لمن القوة المسـتقبلية ؟ قراءة في كتاب القطاع الثالث والفرص السانحة "رؤية مستقبلية"
أ. سعيد بن عبدالكريم اليامي
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين وبعد :
(لمن القوة المسـتقبلية): هذا أحد عناوين "الفصل الخامس" من الكتاب النفيس (القطاع الثالث والفرص السانحة "رؤية مستقبلية") للدكتور محمد بن عبدالله السلومي الذي كتبه في تاريخ 1/7/1430 هـ، وهو دُرَّة في سلسلة إصدارات (مركز القطاع الثالث) بتقديم معالي البروفيسور ((إحسان الدين أوغلي)) أمين عام منظمة المؤتمر الإسلامي، وتقريظ نخبة من أصحاب المعالي وأرباب الفكر والثقافة، وصدر هذا الكتاب قبلما يقرب من عامين على قيام الثورات العربية الحديثة في ( تونس ومصر وليبيا، واليمن ثم سوريا)، وما يتزامن معها الآن من ارهاصات تحولات قادمة في بلدان عربية أخرى.
وقد سجل الكتاب كثير من الأصداء لأن المؤلف أثبت بالحقائق العلمية أن التغيير قادم وسيكون لصالح الشعوب، ولأن الكتاب يطرح مشروعاً حضارياً يسهم في إعادة نهضة الأمة العربية والإسلامية من خلال موروثها التشريعي والتطبيقي الضخمين، ومن خلال القدرة على استيعاب آليات القطاع الثالث المعمول بها في الإدارات الحديثة، كما أن الكتاب بنتائجه العلمية (معطيات ومؤشرات) يُسهم في رؤية مستقبلية مشرقة للشعوب الإسلامية والعربية خاصة إذا رجعت إلى موروثاتها الدينية والحضارية الضخمة.
وخلُص حينها إلى نتيجة،يمكن إيجازها في التالي:
ـ أن للشعوب العربية والإسلامية مستقبل واعد وضاغط بقوة، وسيحقق مكاسب كبيره لاسترداد حقوقه المختطفة من السياسيين المحليين وحلفائهم الدوليين .
ـ وإن ((القوة المستقبلية)) ستكون للشعوب العربية والإسلامية ومنظماتها وجمعياتها، وليس للحكومات أو الأحزاب السياسية ... !
ومما قاله في كتابه: «وإذا كانت هذه القوة المتنامية (الشعوب بمؤسساتها) غير الحكومية على مستوى الداخل والخارج _ لأي دولة _ أصبحت قوة ثالثة تحقق المصالح الوطنية والتماسك الداخلي والقوة الخارجية، بل أصبحت قوة ضاغطة نافذة [1]» ...
ومما قاله أيضاً: «التوجه العالمي يزداد نحو تقليص دور الحكومات أو تغييره في الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية – بما في ذلك العالمين العربي والإسلامي – وتغيير حدود مسؤولياتها في جوانب خصخصة الخدمات وغيرها وهو ما يسميه بعضهم (بيع القطاع العام) [2]»
وقد توصل الكاتب في كتابه المذكور إلى (رؤية مستقبلية) اعتماداً على منهج البحث العلمي القائم على معطيات ومؤشرات عن مستقبل الشعوب بمنظماتها، بل وعن مستقبل الإسلام في أنحاء المعمورة، أرى أنها واقعية، خاصة وقد تحقق بعضها، ومن تلك المعطيات والمؤشرات :
:: ظهور الإعلام الحرّ، وتكاثر القنوات الفضائية, وفي مقدمتها قناة الجزيرة [3] (كأنموذج فقط)، وكان متفائلاً بالدور الرائد الذي ستقوم به كل من القنوات الجديدة الصاعدة التي تتمتع بهامش كبير من الحرية، وكذلك (الإعلام البديل).
:: التطور الكبير في تسريع وسائل الاتصال والتواصل، وما سيحدثه هذا التسريع في الحصول على المعلومات الهائلة وسهولة تخزينها وتبادلها، من نشر فوري للمعلومات، وتبادلٍ للثقافات ووعيٍ متجدد بالحقوق، ودراية مستمرة بأساليب السياسة وتجاوزات الأنظمة؛ ما سيؤدي إلى تغيير سلوك الشعوب، ومن ثم تغيير واقعها .
:: ما قد يترتب على الابتكارات الجديدة في وسائل التواصل الاجتماعي (الاليكترونية) من دور مهم في التواصل والحصول على المعلومة الضرورية الغائبة .
:: الحروب العالمية الجديدة التي شُنت على المسلمين في كل من العراق وأفغانستان، وفلسطين _من قبل _، وغيرها من بلدان العالم الإسلامي، وما أعقبها من دمار هائل وتشرد وانتهاك حقوق الإنسان العربي والمسلم، وما صاحبها من ازدواجية المعايير.
:: ازدياد الفجوة بين الفقراء والأغنياء، وتزايد عدد الفقراء، بين الشمال والجنوب من جهة وبين شعوب البلد الواحد من جهة أخرى، وتغوّل المتنفذين وأصحاب السلطة والسلطان .
:: فقدان مصداقية كثير من الحكومات أمام شعوبها، وغياب أفق التنمية والتطوير، المتزامن مع تضاعف المظالم وحالات البطالة والفقر والمرض[4].
حين صدور الكتاب.. لم يكن ليتصور أحد مطلقاً _ بما في ذلك المؤلف نفسه_ أن قوة (الشعوب) سوف تقفز إلى هذه المرحلة المتقدمة من القدرة على التغيير, وبهذه السرعة التاريخية كما لم يكن لأي متخرص أو راصد أن يتخيل ظهور هذا الجيل الجديد من الشباب في العالم العربي الذي غير أشياء كثيرة دون أن يكون له ارتباط بالجماعات المعارضة ولا الأحزاب العريقة .... لكن الدكتور السلومي توصل إلى حقيقة مستقبلية مفادها:
أن للشعوب العربية والإسلامية مستقبل واعد وضاغط بقوة, وذو تأثير فعال يفوق قوة الحكومات والأحزاب السياسية وستحقق تلك الشعوب مكاسب كبيره لاسترداد حقوقها المختطفة من السياسيين وحلفائهم الدوليين حسب ما ورد في مواضع كثيرة من الكتاب ؟
ويبدو أنه بمقدار ما كان يأس المؤلف من الحكومات ومؤسساتها، ومن الأحزاب السياسية وبرامجها .... مستحكماً.... كان أمله على الشعوب ( التي أصبحت أكثر وعياً ) معقوداً ...
