أوراق سلفية إصلاحية (2) ...محورية معضلة الاستبداد
11-5-2009
وهذه الفئة من المفكرين الأحرار لو وجدوا فكرة أو مشروعاً إسلامياً ناضجاً في التصدي لمعضلة الاستبداد، فلن يمانعوا عن التخلي عن مشروعهم أو أسلمتهم غير الموفقة للفكرة الديمقراطية، إذ إن القضية التي ملئت جوانح هؤلاء الأحرار وأشعلت صدورهم وأمضّت قلوبهم هي حل معضلة الاستبداد لا ترويج الفكرة الديمقراطية بإشكالياتها، إذ إن الخيار لدى هؤلاء الفضلاء غالباً ما يكون بين الفكرة الديمقراطية وبين منهج تقليدي يقول أصحابه من الشرعيين باحتكار فهم المصلحة الشرعية والسياسية للبلد لدى أصحاب القرار.
بقلم عبد الرحيم التميمي
إن معضلة الاستبداد التي عانى منها العالم العربي والإسلامي منذ خروج الاستعمار من أراضيه، شكلت العائق الأكبر أمام سيادة ثقافة الأمة ومنهجها الرباني على كافة مناحي حياتها العامة، كما شكلت العقبة الكؤود التي حالت دون ترجمة العشرات من الأفكار والمشاريع البناءة لواقع معاش للسير في مضمار الحضارة المعاصرة، وأجدني اليوم قلّما قلبت طرفي في مشكلة صغرت أم كبرت في واقع حياة المسلم المعاصر، وجدت أن معضلة الاستبداد لها اليد الطولى في بروزها أو حمايتها.
ومهما حاول ذلك المواطن المكلوم النأي عن منهج المصلحين لهذه المعضلة، فلابد أن يجد أثر هذه المعضلة في أهم ضرورات حياته، وفي المحور الشرعي الذي يرتكز على عبودية الإنسان والمجتمعات لشريعة ربها تكون المعضلة أكبر، إذ لا طريق لهذه الأمة المسلمة، إلا أن تسعى في علاج هذه المعضلة، إذ لا بديل عنها سوى العبودية لغير الله جل وعلا، وما بين الأنموذج الراشدي والسائرين على هديه وبقية النماذج في التاريخ، تكون القسمة التي لا تحتمل سوى (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين)، وليس المقصود من كتابة هذه الورقة تشخيص واقع الأنظمة العربية، ولا التعرض لمنهجية التصور السلفي للإصلاح السياسي، وإنما عنُيت هنا بإلقاء الضوء على بعض إشكاليات تعاطي بعض السلفيين في العالم العربي مع معضلة الاستبداد:
أولاً، القصور في الوعي: وهذا ناتج للتقصير في الاطلاع وقراءة تاريخ نشوء الأنظمة العربية عبر كتب تاريخية وسياسية متنوعة، والاكتفاء غالباً باجترار مواقف بعض الفقهاء المتأخرين، وهذا يفضي بطالب العلم أو المفكر لإنزال قواعد فقهية شرعية ومواقف سلفية تاريخية جاءت في ظروف ومرحلة مختلفة تماماً عن واقعنا الحالي، وإذا كانت طبيعة بعض المجتمعات العربية بُعيد حقبة الاستعمار كانت بدائية في إطلاعها وثقافتها، فلا عذر اليوم لطالب العلم والمفكر الإسلامي الأصيل في الجمود على بعض التصورات والفتاوى التي يعلم طالب العلم الباحث يقيناً أنها ليست من الثوابت التي لا تجوز مخالفتها، بل وقد يجزم عند تنزيلها للواقع عدم جدواها في إي إصلاح لدين الناس ودنياهم.
