يعد ’’خذلاناً’’ للدعاة والتيار الإسلامي الأصيل، و’’تجسيراً’’ لمخططات التغريب إلى عمق المجتمع الإسلامي.

* وقفة عابرة مع الممارسات الاحتسابية على الشبكة:

شكلت مجموعة من الأقلام والأسماء رافداً احتسابياً مؤثراُ ضد ما يكتبه الليبراليون في وسائل الإعلام المكتوبة والمقروءة، وقد شكل النشاط الاحتسابي على الشبكة خصماً عنيداً يُحسب له حساب لدى الخصوم، وخطاب هذه الأقلام لا يمكن إعطاؤه حكماً عاماً، ولكن اللون الطاغي فيه لا زال دون المستوى المأمول، فهو يستخدم لغة لا تتناسب مع المتغيرات الكبرى في المجتمع على المستوى الفكري والثقافي، وهذه اللغة قد تتسبب في استعداء شرائح كثيرة من المجتمع للحركة الاحتسابية والدعوية، وعندما خرج أحد الإخوة الفضلاء في قناة فضائية، ليقول إنه لو شاهد فلان من الليبراليين لبصق في وجهه، فرح أحد كبار الليبراليين الجدد أو ’’النيو ليبراليين’’، وقال: إن خطاب هذا الرجل يمثل الصورة الحقيقية للإسلاميين.

والأمثلة عديدة على هذا اللون من التعامل، ولن أدخل في تبرير بعض الإخوة لهذا اللون من الخطاب، كمنهج عام أو تسويغه شرعاً، والذي أختلف معهم فيه، ولكني أكاد أجزم أن عامة الناس لا يمكن أن يتقبلوا مثل هذا الأسلوب، بل ربما عدّوا ذلك المثقف ضحية لهذا الأسلوب الحاد من الشيخ المحتسب وأمثاله من الأخيار.

والحقيقة أن مراعاة أفهام الناس وطبيعة واقع وثقافة المجتمع من العوامل المؤثرة في صياغة الخطاب الإسلامي تجاه المخالفين، وهذا يبرز في نهي القرآن الكريم عن سب آلهة المشركين، وفي امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن هدم الكعبة وبنائها على قواعد إبراهيم عليه السلام، لأن المجتمع المكي آنذاك كان حديث عهد بكفر، وكان لا يستوعب مثل هذا الأمر المشروع.

وفي تراث أئمة الدعوة النجدية العديد من المواقف التي تؤيد ذلك ومن ذلك مقولة الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله (والله الذي لا إله إلا هو لو يعرف الناس الأمر على وجهه لأفتيت بحل دم ابن سحيم وأمثاله، ووجوب قتالهم، كما أجمع على ذلك أهل العلم كلهم، لا أجد في نفسي حرجاً من ذلك)، والشاهد من هذا الكلام أن الإمام محمد بن عبدالوهاب امتنع عن الإفتاء وقول رأيه في رجل، بسبب أن ’’الناس لا يعرفون الأمر على وجهه’’.

والناس اليوم لن تفهم أن يخاطب دكتور في جامعة علمية محترمة بالبصق في وجهه أو الاتهام بالزندقة والنفاق في كل شاردة وواردة، ويزعم قائله أن هذا هو المنهج النبوي والسلفي في التعامل مع أمثاله.

وهذا الدكتور يصرح في مناسبات عديدة التزامه بالإسلام، ويزعم أن ما يُنسب إليه لا يعدو أن يكون سوى عبارات قيلت على لسان شخصيات روائية خيالية، ولست في مقام تحرير هذه المسألة العينية، ولكني أجزم أن هذا اللون في الخطاب مع الليبراليين يجعل عموم الناس ينفرون من الدعاة والمحتسبين، سيما إذا رافق هذا تطبيل ممجوج لبعض الجهات والقوى، والهجوم السافر والمتواصل على المخالفين داخل التيار الإسلامي وحشرهم مع خصوم الدعوة على الدوام.

فالخطاب الاحتسابي على الشبكة عليه أن يركز على مفاصل الانحراف الليبرالي المتعلقة بثوابت الشرع والمنافذ الموصلة لمشاريعهم التغريبية، واستنبات الخير في عموم الناس والدعاة على اختلاف مناهجهم أو الإعراض عنهم قدر المستطاع، إذ في الهجوم السافر عليهم بلا ضوابط كما هو الحال، عدوان وبغي، وتنفير للأتباع، وتقوية للخصوم من أهل التغريب والبدع.
.مجلة العصر
أضافة تعليق