لقد أورد السلومي في الكتاب المذكور(عناوين) واضحة محددة كشفت عن تحقق الرؤية المستقبلية من مثل :(ضعف مصداقية القطاعات الحكومية) ..... (إخفاق التنمية الحكومية) .....(قوة صاعدة برغم التحديات) .....(نهاية الاحتكار)، إضافةً إلى العنوان الرئيس لهذه الرسالة .
طغيان ولّد حريات:
ما حدث من ثورات في مستهل عام 1432هـ في العالم العربي يُعد مؤشر من المؤشرات الكبيرة لأحداث قادمة لم تتضح صورتها بعد، فالثورات العربية الشعبية الحالية وان كانت نتاج تهميش طال مداه من قبل تلك الحكومات لشعوبها إلا أنها _في رأيي_ مؤشرات ومقدمات لأحداث مستقبلية أكبر ! وبكل الأحوال فإنها في مجملها أحداث تبعث على الأمل ووجوب العمل, ويبقى أن الثورات العربية هذه قد اختصرت المسافات الزمنية, واختزلت كثير من المقدمات التاريخية .
ويبدو أن من أهم أسباب نجاح هذه الثورات هو تطرف معظم الحكومات العربية في تعاملها مع شعوبها ومنظماتهم وجمعياتهم، حيث استمرأ معظم الحكام العرب وحكوماتهم مصادرة حريات شعوبهم وحقوقهم المعنوية والمادية، بل وحرياتهم الدينية، وعملوا على المزيد من إرهابهم واختطاف هويتهم وقيمهم وعزتهم وكرامتهم؛ توافقاً مع مصالح الغرب من جهة؛ وتحقيقاً للاستبداد السياسي الذي أدمنوا عليه من جهة أخرى, ظناً منهم انهم سيحققون بما سبق دعماً لأوضاعهم، ومزيداً من الاستقرار لأحوالهم, لكن ما حدث أخيراً أثبت أنتلك الحكومات العربية كانت تعيش أوهاماً عن قبول الشعوب للسياسات سابقة الذكر، حيث كانت تلك السياسات القمعية زارعاً بقوة وعمق، بل وبقواعد عريضة لكل أنواع الرفض والمعارضة لتلك الممارسات, فتجاوزت الشعوب بسبب ما سبق مؤشرات قوتها الصاعدة بكثير....
وقد كانت تلك المؤشرات والمعطيات العلمية التي أشار إليها المؤلف تؤكد حتمية التغيير، لكن لم يكن لأي متتبع لتلك المؤشرات ليتوقع أن تأتي تلك القوة المستقبلية (الشعوب بمنظماتها وجمعياتها) بهذه الصورة من السرعة والقوة في التغيير، وبهذه ( الفجائية ) !!
و هنا تصدق مقولة القائل: (ما رأيت شيئاً يسوق الناس إلى الحرية بعنف مثل الطغيان ) .... !
وفي هذه (الرسالة المختصرة) جمعتُ نصوصاً مختارة من الكتاب المذكور، لا سيما تلك التي كتب فيها المؤلف العديد من العبارات القوية المباشرة التي تصرخ بالأمة مذكرة ومنبهة لمصادر القوة المستقبلية لها، و أشار فيها المؤلف بوضوح إلى قوة الشعوب القادمة. وانا بهذا لا أريد أذكّر فقط بما كتب المؤلف قبل ما يقرب من عامين، بقدر ما أرغب الإشارة إلى أن ما حققته الشعوب وما سوف تحققه في المدى القريب من تغييرات؛ سيجعلها على مفترق طرق هامة، وعرة ... وخطيرة لاسيما حين تَستبعِد موروثها الضخم! ولا تستصحب ثوابتها ولاتستحضر تاريخها وحضارتها الفريدة، في مرحلتها القادمة .
ومن هذه النصوص التي تنبأت بمستقبل الشعوب الواعد:
:: (إن الواقع العالمي والأحداث المتتابعة كلها تؤكد؛ أن قوة القطاع الحكومي وقوة القطاع الخاص (الاقتصادي) في تراجع أمام قوة الشعوب ومنظماتها المستقلة, تدعمها الحريات, وتغذيها وفرة وسهولة تبادل المعلومات, إضافة إلى قوة وسائل الإعلام المتنوعة وتقنياتها المتعددة وجاهزيتها ). (ص 220) .
:: (وأخيرًا ألا تُعدّ تلك النماذج [5] مؤشرات واضحة للصعود والتنامي للقوة الجديدة التي تلبي الاحتياجات والحقوق المعنوية والمادية بمصداقية أكثر من القوى الحكومية أو الاقتصادية!! وهل قوة الشعوب ومنظماتها غير الحكومية هي القوة القادمة حتى في دول الجنوب؟ أعتقد ذلك جازماً, ولاسيما حينما تعمل المنظمات غير الحكومية بكل أنواعها على المحافظة على العمل بالمبادئ الإنسانية والأخلاقية بعيدًا عن المصالح السياسية والاقتصادية لبلدانها, وكذلك حينما تحافظ على مكتسباتها في مجالات التأثير والتحريك للقضايا الإنسانية العادلة) (ص 220) .
:: ( تتساءل (فلوريني) الباحثة الأمريكية في كتاب (القوة الثالثة) عن التحولات في تغير السلطة قائلة : « هل البروز الحالي للمجتمع المدني ما بعد القومي (الوطني) مجرد صدفة مؤقتة, بسبب توافر عناصر مواتية؟ أو أن هنا كأدلة على التبدل الدائم في أنموذج السياسات العالمية؟ وتجيب أن مما لاشك فيه أن نهاية الحرب الباردة أرخت النظام الدولي ومنحت المنظمات غير الحكومية فسحة إضافية للتكلم وإسماع صوتها, فقد تمكنت منظمة الشفافية الدولية من إيجاد حركة مناهضة للفساد, وأصبح حظر التجارب النووية الشاملة ممكنًا. فهناك نمو قوي للمجتمع المدني المحلي وتغيرات تكنولوجية, مع تزايد النقاط المحورية التي يلتف حولها المجتمع المدني ما بعد القومي (الوطني), إضافة إلى توافر الأموال وتعلم الدروس من الجهود السابقة) (ص 218) .