فالحكم على الشيء فرع عن تصوره وإطلاع طالب العلم على الكتب السياسية والتقارير الإخبارية والدراسات البحثية من مصادر معرفية متنوعة بعقلية موضوعية غير منحازة سوف يساهم ولاشك في صياغة تصور موضوعي صحيح لطبيعة الواقع السياسي للنظم العربية، والاطلاع إن كان أمراً ثانوياً لدى عامة الناس فهو شرط لا بد منه لمن أراد التعرض للواقع السياسي أو الإفتاء في نوازل الأمة الكبرى أو قضايا الحياة العامة، فهي ليست ترفاً ولا أمراً مستحباً ففقه واقع النازلة أحد شرطي أهلية المفتي وطالب العلم للوصول للحكم الشرعي، ونتيجة لغياب هذا البُعد عن البعض رأينا منهم مواقف عديدة مؤيدة للاستبداد، وربما لم يؤت بعض هؤلاء من جهة إخلاصهم ونياتهم وإنما أُتوا من عدم معرفتهم الكافية بالواقع من حولهم.
ثانياً، تهميش معضلة الاستبداد عبر افتراض حالم يعتقد الانفصام أو عدم التلازم بين إصلاح أديان الناس وسلوكهم العام وبين سيادة أحكام الشريعة في كافة مناحي الحياة،والحقيقة أن معضلة الاستبداد في حياة المسلم المعاصر هي معضلة محورية واتصالها وثيق الصلة بمشروع التيارات الإسلامية في سيادة الشريعة على كافة مفاصل الحياة العامة، وصلتها أوثق بمصالح عامة الناس وضرورات حياتهم في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ووجود محاولات خاطئة أو تصورات منحرفة في كيفية علاج هذه المعضلة لا يلغي أهميتها ومحوريتها، فالتصدي لعلاج هذه المعضلة واجب شرعي لا يسقط إلا بالعجز، ولا عجز تام اليوم في ظل توفر العديد من وسائل التأثير والتوجيه.
والذي نريده من هذه النقطة التأكيد على محورية معضلة الاستبداد لا فرض نمط معين أو منهج محدد لعلاج معضلة الاستبداد، فلكل بلد إسلامي خصوصيته وظروفه من جهة طبيعة أنظمته ومن جهة إمكانات تياراته الإصلاحية، ولكن من الضروري هنا نزع أغلال الوهن، وآصار اليأس، وقضبان الإخلاد إلى الأرض، ونشر الوعي لدى عموم الجيل الجديد بمحورية هذه المعضلة وضرورة السعي في علاجها بالطرق المشروعة، والحذر من الناكصين عن مشروع الإصلاح نتيجة لتجربة إصلاحية فاشلة أو منهج عنيف منحرف، فهؤلاء أعظم اليوم أثراً في ترويج ثقافة ’’التدجين’’ بسبب نتاج تجاربهم السابقة.
ثالثاً: في خضم معاناة معظم الشعوب الإسلامية من نير الاستبداد على درجات متفاوتة، ينفر في كل بلد أفراد قلائل من تيارات مختلفة لمجابهة تلك المعضلة عبر طرق سلمية ومدنية، والموقف السلفي الإسلامي من أولئك الأفراد والمفكرين الأحرار ينبغي ألا يُحصر في قراءة سلبيات مشروعهم الإصلاحي، فالقراءة المنصفة لمشاريع التغيير من قبل هؤلاء الأحرار تقتضي أن نفرق بين صنفين:
الصنف الأول: فئة عُرفت بالمحافظة على الثوابت الشرعية وتاريخها الفكري المشرف ولكنها عند تصديها لمعضلة الاستبداد قد تقع فيما نعتبره خطأ أو انحرافاً في محاولتها لتكييف أو أسلمة الفكرة الديمقراطية ومبدأ تشكيل الأحزاب...الخ، وفي مسيرتها النضالية، ربما بالغت في نقد وتجريم كافة الكيانات الملتصقة بالأنظمة دينية كانت أو ليبرالية، وتجريحها للمؤسسات الدينية الرسمية لا ينطلق من موقف عدائي من الشرع أو ثوابته بقدر ما هي قناعة تولدت لدى هذا الصنف أن بعض التيارات والمؤسسات الدينية تنافح عن الاستبداد في كل موطن وتعطيه الصبغة الشرعية أمام المجتمع.
وفي تقديري، فإن هذه الفئة من المفكرين الأحرار لو وجدوا فكرة أو مشروعاً إسلامياً ناضجاً في التصدي لمعضلة الاستبداد، فلن يمانعوا عن التخلي عن مشروعهم أو أسلمتهم غير الموفقة للفكرة الديمقراطية، إذ إن القضية التي ملئت جوانح هؤلاء الأحرار وأشعلت صدورهم وأمضّت قلوبهم هي حل معضلة الاستبداد لا ترويج الفكرة الديمقراطية بإشكالياتها، إذ إن الخيار لدى هؤلاء الفضلاء غالباً ما يكون بين الفكرة الديمقراطية وبين منهج تقليدي يقول أصحابه من الشرعيين باحتكار فهم المصلحة الشرعية والسياسية للبلد لدى أصحاب القرار.
إن هذه الفئة ينبغي ألا تقتصر ردود السلفيين عليها في رصد أخطائها وتضخيمها وإشغال الشباب بنقدها وتجريمها، بل لا بد من الرفق بها وإحسان الظن بمقاصدها واحتواء انفعالاتها بل وتفهمها أحياناً مع نقد هادئ حصيف لأخطائها متى ما دعت الحاجة إلى ذلك.
الصنف الثاني: فئة تطرح مشاريع للإصلاح السياسي بثوب تغريبي كامل وقد تتعاهدها بعض القوى الغربية بالحماية والدعم، وهذه الفئة يجب التصدي لها وبيان مواطن انحراف منهجها، على أن يكون هذا بعيداً عن استخدامنا كمدافع مؤقتة من قبل قوى الاستبداد.
يبقى أن يقال إنه من المهم أن يستوعب الدعاة والعلماء أنهم إذا كانوا يؤمنون بمنهجية الإصلاح المرحلي أو التدريجي، أو حتى الاكتفاء بالإصلاح الجزئي للمخالفات الشرعية، التي دائماً ما يجتهدون في إصلاحها عبر حملاتهم الاحتسابية، ونشاطهم الإعلامي وهم مصيبون ومأجورون في ذلك، عليهم أن يُدرجوا ضمن نفس الأجندة تلك المظالم التي تطال الناس في حقوقهم التي كفلتها لها الشريعة في أمور معاشهم وحياتهم.
وإذا كان الأنموذج النبوي المتمثل في ’’حلف الفضول’’، الذي كان عبارة عن تحالف مع غير المسلمين لتحقيق قيمة إنسانية مشتركة، وهي رفع الظلم عن المظلومين، حيث قال عليه السلام (لقد شهدت حلفاً في دار عبدالله بن جدعان، ما أحب أن لي فيه حمر النعم ولو دعيت إليه في الإسلام لأجبت..)، فإن هذا الأنموذج ينبغي أن يفتح آفاق السلفيين والإسلاميين عموماً إلى مشروعية التحالف أوالتعاون مع المخالفين مع النهج الإسلامي، أيا كان مذهبهم، لتحقيق القيم الإنسانية المشتركة التي كفلتها الشريعة لكل مواطن في التعليم والعلاج والعيش الكريم والحرية المضبوطة بضوابط الشرع، وهذا ما كفلته الشريعة لكل من يتفيأ ظلالها والسيرة العُمرية زاخرة بأمثلة مشرقة لم تستثن أهل الذمة من اليهود والنصارى فضلاً عن غيرهم من أهل القبلة، وإن كانت بعض المجتمعات العربية لم تنضج طوائفها وتياراتها بعدُ للاتفاق على هكذا مشروع.
وإذا كان الإسلاميون يظنون أن هذا الخيار قد يحرق بعض مكاسبهم وهامش الحرية المعطى إليهم من قبل السلطة دون تحقيق نتيجة إيجابية على الأرض ولا منهجية جادة من المخالفين، فإن النقد في هذه النقطة لا يُراد منه الدعوة لعمل وشيك، بل لا بد من توفير أسباب حياته وبقائه قبل الشروع فيه، وأولى الخطوات في ذلك إزالة ما يظنه بعض الإسلاميين حرجاً شرعياً في مثل هذه التحالفات، وتربية الشباب على هذا الأمر بعيداً عن أبواق المنحرفين الذين يجهدون في إذابة الفوارق العقدية بين أهل السنة ومخالفيهم، إذ البقاء على النهج التقليدي سوف يبقى الحال، كما هو وسيبقى الإسلاميون وخصومهم كرات تتقاذفها أيدي الاستبداد على طاولة اللعبة دون نتيجة فاعلة على الأرض .