:: (شكلت ثورة الاتصالات قوة غير مسبوقة لانتهاء الاحتكار في كل شيء فقد وصف هشام ناظر أبعاد هذا التطور بقوله: " الاتصالات الالكترونية امتداد جديد للوعي, يتيح للإنسان قوة غير مسبوقة لاختراق وتوجيه وعي الآخرين [6] ) (ص 200- 201) .
:: (واستعملت مؤسسات المجتمع المدني المعلومات كأدوات للتأثير في الرأي العام وصانعي القرارات مما يعدّ فكاً للاحتكار, وبات لدى شبكات المجتمع المدني نفوذ لم يسبق له مثيل في الكميات الهائلة من المعلومات, إضافة إلى القدرة على نشرها بسرعة. وهناك منظمات خاصة سخرت إمكاناتها المادية لدعم مؤسسات المجتمع المدني بثقافة المعلومات؛ مثل مؤسسة المجتمع المنفتح لجورج سوروس, وتؤكد الدراسات المعنية بهذا الأمر؛ أن التغيرات التكنولوجية والبريد الإلكتروني ساهمت في ازدهار الشبكات لما بعد القومية في مجال التحالفات وسهولة تبادل المعلومات وتخطيط التفاصيل اللوجيستية مع النظراء على بعد آلاف الأميال, حتى زاد ذلك من فرص أنشطة التحالفات القوية) (ص 201) .
:: (وتؤكد الدراسات المستقبلية؛ أن الثورة المعرفية تنمو بشكل مذهل, فالمعرفة الإنسانية تتضاعف كل سبع سنوات وينُشر –سنوياً-سبعة ملايين مقال علمي في خمسة وسبعين ألف مجلة علمية, ويزداد عدد المصطلحات العلمية سنويًا بمعدل أربعين ألف مصطلح [7]) (ص202) .
:: (والملاحظ في ذلك كله؛ أن منظمات القطاع الثالث المحلية والدولية تتقوى بمتغيرات العصر, مثل ثورة المعلومات والاتصالات, وخصخصة الإعلام العالمي بكل وسائله ( قنوات وأقمار صناعية, شبكات معلوماتية, صحافة, مراكز أبحاث ودراسات... الخ), بل إن الأخبار السياسية والعسكرية لم تصبح حقوقًا خاصة بالحكومات ومصادرها الإخبارية, فقد تحررت بعض الوسائل الإعلامية والقنوات من الوصاية الحكومية ووكالات الأنباء العالمية في نقل وصياغة الأخبار, وهي قوى مؤثرة وفاعلة في القرن الجديد, وقد أصبحت مشاعة للجميع تستفيد منها المنظمات غير الحكومية وكذلك الأفراد والشعوب بشكل يفوق في كثير من الجوانب استفادة الإدارات الحكومية) (ص 202, 203) .
:: (حروب عالمية جديدة استخدمت فيها أسلحة فتاكة في كل من أفغانستان والعراق ولبنان, والخارطة العالمية مرشحة للمزيد من الانتهاك المباشر, تطبيق السياسة المسيحية الصهيونية المسماة (المحافظين الجدد) في الإدارة الأمريكية للقوانين الدولية والقيم الإنسانية, والشرائع السماوية, مما زاد من حجم الدمار لحقوق الإنسان والبيئة, وضاعف من الأمراض والفقر واستمرار حدة الصراع) (ص 216).
:: (ازدياد الفجوات في دخل الفرد سواء في دول الشمال مع الجنوب, أم الأغنياء مع الفقراء في دول الجنوب, حيث أكد تقرير (التنمية في العالم) الصادر في سبتمبر 2005م؛ أن عدد الذين يعيشون على دولار يوميًا في العالم يصل إلى أكثر من (مليار) نسمة يمثلون 15% من سكان الأرض, وأن متوسط ثروة الغرب في البلدان مرتفعة الدخل تساوي 15 إلى 58 ضعفًا لمتوسط ثروة الفرد في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل [8], ويصحب ذلك التفاوت نقص وتفاوت كبيران في الإنصاف الدولي والمحلي في الحقوق والسلطة والنفوذ؛ مما ينعكس –سلباً-على الاستقرار والأمن العالمي ) (ص 217) .
:: (وهذا الواقع وتلك التجاوزات وبعض تلك الأرقام كلها عوامل ضاغطة على الشعوب للبحث عن وسائل لتحقيق العدالة والسلام وحقوق الإنسان والبيئة ومعالجة الفقر وامتصاص الاحتقان السياسي وغيره, والملاحظ أن الشعوب العالمية تتفاعل للعمل على تحقيق ما سبق من خلال إنشاء المنظمات والمؤسسات المستقلة التي تأخذ على عاتقها بعض جوانب العلاج والتنمية) (ص 218) .
:: (إننا في زمن تساوى فيه صانع القرار مع الفرد العادي في متابعة الحدث من خلال مشاهدة قناة CNNوالتفاعل الفوري مع ما يجري, مما يجعل الناس يشعرون أنهم لا يقلون معرفة بما يحدث لتكوين رأي بالنسبة لما يرون ويسمعون..، على حد قول هشام ناظر [9]) (ص202) .
النصوص السابقة المقتبسة كافية للتعبير عن كثير من حقائق الواقع, وعن أسباب ودوافع الثورات الشعبية التي بدأت في بعض دول العالم العربي في مطلع عقد جديد ( 1432هـ / 2011م ) والتي من أبرزها: (غياب المشاركة الشعبية في عمليات التنمية الشاملة للدولة ) .
والآن. . . ماذا بعـد ؟
لقد حدث ما توقعه د. السلومي، حيث أدى كل من (الإعلام البديل) ووسائل الاتصالات بمختلف أنواعها دورها المأمول؛ فنمت الثورة المعرفية بشكل مذهل، وتساوَى في هذا الزمن الفرد العادي مع صانع القرار في الحصول على (المعلومة !)... والمعرفة مصدر قوة لا يستهان بها .
وها هي ثورات التغيير والإصلاح تتوالى، فأزيحت حكومات، وسقطت الحركات والأحزاب السياسية، أو فقدت زمام المبادرة على الأقل، ونجحت بعض الشعوب في إثبات وجودها وإرادتها.
بعد أن تحررت من سلطان الجهل، وتجاوزت أغلال الخوف، وثبت بالدليل المشاهد أن قوة الكيانات الحزبية والقطاعات الحكومية لكثير من الدول العربية في تراجع، وأن قوة الشعوب هي القوة القادمة .
وتحققت سنة الله " تعالى ذِكْره" في : انتزاع الملك انتزاعاً، وفي كونه "سبحانه" يعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء وأنه وحده بيده الخير، وأن وعده "سبحانه" حق، وأنه علام الغيوب، وأنه على كل شيء قدير .
شيوع المعلومات[10] :
من حقائق الواقع التي أصبحت واضحة ومُشاهدة هي: (نهاية الاحتكار) [11] المعرفي !
نعم لقد ولّى عصر احتكار المعلومات والمعرفة ووسائل الإعلام، فقد أصبحت العديد من وسائل الإعلام حرة وعالمية، وغدت رمزاً مستقلاً عن هيمنة الحكومات وسيطرة السياسيين، وذلك في العالم الثالث كما في العالم الأول -إن لم تزد عليه- حيث أصبح للعالم العربي منابره الإعلامية الخاصة التي تحررت من احتكار ( وكالات الأنباء العالمية ومراسليها ) .
وانتهى أو تقلص كثيراً احتكار الحكومات للخبر وما وراء الخبر, لقد وُجدت مؤسسات إعلامية تدير الأحداث العالمية وتصنع الخبر، بعد ان كانت الوسائل التقليدية الرسمية تحتكر الأخبار وتنقل منها ما ترغب الحكومات في إظهاره فقط،وأصبح (الإعلام الحرّ) هو الصديق المخلص والمحبوب للشعوب، والعدو اللدود لكل من يريد أن يخفي الحقيقة !
وتعتبر (قناة الجزيرة) [12] كمثال للإعلام الذي يتمتع بهامش أكبر من الحرية؛ والتي اضطرت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون أن تشيد بها علناً بتاريخ 29/3/1432 هـ - الموافق 4/3/2011م حيث قالت عن النجاح الباهر لقناة الجزيرة سواء الناطقة باللغة الإنجليزية أو العربية : "إن الجزيرة أصبحت الرائد في تغيير عقول الشعوب ومواقفها"، وقالت ايضاً: "الجزيرة أصبحت _سواء أحببتم أم كرهتم_ مؤثرة؛ وإن نطاق مشاهدتها في الولايات المتحدة أخذ يتسع لأنها تقدم أخبارا حقيقية, وتبثها على مدار 24 ساعة بدلا من ملايين الإعلانات التجارية التي تبثها قنواتنا" [13].
ومن نماذج نهاية احتكار الإعلام على المستوى العالمي: ظهور ( الويكليكس) [14]وما شابهها، وظهور وسائل التواصل الاجتماعي والفكري الإلكترونية الحديثة مثل "الفيس بوك والتويتر، واليوتيوب ..." لتقوم بدور (بديل) أو متمم للإعلام التقليدي.
و بهذه المناسبة التي أتحدث فيها عن (القوة المستقبلية لشعوب العالم العربي والإسلامي )و بروز هذه القوة الجديدة، أحبّ أن أذكّر بـ : (واقعٍ ) وُجد على الأرض يوماً ! كحقيقة تاريخية وعلمية:
واقع عاشته أمتنا الإسلامية المجيدة ومارسته في كل المجالات ( السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها )، واقعاً حقيقياً وليس افتراضياً أو نظرياً، واقعاً تمكنت أمتنا بواسطته التربع على عرش قيادة البشرية لأكثر من ألف عام! ليتأكد أن ما عاشه العالم العربي في العقود الأخيرة يعتبر من الفترات الاستثنائية للأمة الإسلامية قياساً بقدرة التشريعات الإسلامية والتطبيقات الحضارية، والتجارب التاريخية التي تملكها أمتنا الإسلامية .
وللاعتبارات السابقة أضم صوتي إلى صوت الكاتب؛ منادياً:
بضرورة المسارعة في العمل لاستعادة (النظام الاجتماعي الإسلامي) الأصيل الذي يعمل بدون مهاترات سياسية أو نزاع مع الحكومات على السلطة والحكم، والذي يقوم على :
ـ مؤسسات (قطاع العمل الخيري) بمعناه الشـمولي الواسـع، غير الخاضع للبيروقراطية الحكومية ومن أمثلة ذلك ( الأوقاف الإسلامية " المستقلة ") التي كانت أساساً عظيما من أسس بناء حضارتنا لقرون طويلة .
ـ وعلى (الاحتساب)؛ التي فَقد أثره الحقيقي والفاعل بسبب الاستعمار الخارجي، ثم ببعض الممارسات الداخلية "الخاطئة أو المحدودة " لهذه الشعيرة العظيمة !
ومن هنا تأتي أهمية وضرورة المسارعة إلى مصدر خيريّة الأمة المسلمة، ومنبع فلاحها بالاستجابة لأمر الله سبحانه حيث يقول تعالى ذكره {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}.... الآيات .
وقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُم ْأُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْر ِوَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[آل عمران:104]، وقوله سبحانه : {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[البقرة:261] .
وآلية تنفيذ ذلك _ في رأيي _هو تفعيل عمل (القطاع الثالث بمفهومه الإسلامي ) على مستوى الأمة العربية، والذي خسرنا بفقدانه الكثير، وعانينا من إقصائه أزمة الثقة المستفحلة بين الحاكم والمحكوم وبالتالي تراكم الاختناق السياسي والاجتماعي والاقتصادي !
ـ لقد أشار السلومي في كتابه أن الإسلام من خلال تشريعاته قد أوجد في المجتمعات الإسلامية ما أصبح يسمى حديثاً بـ (القطاع الخيري و "آلياته") ما قفز بالأمة حتى أصبح تخير أمة أخرجت للناس،كما قام هذا القطاع ( الثالث ) بتخفيف الضغط على الإنفاق ( الحكومي ) وحفظ الأمة في حالة الكوارث الكبرى، ولا أدل على ذلك ما قام به هذا القطاع من دور عظيم عند سقوط الخلافة الإسلامية في بغداد إثر الغزو الهمجي الذي قام به (هولاكو) على ديار الإسلام.