.العصر
11-5-2009
وهذه الفئة من المفكرين الأحرار لو وجدوا فكرة أو مشروعاً إسلامياً ناضجاً في التصدي لمعضلة الاستبداد، فلن يمانعوا عن التخلي عن مشروعهم أو أسلمتهم غير الموفقة للفكرة الديمقراطية، إذ إن القضية التي ملئت جوانح هؤلاء الأحرار وأشعلت صدورهم وأمضّت قلوبهم هي حل معضلة الاستبداد لا ترويج الفكرة الديمقراطية بإشكالياتها، إذ إن الخيار لدى هؤلاء الفضلاء غالباً ما يكون بين الفكرة الديمقراطية وبين منهج تقليدي يقول أصحابه من الشرعيين باحتكار فهم المصلحة الشرعية والسياسية للبلد لدى أصحاب القرار.
بقلم عبد الرحيم التميمي
إن معضلة الاستبداد التي عانى منها العالم العربي والإسلامي منذ خروج الاستعمار من أراضيه، شكلت العائق الأكبر أمام سيادة ثقافة الأمة ومنهجها الرباني على كافة مناحي حياتها العامة، كما شكلت العقبة الكؤود التي حالت دون ترجمة العشرات من الأفكار والمشاريع البناءة لواقع معاش للسير في مضمار الحضارة المعاصرة، وأجدني اليوم قلّما قلبت طرفي في مشكلة صغرت أم كبرت في واقع حياة المسلم المعاصر، وجدت أن معضلة الاستبداد لها اليد الطولى في بروزها أو حمايتها.
ومهما حاول ذلك المواطن المكلوم النأي عن منهج المصلحين لهذه المعضلة، فلابد أن يجد أثر هذه المعضلة في أهم ضرورات حياته، وفي المحور الشرعي الذي يرتكز على عبودية الإنسان والمجتمعات لشريعة ربها تكون المعضلة أكبر، إذ لا طريق لهذه الأمة المسلمة، إلا أن تسعى في علاج هذه المعضلة، إذ لا بديل عنها سوى العبودية لغير الله جل وعلا، وما بين الأنموذج الراشدي والسائرين على هديه وبقية النماذج في التاريخ، تكون القسمة التي لا تحتمل سوى (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين)، وليس المقصود من كتابة هذه الورقة تشخيص واقع الأنظمة العربية، ولا التعرض لمنهجية التصور السلفي للإصلاح السياسي، وإنما عنُيت هنا بإلقاء الضوء على بعض إشكاليات تعاطي بعض السلفيين في العالم العربي مع معضلة الاستبداد:
أولاً، القصور في الوعي: وهذا ناتج للتقصير في الاطلاع وقراءة تاريخ نشوء الأنظمة العربية عبر كتب تاريخية وسياسية متنوعة، والاكتفاء غالباً باجترار مواقف بعض الفقهاء المتأخرين، وهذا يفضي بطالب العلم أو المفكر لإنزال قواعد فقهية شرعية ومواقف سلفية تاريخية جاءت في ظروف ومرحلة مختلفة تماماً عن واقعنا الحالي، وإذا كانت طبيعة بعض المجتمعات العربية بُعيد حقبة الاستعمار كانت بدائية في إطلاعها وثقافتها، فلا عذر اليوم لطالب العلم والمفكر الإسلامي الأصيل في الجمود على بعض التصورات والفتاوى التي يعلم طالب العلم الباحث يقيناً أنها ليست من الثوابت التي لا تجوز مخالفتها، بل وقد يجزم عند تنزيلها للواقع عدم جدواها في إي إصلاح لدين الناس ودنياهم.
فالحكم على الشيء فرع عن تصوره وإطلاع طالب العلم على الكتب السياسية والتقارير الإخبارية والدراسات البحثية من مصادر معرفية متنوعة بعقلية موضوعية غير منحازة سوف يساهم ولاشك في صياغة تصور موضوعي صحيح لطبيعة الواقع السياسي للنظم العربية، والاطلاع إن كان أمراً ثانوياً لدى عامة الناس فهو شرط لا بد منه لمن أراد التعرض للواقع السياسي أو الإفتاء في نوازل الأمة الكبرى أو قضايا الحياة العامة، فهي ليست ترفاً ولا أمراً مستحباً ففقه واقع النازلة أحد شرطي أهلية المفتي وطالب العلم للوصول للحكم الشرعي، ونتيجة لغياب هذا البُعد عن البعض رأينا منهم مواقف عديدة مؤيدة للاستبداد، وربما لم يؤت بعض هؤلاء من جهة إخلاصهم ونياتهم وإنما أُتوا من عدم معرفتهم الكافية بالواقع من حولهم.