ـ حـيث قال عن تلك الوسائل والآليات : ( بناء المساجد وما ينبثق منها من مدارس وحِلق العلم والدراسة والمدارسة والأبحاث؛ وفريضة الزكاة وما ينتج عنها من تكافل اجتماعي يؤسس لعلاقات إنسانية رفيعة بين الفقراء والأغنياء وما ينتج عنها من سد جوع الفقراء وتدوير تجارة الأموال؛ ومفهوم التراحم (صلة الأرحام ) وما ينتج عنه من ترابط أسري هو اللبنة الأساس لبناء المجتمع المتماسك؛ والصدقة وما تثمر عنه من تزكية النفس وتوطيد أواصر الحب والتعاطف والتكافل وإزالة النكبات بين جميع أفراد المجتمع؛ والأوقاف وما يتصل بها من الأنشطة الخيرية العظيمة كالمساجد والمدارس والمستشفيات وشقّ الطرق والأربطة والمساكن وتنمية الأسواق والبساتين والزروع والثمار والشركات والمؤسسات وأدوات الإنتاج وغير ذلك من الأمور الخيرية. وكذلك مفهوم الحســبة بمفهومها الواسع، هذا المصطلح الإسلامي العجيب الفريد الذي يولّد في نفوس المسلمين المبادرات الفردية والجماعية لإفراز آليات ووسائل ونظم محدَثة تناسب الواقع، متعددة وشاملة تحفظ الثوابت، وتبقي على مكانة القيم، وتعالج أسباب الخلل في المجتمع والدولة. وبتلك الآليات استطاع الإسلام أن يجعل القطاع الخيري يتعدى دور (حالات الطوارئ) من الاهتمام بالفقراء والمساكين والمشـردين أو المعدمين ـ وهو دور مهم دون شك إلى دور (التنمية) والاهتمام بكل شرائح المجتمع فقرائه وأغنيائه، صغاره وكباره صحيحه وسقيمه عامته ومثقفيه، علمائه وحكامه، ليصل بيسر وهدوء إلى كل مكوناته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والفكرية، يسد النقص، ويعالج مظاهر الانحراف ويسدد مواطن الخلل دون شـقاق أو نزاع مع مؤسسات ( القطاع الحكومي )،ويكون ذا إسهام في بناء مؤسسات الدولة، وشريك دائم في عمليات التنمية، فَحَفظ الأمة الإسلامية لمدة طويلة جداً [15]).
إنّ علينا جميعاً اليوم المبادرة إلى الانتقال من مفهوم الدولة (المتخلف) الذي فُرض على الأمة العربية بعد (سايكس - بيكو " 1916م") [16]:والقائم على قطاعين فقط، هما:
(القطاع الحكومي "العام"، والقطاع التجاري "الخاص" ) .
إلى مفهوم الدولة الحديث عالمياً: القائم على قطاعات ثلاثه: (القطاع الأول "الحكومي") و(القطاع الثاني "الأهلي التجاري" ) و(القطاع الثالث "قطاع مؤسسات المجتمع المدني" أو القطاع الخيري) باعتبار أن "القطاع الثالث" الجديد [17] هو :
ـ قطاع (تنموي) فاعل، كما هوشريك في الحقوق والواجبات لكلا القطاعين الآخرين .
ـ قطاع مراقب ومقيّم للقطاعين الآخرين، وهذا من شأنه أن يدفع بعجلة التنمية من جهة، ويحدّ من تغوّل الحكومات "القطاع الأول"، أو سيطرة الرأسماليين "القطاع الثاني " من جهة أخرى [18].
إن أمة الإسلام التي تمتلك من الميراث العلمي والتشـريعي (للقطاع الخيري) ما يجعلها خير أمة وأقواها إنه يعمل تبتل كالتشـريعات الفريدة، التي تعتبر معالج قوي وبشكل مستمر لجوانب الطوارئ والأزمات، ومساهم كبير في بناء مؤسسات الدولة في شراكة تنموية مستدامة مع كلا قطاعي الدولة الآخرين ( الحكومي "العام" و التجاري الأهلي "الخاص")،في وقت واحد، كما تجعل من كل فرد في المجتمع المسلم متطوعا بنفسه ومتبرعا بماله وبجهده وبكل ما يملك حيث تجسدت في هذا الميراث جميع الركائز الأساسية التنموية: من تنمية الموارد البشـرية (التطوع)، والتنمية في الموارد المالية (الزكاة، الأوقاف الصدقات) التي اجتمعت فيها وفي تطبيقاتها التاريخية المتعاقبة تجربة لا نظير لها لدى الأمم الأخرى, حيث كانت كثير من تلك التطبيقات تتناول حقوق الإنسان وكرامته, وحقوق الحيوان والبيئة والاحتساب على الحاكم والمحكوم، وغير ذلك فيما عدهَّ المؤرخون ريادة وقيادة في ميادين ثوابت القيم وحضارة الأمم .
إنّ التجربة الغربية الناجحة في قطاعها الثالث في العصر الحاضر، غير قادرة على المنافسة والمحاكاة في ميادين التطبيق أمام التشريعات الخيرية والقيم والمبادئ والأخلاقيات الإسلامية التي تدفع العطاء أو تمنحه أو تصاحبه, وحسبنا أن التطبيقات التاريخية للمؤسسات الوقفية (المانحة) أنتجت حضارة إسلامية في جميع ميادين الحياة عبر اثني عشر قرناً من الزمان،وكان المستهلك و المستورد للمنتج الإسلامي هو عالم الغرب.
وأجد أنه من المفيد أن انقل هنا ما سبق وأن طرحه د. السلومي (في كتابه المذكور) حول رؤية مستقبلية تفاؤلية للعالمين العربي والإسلامي، توضح آلية عمل (قطاع العمل الخيري "القطاع الثالث" )، باعتباره قطاعاً(اجتماعياً) فاعلاً للشعوب يحقق معظم تطلعاتها،ويتوازى عمله مع عمل القطاعات الحكومية ودعمها، ويتكامل مع القطاع التجاري وتقويته .
وباعتباره آلية تساهم بقوة في عمليات التنمية الشاملة والمستدامة من جهة، وتكون صمام أمان للشـعوب والأمم في حالات الكوارث والحروب أو في الحالات الاسـتثنائية عند سـقوط الدول والحكومات! أو تأزمها؛ من جهة أخرى، ومما ذكره في كتابه :
:: ( المعطيات والاعتبارات والمؤشرات والتي (سوف يرد أبرزها) تؤكد التحولات في القوة العالمية, كما تؤكد أن المستقبل لقوة العمل الخيري الشعبي والمنظمات غير الحكومية (القطــاع الثالث)؛ لأنها قوة محايدة, إذا ما أحسنت الشعوب استعمالها بعيدًا عن تسييس كثير من الحكومات, ولأنها مؤسسات تحسب مشكلات المجتمعات المحلية والدولية أكثر من الأنظمة السياسية الحكومية, كما أنها قويه بحكم رقابة الله, أو رقابة الضمير والرقابة الأممية والاجتماعية, كما أنها تؤمن بميدان المنافسة بدلاً من الصراع والمصارعة التي تؤمن أو تعمل بها معظم الكيانات السياسية، إن الواقع العالمي والأحداث المتتابعة كلها تؤكد؛ أن قوة القطاع الحكومي وقوة القطاع الخاص (الاقتصادي) في تراجع أمام قوة الشعوب ومنظماتها المستقلة, تدعمها الحريات, وتغذيها وفرة وسهولة تبادل المعلومات, إضافة إلى قوة وجاهزية وسائل الإعلام المتنوعة وتقنياتها المتعددة وجاهزيتها) (ص 220) .
:: (والمهم في هذا المقام التأكيد على أن واقع ومستقبل (الشعوب) وقوة المنظمات غير الحكومية -بشكل عام (الإسلامية وغيرها)-آخذٌ في النمو أفقيًا ورأسيًا حسب الاستشراف -والله أعلم-حيث أصبحت مؤسسات القطاع الثالث -منظماتٍ وشعوبًا -قوى توجيه وتأثير وتغيير في الساحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية, وذلك بشكل يفوق قوى القطاعات الحكومية والاقتصادية برغم كل العوائق والتحديات الدولية, لكن هذه القوة بالتأكيد سوف تختلف من دولة لأخرى )(ص 256).
:: (القطاع الخيري (كقطاع ثالث) هو المؤهل لتحقيق التكامل والتكافل بين فقراء المسلمين وأغنيائهم والدول المانحة والممنوحة, وهو مرشح للإسهام بكل جوانب التنمية باستثمار أمثل للأرقام والإحصاءات السابقة (الأرقام المالية والبشرية) في هذه المرحلة التاريخية, فواقع العالمين العربي والإسلامي في القرن الجديد يفرض عليه المبادرات العاجلة والعمل بكل الوسائل للتصحيح والإصلاح, فقد وصلت فيه الأميَّة والفقر والاستبداد السياسي والتخلف العلمي والاقتصادي والفساد الإداري نسب كبيرة تجاوزت بها كثير من الأمم, ومن أهم متطلبات هذه المرحلة التاريخية؛ أن يبادر العالم العربي والإسلامي إلى العمل على الانتقال الإداري من قطاع الحكومة الذي تكوَّن بعد «سايس بيكو», إلى مفهوم الدولة الواسع ذي القطاعات الثلاثة بالتصحيح الإداري لنفسه, ليس على مستوى إعادة وحدته السياسية التي لا يمتلك مقوماتها في فترته الراهنة, ولكن على مستوى اتحاد منظماته, وأوقافه, وجمعياته, ومؤسساته العلمية والدعوية والإغاثية, ومجالس علمائه ومفكريه باتحادات وتحالفات وشراكات, محلية وإقليمية ودولية) ( ص 50- 51) .
:: (وفي اعتقادي المتواضع؛ أن من المتطلبات الأساسية للإصلاح السياسي والاقتصادي والإداري والتعليمي والاجتماعي في العالم العربي, الاستفادة من تجربة الأمة الإسلامية حيث ولدَّت الأوقاف الإسلامية حضارة مشهودة, مع الاستفادة المثلى من التجربة الغربية ونجاحها المتميز في القطاع الثالث, يقول الشيخ صالح الحصين: " لا معنى لإقامة مؤسسة للعلاج مع الإبقاء على مسببات المرض, إنها لمأساة أن يكون عجزنا عن اجتياز حاجز التخلف , ليس نتيجة العجز عن العمل فحسب, بل نتيجة العجز عن عدم العمل, إن إمكانيات الإصلاح متاحة والسبيل الوحيد للإصلاح هو الوعي بهذه الإمكانات ووجود الإرادة للانتفاع الأمثل بهذه الإمكانات, والإسلام ذاته ليس موضوعًا للإصلاح؛ وإنما يكون به الإصلاح"» [19])(ص 306).
:: (إن التنمية الاقتصادية والاجتماعية ودعم اقتصاد المعرفة والثقافة وتحقيق السيادة الوطنية خاصة في القرن الواحد والعشرين بتحدياته وتحولاته لا يمكن أن تتحقق بالقطاع العام (الحكومي) ولا بالقطاع الخاص (التجاري) بعيدًا عن الوجود القوي لـ (القطاع الثالث) بشقيه الخيري وغير الربحي) (ص 54) .
:: (ويعمل القطاع الثالث على تحقيق التوازن بين القطاعين الحكومي والتجاري, بحيث يمنع تغوّل وتمدد القطاع الحكومي, كما يسد نقص خِدماته, وفي نفس الوقت يكبح جماح وجشع وطمع القطاع الخاص ويزكيه وينميه ويكسبه حسن السيرة والسلوك على المستوى المحلي والعالمي, بل إن هذا القطاع هو الكفيل بإنهاء الأزمات أو (الحروب) الساخنة أو الباردة بين القطاعين ) (ص 65) .
:: (وهذا القطاع عامل من عوامل الحفاظ على هويات الأمم والدول واستقرارها السياسي كما أنه مساهم كبير في تحقيق الأمن الفكري والسياسي والاجتماعي للدول العاملة به, بحكم ما يوفره من شراكة شعبية؛ فهو من أقوى وسائل الإصلاح السياسي لحكومات دول العالم, بل إنه بحكم استقلاليته عن الحكومة يمنح الحكومات والدول مساحة أوسع للمناورات السياسية الدولية ليجنبها الضغوط السياسية, كما أنه يستوعب كل جوانب التطوع والأعمال الشعبية والخيرية والأهلية, وينظم قبول وصرف جميع الموارد المالية من منح وتبرعات وأوقاف وضرائب وغرامات باختلاف بين إجراءات الدول وتنظيماتها لتلك الموارد ) (ص 65) .
:: (ويستطيع هذا القطاع استيعاب كثير من حالات التوظيف ومشكلات البطالة واحتواء وتوظيف الموارد البشرية بإبداعاتها واختراعاتها, وهو بهذا أو ذاك المنظم للأنشطة والبرامج الأهلية والشعبية والخيرية؛ سواء كانت ثقافية أم دينية أم اجتماعية أم مهنية أم رياضية أم فنية أم ترفيهية, كما أن الدول تحتاج إلى هذا القطاع – بحكم شعبيته-في فترات الأزمات السياسية أو العسكرية, فهو يعالج بشكل فعَّال آثار سقوط الحكومات وضعفها, حيث يسد النقص والحاجة في الأزمات والكوارث التي قد تعصف بمكتسبات القطاعين, وهو قطاع يقوّي نفوذ الدولة –أية دولة– في الخارج, ليحافظ بذلك على حق السيادة والقوة في الخارج والداخل, كما هو سلوك الدول القوية والدول الاستعمارية, وكذلك فهو يعزز الفكرة الرئيسية التي قامت عليها الدولة - أية دولة ) (ص 65) .