ثانياً، تهميش معضلة الاستبداد عبر افتراض حالم يعتقد الانفصام أو عدم التلازم بين إصلاح أديان الناس وسلوكهم العام وبين سيادة أحكام الشريعة في كافة مناحي الحياة،والحقيقة أن معضلة الاستبداد في حياة المسلم المعاصر هي معضلة محورية واتصالها وثيق الصلة بمشروع التيارات الإسلامية في سيادة الشريعة على كافة مفاصل الحياة العامة، وصلتها أوثق بمصالح عامة الناس وضرورات حياتهم في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ووجود محاولات خاطئة أو تصورات منحرفة في كيفية علاج هذه المعضلة لا يلغي أهميتها ومحوريتها، فالتصدي لعلاج هذه المعضلة واجب شرعي لا يسقط إلا بالعجز، ولا عجز تام اليوم في ظل توفر العديد من وسائل التأثير والتوجيه.
والذي نريده من هذه النقطة التأكيد على محورية معضلة الاستبداد لا فرض نمط معين أو منهج محدد لعلاج معضلة الاستبداد، فلكل بلد إسلامي خصوصيته وظروفه من جهة طبيعة أنظمته ومن جهة إمكانات تياراته الإصلاحية، ولكن من الضروري هنا نزع أغلال الوهن، وآصار اليأس، وقضبان الإخلاد إلى الأرض، ونشر الوعي لدى عموم الجيل الجديد بمحورية هذه المعضلة وضرورة السعي في علاجها بالطرق المشروعة، والحذر من الناكصين عن مشروع الإصلاح نتيجة لتجربة إصلاحية فاشلة أو منهج عنيف منحرف، فهؤلاء أعظم اليوم أثراً في ترويج ثقافة ’’التدجين’’ بسبب نتاج تجاربهم السابقة.
ثالثاً: في خضم معاناة معظم الشعوب الإسلامية من نير الاستبداد على درجات متفاوتة، ينفر في كل بلد أفراد قلائل من تيارات مختلفة لمجابهة تلك المعضلة عبر طرق سلمية ومدنية، والموقف السلفي الإسلامي من أولئك الأفراد والمفكرين الأحرار ينبغي ألا يُحصر في قراءة سلبيات مشروعهم الإصلاحي، فالقراءة المنصفة لمشاريع التغيير من قبل هؤلاء الأحرار تقتضي أن نفرق بين صنفين:
الصنف الأول: فئة عُرفت بالمحافظة على الثوابت الشرعية وتاريخها الفكري المشرف ولكنها عند تصديها لمعضلة الاستبداد قد تقع فيما نعتبره خطأ أو انحرافاً في محاولتها لتكييف أو أسلمة الفكرة الديمقراطية ومبدأ تشكيل الأحزاب...الخ، وفي مسيرتها النضالية، ربما بالغت في نقد وتجريم كافة الكيانات الملتصقة بالأنظمة دينية كانت أو ليبرالية، وتجريحها للمؤسسات الدينية الرسمية لا ينطلق من موقف عدائي من الشرع أو ثوابته بقدر ما هي قناعة تولدت لدى هذا الصنف أن بعض التيارات والمؤسسات الدينية تنافح عن الاستبداد في كل موطن وتعطيه الصبغة الشرعية أمام المجتمع.