:: (كما أن من الحقائق المسَلَّم بها أن ارتفاع منسوب المعرفة قد أصبح قويًا لدى شعوب ومجتمعات العالم العربي بحقوقه وواجباته الاجتماعية والسياسية والثقافية, وبسبب فقدان هذه المؤسسات الحاضنة والمستوعبة لتلك الطاقات, نشأت الحركات والتنظيمات السرية, ونشأت جماعات التطرف الديني والسياسي, ومن المؤكد أن هذا -مع ماسبق -يتطلب جدية في إيجاد الحلول التي تستوعب وترشد الصحوة واليقظة وانحرافات المرحلة ومن أهمها وجود كل أنواع المؤسسات والمنظمات والجمعيات التي توظف الحوار والحراك الاجتماعي والثقافي والسياسي لتصب في قوة الدولة داخليًا وخارجياً, مع الأهمية الخاصة للتوظيف الإيجابي للدوافع الدينية وقوتها وتأثيرها في العطاء والتطوع والنماء لميلاد مؤسسات القطاع الثالث المساهم الكبير في التوازن الفكري والوسطية واستيعاب القوى السياسية الداخلية لمواكبة الإدارة الحديثة في الألفية الثالثة») (ص 112).
:: (هذه التشوهات ناتجة عن فشل مؤسسات القطاع الحكومي في تسخير الاقتصاد للتنمية الحقيقية, وهذا الفشل يتضاعف مع زيادة جشع الشركات الاقتصادية التي تتسابق باستثمار القطاعات الخدمية, وهذا يؤدي بدوره إلى ضعف الاحترام والولاء للحكومات, ولا سيما مع الضعف القادم لسيادة السلطات الوطنية في ظل نظم منظمة التجارة العالمية (العولمة) التي تقوم على مبادئ خصخصة الخدمات الأساسية والضرورية للإنسان لصالح شركات رأس المال. ليصبح ربع ممتلكات وثروة العالم في يد 13% من سكان العالم سواء كانوا أفرادًا أم شركات تحكم العالم أم تتحكم به [20], وقد تدهور الإخفاق الحكومي في معالجات الفقر والمرض, يقول جيمي كارتر الرئيس الأسبق لأمريكا: "إن أكبر تحد نواجهه هو الصدع المتزايد بين الأغنياء والفقراء في سكان الأرض, فليس هناك عدم مساواة كبيرة بين الطرفين فقط, بل إن الفجوة بينهما تتوسع توسعًا مطرداَ, ففي بداية القرن السابق كانت البلاد العشرة التي تعدّ أغنى الأمم أثرى بتسع مرات من البلاد العشرة التي تعدّ أفقر الأمم ) (ص 191).
:: (لقد تخلت الحكومات عن واجباتها ودورها في تأمين الخدمات الأساسية للإنسان, حتى أصبحت المياه والصحة والكهرباء أداة من الأدوات الاستثمارية على حساب الإنسان واحتياجاته الضرورية الأمر الذي جعل مؤسسات القطاع الثالث محلياً وعالمياً تنمو لتسد فراغ تنمية ودور الحكومات ) (ص 192) .
:: (إن بعض السياسات الدولية المتطرفة, مثل ممارسة الإدارة الأمريكية-بشكل أخص- حينما تعمل على إيجاد تشريعات متطرفة للقوانين الدولية تقوم على أساس تجاهل الحضارات الأخرى, وإلغاء حقوق ومصالح الطرف الآخر, ومصادرة ثقافته, وأخلاقه, وقيمه, ومحاولة اغتيال حرياته؛ كل ذلك يولد المقاومة الثقافية والسياسية وبمؤسسات حرة مستقلة, ثم إن الصحوة السياسية قامت في الشرق بعد الغرب وفي دول الجنوب بعد الشمال, بل عند الفقراء بعد الأغنياء, وهذه الصحوة سوف تعمل على إضعاف احتكار تلك القوى السياسية, فقد استفادت دول الجنوب من مؤسسات القطاع الثالث بعد دول الشمال وبشكل قوي وسريع ) (ص 203) .
:: ولعل من خير ما أختم به هنا، هو : ما استهل به صاحب كتاب(القطاع الثالث والفرص السانحة)مقدمته، ثم بما اختتم به خاتمته، حيث يقول :
( إن نوافذ الأمل كثيرة ... يراها كل صاحب بصيرة ... وطوفان عولمة الثقافة الذي أغرق معظم الأرض -ولّما يستكملها بعد -سيحمل معه سفينة الإسلام إلى كل مكان يبلغه الطوفان, وسيتجاوز بها كل الحدود, ليوصلها إلى كل القلوب, رغمًا عن الكيد العالمي والقوى المضادة, فقد تزامن طوفان الثقافة المتسارع والخارج عن السيطرة مع خواء الغرب الروحي وإفلاسه الأخلاقي, وانهياره الاقتصادي ... فأصبح انتصار الإسلام, وكتابه (القرآن) مسألة وقت [21]... وهذا كلّه يُشكِّل فرصًا سانحة لمعتنقيه فإن كان هذا, وإلا ... فهي سُنّة (الاستبدال): {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] )(ص 58) .
(وفي الختام لقد أصبح واقع الأمة العربية والإسلامية يطرح نفسه بقوة ويؤكد أنها أمة تبحث عن طريق الخلاص, ولذلك؛ فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو ما الواجب عمله؟ بل القول: ما البرنامج العملي الزمني لاستثمار الفرص الكثيرة, بعيدًا عن الإفراط في التفاؤل والتشاؤم؟. أترك الجواب للنخب الصادقة فقد حان الوقت للمعالجة, ولعل صور المعالجة تتسم بالواقعية, فللحياة سنن باقية من التدافع, وفتنة الملل والنحل, والأديان والحضارات بعضها مع بعض قائمة إلى أن تقوم الساعة. ولعل نقد الذات _دون جلدها_ والعمل بتفاؤل على وضع الاستراتيجيات المتكاملة أهم من انتظار موت الآخرين, أو الاستسلام للتحديات الخارجية والعوائق الداخلية, والاحتياج العالمي وسد فراغه خاصة في ميادين الثقافة والقيم والأخلاق يدعو إلى شيء من التفاؤل, وهو متحقق -بمشيئة الله -بانتصار الحق والحقيقة, وانتصار المؤمنين خاصة أمام من وضعوا أنفسهم خصومًا للإسلام وأهله كما قال تعالى :{وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [ص: 306-307] .
والحمد لله، والصلاة والسلام على النبي الأمي المرسل رحمة للعالمين .
www.3rdSector.org
[1] القطاع الثالث والفرص السانحة، طباعة ونشر مكتبة العبيكان، ص 92.
[2] المصدر السابق ص 54.
[3] ومما قاله عن القناة المذكورة في كتابه (ضحايا بريئة للحرب العالمية على الإرهاب) بنسخته الانجليزية : ( أن دور قناة الجزيرةالإعلامي كان مرحباً به في منتصف التسعينات من القرن الماضي عند حكومة الولايات المتحدة الأمريكية, ولكن لعنصرالمنافسة ولممارستها حرية (حقيقية) إلى حد كبير أصبح دورالقناةغيرمرغوب فيه لدى الإدارة الأمريكية خاصةبعد أحداث الحادي من سبتمبر 2001م, حيث السياسات الأمريكية الجديدة ذات القطب الواحد والإمبريالية الأمريكية التي اقتضت إضعاف قوانين الحريات والديمقراطية, وقد ذكر المؤلف في الكتاب المذكور في فصل(المنافسون الجدد) : " لقد أحدثت الجزيرة تغييراً في كفاءة الإعلام العربي على وجه الخصوص, وأصبحت شريكاً نشطاً في نقل الأخبار الدولية للمشاهد العربي, ولم تعد تعتمدعلى نقل الأخبار, بل أصبحت تصنع الأخبار" ) .
[4]انظر عن ما سبق من مؤشرات ومعطيات (تسعة عشر من المؤشرات والمعطيات العلمية ) في الفصل الخامس والسادس من كتاب القطاع الثالث والفرص السانحة .
[5] انظر: عن تلك النماذج كتاب القطاع الثالث, د.محمد السلومي, ص 218-219, طبعة العبيكان.
[6] انظر عن قول هشام ناظر, القوة من النوع الثالث ص 28.
[7] انظر وليد عبد الحي " مدخل إلى الدراسات المستقبلية في العلوم السياسية " ص 206 .
[8] انظر تقرير التنمية في العالم 2006.
([9]) انظر هشام ناظر, القوة من النوع الثالث ص 157.
[10]على الرغم من وجود مخاطر جديد قادمة من أصحاب المصالح الخاصة، كالشركات البحثية العملاقة وغيرها، التي تريد تحول المعلومات ( المعرفة ) إلى أرصدة؛ لما تسميه ( المحتوى القابل للاستغلال )، والمخاطر تكمن في محاولات تحويل المعرفة بمرور الوقت إلى مواد رقمية قابلة للاحتكار .
[11] أحد عناوين موضوعات الكتاب .
[12]على الرغم من اختلافي مع قناة الجزيرة وتحفظي الشديد حول بعض برامجها، وتعليقاتها على بعض الأخبار،ورؤيتها للأحداث.
[13]انظر موقع قناة الجزيرة:
http://www.aljazeera.net/NR/EXERES/4E27F601-8267-4383-B0A7-723DCB378093.htm
[14]انظر رسالة مركز القطاع الثالث رقم (13) و (14) عن الويكليكس ففي الرسالتين تفصيل مهم عن هذه المسألة، على الموقع : http://www.3rdsector.org/
[15] أنظر كتاب القطاع الثالث ( ص 39 -40 ) .
[16]في الوقت الذي انحازت فيه كثير من الشعوب العربية المشرقية إلى (بريطانيا وفرنسا) في حروبهما (العالمية الثانية ضد الألمان وحلفائهم) لمواجهة تركيا المسلمة بناء على وعود معسولة لهم بالاستقلال (عن تركيا!)، كان البريطانيون والفرنسيون يتفاوضون (سِـرّاً) لتقسيم مصر والشام وما جاورهما بينهم، بمباركة بقية الدول الغربية وروسيا القيصرية _ (( في خيانة صريحة مخزية للأديان والتاريخ والآداب والأعراف الإنسانية ))_ وتم الوصول إلى هذه الاتفاقية التي عرفت بمعاهدة ( سايكس بيكو) بين نوفمبر من عام 1915 ومايو من عام 1916م بمفاوضات بين الدبلوماسي البريطاني مارك سايكس والفرنسي فرانسوا جورج بيكو، وتبين فيما بعد أن الأمر أكبر من مجرد تفتيت الشعوب العربية إلى كيانات هزيلة متصارعة ولا تحمل من الاستقلال إلا اسمه، حيث صدر بعدها بعام واحد فقط ما يسمى بـ (وعد بلفور 1917م)، المعروف بـ : "وعد من لا يملك لمن لا يستحق"،رداً على المقولة الزائفة: "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"_ حسب الرسالة التي أرسلها" آرثر جيمس بلفور" إلى الصهيوني"روتشيلد"_ ومن الجدير بالذكر أن نص تصريح بلفور كان قد عُرض على الرئيس الأمريكي "ولسون" ووافق على محتواه قبل نشره، و قام بفضح هذه الخيانة الثوار البلشفيون الذين استولوا على الحكم في روسيا 1917م، لتظهر الدروس الإلهية" جلية" للشعوب العربية وفق سنن الله الكونية .
[17] القديم بالنسبة للحضارة الإسلامية .
[18] كما هو حال القطاع الثالث في كل من أمريكا وأوروبا .
[19] انظر صالح الحصين, مقال بعنوان: الإصلاح ..الأصول الشرعية والمنطلقات العلمية, في: 29/2/1428هـ, مهرجان الجنادرية, وعلى الرابط التالي: http: //www.almoslim.net/node /83832
[20]انظر, available from: 2006, 3 Anup Shah, Poverty Facts and Stats, April www.globalissues.org/TradeRelated/Facts.asp
[21]مسألة (وقت) بأعمار الأمم أو الشعوب والحضارات –كما في السّنن- وليس بأعمار الأفراد, لكن التسارع الحاصل اليوم يؤذن باختصار الوقت كثيرًا, بانتصار الإسلام وأهله, ولكن كما قرر ذلك القرآن الكريم في الآية المذكورة.