وفي تقديري، فإن هذه الفئة من المفكرين الأحرار لو وجدوا فكرة أو مشروعاً إسلامياً ناضجاً في التصدي لمعضلة الاستبداد، فلن يمانعوا عن التخلي عن مشروعهم أو أسلمتهم غير الموفقة للفكرة الديمقراطية، إذ إن القضية التي ملئت جوانح هؤلاء الأحرار وأشعلت صدورهم وأمضّت قلوبهم هي حل معضلة الاستبداد لا ترويج الفكرة الديمقراطية بإشكالياتها، إذ إن الخيار لدى هؤلاء الفضلاء غالباً ما يكون بين الفكرة الديمقراطية وبين منهج تقليدي يقول أصحابه من الشرعيين باحتكار فهم المصلحة الشرعية والسياسية للبلد لدى أصحاب القرار.
إن هذه الفئة ينبغي ألا تقتصر ردود السلفيين عليها في رصد أخطائها وتضخيمها وإشغال الشباب بنقدها وتجريمها، بل لا بد من الرفق بها وإحسان الظن بمقاصدها واحتواء انفعالاتها بل وتفهمها أحياناً مع نقد هادئ حصيف لأخطائها متى ما دعت الحاجة إلى ذلك.
الصنف الثاني: فئة تطرح مشاريع للإصلاح السياسي بثوب تغريبي كامل وقد تتعاهدها بعض القوى الغربية بالحماية والدعم، وهذه الفئة يجب التصدي لها وبيان مواطن انحراف منهجها، على أن يكون هذا بعيداً عن استخدامنا كمدافع مؤقتة من قبل قوى الاستبداد.
يبقى أن يقال إنه من المهم أن يستوعب الدعاة والعلماء أنهم إذا كانوا يؤمنون بمنهجية الإصلاح المرحلي أو التدريجي، أو حتى الاكتفاء بالإصلاح الجزئي للمخالفات الشرعية، التي دائماً ما يجتهدون في إصلاحها عبر حملاتهم الاحتسابية، ونشاطهم الإعلامي وهم مصيبون ومأجورون في ذلك، عليهم أن يُدرجوا ضمن نفس الأجندة تلك المظالم التي تطال الناس في حقوقهم التي كفلتها لها الشريعة في أمور معاشهم وحياتهم.
وإذا كان الأنموذج النبوي المتمثل في ’’حلف الفضول’’، الذي كان عبارة عن تحالف مع غير المسلمين لتحقيق قيمة إنسانية مشتركة، وهي رفع الظلم عن المظلومين، حيث قال عليه السلام (لقد شهدت حلفاً في دار عبدالله بن جدعان، ما أحب أن لي فيه حمر النعم ولو دعيت إليه في الإسلام لأجبت..)، فإن هذا الأنموذج ينبغي أن يفتح آفاق السلفيين والإسلاميين عموماً إلى مشروعية التحالف أوالتعاون مع المخالفين مع النهج الإسلامي، أيا كان مذهبهم، لتحقيق القيم الإنسانية المشتركة التي كفلتها الشريعة لكل مواطن في التعليم والعلاج والعيش الكريم والحرية المضبوطة بضوابط الشرع، وهذا ما كفلته الشريعة لكل من يتفيأ ظلالها والسيرة العُمرية زاخرة بأمثلة مشرقة لم تستثن أهل الذمة من اليهود والنصارى فضلاً عن غيرهم من أهل القبلة، وإن كانت بعض المجتمعات العربية لم تنضج طوائفها وتياراتها بعدُ للاتفاق على هكذا مشروع.
وإذا كان الإسلاميون يظنون أن هذا الخيار قد يحرق بعض مكاسبهم وهامش الحرية المعطى إليهم من قبل السلطة دون تحقيق نتيجة إيجابية على الأرض ولا منهجية جادة من المخالفين، فإن النقد في هذه النقطة لا يُراد منه الدعوة لعمل وشيك، بل لا بد من توفير أسباب حياته وبقائه قبل الشروع فيه، وأولى الخطوات في ذلك إزالة ما يظنه بعض الإسلاميين حرجاً شرعياً في مثل هذه التحالفات، وتربية الشباب على هذا الأمر بعيداً عن أبواق المنحرفين الذين يجهدون في إذابة الفوارق العقدية بين أهل السنة ومخالفيهم، إذ البقاء على النهج التقليدي سوف يبقى الحال، كما هو وسيبقى الإسلاميون وخصومهم كرات تتقاذفها أيدي الاستبداد على طاولة اللعبة دون نتيجة فاعلة على الأرض .
.العصر